الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أنواع الشرك
1
أنواع الشرك
اعلم أن الشرك نوعان: خفي وظاهر، والثاني قولي وفعلي، وكل منهما أصغر وأكبر، فأما الخفي فكيسير الرياء والسمعة، عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به"2. أخرجه الشيخان، قيل: معنى سمَّع الله به وراءى الله به يظهر سريرته فيعرف المرائي والمسمّع. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك"3. وفي الصحيح: "أول من تسعّر بهم النار القارئ المرائي والمجاهد المرائي والمتصدق المرائي" 4 الحديث. وأما القولي الأصغر كالحلف، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف بغير الله فقد أشرك"5. صححه الحاكم وابن حبان، ومنه قول القائل: "ما شاء الله وشئت" وقوله: "لولا الله وفلان" "أعوذ بالله وبك"، "لولا البط في الدار لأتانا اللصوص"، "وأنا في حسب الله وحسبك"، "وذا من بركة الله وبركتك"، "ولي الله في السماء وأنت في الأرض" وأمثال ذلك من الأقوال التي يجمع فيها بين الله وخلقه بالواو وذلك لأن حرف الواو تفيد الجمعية تقول: جاء زيد وعمرو، أي جميعاً معاً.
وأما الفعلي الأصغر كلبس الحلقة للواهنة، والخيط للحمى،
1 هذا من الشارح –رحمه الله تعالى-.
2 رواه البخاري (6499 و7152) ومسلم (2987) .
3 رواه مسلم (2985) بنحوه.
4 رواه مسلم (1905) مطولا بغير هذا اللفظ.
5 رواه الإمام أحمد (2/125) والترمذي (1535) وأبو داود (3251) والحاكم (4/297) بإسناد صحيح على شرط مسلم.
وتقبيل حجر غير الحجر الأسود، وتقبيل القبور واستلامها من دون قصد شرعي، فإن قَصَدَ جَلْبَ نَفْعٍ، أو دَفْعَ ضَرَرٍ منها فذلك شرك أكبر يخرجه من الإسلام، ويرتد عن الإسلام بذلك، وأمثال ذلك من الأفعال.
وأما القولي الأكبر فكدعوة غير الله والاستعانة بغيره، كقوله: أغثني يا فلان. والاستعانة بغيره كقوله: أستعين بك في أمري أو في حاجتي، معتقداً أنه يقضي حاجته دون الله تعالى. والاستعانة بغير الله تعالى كقول المشركين إذا نزلوا بوادٍ: إنا نعوذ بكبراء هذا الوادي من سفهائهم. وأمثال ذلك من الأقوال التي يريدون بها دون الله تعالى كشف الكربات، ودفع الملمات، وإغاثة اللهفان، وشفاء الأمراض.
وأما الفعلي الأكبر كالسجود لغير الله والركوع والنذر والذبح لغيره، والخوف والرجاء من غيره، كخوفه من الله تعالى، وحب غير الله كحب الله، والتوكل على غيره، والخشية من غيره. وهنا نوع آخر من الشرك؛ لعموم البلاء وكثرة وقوعه في الناس ذكرته منفرداً، فأضع إليه سمعك، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، هل أنت معافى أم لا؟ وهو الشرك في الإرادات والنيات.
قال ابن القيم –رحمه الله: وهو البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى غير التقرب لله وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته. والإخلاص أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونياته، وهذه هي الحنيفية، ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحدهم غيرها، وهي حقيقة الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [آل عمران: 85] . وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها
فقد سفه نفسه.
واعلم أن الكفر والشرك بينهما عموم وخصوص من وجه، بمعنى أن كل مشرك كافر، قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . [الروم: 33،34] .فبيّضن الله أنهم إذا أشركوا كفروا ولا بد، وليس كل كافر مشركاً، بل من الكفر أنواع لا يشرك صاحبها، وذلك خمسة أنواع كلها يخلد صاحبها في النار.
النوع الأول: كفر شكّ، بمعنى أن صاحبه متردد بين الحق والباطل، سواء كان متردداً في الجميع، أو بعض ما أنزل الله وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرجح جانب الوحيين على غيرهما، ولا للحق على الباطل.
الثاني: كفر إعراض، بمعنى أمه معرض عن الحق، مع عرفانه أنه الحق لعلة من العلل، ككفر أبي طالب، أقرّ بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما تشهد به أقواله، منها قوله خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم:
وعرضتَ دِيناً قد عرفتُ بأنه
…
من خير لأديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وقوله في لاميته:
لقد علم
وا أن ابننا لا مكذب
…
لدينا ولا يعني بقول الأباطل
إلى أن قال:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
إلى أن قال:
فو الله لولا أن أجيء بسبة
…
تُجَّرُّ على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة
…
من الأمر جدَّا غير قول التهازل
وأيضاً، ككفر اليهود بالرسول صلى الله عليه وسلم بعدما جاءتهم البينة، وعرفوه أشد المعرفة، كما قال تعالى عنهم:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} . [البقرة: والأنعام: 20146] . فلما عرفوه كفروا به، فبيَّن الله أنهم ما كفروا به جهلاً، بل كفروا به بعد المعرفة، والعلة في ذلك الحسد قال تعالى:{حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} . [البقرة: 109] . وككفر الوليد بن المغيرة وناس معه، بغياً بينهم، قال تعالى:{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} . [الشورى: 14] .
والثالث: مفر نفاق، وهو الذي يستبطن الباطل، ويستظهر الحق حفظاً لدمه وماله وعرضه، ككفر عبد الله بن أبيّ ومن تبعه من المنافقين إلى يوم الدين.
والرابع: كفر إباء واستكبار، ككفر إبليس وفرعون، قال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . [البقرة: 34] . وقال تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} . [النمل: 14] .
والخامس: كفر جحود وهو نوعان: جحود مطلق لا يؤمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على العموم، والثاني: جحود مقيد ببعض، كأن يجحد نبيًّا، أو ملكاً، أو رسولاً، أو كتاباً من الكتب السماوية، أو آية من كتاب، أو حرفاً متفق عليه، أو حكماً من أحكام الرسول الثابت عنه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك. واعلم أن الكافر والمنافق أخوان، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} . [الحشر: 11] .
والنفاق: اعتقادي كما مضى آنفاً، وصاحبه أخو الكافر غداً في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . [النساء: 145] . ونفاق عملي، وذلك قلّ من ينجو منه، وهو لا يُخرج صاحبه من الإسلام ولكن يُخلُّ بدينه ويضعفه، قال الرسول
صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"1. وفي حديث آخر: "إذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" 2. هذا إذا كان معتقداً صحة الدين، وإلا هو من الصنف الأول، تأمل تعرف صنوف الناس وأحوالهم.
ولما كان قصد الشيخ –رحمه الله من تأليفه الميمون بيان التوحيد الذي خُلقت الكائنات لأجله، وأرسلت الرسل لأجله، وأنزلت الكتب لأجله، وإن كانت دلائله أكثر من أن تعد وتحصى، عقلاً ونقلاً، خلقاً وأمراً، كما قيل:
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه واحد3
فهو –رحمه الله اختصر لأهل زمانه الذين غفل أكثرهم عن الأصل الذي هو للأديان والملل أساس، وتعلقوا بفروع لم يرفع –مع عدم الأصل- لها رأس، مختصراً مفيداً، مشتملاً على دلائل نقلية أمرية، ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع أئمة الدين، وأهل الحق والعرف واليقين، وصدَّر تلك الدلائل بآية كافية في البيان، شافية للأمراض الشركية، ووساوس الشيطان، فقال –رحمه الله وجعل الجنة مثواه-: وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . يجوز في إعراب قواه الرفع على أنه العطف على كتاب، أي هذا كتاب التوحيد، وهذا قوله تعالى، ويجوز فيه الجرّ على أنه عطف على التوحيد، أي كتاب في بيان التوحيد، وفي بيان قوله تعالى وقوله:{وَمَا خَلَقْتُ} قلت: فيه أعظم دليل على أنه المنفرد للخلق؛ لأنه تعالى ذكر
1 رواه البخاري (33 و2749 و2682 و6095) ، ومسلم (59) .
2 رواه البخاري (34 و2459) ومسلم (58) .
3 نسبة صاحب الوفيات 7/137 لأبي نواس، ونسبة الأصفهاني في الأغاني 4/35 لأبي العتاهية.
بصيغة الإفراد وهو كذلك، قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . [الزمر: 62] .وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} . [لأعراف: 54] . ففيه ردُّ شاف على المجوس، حيث ذهبت إلى تقديس الباري عن تخليق الشر على زعمهم، كالجبابرة، والظلمة، والأشياء المفسدة، والسباع، والحيات، وأشباهها، مما هو مضرة على الإطلاق، وصاروا كالمستعيذ من الرمضاء إلى النار، أرادوا تقديس الباري عن تخليق الشر، ووقعوا في شرك الربوبية، فجعلوا منها للباري تعالى، وجعلوا منها لإبليس عدو لله فأمضى ذلك إلى الشرك والتعجيز، والقول بأن من شاء منهم فتنفذ مشيئته، والباري لم تنفذ مشيئته. ومعلوم عند كل عاقل بالضرورة أن أخص صفات الربوبية القدرة، وتبعهم على ذلك جماعة ممن ينتسب إلى الإسلام، وهم المعتزلة، فقالوا: تقدس الله عن تخليق المعاصي، وتكوين الزنا، واللواط، وإثبات الكفر والشرك، وإرادة قتل الأنبياء. فلزمهم ما لزم المجوس من الشرك، وأهل الحق يقولون: هو الله وحده في الربوبية، وعبادته، وأفعاله، لا شريك له في تخليقه، ولا نظير له في تكوينه، ولا راد لإرادته، ولا مضاد لمشيئته، ولا يعجز عن شيء، ولا ينفذ عليه أمر حي.
وأما تخليق هذه الأشياء، فالنظر فيه من وجوه:
أحدها: إن قصرت عقولنا عن إدراك الحكمة فيها لا تعجز عن إدراك أن الإله لا يوصف بالعجز، فعلينا أن نعمل بالقضية المدلول علماً، ولا نتركها لمأخذ لا نقف عليه.
الثاني: أن فيها ضرراً وفساداً إضافيًّا لا ذاتيًّا، فالحية لا ضرر في ذاتها بل في ريقها، كما يضرها1 ريقنا وريق الصائم يميت الله
1 أي بالاستعاذة والرقية.
العقرب به فكان ريقنا سبباً لضرر الحيات والعقارب.
والثالث: فيها منافع من وجوه كثيرة، كالترياق المتخذ من لحوم الأفاعي دافع ضرر السموم، وغير ذلك من الفوائد، إن أردتها انظر كتب الطب.
