الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
131 /
مَا يَقُولُهُ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يُحِبُّ أَوْ يَكْرَهُ
ثبت في السُّنَّة أحاديثُ عديدةٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيان ما ينبغي أن يقولَه المسلمُ ويفعلَه عندما يرى في منامه ما يُحبُّ أو عندما يرى فيه ما يكره.
ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلَا يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ"1.
وفي الصحيحين عن أبي سلمة قال: "لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمْعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: وَأَنَا كُنْتُ لأَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي، حَتَّى سَمْعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الرُّؤْيَا الحَسَنَةُ مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ إِلَاّ مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثاً، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ "2.
وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثاً، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثلاثاً، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ"3.
وقد دلَّت هذه الأحاديث على جملة من الفوائد تتعلَّق بالرؤيا وما ينبغي أن يكون عليه المؤمن تجاه ما يراه في منامه من أمور يفرح برؤيتها ويسُرُّ، أو
1 صحيح البخاري (رقم:6985) .
2 صحيح البخاري (رقم:7044)، وصحيح مسلم (رقم:2261) .
3 صحيح مسلم (رقم:2262) .
أمور يحزن لرؤيتها ويضجر، ومن فوائد هذه الأحاديث ما يلي:
أوَّلاً: تعظيمُ شأن الرؤيا الصالحة يراها المسلم، وأنَّها من الله عز وجل، ساقها إلى عبده المؤمن في حياته بشارةً له بالخير، وتأنيساً لقلبه وطَمْأنةً لفؤاده، كما قال الله تعالى:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} 1، قال غيرُ واحد من السلف:"هي الرؤيا الصالحة يراها الرّجلُ الصالح أو تُرى له".
ثانياً: بيان أنَّ ما يراه المؤمن في منامه مِمَّا يكرهه إنَّما هو من الشيطان ليَحزُن الذين آمنوا، وليس بضارِّهم شيئاً إلَاّ بإذن الله، وما يراه الإنسانُ في منامه ينقسمُ إلى ثلاثة أقسام: الرؤيا الصالحة التي هي بُشرى من الله لِمَن رآها أو رؤيت له، والرؤيا التي هي من الشيطان وهي أهاويل يأتي بها الشيطان للإنسان في منامه وأمثالٌ مكروهة يضربُها بقصد التشويش على الإنسان وإدخال الحزن عليه والضَّجَر في قلبه، والقسم الثالث: هي الأحلام التي تجري على الإنسان في منامه مِمَّا يُحدِّث به الرَّجلُ نفسَه في اليقظة تجري عليه في المنام جريانها في اليقظة.
ثالثاً: بيان ما ينبغي أن يفعلَه المسلمُ عندما يرى في منامه ما يُحبُّ ويتلخّصُ ذلك في عدَّة أمور.
الأوّل: أنَّ المسلمَ ينبغي له أن يفرحَ ويستبشرَ بالرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له، وأن لا يغترّ، فالرؤيا كما قال بعض السلف:"تسرّ المؤمن ولا تغرُّه".
الثاني: أن يحمدَ اللهَ عز وجل على هذا الخير الذي ساقه إليه والفضلِ الذي منحه إيَّاه حيث أكرمَه بهذه الرؤيا المبشِّرة.
1 سورة: يونس، الآية (64) .
الثالث: أن يُحدِّثَ بها مَن يُحبُّ من إخوانه وجُلسائه الذين شأنهم معه أنَّهم يتعاونون معه على الخير، ويتواصون معه على البرِّ والإحسان، فتكون الرؤيا التي رآها سبباً لزيادة الخير فيهم، وحافزاً للمُضيِّ في مجالاته.
الرابع: أن لا يحدِّث بها من يكره درءاً لمفسدة حصول الأذى منه أو الحسد أو نحو ذلك.
رابعاً: ومن الفوائد التي اشتملت عليها الأحاديث المتقدِّمة؛ بيان ما ينبغي أن يفعله المسلم إذا رأى في منامه ما يكره ويتلَّخص ذلك في الأمور التالية:
الأول: أن يعلمَ أنَّ ذلك إنَّما هو من الشيطان يريد به تحزين المؤمن وإدخال الهمِّ والغمِّ والفزع عليه، فعليه أن لا يلتفت إلى مكر الشيطان وأن لا يشغل بالَه بذلك.
