الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
…
متن الباب 4
باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله
وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . [يوسف: 108] .
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له:"إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية-: إلى أن يوحدوا الله - فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب". أخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:"لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتى به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل
بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم". يدوكون: يخوضون.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه صلى الله عليه وسلم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: كونه تنزيهاً لله تعالى عن المسبة.
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة: -وهي من أهمها- إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى: "أن يوحدوا الله" معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية" إلخ. علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسلك".
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله:"أخبرهم بما يجب عليهم".
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله تعالى في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا.
شرح الباب 4
باب في بيان ما يدل على أن الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله هو أحسن الأقوال وهو الطريقة المرضية عند الله وهو سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . [فصلت: 33] . وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . [يوسف: 108] . والمخالف في هذا على أنواع منهم من يجهل الشريعة لغفلته عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأوامره ونواهيه فهو كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . [الأعراف: 179] . فبين الله أن عدم معرفتهم سببه الغفلة عما أمر الله ورسوله. ومنهم من يعلم الشريعة ولكن تعلمها للدنيا والجاه والمنصب لا لله تعالى فهو كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} . [هود: 15، 16] . وعن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم ليجازى به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار"1. رواه الترمذي. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم بجد عرف الجنة يوم
1 أخرجه الترمذي (2654) وقال الترمذي: غريب.
القيامة" 1. يعني ريحها، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
ومنهم من يعلم الشريعة قاصداً وجه الله لكن لا يعلم غيره لأمر من الأمور وقصد من المقاصد التي ليست شرعية فهو كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . [البقرة: 159] . ومنهم من يعلم ويتعلم لله ويعلم غيره ولكن لا يصبر على ما يصيبه في الله تعالى فهو كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} . [العنكبوت: 10] . وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . [الحج: 11] . ولا يسلم من هذه المخاطرات إلا من تعلم الشريعة لله وعمل به وعلم غيره وصبر على الأذى وصبر على ما أصابه في نفسه وماله ويعلم أن لكل شيء عوضاً إذا فاته، وما من الله عوض كما قيل:
لكل شيء إذا فوته عوض
…
وما من الله إن فوته عوض
قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . [العصر:1- 3] . فأقسم الله تعالى أن بني الإنسان كلهم في خسر إلا الذين فيهم هذه الأربع: الإيمان وهو العمل والعلم، والتعليم، والصبر فيلزم المسلم الصادق جهاد المخالفين على قدر الاستطاعة مرتباً على مراتبها وهي ثلاث عشرة مرتبة لأن الجهاد أربع درجات: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين، فدرجة جهاد النفس أربع مراتب:
1 رواه الإمام أحمد (2/338) ، وأبو داود (3664) ، وابن ماجه (252) ، وله شاهد أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي والسامع"(7/83) .
أحدهما: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم من غير العمل يضرها ولا ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إلى الله وتعليم العلم الشرعي من لا يعلم وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله تعالى.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على المشاق وما يأتي من المحن في سبيل الله وإيذاء الناس ويتحمل ذلك كله لله تعالى.
ودرجة جهاد الشيطان مرتبتان:
أحدهما: جهاده على دفع ما يلقي للعبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
والثانية: جهاده على ما يلقي إليه من الإرادات من الشهوات.
فالجهاد الأول يكون بعدة اليقين وعدة اليقين الآيات القرآنية والسنن النبوية.
والجهاد الثاني بعدة الصبر وعدة الصبر إيمانك بالقدر وما عند الله من الجزاء الحسن، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} . [السجدة: 24] . فأخبر الله تعالى أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين فالصبر يدفع الشهوات والإرادات واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
ودرجة جهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب:
بالقلب واللسان والمال والنفس.
وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
ودرجة أرباب الظلم ثلاث مراتب:
الأولى باليدين فإن لم يستطع يلزمه الجهاد باللسان وإن لم يستطع فبقلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"1.
فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق".
وأكمل الخلق عند الله عز وجل من كمَّل مراتب الجهاد والناس متفاوتون في منازلهم عند الله بتفاوتهم في مراتب الجهاد ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم الأنبياء ورسله فإنه كمل مراتب الجهاد وجاهد في الله حق جهاده وشرع في الجهاد من حيث بعث إلى أن توفاه الله عز وجل فإنه لما نزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . [المدثر: 1- 5] . شمر عن ساق الدعوة وقام في ذات الله أتم القيام ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً وسرًّا وجهراً.
قال الترمذي: حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان وغيرهما قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة فلا يجيبه أحد حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازل العرب قبيلة قبيلة ويقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، وإذا متم كنتم ملوكاًً
1 أخرجه مسلم (49) والترمذي (2172) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
في الجنة، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه إنه صابئ كذاب، فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد، ويؤذونه ويقولون: أسرتك وعشيرتك أخبر بك حيث لم يتبعوك وهو يدعوهم إلى الله ويقول: اللهم إن شئت لم يكونوا هكذا، قال: وكان مما سمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض عليهم نفسه بنو عامر بن صعصعة ومحارب بن حفصة وبنو نضر وبنو المنكا1 وكنده وكلب والحارث بن كعب وعذره والحضارمة فلم يستجب منها أحد.