الرابع: إظهار القهر تذكرة للعذاب والنار، كما جعل الصورة الحسنة، والبساتين المزهرة، تذكرة من الجنة، استدعاء إلى الطاعة، وزجراً عن المعصية.
الخامس: تبغيض الدنيا وتكدير عيشها والتشويق إلى مفارقتها.
السادس: إظهار الاستغناء عن الخلق وعدم الالتفات إليهم.
قوله تعالى: (الجن والإنس) الألف واللام فيهما للماهية، أي ما خلقت ماهية الجن والإنس إلا للعبادة، ويحتمل أن يكون لاستغراق صنوف الجن وصنوف الإنس، لأن كل نوع من نوعي الجن والإنس مشتمل على أصناف متغايرة متعددة، وهذا أليق بالمقام؛ لدلالة تعداد الأجناس والأنواع والأصناف على كمال القدرة، وكمال العلم، بالجزئيات، والكليات، اللذين هما في الدلالة على الألوهية كما قيل: كأنه علم على رأسه نار. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12] .
واعلم أن كل مصنوع لا بد فيه من تصور أربع علل: علة الفاعلية، وعلة الصورية، وعلة المادية، وعلة الغائية، فإذا عرفت ذلك أن الجن والإنس مصنوعان من مصنوعات الله، قال تعالى:{اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] . فيلزم فيهما ما يلزم في غيرها. فالفاعل الله وحده، جل جلاله، وعمّ نواله، قال تعالى:{خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}
[الرحمن: 14، 15] . والآلة في الإنس: الطين، قال تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات: 11] . والآلة في الجن: النار، قال تعالى:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] . والصورة، هذه الصورة الحسنة المرئية في الإنس، قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . والصورة في الجن: الجسم اللطيف المخفي عن الأعين، قال تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] . والغاية من خلقهما العبادة، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} والعبادة اسم لما شرعه الله تعالى في كتابه المنزل على لسان رسوله المرسل صلى الله عليه وسلم، وما خالفه من النسك والأعمال والأقوال والنيات فبدعة يستوجب صاحبه النار. عن عائشة
–رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"1. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض: "فإن من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 2. متفق عليه.
قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها: "فإن هذا الباب كثر فيه الاضطراب، كما كثر في
1 أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) عن عائشة مرفوعاً بلفظ:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وفي لفظ مسلم (1718)(18) : "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
2 أخرجه الإمام أحمد (4/126 و127) وأبو داود (4607) والترمذي (2678) وابن ماجه (43) وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وقوله في هذا الحديث: متفق عليه خطأ واضح.
باب الحلال والحرام، فإن أقواماً استحلوا بعض ما حرمه الله تعالى، وأقواماً حرموا ما أحل الله تعالى، وكذلك أقوام أحدثوا عبادات لم يشرعها الله تعالى، بل نهى عنها. وأصل الدين أن الحلال ما أحله الله ورسوله في كتابه الكريم، والحرام: ما حرمه الله ورسوله في كتابه الكريم، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله تعالى به رسوله، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} . [الأنعام: 153] . وفي حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطًّا وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال:"هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1. وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما، ما ذم الله به المشركين، حيث حرموا ما لم يحرمه الله تعالى، كالبحيرة والسائبة، واستحلوا ما حرمه الله، كقتل أولادهم، وشرعوا ديناً لم يأذن الله به، فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] .ومنه أشياء محرمة جعلوها عبادات، كالشرك والفواحش، مثل: الطواف بالبيت عراة، وغير ذلك. والكلام في الحلال والحرام له مواضع أخرى، والمقصود هاهنا العبادات، فنقول العبادات التي يتقرب بها إلى الله مفروض ومستحب، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه: "ما تقرب ألي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته
1 أخرجه الإمام أحمد (1/435 و465) والدرامي (1/67) وابن ماجة (11) والحاكم (2/318) وابن جرير "في التفسير"(14168) وابن أبي عاصم في السنة (17) .
كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه" 1، الحديث، ومعلوم أن الصلاة منها فرض، وهي الصلوات الخمس، ومناه نافلة، كقيام الليل، وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض، وإلى المسجدين الآخرين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس مستحب، وكذلك الصدقة منها ما هو مفروض، ومنها ما هو مستحب، وهو العفو كما قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا ابن آدم إنك إن تنفق الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول" 2، والفرق بين الواجب والمستحب له وضع غير هذا. والمقصود هنا: الفرق بين ما هو مشروع –سواء كان واجباً أو مستحباًّ-وما ليس بمشروع، فالمشروع: هو الذي يتقرب به إلى الله، وهو سبيل الله، يعني شرعه الله على لسان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيكون خالصاً صواباً فافهم، وهو البر والطاعة والحسنات والخير والمعروف، وهو طريق السائلين، ومنهاج القاصدين والعابدين، وهو الذي يسلكه كل من أراد الله وسلك طريق الزهد والعبادة، ونحو ذلك، ولا ريب أنه تدخل فيه الصلاة المشروعة، واجبها، ومستحبها، ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع، وقراءة القرآن على الوجه المشروع، والأذكار، والدعوات
1 رواه البخاري (6502) وقوله: " فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي "، إنما هو من كلام الصوفي غير مسند، انظر "الفتح" 11/352.
2 رواه مسلم (1036) .
الشرعية، وما كان من ذلك، كالتلاوة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة، وما ورد من الأذكار والأدعية الشرعية في ذلك، وهذا يدخل في أمور كثيرة، وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه، وكذلك يدخل في الصيام الشرعي، كصيام نصف الدهر، وثلثه، أو ثلثيه، أو عُشره، وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه، وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع.
والعبادات البدنية وأصولها: الصلاة، الصيام، والقراءة، التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص لما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"ألم أُحَدَّث أنك قلت لأصومن النهار ولأقومن الليل ولأقرأن في ثلاث"؟، قلت: بلى، قال:"فلا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس"، ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم، فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال:"لا أفضل من ذلك"، وقال:"أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأفضل القيام قيام داود كان نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه"، وأمره أن يقرأ القرآن في سبع1. ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين:"يحقر أجدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"2. فذكر اجتهادهم بالصلاة، والصيام، والقراءة، وأنهم يغلون
1 رواه البخاري (1131 و1153 و1974-1980) وفي مراضع أخر، ومسلم (1159) .
2 رواه البخاري (5058 و6163 و6931 و6933) ومسلم (1064)(148) وقوله: "وقراءته مع قراءتهم" أخرجه مسلم (1066)(156) من حديث علي رضي الله عنه.
في ذلك، حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء، وهؤلاء غلوا في العبادة بلا فقه، حتى آل الأمر بهم إلى البدعة فقال:"يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة". فاستحلوا دماء المسلمين، وكفَّروا من خالفهم، وجاءت فيهم الأحاديث الصحيحة، قال الإمام أحمد بن حنبل: صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، وقد أخرجها مسلم في صحيحه، وأخرج البخاري قطعة منها. ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة، ولكن يبقى الكلام في القدْر المشروع منها، وله تصنيف يُسمى: كتاب "الاقتصاد في العبادات" وقال أُبيّ بن كعب –رضي الله عنه: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. والمقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة حدثت في المتأخرين، كالخلوات، فإنها تشبّه الاعتكاف الشرعي، والاعتكاف الشرعي في المساجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه، وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه صلى الله عليه وسلم بغار حراء قبل الوحي، وهذا خطأ فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه، وإلا فلا –إلى أن قال-: ثم صار أصحاب الخلوات منهم من يستمسك بجنس العبادات الشرعية، كالصلوات، والصيام، والقراءة، والذكر، وأكثرهم يخرجون إلى أجناس غير شرعية، فمن ذلك طريق أبي حامد ومن تبعه، وهؤلاء يأمرون صاحب الخلوة أن لا يزيد على الفرض، ولا قراءة ولا نظر في حديث نبوي، ولا غير ذلك، بل قد يأمرون بالذكر ثم يقولون ما يقوله أبو حامد: ذكر العامة
:لا إله إلا الله" والخاصة "الله الله" وذكر خاصة الخاصة "هو هو" والذكر بالاسم المنفرد، مظهراً أو مضمراً، بدعة في الشرع، وخطأ في القول واللغة، فإن الاسم المجرد ليس هو كلاماً، لا إيماناً ولا كفراً، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن وهي من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" 1. وفي حديث آخر: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" 2. والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثرة صحيحة، وأما الاسم المفرد بدعة لم تشرع، وليس هو بكلام يعقل، ولا فيه إيمان، ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخرين منهم يبيّن أنه ليس قصدنا ذكر الله، ولكن جمع القلب على شيء معين، حتى تستعد النفس لما يرد عليها. فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرات، ويخيل إليه أنه صار في الملأ الأعلى، وأنه أعطي ما لم يعط محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ولا موسى يوم الطور، -ثم ذكر كلاماً طويلاً في تنوع هؤلاء والرد عليهم إلى أن قال-: وأما قصد الصلاة، والدعاء، والعبادة، في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والدعاء والعبادة، بل روي أنهم مروا به، أو نزلوا فيه أو سكنوه، فهذا لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله، وأبلغ من ذلك إذا رأى أحدهم في المنام بمكان أن يقصد الصلاة والدعاء والعبادة في ذلك المكان فهذا لم يفعله أحد من السلف، بل قد نقل أن أقواماً قصدوا الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها، فأمر عمر فقطعت.
1 رواه مسلم (2137)(12) عن سمرة بن جندب مرفوعاً بلفظ: "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" وعلقه البخاري (7/293) بصيغة الجزم بلفظ: "أفضل الكلام أربع
…
".
2 أخرجه الترمذي (3383) ، وابن ماجه (3800) ، وفي سنده موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري، صدوق يخطىء كما في "التقريب".
وقد ثبت من غير وجه: "لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد يحذر مثل ما فعلوا"1. ومعلوم أن هذا النهي عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وإرادة أن تكون المساجد خالصة لله تعالى، تبنى لأجل عبادته فقط، لا يشرك في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراماً، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل. ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر الرجل الصالح، وعلى أثره، وباسمه، وهو الذي خاف عمر أن يقع فيه المسلمون، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم منع أمته منه، قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . [الجن: 18] . وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [الأعراف:29] . ولو كان هذا مستحبّاً؛ لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حُجَر أزواجه، وفي مكان نزل فيه في غزواته، وأسفاره، ولكان يستحب أن يبنوا هناك مسجداً، ولم يفعل السلف شيئاً من ذلك، ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكاناً يُقصد للصلاة إلا المسجد، ولا مكاناً يقصد للعبادة إلا المشاعر، فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى، تقصد للعبادة، والذكر، والدعاء، والتكبير، لا للصلاة، بخلاف المساجد فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثَمَّ مكان يقصد بعينه، إلا المساجد، والمشاعر، وفيها الصلاة والنسك، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} . [الأنعام: 162،163] . وما سوى ذلك فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها
1 أخرجه البخاري (435 و1330 و1390 و3453 و4441 و4443 و5815) ومسلم (531) .