الثاني: أن يتعوَّذ بالله من شرِّها وشرِّ الشيطان الرجيم، والتعوُّذ التجاءٌ إلى الله واعتصامٌ به سبحانه {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.
الثالث: أن يبصُق عن يساره ثلاثاً، وقد قيل: لأنَّ الشيطانَ يأتي ابنَ آدم مِن قِبَل يساره؛ لأنَّه يريد أن يُوسوس في القلب، والقلبُ قريبٌ من جهة اليسار، فيأتي الشيطان من جهته القريبة، والله أعلم.
الرابع: أن يتحوَّلَ عن جنبه الذي كان عليه، وقيل في الحكمة من هذا أنَّ في ذلك تفاؤلاً بالتحوُّل من هذه الحال المسيئة المحزنة إلى حالٍ مُسِرَّة مُفرحة.
الخامس: ألَاّ يحدِّث أحداً بما رأى في منامه من أمورٍ يكرهها، وقد جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
1 سورة آل عمران، الآية:(101) .
الله، رأيتُ في المنام كأنَّ رأسي قُطع، قال: فضحك النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يُحدِّث به الناَّسَ "1، وفي رواية أخرى قال: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! رأيتُ في المنام كأنَّ رأسي ضُرب فتَدَحْرَجَ فاشتدَدتُ على أَثَره، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للأعرابيِّ:"لا تُحدِّث الناسَ بتلعُّب الشيطان بكَ في منامك"2.
ثم إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّ من فعل ما تقدَّم لا تضرُّه رؤياه، بل يكون فعلُه لهذه الأمور سبباً واقياً بإذن الله من شرِّ الرؤيا وشرِّ الشياطين.
وعلى العبد مع ذلك كلِّه أن يكون متَّقياً، لله محافظاً على طاعته، بعيداً عن معاصيه؛ ليكون بذلك محفوظاً بحفظ الله مُحاطاً برعايته وعنايته سبحانه.
وقد قال ابن سيرين رحمه الله: "اتَّق اللهَ في اليَقظة، ولا تُبالِ ما رأيتَ في النوم".
والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوّة إلَاّ بالله العليِّ العظيم.
1 صحيح مسلم (رقم:2268) .
2 صحيح مسلم (رقم:2268) .
132 / أَذْكَارُ الخُرُوجِ مِنَ المَنْزِلِ
لقد ثبت في السُّنَّة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أذكارٌ مباركةٌ وأدعيةٌ نافعةٌ يقولها المسلمُ إذا خرج من مَنْزله، فإذا قالها حُفظ بإذن الله، وكُفي ما أهمَّه، ووُقي من الشرور والآفات، وهُدي إلى طريق الحقِّ والصواب، روى الترمذي وأبو داود وغيرُهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَاّ بِاللهِ، قَالَ: يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ، فَيَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيَفَ لَكَ بَرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ "1.
وهذا الذِّكر المبارك نافعٌ للمسلمِ أن يقوله في كلِّ مرَّةٍ يخرج فيها من بيته لقضاء شيء من مصالِحه الدينية أو الدنيوية، وذلك ليكون محفوظاً في سيره، ومُعاناً في قضاء مصالحه، مسدَّداً في وجهته وحاجته، والعبدُ لا غِنى له عن ربِّه طرفة عين، بأن يكون له حافظاً ومؤيِّداً، ومُسدِّداً وهادياً، ولا ينال العبدُ ذلك إلَاّ بالتوجُّه إلى الله عز وجل في حصوله ونيله، فأرشد صلوات الله وسلامه عليه مَن خرج من مَنْزله إلى أن يقول هذا الذِّكرَ المبارك ليُهدى في طريقه، وليُكفى هَمَّه وحاجتَه، وليوقى الشرور والآفات.
وقوله: "إذا خرج الرَّجلُ من بيته" أي: حال خروجه من بيته، ومثلُ البيت المنزل الذي يُسافر منه المسافر.
وقوله: "بسم الله" أي: بسم الله أخرج، فكلُّ فاعل يقدر فعلاً مناسباً
1 سنن أبي داود (رقم:5095)، وسنن التّرمذي (رقم:3426) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:499) .
لحالِه عندما يبسمل، والباء في "بسم الله" للاستعانة، أي: أخرج طالباً من الله العون والحفظ والتسديد.