ولما نزل عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} . [الحجر: 94] . صدع بأمر الله تعالى لا يأخذه في الله لومة لائم فدعا إلى الله الكبير والصغير والحر والعبد والذكر والأنثى، والأحمر والأسود والجن والإنس لما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة وعاب دينهم اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه ونالوهم بأنواع الأذى وهذه سنة الله عز وجل في خلقه كما قال تعالى:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} . [فصلت: 43] . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} . [الأنعام: 112] . وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} . [الذاريات: 52، 53] . فعزى سبحانه رسوله بذلك وأن له أسوة بمن تقدم من المرسلين وعزى أتباعه بقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} . [البقرة: 214] . وقال تعالى: {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
1 كذا الأصل!.
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . [العنكبوت: 1-3] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم دأبه وشأنه الدعوة إلى الله على بصيرة ما أنزل عليه قال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} . [الأنعام: 106] . وقد بين الله تعالى منطوقاً في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} . [يوسف: 108] . لأن البصيرة شرط في الدعوة إلى الله فمن لم يكن بصيراً بالسياسات الشرعية لا تتم له الدعوة التي أمر الله بها وحري أن لا يستنفع بها.
قلت: فيها فوائد:
الأولى: قوله: "قل" دل على أنه لا إله إلا هو لأنه إذا عرفت أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق وأعلاهم درجة عند الله وأحبهم إليه ومع ذلك مأمور منهي يتبع ما يؤمر به ويتجنب ما ينهى عنه فدل ذلك على أنه العبد وأن الآمر هو المعبود لا إله إلا هو.
الثانية: "هذه" دل على أن الدين المرضي واحد كما قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} . [الأنعام: 153] .
الثالثة: قوله: "سبيلي"، دل على أن ما للرسول صلى الله عليه وسلم سبيل إلا القرآن فمن عمل بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ضل، قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . [النساء: 65] .
الرابعة: قوله: "أدعو" دل على أنه مرسل إلى الخلق يدعوهم إلى الله.
الخامسة: قوله: "إلى الله" دل على أن الدعوة تتنوع إلى الدعوة إلى النفس ليعظم ويوقر ويصرف وجوه الناس إليه ويعطى ويملك وغير ذلك والكل باطل إلا الدعوة التي لوجه الله الكريم.
السادسة: قوله: {على بصيرة} دل على أن العلم لا يستلزم البصيرة بل رب عالم ليس له بصيرة في الدعوة على ما يريد الله من الداعي وعلى ما مشى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السابعة: قوله: {أنا ومن اتبعني} دل على أن من لم يدع إلى الله على بصيرة ما اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثامنة: قوله: {وسبحان الله} نزه نفسه من أن يترك الناس سدى، كما قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . [المؤمنون: 115، 116] .
التاسعة: قوله: {وما أنا من المشركين} ، دل على أن الشرك ضد التوحيد والدعوة إليه كالنور والظلمة. والحاصل أن البصيرة عليها مدار الدعوة إلى الله وقد ذكر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الداعي ينبغي له أن يكون عليما فيما يأمر به، عليما فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . [آل عمران: 159] . وقال تعالى لموسى وهارون لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} . [طه: 44] . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا ذهب عن شيء إلا شانه"1. وقال: "يسروا ولا تعسروا، وسكِّنوا ولا تنفروا" 2.
وقد وصف الله إبراهيم عليه السلام بالحلم فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} . [هود: 75] . هذا ومن البصيرة تقديم الأهم فالأهم في الدعوة كالطبيب الحاذق إذا رأى في شخص مرضاً في
1 أخرجه مسلم (2594) من حديث عائشة مرفوعاً.
2 الحديث أخرجه البخاري (6125) ، ومسلم (1734) .
الرأس ومرضاً في الأصبع بدأ بتداوي مرض الرأس، لأن الرأس هو الأصل لحياته وفيه الحواس العشرة فلو اختل الرأس لاختلت كلية الإنسانية، وأما الأصبع لو عدم من أصله ما اختل من الإنسانية شيء فينبغي أن يكون الداعي كالطبيب الحاذق الذي يداوي الأضر قبل الضار، فكذلك الداعي يبدأ بالتوحيد قبل الصلاة وبالصلاة قبل الزكاة، وبالزكاة قبل الصوم والحج، وبأركان الإسلام والإيمان قبل سائر الأ‘مال، كما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً.