للصلاة ولا للدعاء ولا للذكر، إذا لم يكن شرع الله ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكناً لنبي، أو منزلاً، أو ممرّاً، فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقته، بفعل ما أمرنا به، وشرعه لنا، وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي يشرع لنا الاقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه، فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلاً، سن لنا أن نتأسى به فيه فهذا ليس من العبادات والقربة، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم، وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد، يجوز لنا أن نفعله مباحاً كما فعله مباحاً.
ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان كما تقدم، وأكثر السلف والعلماء على أن لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبع فيه، وأهل العبادات البدعية يزين لهم الشيطان تلك العبادة، ويبغض إليهم السبل الشرعية، حتى قد يبغضهم العلم والقرآن والحديث. –ثم ذكر كلاماً طويلاً في تنوع هؤلاء إلى أن قال رحمه الله تعالى-: ثم إن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من الله بلا واسطة، صاروا عند أنفسهم أعظم من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول أحدهم: فلان أعطي على يد محمد وأنا عطيتي من الله بلا واسطة. ويقول أيضاً: فلان يأخذ عن الكتاب وهذا الشيخ يأخذ عن الله. وأمثال هذا، قول القائل: يأخذ عن الله وأعطاني الله، قول مجمل فإن أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني والخلقي، أي بمشيئة الله تعالى وقدرته حصل لي، فهذا حق، ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا، وإن أراد أن هذا الذي حصل لي هو ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه، وهذا الخطاب الذي يلقى إليّ هو كلام الله، فهنا طريقان:
أحدهما أن يقال: من أين لك هذا إنما هو من الله لا من الشيطان وإلقائه ووسوسته؟ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم
ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون، وينزلون عليهم، كما أخبر الله بذلك في القرآن، وهذا موجود كثير في عباد المشركين وأهل الكتاب، وفي الكهان والسحرة، ونحوهم، وأهل البدع بحسب بدعتهم، فإن كانت هذه الأحوال قد تكون رحمانية وقد تكون شيطانية؛ فلابد من الفرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان.
والطريق الثاني أن يقال: بل هذا من الشيطان؛ لأنه مخالف لما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ينظر فيما حصل له، وإلى سببه، وإلى غايته، فإن كان السبب عبادة غير شرعية، مثل أن يقال: اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد، واستشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب، أو ادع هذا المخلوق، واستغث به، مثل أن يدعو الكوكب، أو أن يدعو مخلوقاً كما يدعو الخالق، سوء المخلوق ملكاً، أو نبيًّا، أو شيخاً. فإذا دعاه كما يدعو الخالق سبحانه إما دعاء عبادة، وإما دعاء مسألة، صار مشركاً به، فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل له بالشرك، كما يحصل للمشركين وكانت الشياطين تترائى لهم أحياناً، وقد يخاطبونهم من الصنم، ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة، أو يقضون لهم الحوائج، فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه من توحيدهم وإيمانهم، الذي هلكوا بزواله كالسحر، قال الله تعالى:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} . إلى قوله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . [البقرة: 102] 1
1 قاعدة في العبادات والفرق بين بدعيتها وشرعيتها بشيخ الإسلام ابن تيمية (ص20-ص68) .
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرح "الأربعين": "والأعمال قسمان: عبادات، ومعاملات، فأما العبادات: فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله بالكلية فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . [الشورى: 21] . فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، وهذا كمن تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس، في غير الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية. وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقاً، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قائماً في الشمس فسأل عنه فقيل: إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل، وأن يصوم. فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقد ويستظل وأن يتم صومه 1، فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة بنذرهما، وقد روي أن ذلك كان في يوم الجمعة عند سماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخطب2 إعظاماً لسماع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قربة تُوفي بنذره مع أن القيام عبادة في مواضع للمحرم، فدل على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها. وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد، أو صلى في وقت النهي.
1 رواه البخاري (6704) .
2 رواه الطحاوي في "مشكل الآثار"(2167) ، وابن حبان (4385) وإسناده صحيح.
وأما من عمل عملاً أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أخل فيه بمشروع فهذا مخالف أيضاً للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردوداً عليه أم لا؟ فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه، فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل، أو شروطه، موجباً لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها، أو كمن أخل بالركوع، أو بالسجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمله مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضاً، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، ولا يجعلها شرطاً، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله بل هو ناقص، وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى أنها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله؛ فيكون مردوداً، كمن زاد في صلاته ركعة عمداً مثلاً، وتارة لا يبطله ولا يرده من أصله، كمن توضأ أربعاً أربعاً، أو صام الليل مع النهار، وواصل في صيامه. وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فهذا قد اختلف العلماء فيه: هل عمله مردود من أصله؟ أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب؟ وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله، وقريب من ذلك الذبح بآله محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، فأكثر العلماء على أنه تباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرمة، وكذا الخلاف في ذبح المحرم للصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي عنه بعينه، ولهذا فرَّق من فرّق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة،
فيبطلها، وبين أن لا يكون مختصًّا بها، فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، أو بغير ستارة، أو بغير قبلة، يُبطلها، لاختصاص النهي بالصلاة، بخلاف الصلاة في الغصب. ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما ينهى عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل، والشرب، والجماع، بخلاف ما نهي عنه الصائم لا بخصوص الصيام، كالكذب، والغيبة. عند الجمهور، وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام، وهو الجماع ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات، كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر، وكذلك الاعتكاف إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو الجماع، وإنما يبطل بالسكر لنهي السكران عن قربان المسجد، ودخوله، على أحد التأويلين لقوله تعالى:{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} . [النساء: 43] . أن المراد مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطل الاعتكاف بغيره من ارتكابه الكبائر عندنا، وعند كثير من العلماء، وإن خالف في ذلك طائفة من السلف، منهم: عطاء، والزهري، والثوري، ومالك، وحكي عن غيرهم أيضاً. وأما المعاملات كالعقود، والفسوخ، ونحوهما فما كان منها تغييراً لأوضاع الشريعة؛ كجعل حد الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود. وما كان منها عقوداً منهيًّا في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلاًّ للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه، أو عليه، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد هل هو مردود بالكلية لا ينتقل به الملك أم لا؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس فيه، وذلك أنه ورد في بعض الصور أنه مردود لا يفيد الملك، وفي بعضها أنه يفيده، والأقرب إن شاء الله تعالى أنه إن كان النهي عنه لحق الله
تعالى؛ فإنه لا يفيد الملك بالكلية، ومعنى كون الحق الله: أنه لا يسقط رضا المتعاقدين عليه. وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين، بحيث يسقط برضاه، فإنه يقف على رضاه به، فإن رضي لزم العقد واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ، فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية، كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق؛ فلا عبرة برضاه وبسخطه. وإن كان النهي رفقاً بالمنهي خاصة لما يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لا يبطل بذلك عمله. فأما الأول فله صور كثيرة منها: نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب، أو للجمع، أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه، كنكاح المعتدة المحرمة، والنكاح بغير ولي، ونحو ذلك. وقد روي:"أن النبي صلى الله عليه وسلم فرَّق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلى" 1،فردّ النكاح لوقوعه في العدة. وأما الثاني، فله صور عديدة منها: إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها بغير إذنها، ومنها: بيع المدلس ونحوه، كالمصرّاة، وبيع النَّجْش، وتلقي الركبان، ونحو ذلك. وفي صحته كله اختلاف مشهور. وذهب طائفة. وأما الثاني، فله صور عديدة منها: إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها بغير إذنها، ومنها: بيع المدلس ونحوه، كالمصرّاة، وبيع النَّجْش، وتلقي الركبان، ونحو ذلك. وفي صحته كله اختلاف مشهور. وذهب طائفة إلى بطلانه وردّه، والصحيح أنه يصح، ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك". انتهى كلامه ملخصاً2.
ولما استدل الشيخ رحمه الله بما فيه أتم بيان لموجب خلق الجن والإنس، بدأ بما فيه أكمل وضوح لموجب إرسال الرسل.
تفسير الآية الثانية:
قال -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا
1 أخرجه أبو داود (2131) من حديث رجل من الأنصار يقال له بُصرة، وسنده مضطرب.
2 جامع العلوم والحكم لابن رجب (177-185) .
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، يخبر تعالى بعاده ويوضح لهم أنه تعالى وتقدس ما أرسل رسله إلى عباده إلا ليعبدوه وحده، ولا يشركوا معه غيره، لا في العبادة القولية، ولا الفعلية، ولا الإرادية، والنية، فضلاً منه ورحمة لئلا يضلوا فيستوجبوا دخول النار، قال تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . [النساء: 165] .
قلت في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا} الآية فوائد لمن تدبرها:
الأولى: أنه تعالى بعث في كل أمة رسولاً، ولا خصص أمة دون أمة، لإظهار عدله، وإتمام حجته على الناس كلهم.
الثانية: أنه ما تركهم هملاً، بل أرسل إليهم رسلاً يرشدونهم إلى التي هي أقوم وأصلح من أمر دينهم الذي به سعادة الأبدية.
الثالثة: أنه تعالى ما خلقهم عبثاً، بل لعبادته خلقهم قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} . [المؤمنون: 115،116] . نزه الله نفسه عن خلقهم عبثاً وتركهم هملاً لا يبعث الرسل إليهم ولا ينزل معهم الكتب زلا يبين لهم مراده.
الرابعة: أن اختلاف الناس في الألوهية أي في أفعالهم، ليس اختلافهم في الربوبية، أي أفعال الله؛ لأنه لو كان الاختلاف في الربوبية لذكره الله تعالى كما ذكر اختلافهم في الألوهية كقوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، [النحل: 36] . وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . [هود: 1، 2] . وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . [الكهف: 110] .فبين الله تعالى أن الذي أوجب إرسال الرسل شرك الألوهية، ليس شركاً في
الربوبية، بل إن الكفار مقرون بالربوبية، كما حكى الله تعالى عنهم قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . [الزخرف: 9] . وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . [يونس: 31] . وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . [المؤمنون: 86،87] . وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} . [المؤمنون: 84،85] . وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . [المؤمنون: 88،89] .