وقوله: "توكَّلت على الله" أي: اعتمدتُ عليه، وفوَّضتُ جميعَ أموري إليه، فالتوكُّلُ هو الاعتمادُ والتفويض وهو من أعمال القلوب، ولا يجوز صرفُه لغير الله، بل يجب إخلاصُه لله وحده، قال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، أي: عليه وحده لا على غيره، فجعل ذلك شرطاً في الإيمان، والتوكلُ أجمعُ أنواع العبادة وأعلى مقامات التوحيد وأعظمُها؛ لِمَا ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والطاعات المتنوِّعة، فإنَّه إذا اعتمد العبدُ على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون مَن سواه صحَّ إخلاصُه، وقويت صلتُه بالله، وزاد إقباله عليه، وكفاه اللهُ همَّه، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2، أي: كافيه، ومَن كان الله كافيه فلا مطمع فيه لعدوٍّ، ولو كادت له السموات والأرض ومَن فيهنَّ لجعل الله له فرَجاً ومخرجاً ورزقه الله من حيث لا يحتسب، وفي هذا دلالةٌ على عِظَمِ فضل التوكل وأنَّه أعظمُ أسباب جلب المنافع ودفع المضار.
وقوله: "لا حول ولا قوة إلَاّ بالله"، هي كلمة إسلامٍ واستسلامٍ وتفويضٍ إلى الله، وتبرؤ من الحول والقوَّة إلَاّ به، وأنَّ العبدَ لا يملك من أمره شيئاً، وليس له حيلةٌ في دفع شرٍّ، ولا قوَّةٌ في جلب خير لا بإرادته سبحانه، وقولُ لا حول ولا قوة إلَاّ بالله تُنال به الإعانة.
ولو تأمَّل المسلم هذا الذِّكرَ لوجده من أوَّله إلى آخره مشتملاً على
1 سورة: المائدة، الآية (23) .
2 سورة: الطلاق، الآية (3) .
الالتجاء إلى الله والاعتصام به والاعتماد عليه، وتفويض الأمور كلِّها إليه، ومَن كان كذلك حظي بحفظ الله له وعونِه وتوفيقِه وتسديدِه.
وقوله: "يُقال حينئذ" وفي رواية: "يُقال له هُديتَ وكفيتَ ووُقيتَ" يجوز أن يكون القائلُ هو الله ويجوز أن يكون مَلَكاً من الملائكة.
وقوله: "هُديتَ" أي: إلى طريق الحقِّ والصواب بسبب استعانتك بالله على سلوك ما أنت بصددِه، ومَن يهده الله فلا مُضِلَّ له.
وقوله: "وكفيت" أي: كُفيت كلَّ همٍّ دنيوي أو أُخروي.
وقوله: "ووُقيت" أي: حُفظتَ من شرِّ أعدائك من الشياطين وغيرهم.
وقوله: "فيتنحّى عنه الشيطان" أي: يبتعد عنه الشيطان؛ لأنَّه مَن كان هذا شأنه فلا سبيل للشيطان عليه؛ لأنَّه قد أصبح في حِصنٍ حصين وحِرزٍ مكين يُحمى فيه من الشيطان الرجيم.
وقوله: "فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي"، أي: يقول أحد الشياطين لهذا الشيطان الذي كان يريد إغواء هذا الشخص وإيذاءه: كيف لك برجلٍ قد هُدي وكُفي ووقي، أي: كيف لك السبيلُ إلى إغواء وإيذاء رجل نال هذه الخصال الهدايةَ والكفايةَ والوقايةَ.
وهذا يدلُّنا على عِظَم شأن هذا الذِّكر المبارك وأهميَّةِ المحافظةِ عليه عند خروج المسلم من منْزله في كلِّ مرَّة يخرج فيها؛ لينال هذه الأوصافَ المباركةَ والثمارَ العظيمة المذكورة في هذا الحديث.
ومن الأذكار العظيمةِ النافعةِ للمسلم عند خروجِه من منزلِه ما ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه وغيرِهما عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَاّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليَّ"1.
وهو حديثٌ عظيمٌ ودعاءٌ مبارَك يجدر بالمسلمِ أن يُحافظَ عليه عند خروجه من منزله تأسِّياً بالنَّّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يحافظ عليه عند كلِّ خروجٍ من مَنْزله كما يدلُّ على ذلك قول أمِّ سلمة رضي الله عنها: "مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَاّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فقال"، ثم ذكرت هذا الدعاء.