وأما ما يدل على أن شهادة أن لا إله إلا الله أحسن الأقوال وألزم من كل عمل وقبل كل عمل من السنة ما ذكر عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن داعياً إلى الله قال: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب" أوتوا العلم فيعلمون أصل الأديان وفروعها ويعلمون أن الأصل مقدم في الدعوة إلى الله وأن كل نبي أول ما يدعو قومه إلى التوحيد "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وفي رواية "إلى أن يوحدوا الله" قلت: فالروايتان دلتا على أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن يوحدوا الله لفظان مترادفان بمعنى واحد وهو الإقبال على الله بالقلب والقالب وترك ما سواه، وهذا هو الأهم قبل كل أمر، ومعلوم بالضرورة أن ما يتصور الفرع إلا بعد تصور الأصل ووجوده وتمكنه ولا يصلح الفرع إلا بعد صلاح الأصل، أما ترى أن الشجرة ليست تتفرع إلا بعد تمكن العروق التي هي الأصل فيها والأساس لها، قال تعالى:{مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} . [إبراهيم: 24] . وقد مر الكلام عليها وقد ذكر الله تعالى ثبوت الأصل قبل ارتفاع الفرع إلى السماء تنبيهاً على ذلك "فإن هم أطاعوك لذلك" وكفروا بما
يعبد من دون الله فحينئذ "أعلمهم" بكسر اللام من باب الأفعال أعلم يعلم كأكرم يكرم "أن الله افترض عليهم خمس صلوات" بشروطها وأركانها وواجباتها "في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك" وأقاموا الصلاة الشرعية "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة" في أربعة أصناف من المال السائمة من بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان والعروض "تؤخذ من أغنيائهم" بشروط خمسة: الإسلام والحرية وملك نصاب، وتمام الملك ومضي الحول "فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك" وأدوا الزكاة المشروعة "فاقبل منهم وإياك وكرائم أموالهم" في أخذ الزكاة بل توسط في الأمر فإن خير الأمور أوسطها "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه أي البخاري ومسلم في صحيحهما1 ولهما عن سهل بسن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:"لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه"2.
قد أشعر هذا الحديث بل صرح منطوقاً ومفهوماً أن النصر والفتح ليس بالعدد والعديد ولا بالخيل والحديد بل إنما بالطاعة وامتثال لرب العبيد، أما ترى أنه صلى الله عليه وسلم ما قال: لأعطين الراية من معه كذا وكذا من العَدَد والعُدَد بل قال صلى الله عليه وسلم: إنه رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، قال موسى بن عقبة: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة أو قريباً منها
1 أخرجه البخاري (1458) ومسلم (19) .
2 أخرجه البخاري (3701) ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد.
ثم خرج منها غازياً خيبر وكان الله عز وجل وعده إياها وهو بالحديبية. وقال ابن إسحاق1: حدثني الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة إنهما حدثا جميعاً قالا: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح فيما بين مكة والمدينة فأعطاه الله عز وجل خيبر، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر في المحرم ونزل صلى الله عليه وسلم بالرصيع واد بين خيبر وغطفان، فتخوف أن يمدهم غطفان، فبات فيه حتى أصبح فغدا إليهم، انتهى. ولما أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر صلى بهم الصبح فركب وركب المسلمون فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ولا يشعر بل خرجوا لأرضهم فلما رأوا الجيش قالوا محمد والخميس وهو الجيش العظيم ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" ولما دنا الرسول صلى الله عليه وسلم منها وأشرف عليها قال: "قفوا "، فوقف الجيش، فقال:"اللهم رب السموات السبع وما أضللن فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا باسم الله"2.
قلت: وفي هذا أبين دليل على أنه لا إله إلا الله وذلك إذا كان أفضل الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم ما له حول ولا قوة إلا بالله تعالى وسأل الله وألح وتضرع وطلبه خير القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ويتعوذ به تعالى من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، فكيف لغيره حول
1 انظر "السيرة النبوية" 4/25 و40 بشرح الروض الأنف.
2 المصدر السابق نفسه.
وقوة إلا بالله؟ فتحقق أنه لا إله إلا الله ولما كان ليلة الدخول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه"، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها حباً وطلباً من الله هذه المرتبة العظيمة فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يُعطاها فقال:"أين علي بن أبي طالب؟ " فقيل هو يشتكي عينيه فأرسل إليه فأتي به فبصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع. قلت: وفي هذا أظهر دليل على أن المعطي المانع هو الله تعالى يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، وأيضاً دل على القدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى، وأيضاً دل على أنه لا إله إلا الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بصق في عينيه ودعا الله له ولولا دعاء الله لما نفع غيره فأعطاه الراية قال: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا قال: "انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم". فذهب علي حتى نزل بساحتهم، خرج مرحب وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي مرحب
…
شاكي السلاح بطل مجرب
فإذا الحروب أقبلت تَلَهَّب
فبرز علي بن أبي طالب يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
…
كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندره
فضرب مرحباً ففلق هامته وكان الفتح، ولما دنا علي بن أبي
طالب رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصين فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى، هكذا في صحيح مسلم.