الخامسة: أن اجتناب الطواغيت فرض وحق على العباد، كما أن عبادة الله فرض وحق على العباد، ولا يتم التوحيد إلا باجتناب الطواغيت، كما قال تعالى عن إمام الحنفاء:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} . [الزخرف: 26،27] . وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} . [الممتحنة:4] . هذا بل الكفر بالطواغيت مقدم على الإيمان بالله عقلاً ونقلاً، أما النقل؛ فقد قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} . [البقرة: 256] . وأما العقل؛ فمعلوم بالضرورة أن الصبغ لا يؤثر في المتدنس والمتوسخ من كل نوع حتى ينظف، أما ترى الصفارين والصباغين أكثر جهدهم في زوال الأعراض المانعة من الصبغ؟ وهي الأدناس والأوساخ، فكذلك الدين والإيمان ينبغي أن
يزال عن القلوب الأوساخ التي وقعت عليها، من عبادة الطواغيت، وحبها أولاً، ثم يصبغ بصبغة الله تعالى وهو التوحيد والإخلاص، قال تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} . [البقرة: 138] .
قال البيضاوي في تفسيره: سناه صبغة لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، وتداخل في قلوبهم الإيمان تداخل الصبخ الثوب انتهى. وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.
السادسة: أن دعوتهم في أصل الدين واحدة، ولا تغاير بين دعوتهم، ولا تخالف بين كلمتهم إلا في الفروع، وهي الشرائع، قال تعالى:{جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} . [المائدة: 48] . وقال صلى الله عليه وسلم: "نحن الأنبياء أولاد علات أبونا واحد وأمهاتنا متفرقة"1.
تفسير الآية الثالثة: ثم استدل الشيخ -رحمه الله تعالى- على التوحيد بحكم الله الذي حكم به على عباده من فوق سبع سموات قال -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} الآية أي وحكم ربكم عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه كقوله: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . [طه: 72] . أي احكم ما أنت حاكم، لا بمعنى قدّر، ولو أنه بمعنى قدر ما أشرك أحد، كما في الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم:"إني سألت أن لا يهلكهم بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم فقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد"2. الحديث.
1 رواه البخاري (3443) ومسلم (2365) بنحوه.
2 رواه مسلم (2889) .
ثم استدل الشيخ -رحمه الله تعالى- على التوحيد بأمر الله الذي أمر به عباده فقال -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . واعلم أن الأمر أمران: أمر كوني، وأمر شرعي، وكلا الأمرين ينطقان بالتوحيد، أما الأمر الكوني فدلالته على التوحيد دلالة السبب على المسبب؛ لأنه المشتمل على أفعال الله كلها، من خلق، ورزق، وتدبير، وغير ذلك، وذلك سبب وعلة وقنطرة يوصل إلى توحيد الألوهية، التي هي عبادة الله وحده لا شريك له، وهذه طريقة القرآن، نبه الله تعالى عباده بأفعاله الجميلة الحسنة وقدرت الكاملة وعلمه المحيط على أنه المعبود بحق في الوجود، وأن ما سواه باطل، كما قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} . [الرعد: 14] . والقرآن مملوء من هذا، بل كل القرآن يقرر هذا التقرير كما تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . [فصلت: 53] . ومن ذلك ما ذكر الله متواليات في سورة الروم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} . [الروم: 20-25] . وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . [البقرة: 164] .
قال البيضاوي: "واعلم أن دلالة هذه الآية على وجود الإله ووحدانيته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلاً، والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة، وأنحاء مختلفة يتحير العقل عن كنه حقيقته، ولكن يستدل العقل استدلالاً ما على وحدانية الله، وقوله تعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . [النمل: 60-64] .
فهذه طريقة القرآن ينبه عباده عن غفلتهم عن عبادته بأفعاله الجميلة، وآلائه المشيعة، ونعمائه المبثوثة، ويحذرهم نفسه بقدرته الكاملة وعلمه المحيط بكل شيء فهو سبحانه يذكرهم نعمه ويحذرهم نقمه؛ لكي يتوبوا إليه بالأعمال الصالحة ويقصدوه وحده لا شريك له، ولا يشركوا به غيره في العبادة، فصار الأمر كوني سبباً وعلة، وقنطرة للألوهية التي خلقت الكائنات كلها بأسرها وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب لأجلها. ويتشعب من الأمر الكوني الأمر العقلي، وإن كان العقل مما كونه الله تعالى في تركيب الإنسانية ليميز به الحسن والقبيح، والحق والباطل، فأنا أذكره على حدته، لعظم شأنه، وما
يترتب عليه من الثواب والعقاب، والكمال والجمال: اعلم أن جوهر العقل إن لم يتلطخ بلطخ عذرات الكفر والشرك والنفاق، ولم يتدنس بدنس الذنوب والسيئات، ولم يختل بخلا أمراض الشبهات والشهوات، الدال صاحبه على فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي الملة الحنيفية ملة إبراهيم، ودين محمد بن عبد الله صلوات الله عليهم أجمعين، وهو التوحيد دلالة تامة لا محالة. وقد بين الله تعالى أن ذوي العقول هم أحرى للهداية، بل علق الله تعالى العقل والتذكر والتفكر، وأنه مهما عقل الإنسان وتفكر في آيات الله الكونية لدلته على لب اللباب وزبدة السنة والكتاب، وهو توحيد الألوهية، قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} . [آل عمران: 190] . وقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . [الروم: 28] . وغير ذلك من الآيات الدالة على أن أهل العقول هم المستنفعون بالآيات الكونية، والآيات الأمرية، فعلى هذا أنا أمثل أمثالاً عقلية توافق النقل على أن لا يعبد مع الله غيره، وأن عبادة غيره باطلة، وأن عابد غيره أضل من كل ضال.
المثل الأول: لو أن ملكاً قاهراً فوق رعاياه فأتاه مظلوم من رعاياه فدعاه مع عبدٍ مملوكٍ له في أخذ مظلمته هل يجوزه العقل؟ بل يستنكره ويستقبحه، مثل أن يقول: يا أيها الملك ويا أيها المملوك خذوا مظلمتي من هذا، فكل أحد يراه يقبح عليه؛ لأنه دعا الملك مع مملوكه جميعاً وشاركه معه في حكمه وأمره، ويغضب عليه الملك لأجل ذلك، فإذا كان دعوة الملك مع مملوكه جميعاً في قضاء الحاجة قبيح، وحال أنهم كلهم بنو آدم، وهم سواء في جميع الأحوال، إلا
أن المملوك قد جعله الله تحت يد الملك. فكيف بالأحد القيوم الصمد، الذي ليس كمثله أحد؟ يدعى مع عبده المخلوق الضعيف، النحيف العاجز، لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، لاسيما يدعو مع الله ميتاً، كأن يقول:"يا الله يا عيدروس"، أو "يا الله يا فلان ويا فلان". وقد نبه الله تعالى على هذا، قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . [المؤمنون: 117] .فقد كفَّر الله من دعا مع الله غيره.
المثل الثاني: أو أن غنيًّا كريماً ينفق من أصناف المال سرًّا وجهراً، ومملوك له لا يقدر على شيء، لا لنفسه ولا لغيره، فجاء محتاج وطلب حاجته من العبد وترك الغني الكريم، هل يجوّزه العقا؟ بل يستنكره ويستقبحه، وكل يقبح على فاعله، فإذا كان هذا قبيح في الغني الكريم والمملوك له، وهم بنو آدم فكيف برب البرايا مالك الملك والملكوت، يُترك ويُدعى المخلوق الضعيف، بل الموتى، بل الأشجار والأحجار في كشف الكربات ودفع الملمات؟ وقد نبه الله على هذا قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 75] .
المثل الثالث: هل يرضى أحد أن يساوي مملوكه معه في حقه؟ وإن رضي أحد؛ هل يجوزه العقل؟ بل يستنكره أشد الاستنكار، ويستقبحه، وكل يقبح عليه ويوبخه على ذلك، فإذا كان هذا في العبيد النقص لا يجوز، فكيف بمساواة الكامل في جميع الوجوه خالق كل شيء لا إله إلا هو بعبد ضعيف عاجز لا يملك لنفسه شيئاً، فضلاً عن غيره؟ إلا في الدعاء، والحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن كل
ذلك عبادة والعبادة حق لله تعالى، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . [النحل: 36] . وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . [النساء: 36] . وقال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . فإن قلت: الشرك المذكور ليس في العبادة، بل الشرك في الربوبية والملك. قلت: هذا يرده القرآن فإن الله قد أخبر أن المشركين يقرون بالربوبية والملك ولم يدخلوا في الإسلام لما أنهم أشركوا في العبودية، قال تعالى عنهم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . [لقمان: 25] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . [يونس: 31] . فهذه الربوبية قد أقرَّ بها الكفار المشركون وأما الملك فكذلك أقروا به قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} . [المؤمنون: 88، 89] . فبين الله أن المشركين كانوا مقرين بالملك أيضاً، كما أنهم مقرون بالربوبية، ولكن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم على شرك العبادة، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . [الكهف: 110] . وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} . [الأنفال: 39] . والدين: هو العبودية مطلقاً، فإذا عرفت ذلك فكيف يساوى مع الخالق القادر، العبد العاجز؟ وقد نبه الله على هذا، قال تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . [الروم:
28] . وقد ذكر الله تعالى عن الذين ساووا مع الله غيره أنهم يشهدون على أنفسهم بالضلال، قال تعالى:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . [الشعراء: 96، 97] .
المثل الرابع: لو أن ملكاً قاهراً له عبيد مملكة لا يقدرن على شيء، بل يرجون مولاهم في ما ينوبهم، ويخافون عذابه ونقمته وعقوبته، ثم يأتي عبد من عبيده فيلوذ بعبد مثله من ضرّ، أو يطلب حاجة، ويترك الملك المعطي المانع النافع الضار، هل يجوزه العقل؟ بل يستنكره ويستقبحه، وكل يقبح عليه، فإذا كان هذا في بني آدم وهم سواء في العبودية والخلق، فكيف بمن يترك الرب تعالى وينساه، ويدعو غيره في كشف الضر وتحويله؟ كأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو اشفني، أو غير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى. وقد نبه الله تعالى على هذا قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . [الإسراء: 56، 57] . ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في عيسى وعُزير، تنبيهاً لمن يقصدهم في كشف الضر وتحويله، فإذا كان عيس روح الله وعزير لا يقدرون على كشف الضر وتحويله من مكان إلى مكان، ومحل إلى محل، فكيف بغيرهم؟
المثل الخامس: لو أن أحداً مر على مقبرة، ومعه دابة محملة فوقعت دابته في حفرة من الحفر، فقال: يا أهل القبور، يا فلان، يا فلان، -يعدد الموتى- ساعدوني على دابتي، وعنده رجل حي قوي، تركه ولم يدعه، هل يجوزه العقل؟ بل ينكره ويستقبحه من مخلوق يترك مخلوقاً حيَّا، ويدعو الموتى، فكيف بمن ترك الحي القيوم، ودعا في
كشف الكربات، ودفع الملمات أهل القبور؟ وقد نبه الله على ذلك، قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . [النحل: 19-22] .
المثل السادس: لو أن عبيد مملكة تحت ملك قاهر ما لهم من الأمر شيء إلا ما يأتيهم من تحت تصريف الملك وأمره، فيسأل بعضهم بعضاً مما في خزائن الملك، فهل يجوزه العقل؟ بل ينكره ويستقبحه؛ لأنهم لا يقدرون على نفع أنفسهم، فضلاً عن غيرهم، فإذا كان هذا يستقبح إذا سأل بعضهم بعضاً مما في خزائن ملك مخلوق مثلهم، فكيف بمن يسأل مخلوقاً حيًّا، أو ميتاً مما في خزائن الله تعالى، مما لا يقدر عليه إلا الله؟ مثل كشف الضر وتحويله قال تعالى:{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . [الشورى: 12] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} . [الأحزاب: 17] . فهو المتفرد بالخلق والأمر والتدبير والملك {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . [يس: 83] . وقد نبه الله تعالى على مثل هذا المثل قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} . [الأعراف: 194] . فطوبى لعبد ذكر الله ولم يغفل عنه تعالى حتى يحصل رضى الله والجنان قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . [الأحزاب: 35] . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . [الأنفال: 2] . وخاب عبد نسي ربه قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . [الحشر: 19] .
قال ابن القيم رحمه الله: "إذا نسي العبد ربه أَوْجَبَ ذلك بأمر الله نسيانه نفسه، فحينئذ أعرض عن مصالحها، ونسيها، واشتغل عنها فهلكت، وفسدت، ولا بد لمن له زرع، وبستان، وماشية، وغير ذلك، مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره وضيع مصالحه فإنه يفسد ولا بد، وهذا مع إمكان قيام غيره مقامه، فكيف الظن بفساد نفسه، وهلاكها، وشقائها، إذا أهملها ونسيها، واشتغل عن مصالحها، وعطل مراعاتها، وترك القيام، عليها بما يصلحها؟ فإذاً خذ ما شئت من فساد، وهلاك، وخيبة، وحرمان، وهذا الذي صار أمره فرطاً ففرط عليه أمره وضاعت مصالحه وأحاطت به أسباب القطوع، والخيبة، والهلاك، ولا سبيل إلى الأمان من ذلك؛ إلا بدوام ذكر الله، واللهج به، وترك ما سواه، وأن لا يزال اللسان رطباً به، وأن ينزله منزلة حياته التي لا غناء له عنها ومنزلة غذائه الذي إذا فقده فسد جسمه وهلك وبمنزلة الماء عند شدة العطش وبمنزلة اللباس في الحر والبرد؛ وبمنزلة الكنّ في شدة السموم في الصيف، وشدة البرد في الشتاء. فمن نسي الله أنساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب يوم القيامة. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى-.
ولو أردنا أن نتتبع ما يناسب إبطال هذا الأمر الشنيع، واستقباح هذا المنكر الفظيع: أنْ يُسَاوَى مع الله تعالى غيره في العبادة، أو في كشف الضر، ورد الخير ما وسعه المقام، وتعجز عنه الألسن والأقلام {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} . [يونس] . والأمر الثاني الأمر الشرعي فهو الصريح على الألوهية مجملاً ومفصلاً أما المجمل فكقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . [النساء: 36] . وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [البينة: 5] . وقوله تعالى:
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . [النحل: 36] . وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} . [هود: 1، 2] . وأما المفصل فكقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . [المائدة: 23] . {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} . [المائدة: 44] . {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} . [آل عمران: 175] . {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} . [البقرة: 41] . {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} . [البقرة: 40] . {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} . [الزمر: 54] . {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} . [البقرة: 152] . {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . [الكوثر: 2] . {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} . [الأنعام: 162،163] . وغير ذلك من الآيات المفصِّلة أنواع العبادة، نوعاً فنوعاً.
ويتشعب من الأمر الشرعي الذي أمر به الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أمره صلى الله عليه وسلم مما أمره الله تعالى، كما قال تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . [النساء: 113] . قيل: الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . [النجم: 1-4] . فأنا أذكر بعضاً من أحاديثه التي تدل على الأمر بالتوحيد، وحسنه، وفضله. وعن النهي عن الشرك، وقبحه، لاجتماع الوحيين ودلالتهما على المقصود صريحاً، واندحاض الباطل، وارتداع الملحد، وانقماع البدع. فمن بيانه صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد: ما خرَّج البخاري في صحيحه، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شراحبيل، قال: قال عبد الله: قال رجل يا رسول الله، أي الذنب أكبر؟ وفي حديث آخر: أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندَّا وهو
خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ قال: " أن تزاني حليلة جارك" 1. وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك" 2. رواه الترمذي وحسنه. وروى أبو داود وغيره، عن ابن مسعود "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" 3.وعن ابن مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك وما منا إلا يذهبه الله بالتوكل" 4 رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الخراز، عن ابن أخي زينب، عن زينب امرأة ابن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح، وبزق، أن يهجم منا على شيء يكرهه. قالت: وإنه جاء ذات يوم وتنحنح، قالت: وعندي عجوز ترقيني من الحُمرة، فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل، فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطاً، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: خيط أرقى لي فيه، فأخذه فقطعه، ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك". قلت: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، وكان إذا رقاها سكنت؟ قال: إنما ذاك من الشيطان، كان ينسخها بيده فإذا رقيتيها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذهب البأس رب الناس
1 رواه البخاري (4477 و6861) ومسلم (86) .
2 تقدم ص 18 برقم 4.
3 أخرجه الإمام أحمد (1/381) وأبو داود (3883) وابن ماجه (3530) وفي سنده مجهول، وله طرق يتقوى بها أخرجها الحاكم (4/216-217 و417-418) .
4 رواه الإمام أحمد (1/389 و438 و440) ، وأبو داود (3910)، والترمذي (1614) وقال:"حسن صحيح". وصححه الحاكم (1/17) ، ووافقه الذهبي.
اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً" 1. وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد عن وكيع عن ابن أبي ليلى عن عيسى بن عبد الرحمن قال: "دخلت على عبد الله بن عُكيم وهو مريض نعوده، فقيل له: لو تعلقت شيئاً، قال: أتعلق شياً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من علق تميمة فقد أشرك"2. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله: أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي غيري تركته وشركه" 3. رواه مسلم. وعن أبي سعيد بن أبي فضالة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء"4. رواه الإمام أحمد. وقال الإمام أحمد: ثنا يونس، ثنا ليث، عن يزيد –يعني ابن الهاد- عن عمرو، عن محمود بي لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤن في الدنيا فانظروا هل ترون عندهم
1 رواه الإمام أحمد (1/381) وفي سنده مجهول، ولم طرق أخرى يتقوى بها عند الحاكم (4/216-217 و417-418) وتقدم فيه.
2 رواه الإمام أحمد (4/156) من حديث عقبة بن عامر الجهني: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا؟ قال: إن عليه تميمة. فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال: من علق تميمة فقد أشرك".
3 رواه مسلم (2985) .
4 أخرجه الإمام أحمد (3/466)(4/215) من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة، وفي سنده زياد بن ميناء، مقبول، كما في "التقريب" ولكنه يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم قبله.
الجزاء" 1. وللإمام أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً "من ردته الطيرة حاجته فقد أشرك" قالوا: يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ فقال: "أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك" 2. وللإمام أحمد عن أبي موسى أنه خطب فقال: أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام عبد الله بن حزن، وقيس بن المضارب فقالا: لتخرجن مما قلت، أو لنأتين عمر مأذون لنا أو غير مأذون. قال: بل أخرج مما قلت خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل " فقال له من شاء الله أن يقول: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه" 3. وقد روي من وجه آخر أن السائل هو الصِّدِّيق. وعن أبي هريرة قال: قال أبو بكر: يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعي. قال: "قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه" 4. رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وصححه.
1 أخرجه الإمام أحمد (5/428) من طريقين البغوي (4135) .
2 أخرجه الإمام أحمد (2/220) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وفي سنده ابن لهيعة. وله شاهد من حديث بريدة بنحوه أخرجه الطبراني في "الدعاء"(1270) وإسناده ضعيف، لكن الحديث يتقوى بطريقته.
3 رواه الإمام أحمد (4/403) وفي سنده مجهول. وله شاهد أخرجه أبو يعلى في "المسند"(1/62) من حديث حذيفة بنحوه وإسناده ضعيف، وسيأتي له شاهد من حديث أبي بكر.
4 رواه أبو داود (5067) والترمذي (3392) والنسائي في "في عمل اليوم والليلة"(11) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
ورواه الإمام أحمد من حديث أبي بكر الصديق، وزاد في آخره:" وأن اقترف على نفسي سوءاً أو أجرّه إلى مسلم"1.
تفسير الآية الخامسة
ثم استدل الشيخ -رحمه الله تعالى- بما يدل على تحريم الشرك من الكتاب والسنة، قال -رحمه الله تعالى-: وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية. تنبيه وتوبيخ:
أما النبيه: أن الحق اللازم الأولى في حق العبيد أن ينتظروا أمر سيدهم وخالقهم، الذي خلقهم من تراب، وربهم الذي رباهم بنعمته، ولا يستغنوا عنه طرفة عين، فيمتثلوا به، ويتوقعوا نهيه؛ ليجتنبوه. فعلى هذا الصنف: قال تعالى: {تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} فإذا تستوجبوا غضبه وعذابه، أي: أشركتم به شيئاً، ومن أعظم ما أمر به أن توحدوا الله تعالى بالعبادة، ولا تشركوا به شيئاً فيحبط أعمالكم، وتستوجبوا الخلود في النار. قال تعالى: قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [الزمر: 65] . وقال تعالى: قال تعالى: {َقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . [النساء: 48 و116] . وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} . [التوبة: 28] .
وأما التوبيخ: فيوبخ الله المشركين على أنهم قابلوا شكر نعم
1 أخرجه الإمام أحمد (1/10)(2/297) من حديث أبي بكر وليس عنده الزيادة المشار إليها، رواه أبو داود (5083) من حديث أبي مالك الأشعري به.
ربهم الذي رباهم بنعمه بالشرك به، والكفر، وهذا أمر ينكره العقل، والنقل، والفطرة، كيف لا، والعقل يشهد بمجازاة الإحسان بالإحسان، والنقل كذلك، قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} . [الرحمن: 60] . والفطرة فطرت على الإحسان إلى من أحسن إليه والمشركون قد خالفوا الكل. واعلم أن المشركين كانوا على أديان مختلفة، ومعابيد شتى، فمنهم من يعبد اللات، والعزى، ومناة. قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} . [النجم: 19،20] .
قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: أن اللات كان رجلاً صالحاً يلتّ السويق للحاج فمات، فعكفوا على قبره" وأما العزى، فعلى ما ذكره المفسرون: أنها ثلاث سمرات في وادي نخلة تقصدها العرب. وأما مناة: فحجارة معروفة يهلّون منها للحج، ويستمطرون بها الأنواء. ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} . [الإسراء: 56،57] . ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في ناس يعبدون عيسى وعزيزاً. ومنهم من يعبدون الملائكة، يريدون منهم الشفاعة قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} . [سبأ: 40،41] . ومنهم من يعبد الجن، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} . [الجن: 6] . ذكر المفسرون أنهم إذا نزلوا الوادي قالوا: "إنا نعوذ بسيد هذا القوم من سفهائهم" ومنهم من يعبد الشمس والقمر، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا
تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . [فصلت: 37] . ومنهم من يعبد صوراً مصورة على صور الصالحين، ودًّأ، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً. وكانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قال تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . [نوح: 23] .
واعلم أن المشركين مع شركهم وكفرهم، كانوا يخلصون لله في الشدائد، ويشركون في الرخاء، قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} . [العنكبوت: 65] . وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} . [الروم: 33، 34] . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: "إن الكفار المشركين كانوا إذا ركبوا في السفن ألقوا ما معهم من الأصنام وعلموا أن آلهتهم لا تنفعهم" انتهى.
فإذا علمت معابيد المشركين في الجملة، وعرفت أنهم لا يشركون دائماً، بل يشركون في حال الرخاء، وأما في الشدائد فيخلصون لله تعالى، فاعلم أن في آخر الزمان وقع ما هو أشد وأدهى من فعل المشركين بوجوه:
الوجه الأول: أنه ما كان في المشركين إلا قبة واحدة، وهي قبة اللات، والآن في كل مكان قبائب بها يُلاذ ويستعان، كما قيل:
وعند ثقيف كان قبة لاتهم
…
والآن في كل المواطن ذا الصنع
ففي كل أرض قبة مثل لاتهم
…
ليرجى ويدعى لانتفاع وللدفع
وأيضاً عندهم العزى لا سواها، والآن كم من شجرة تقصد؟ كما قيل:
وفي نخلة العزى زمان قريشهم
…
وكم سدرة الآن تقصد للنفع
هناك مناة كم مناة زماننا
…
فكم صخرة الآن تقصد للدفع
وإن نزلوا الوادي استعاذت قريشهم
…
والآن كل يستعيذ من الجمع
فكم ذبحت للجن سود دجاجة
…
وكم بيضة كم من بسيس من الوجع
وقد زاد في ذات الوقت أهل زماننا
…
تعلقهم بالروث والضرس والودع
وبالعين جحر النمل موطا لصالح
…
وبالبيض عظم الرأس في النخل والزرع
معابيدهم شتى مقاصدهم شتى
…
فكل له مولى إذا ناب من فجع
ومهما أرادوا حاجة قصدوا لهم
…
مقاماً وشيئاً من ضرى الكلب والضبع
وقالوا بها نقضي معاضل أمرنا
…
بقصد صحيح بالخضوع وبالخشع
فكم ذبحت للقبر خير ذبيحة
…
وكم صار نذر للقبور من الفجع
وكم سجدوا حول القبور لحاجة
…
وكم راكع مهما أتاها وكم ينع
وكم هتفوا باسم المشائخ عندما
…
رأوا ضرة بحراً وبراً من الفزع
فكل ترى داع إلهاً لقصده
…
إذا اشتدت الحاجات والكرب والجزع
إلهي رأينا كل هذي معايناً
…
فقد خالفوا التوحيد في القصد والوضع
وقد جاء رسول الله ينفي فعالهم
…
فهم أثبتوها عكس ما جا من الشرع
ومع ذا يقول الحق عندي وأنني
…
على الدين والتوحيد بالسبق والسرع
الوجه الثاني: أن الأولين ما أشركوا إلا في الرخاء، وأكثر هؤلاء يشركون في البحر والبر، وفي الشدائد والرخاء، حتى إذا تكلم قال يا فلان، ولم يذكر الله الذي خلقه ودبره.
الوجه الثالث: أن الأولين كانوا يعبدون شجراً، أو حجراً، أو شمساً، أو قمراً، لا يعصون الله، أو يعبدون أنبياء وصالحين، يرجون شفاعتهم. وأكثر أهل زماننا يعبدون فسقة فجرة، يعاينون فسقهم
وفجورهم، ومع ذلك يتبركون بهم، ويستشفون منهم.
الوجه الرابع: أن الأولين ما أرادوا من معابدهم إلا القربة، والشفاعة، وأكثر أهل زماننا يطلبون منهم الربوبية، كالعيال، والأولاد، والرزق، والسعة، والرحمة، والمغفرة، والنصر على الأعداء من دون سبب، ونظم في ذلك بعضهم في بعض معابيدهم:
يا عمدتي يا صفى الدين يا سندي
…
يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري
أنت الملاذ لما أخشى مضرته
…
وأنت لي ملجأ من حادث الدهر
وامنن علي بتوفيق وعافية
…
وخير خاتمة مهما انقضى عمري
وكف عني ألف الظالمين إذا
…
امتدت بسوء وأمر مولمٍ نكري
فإنني عبدك الراجي بودك ما
…
أملته يا صفي السادة الغرر
قال بعض العلماء: فأي معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة؟ وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر؟ فإن المشركين أهل الأوثان وما يؤمنون في مَنْ عبدوه بشيء من هذا، وهذا بعض كلامهم. ولو ذهبنا نذكر ما يشبهه نظماً ونثراً لطال الكلام، وما وسعه المقام، وفاتنا ما قصدنا من النظام لهذا فكيف الإيمان بهذا وشبهه، والإيمان بقوله تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . [يونس: 106، 107] . وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} . [الجن: 21] . وقوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . [الأعراف: 188] . وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله
شياً ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً" 1. فهل يجتمع الإيمان بقول هؤلاء المشركين وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من إخلاص العبادة لله تعالى؟ لا والله لن يجتمعا في قلب عبد، إلا كما يجتمع أن موسى صادق على الحق، وأن فرعون صادق على الحق، وأن فرعون صادق على الحق، بل كما القائل:
سارت مشرِّقة وسرت مغرِّباً
…
شتان بين مشرِّق ومغرِّب
صم وبكم عن حقيقة دينهم
…
عمي عن القول المصيب الطيب
قد أغرقوا في بحر شرك لجة
…
في ظلمة فيها صواعق صيب
أعاذنا الله من الشرك والكفر والنفاق وبرأنا من أهلها.
شرح حديث ابن مسعود:
ولما استكمل الشيخ -رحمه الله تعالى- الاستدلال على توحيد الألوهية بالآيات القرآنية، وشرع يستدل عليه بالأحاديث النبوية، فقال -رحمه الله تعالى-: عن ابن مسعود من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمة فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ
1 أخرجه البخاري (2753 و4771) ، ومسلم (206)(351) .
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . [الأنعام: 151،153] . ومعلوم بالضرورة شرعاًً وعقلاً أنه إذا أراد أحد أن يسافر، أو كان مريضاً، أن يوصي أهله، وولده، ومن تبعه، بما يصلحهم من أمر دينهم ودنياهم، فكيف سيد المرسلين المبعوث إلى الخلق أجمعين المخاطب {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . [المائدة: 67] . فكان هو صلى الله عليه وسلم أحق وأولى بالوصية لأمته بما يصلحهم في أمر دينهم الذي بعث إليهم لأجله، ولكن بحكمة أحكم الحاكمين حال بينه وبين وصيته صلى الله عليه وسلم ما حال.
خرَّج البخاري في صحيحه ثنا إبراهيم بن موسى نا هشام عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "هلم بدواة وقلم أو نحو ذلك أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده". قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه على الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قوموا عني". قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك من اختلافهم ولغطهم1.
هذا ولكن ابن مسعود رضي الله عنه – علم من غرز علمه –المكتسب من صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، المقتبس من نور علم الرسول
1 رواه البخاري (114 و3053 و3168 و4431 و4432 و5669 و7366) .
صلى الله عليه وسلم- أنه ليس للرسول صلى الله عليه وسلم وصية غير وصية الله، فقال: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد إلخ.
قلت: هذه الوصية لما اشتملت على الأحكام الأصلية، والفرعية، والباطنية، والظاهرية، والدنيوية، والأخروية، والعلمية، والأدبية، ذكرها ابن مسعود –رضي الله عنه:
فأما الأحكام الأصلية: فدلالتها على التوحيد وشُعبه الذي هو أصل الأديان، وأساسها كلها. وأما الأحكام الفرعية: فما عدا التوحيد من الأوامر، والنواهي التي هي تابعة للتوحيد.
وأما الأحكام الظاهرية: فقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ} والفاحش: ما استفحشه الشرع والعقل، كالزنا، واللواط، وقول الزور، والكذب، وقذف المحصنات، والسحر، وأشباه ذلك من الذي يستفحشه الشرع والعقل.
وأما الأحكام الباطنية: فقوله: {وَمَا بَطَنَ} كالرياء، والنفاق الاعتقادي، والكبر، والعجب، والحسد، والحقد، وحب أعداء الله، وبغض أوليائه، وغير ذلك من الأمور الباطنية المخالفة للوحيين.
وأما الأحكام الدنيوية: فعلى نوعين: نوع يتعلق بالأنفس، ونوع بالأموال. فأما ما يتعلق بالأنفس: فقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} . [الإسراء: 31] . فالأولاد زينة الدنيا، كما قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . [الكهف: 46] . وأمرك الله بإبقائها وأما ما يتعلق بالأموال: فقوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} فأرشد الله تعالى إلى إبقاء ما يزينهم جمالاً، مع أنه الرازق للكل، المعطي، المانع، المنعم، المتفضل.
وأما الأحكام الأخروية: فجميع الأحكام المأمور بها، والمنهي عنها؛ لأن جزاءها في الآخرة، ولو حصل للمطيع بعض الجزاء في
الدنيا: العز، النصر، والمدافعة. وحصل للعاصي بعض العقوبات، كما قال تعالى:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . [السجدة: 21] . فالجزاء الأكمل الأوفى هو في الآخرة للكل كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} . [النجم: 39-41] ..
وأما الأحكام العلمية: فقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . [الأنعام: 151] . {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . [الأنعام: 152] . {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . [الأنعام: 153] . وأما الأحكام الأدبية فقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} . [البقرة: 83، النساء:36، الأنعام: 15، الإسراء: 23] . قوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . [الأنعام: 152] . وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} . [الشعراء: 127] . {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} . [الفرقان: 58] . وقوله سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . [الحديد: 3] . وقوله سبحانه: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . [يوسف: 83،100] . {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} . {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} . [الحديد: 4] . {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} . إلى قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . [الأنعام: 59] . {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} . [فاطر: 11] . وقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . [الطلاق: 12] . وقوله تعالى: {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} . [النساء: 58] . وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} . [البقرة: 253] . وقوله تعالى:
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . [المائدة: 1] . وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} . [الأنعام: 125] . وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . [البقرة: 195] . {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . [الحجرات: 9] . {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . [التوبة: 7] . {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} . [البقرة: 222] . وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . [المجادلة: 22، البينة: 8] . وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} . [غافر: 7] . وقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} . [الأحزاب: 43] . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} . [النساء: 93] . وقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} . [المائدة: 80] . وقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} . [الزخرف: 55] . وقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} . [التوبة: 46] . وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} . [البقرة: 210] . وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} . [الفجر: 22] . وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} . [الفرقان: 25] . وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} . [الرحمن: 27] . وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . [ص: 75] . وقوله تعالى: {اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} . [الطور: 48] . وقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} . [آل عمران: 181] . وقوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} .
[الرعد: 13] . وقوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} . [النمل: 50] . وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} . [الطارق: 15،16] . وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . [المنافقون: 8] . وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} . [الرحمن: 78] . وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} . [مريم: 65] . وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . [الإخلاص: 4] . وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . [البقرة: 22] . وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} . [البقرة: 165] . وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} . [الإسراء: 111] . وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [المؤمنون: 91،92] . وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . [طه: 5] . وقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} . [آل عمران: 55] . وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} . [فاطر: 10] . وقوله تعالى: {يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} . [غافر: 36،37] . وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} . [الملك: 16] . وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} . [الحديد: 4] . وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} . [المجادلة: 7] . وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . [التوبة: 40] . {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . [طه: 46] . وقوله تعالى: {تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} . [الأنعام: 115] . {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} .
[النساء: 164] . وقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} . [مريم: 52] . وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} . [التوبة: 6] . وقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . [الحشر: 21] . وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} . [النحل: 101] . وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . [القيامة: 22،23] . وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . [يونس: 26] .
هذا الباب في كتاب الله كثير من تدبر القرآن طالباً للهدي تبين له طريق الحق منه ومما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة ووجب الإيمان به كما يجب الإيمان بما ورد في القرآن مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا في كل ليلة" 1 إلخ وقوله: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده من واجد راحلته بعدما فقدها"2. وقوله: "يضحك الله إلى رجلين أحدهما يقتل الآخر كلاهما يدخل الجنة" 3. متفق عليه وقوله: "عجب ربنا من قنوط عباده"4. الحديث وقوله: "لا تزال جهنم يلقى فيها فنقول هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط" 5. وقوله: "ما منكم
1 رواه البخاري (1145 و6321 و7494) ومسلم (758) عن أبي هريرة وعندهما ".. كل ليلة". بدون "في".
2 رواه البخاري (6309) ومسلم (2747)(8) عن أنس بن مالك بنحوه.
3 رواه البخاري (2826) ، ومسلم (1890) عن أبي هريرة.
4 رواه ابن ماجه (181) والإمام أحمد (2/11،12) بلفظ: (ضحاك ربنا..) وفي سنده وكيع بن حُدس، مقبول كما في "التقريب" أي عند المتابعة وإلا فهو لين الحديث.
5 رواه ابن جرير الطبري في "التفسير"(31917 و31919 و31920) من طرق عن =
من أحد إلا سيكلمه ربه عز وجل ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان" 1. وقوله في رقية المريض: "ربنا الذي في السماء" 2. إلخ قوله: "والعرش فوق ذلك والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه " 3. وقوله للجارية: "أين الله؟ قالت: في السماء" 4. وقوله: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت"5. وقوله: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبَلَ وجهه فلا يبصقن قِبَلَ وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه" 6. متفق عليه. وقوله لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر قال: "يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق
= أيوب عن محمد عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه وإسناده على شرطهما، وفي الباب عن أنس.
1 رواه البخاري (6538 و7512) ، ومسلم (1016)(27) عن عدي بن حاتم.
2 رواه أبو داود (3892) عن أبي الدرداء به وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري، منكر الحديث، كما في "التقريب". وأخرجه النسائي في "الكبرى"(10874) من حديث طلق بن حبيب عن أبيه ونحوه. وحبيب والد طلق مجهول، كما في "التقريب"، وأخرجه أيضاً النسائي، (10875) من حديث طلق بن حبيب عن رجل من أهل الشام عن أبيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم
…
وفي سنده مجهولان، كما ترى. وأخرجه الإمام أحمد (6/20) من حديث فضالة بن عبيد وفي سنده مجاهيل.
3 رواه أبو داود (4723) وابن ماجه (193) من حديث العباس بن عبد المطلب مطولاً. وفي سنده الوليد بن أبي ثور الهمداني، ضعيف، كما في "التقريب".
4 رواه مسلم (537) في قصة من حديث معاوية بن الحكم السُّلمي.
5 أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(741) من حديث عبادة بن الصامت. وفي سنده نعيم بن حماد، صدوق يخطىء كثيرا، كما في "التقريب".
6 رواه البخاري (416) ومسلم (550) من حديث أبي هريرة.
راحلته" 1.متفق عليه، وقوله: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون" 2. الحديث.
فإن الفرقة الناجية، -أهل السنة والجماعة- يؤمنون بذلك، كما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. وهم وسط في باب صفات الله تعالى، بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله تعالى، بين القدرية والجبرية. وفي باب وعيد الله، بين المرجئة وبين الوعيدية من القدرية وغيرهم. وفي باب الإيمان والدين، بين الحرورية وبين المعتزلة وبين المرجئة والجهمية. وفي أصحاب رسول الله، بين الروافض وبين الخوارج.
ومن الإيمان بالله وكتبه: أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية من كلام، أو عبارة، بل إن قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك من أن يكون كلام الله سبحانه حقيقة؛ فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ودخل في الإيمان به وبكتبه وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم. ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، والمرتاب يقول:
1 رواه البخاري (4205 و6610) . ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري. وفي الباب عن أبي ذر وأبي هريرة ومعاذ بن جبل.
2رواه البخاري (554 و4851 و7434 و7435) ، ومسلم (633)(212) من حديث جرير بن عبد الله البجلي.
آه آه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيضرب بمزربة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، وفي الحشر تعاد الأرواح إلى أجسادهم فتقوم الناس حفاة عراة وتدنو الشمس منهم، ويلجمهم العرق، وينصب الميزان للأعمال فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون وينشر الدواوين أي: الصحائف، كما قال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} . [الإسراء: 13] . وكل يجازى بعمله إن خيراً فخير، وإن شراًّ فشر، وفي عرصة القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، والصراط على متن جهنم يمر الناس على قدر أعمالهم فمن مر على الصراط دخل الجنة. وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم وأول من يدخل من أمم أمته التابعين لسنته.
وفي القيامة ثلاث شفاعات:
الأولى: في أهل الموقف حتى يقضى بينهم.
الثانية: في أهل الجنة أن يدخلوها وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
والثالثة: فيمن استحق النار فهذه له ولسائر الأنبياء والصديقين وغيرهم؛ فيشفع فيمن استحقها أن لا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها، ويخرج أقواماً من النار بغير شفاعة؛ بل بفضله ورحمة منه، ويبقى فضل في الجنة فينشئ الله أقواماً فيدخلهم الجنة.
وتؤمن الفرق الناجية بالقدر خيره وشره وهو على درجتين، الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، وفي اللوح مقادير الخلائق، فما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن
ليصيبه. والجنين قبل أن تنفخ فيه الروح يبعث الله تعالى ملكاً فيؤمر بأربع كلمات: رزقه وأجله وعلمه، وشقي أو سعيد، ونحو ذلك. والقدر ينكره بعض غلاة القدرية قديماً ومنكره اليوم قليل. والثانية فهو مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن لا خالق غيره ولا وارث سواه وأمر العباد بطاعته وطاعة رسوله، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم، وهذه الدرجة تكذب عامة القدرية الذين سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة1. ويغلو فيها قوم حتى سلبوا العبد قدرته واختياره.
ويؤمنون أن الإيمان قول وفعل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما فعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال في القصاص:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} . [البقرة: 178] . وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} . [الحجرات: 9] . ولا يسلبون الفاسق اسم الإيمان بالكلية فيخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان قال تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} . [النساء: 92] . ولا يدخل في الاسم الإيمان المطلق، قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . [الأنفال: 2] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو
1 رواه الإمام أحمد (2/86 و125) ، وأبو داود (4691) ، وابن أبي عاصم في "السنة"(339) ، عن ابن عمر مرفوعاً بنحوه، وإسناده منقطع وله شواهد تقويه من حديث جابر وأنس وأبي هريرة وسهل بن سعد.
مؤمن" 1. ويقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق ولا يسلب اسم مطلق الإيمان ومن أصولهم: سلامة قلوبهم وألسنتهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . [الحشر: 10] .
يقولون بما جاء به الكتاب والسنة في فضائل الصحابة، ومراتبهم. وأن الخليفة بعد رسول الله أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. ومن طعن في خلافة أحد هؤلاء فهو أضل من حمار أهله. ويحبون أهل البيت، ويحفظون فيهم وصيته، حيث قال يوم غدير خُمّ:"أذكّركم الله في أهل بيتي"2. وقال للعباس عمه –وقد شكا إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم- فقال: "والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبونكم لله ثم لقرابتي" 3. ويتبرؤن من طريق الروافض، الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريق النواصب، الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل. ويمسكون عما شجر بين الصحابة، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل أحد من الصحابة معصوم عن كبائر وصغائر؛ بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم في السوابق والفضل؛ بل ما يوجب مغفرة ما صدر حتى إنهم يُغفر لهم من السيئات
1 أخرجه البخاري (2475 و5578 و6810) ومسلم (57) .
2 رواه مسلم (2408) مطولاً من حديث زيد بن أرقم.
3 أخرجه (3/333) من حديث زيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن المطلب بن ربيعة قال: جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغضب فقال: ما شأنك؟ فذكره بنحوه في قصة، وأخرجه أيضاً من حديث زيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب، فذكره بنحوه أيضاً وأسقط من الإسناد المطلب بن ربيعة.
ما لا يغفر لمن بعدهم فكيف بالأمور التي هم مجتهدون؟ إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور. ثم القدرية ينكرون فعل بعضهم وخطؤهم مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، فمن نظر بعين البصيرة علم أنهم خير القرون1، كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم طريق الفرقة الناجية اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وابتاع سبيل السابقين الأولين من الأنصار والمهاجرين، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 2.
ويقدمون كلام الله على غيره من أصناف الكلام، ويقدمون هدي النبي على هدي كل أحد، ولهذا سُمُّوا: أهل الكتاب والسنة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الحج، والجهاد، والجُمع، والأعياد، مع الأمراء، أبراراً، وفجاراً. ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة وأنهم: "كالبنيان يشد
1 رواه البخاري (2651) ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين مرفوعاً "خيركم قرني
…
". واللفظ للبخاري.
2 أخرجه الإمام أحمد (4/126-127) وأبو داود (4607) والترمذي (2678) وابن ماجه (43) وغيرهم من حديث العرباض بن سارية، وصححه الترمذي وإسناده صحيح.
بعضه بعضاً" 1. أو: "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" 2. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. ويأمرون ببرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين، وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي والاستطالة على الخلق بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق ومكارمها، ومحاسن الأعمال، وينهون عن سفاسفها، وهم في ذلك متبعون للكتاب والسنة، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، وهم الطائفة المنصورة التي قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة" 3. فنسأل الله العظيم المنان أن يجعلنا منهم، وأن لا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. انتهى كلام الشيخ ابن تيمية رحمه الله في العقيدة، عقيدة الفرقة الناجية إلا أني اكتفيت عن تعداد الدلائل بالدليل الواحد اختصاراً.
شرح حديث معاذ
ثم استدل الشيخ رحمه الله على توحيد الألوهية؛ بحديث معاذ المصرِّ بحقيْن؛ حق فرضي لزومي، وهو حق السيد الخالق المدبر المربي بالنعم على العبد، وحق تفضلي، وهو حق العبد على المولى إذا قام بأمره واجتنب نواهيه:
قال -رحمه الله تعالى-: وعن معاذ بن جبل قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على
1 أخرجه البخاري (2446) ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري
2 رواه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير.
3 رواه البخاري (3640 و7311 و 7459) ومسلم (1921) من حديث المغيرة بن شعبة، وفي الباب عن معاوية وجابر وعقبة بن عامر.
العباد؟ " 1. قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: ما حق الله على العباد؟ مستفهماً مشعر بالتفخيم والتعظيم، وهو كذلك، وكيف لا؟ وهو الله الذي خلقهم أولاً من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم صوره فأحسن صوره؛ فخلق العظام ثم كسا العظام لحما ثم نفخ فيه الروح طوراً بعد طور في ظلمات ثلاث: ظلمة الصلب، وظلمة البطن، وظلمة الرحم، ثم أخرجك من أضيق المكان وجعل فيك قوة الغاذية واستخدم لها أربع قوى:
قوة الجاذبية للمنافع، بمعنى: أنه يجذب كل عرق من العروق حقه من الشراب والطعام بعد الطبخات الثلاث.
والثانية: قوة الماسكة، أي يمسك الشراب والطعام في المعدة مدة الطبخ المقدرة على التراتيب المقدرة.
والثالثة: قوة الهاضمة تهضم الأشياء وتنقلها من حال إلى حال، ولولا ذلك لما حصلت المنفعة.
الرابعة: قوة الدافعة، تدفع الفضلات المضرة بعدما يؤخذ قوتها ونفعها بأمر الملك القيوم، واستخدم لها الله تعالى من فضله الواسع كيفيات أربع: الحرورة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، ولولا ذلك لما اعتدل الطبع والمزاج، فالحرورة تدفع ضرر البرودة، والبرودة تفع ضرر الحرورة، والرطوبة تدفع ضرر اليبوسة واليبوسة تدفع ضرر الرطوبة.
وركبت فيك المدركات العشر: خمس في الظاهر، وخمس في الباطن.
أما اللواتي في الظاهر فهي: قوى خمس؛ كالجواسيس التي
1 أخرجه البخاري (128 و129 و2856 و5967 و6267 و6500) ومسلم (30) .
توصل العلم وتنتهي الأخبار بها للمدركات الباطنية، الأولى: قوة البصر، وموضعها تقاطع الصليبين بين العصبتين الآتيتين إلى العينين، من شأنها إدراك الألوان والأضواء والأشكال، والثانية: قوة السمع، وموضعها العصب المفروش على الصماغ، من شأنها إدراك الأصوات المختلفة، والثالثة: قوة الشم، وموضعها العصبتان الزائدتان الشبيهتان بحلمتي الثدي؛ من شأنها إدراك الروائح المتصعدة من الهواء، والرابعة: قوة الزوق، وموضعها العصب الذي في جرم اللسان؛ من شأنها إدراك الطعوم، والخامسة: قوة اللمس، وموضعها الجلد واللحم الذي تحته من شأنها إدراك الملموسات في حرها وبردها، ورطوبتها ويبوستها، وخشونتها وملاستها، ولينها وصلابتها، وكل ذلك فضل من الله تعالى ومنّ على عبده ليذكره ولا ينساه ويشكره ولا يكفره ويطيعه ولا يعصيه، فسبحان من له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
وأما اللواتي في الباطن فمنها مدركة للصورة المحسوسة بإدراك الحواس الظاهرة وهي الحس المشترك وموضعها مقدم البطن المقدم من الدماغ وخزانته الخيال وموضع الخيال مؤخر البطن المقدم، ومنها مدركة للمعاني القائمة بتلك الصور وهي الوهم وموضعها البطن الأوسط وخزانته الحافظة وموضع الحافظة البطن المؤخر ومنها متصرفة ويسمى استخدام النفس الناطقة لها في المعاني الكلية مفكرة لتصرفها في المواد الفكرية والخامسة العقل وهو رئيس المدركات الظاهرية والباطنية هذا وقد ركبك الخلاق جل وعلا من مائتي واثنين وخمسين عظماً حشيت به المفاصل فأولها تحف الرأس وهي مركبة من سبعة أعظم أربعة كالجدران وواحدة كالقاعدة والباقيات يتألف منها القحف وبعضها مثقوب إلى بعض بدروز الرأس ويقال لها: اشئون وهي
العظام تسمى قبائل الرأس، وأما الأعلى من اللحي فالأعلى مركب من أربعة عشر عظماً والأسفل من عظمتين واثنين وثلاثين سناًّ، وأما اليدان فكل واحدة مركبة من كتف مؤلف من عظمين وعضد وساعد مؤلف من عظمتين متلاصقين يسميان الزندين الأعلى والأسفل ورسغ مؤلف من ثمانية أعظم وكف مؤلف من أربعة عشر عظماً وخمس أصابع مؤلفة من خمسة عشر عظماً وأما العنق فمركب من سبعة أعظم هي فقار العنق، وأما الترقوة فمركبة من عظمين، وأما الصدر فمركب من سبعة أعظم وهي أعظم القفص وأما الظهر فمركب من سبع عشرة فقرة وأربع وعشرين ظلعاً، وأما العجز فمركب من ثلاث فقرات ويتلوه عظمان يسميان عظم العانة وأما الرجلان فكل واحدة منهما مركبة من فخذ وساق وقدم، أما الفخذ فأعظم العظام في حق الورك وأما الساق فمركبة من عظمين متلاصقين يسميان العقبتين الكبرى والصغرى والقدم مركب من كعب وعقب وزورقي ويزدي وأربعة أعظم للرسغ وخمسة للمشط وخمسة أصابع مركبة من خمسة عشر عظماً فهذه عظام جملة البدن ومنفعتها شديدة بينة جداّ ًعند من له عقل سليم.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله من منافعها ما ذكر في "مفتاح دار السعادة" فمن أرادها فليراجعها هناك، فسبحان من خلق الإنسان في أحسن تقويم. ثم بعدما أخرجك من بطن أمك جعل رزقك في ثدي أمك ما يناسب لحالك حليباً سائغاً إلى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم أنبت لك أسناناً منها كالسكاكين لقطع ما يحتاج للقطع ومنها كالرحى لطن ما يحتاج للطحن فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم خلق لك من الأنعام والآلاء والنعماء ما هو ذائع وشائع لا يمكن حصره كما قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . [إبراهيم: 34] . ثم خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل
بينكم مودة ورحمة فضلاً منه ومنًّا قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . [الروم: 21] . ثم من فضله وكرمه جعل لكم من الأزواج بنين وبنات وحفدة قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} . [النحل: 72] . ومع هذا كله فلا تستغم يا ابن آدم عن الله طرفة عين لا في دنياك ولا في آخرتك فمن كان هذا من بعض فعائله الجميلة فما حقه على العباد وما حق العباد على الله قال معاذ: قلت: الله ورسوله أعلم وهذا لجواب هو الحقيقة وهو الصواب لأن الله هو عالم غيب السموات والأرض وأنه قد أحاط بكل شيء علماً ثم رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق لأنه يوحى إليه من الله تعالى هذا في زمان حياته صلى الله عليه وسلم لتوالي الوحي عليه شيئاً فشيئاً في بيان كل شيء قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} . [النحل: 89] . وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فلا، بل يجزم بأنه لا علم لأحد دون الله بكليات الأمور ولا جزئياتها ولا تجاميلها ولا تفاصيلها على الحقيقة إلا الله وحده قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} . [الجن: 27،26] . وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} . [الأنعام: 59] . وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} . [النمل: 65] .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أي لزوماً ووجوباً عقلاً ونقلاً أن يعبدوه بالذي شرع لهم ولم يشركوا به شيئاً أي لا في الأقوال ولا في الأفعال ولا في الإرادات
والنيات وهي ملة أبيكم إبراهيم التي قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . [النحل: 123] .
وحق العباد على الله فضلاً منه كرماً أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً قلت: قوله: شيئاً نكرة بعد النفي والنكرة بعد النفي تفيد العموم يعم القليل والكثير فيفيدك هذا خوفاً شديداً لعموميته أن تقع فيه ولم تشعر كما قال صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" فقال أبو بكر فكيف ننجو منه قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك به شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم"1.
ويزيدك خوفاً إذا تدبرت قول إبراهيم الخليل: {اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . [إبراهيم: 35] . فإذا كان هذا خوف الخليل منه فمن يأمن على نفسه من الشرك بعده وكيف لا يخاف منه وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . [المائدة: 72] . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . [النساء: 48، 116] .
فإذا علمت ذلك أغراك على تعلم الشرك وأنواعه لتحذره ورغبك في التوحيد الذي إن جئت به لا يعذبك الله تعالى بالنار قال معاذ: فقلت أفلا أبشر الناس بفضل التوحيد وفصل من تمسك به عند الله قال: "لا تبشرهم فيتكلوا". على ذلك ويتركوا العمل وقد قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
1 رواه أبو يعلى في "المسند"(61) من حديث أبي بكر، وإسناده ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم، صدوق اختلط كثيراً ولم يتميز حديثه فترك، كما في "التقريب" وشيخه أبو محمد مجهول. وفي الباب عن أبي موسى أخرجه الإمام أحمد (4/403) والحديث له شواهد.
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . [العصر] . فإن الله تعالى أثبت الربح والفلاح لمن استقام على هذه الأربع: الإيمان بالله وحده، والعمل الصالح والتواصي بالحق –أي النطق به وتعليمه- والتواصي بالصبر إذا أوذي في الله.