ولو تأمَّلتَ هذا الدعاء لوجدتَ أنَّه موافقٌ للحديث السابق في الغاية والمقصود، فقوله في الحديث السابق:"هديت" موافقٌ لقوله في هذا الحديث: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ"، وقوله:"كفيت" موافقٌ لقوله: "أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ"، وقوله:"ووُقيت" موافقٌ لقوله: "أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليَّ"، فيكون العبدُ بذلك متعوِّذاً بالله مِمَّا يُبعده من الهداية والكفاية والوقاية، ولا بأس لو أنَّ العبدَ جمع بين هذين الدعاءين.
ثم إنَّ في هذا الدعاء معانٍ جليلة ودلالاتٍ نافعة يأتي بيانها، وبالله وحده التوفيق.
1 سنن أبي داود (رقم:5094)، وابن ماجه (رقم:3884) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه (رقم:3134) .
133 / من أذكار الخروج من المنْزل
لقد مرَّ معنا دعاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يُواظبُ عليه صلى الله عليه وسلم كلَّ ما خرج من منزله، وذلك في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه وغيرُهما عن أمِّ المؤمنين أمِّ سلمة هند المخزومية زوج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها قالت: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَاّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليَّ"1.
وكلامُها رضي الله عنها في أوَّل هذا الحديث فيه دلالةٌ ظاهرةٌ على مواظبة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على قول هذا الدعاء في كلِّ مرَّة يخرج فيها صلوات الله وسلامه عليه من منْزله، وفي هذا دلالةٌ على أهميَّة مواظبة المسلم على هذا الدعاء في كلِّ مرَّة يخرج فيها من منزله تأسيًّا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الخيرُ والبركةُ والسلامة والغنيمة.
وقولها رضي الله عنها: "إِلَاّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ" فيه دلالةٌ على علوِّ الله على خلقه، وأنَّ الرَّبَّ الذي ندعوه ونسأله ونرجوه مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقه، كما قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 2.
1 سبق تخريجه.
2 سورة: الفرقان، الآيات:(58، 59) .
فَرَفْعُ الطرفِ إلى السماءِ فيه إيمانٌ بعلوِّ الله، كما أنَّ رَفعَ الأيدي إلى السماء فيه إيمانٌ بعلوِّ الله عز وجل، قال حافظُ المغرب أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد وهو بصدد ذكره الأدلَّةَ على علوِّ الله:"ومن الحُجَّةِ أيضاً في أنَّه عز وجل على العرش فوق السموات السبع أنَّ الموحِّدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمرٌ أو نزلت بهم شِدَّةٌ رفعوا وجوهَهم إلى السماء يستغيثون ربَّهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرفُ عند الخاصَّة والعامة من أن يُحتاج فيه إلى أكثر من حكايتِه؛ لأنَّه اضطرارٌ لَم يُؤنبهم عليه أحدٌ ولا أنكره عليهم مسلم"1 اهـ. كلامه رحمه الله.
والأدلةُ على علوِّ الله على خلقه كثيرةٌ لا تُحصَى، وقد دلَّ على علوِّ الله الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماع والفطرةُ والعقولُ، ولا مجال هنا لبسط هذه الأدلَّة. وفي رفع الطرف إلى السماء دلالةٌ على أهميّة استشعار مراقبة الله تعالى وأنَّه سبحانه مطَّلعٌ على عباده، عليمٌ بهم لا تخفى عليه منهم خافية، وأنَّ أزمّة الأمور بيده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ
…
" إلى آخره الاستعاذة سبق بيانُ معناها وأنَّها اعتصامٌ بالله عز وجل والتجاءٌ إليه سبحانه، وفي هذا الدعاء التجاءٌ إلى الله عز وجل بأن يَحميَ العبدَ من أن يقع في شيء من هذه الأمور المذكورة، وهي أنْ يَضِلَّ أَوْ يُضَلَّ، أَوْ يَزِلَّ أَوْ يُزَلَّ، أَوْ يَظْلِمَ أَوْ يُظْلَمَ، أَوْ يَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عليه.
ومن المعلوم أنَّ مَن يخرجُ من بيته لا بدَّ له في خروجه من مخالطةِ الناس ومعاشرتِهم، والنّاصِحُ لنفسه يخاف أن يبتلى بسبب هذه المخالطة والمعاشرة
1 التمهيد (7/134) .
بالعدول عن الطريق القويم والمسلك المستقيم الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم، وذلك قد يكون متعلِّقاً بالدِّين بأن يَضِلَّ أو يُضلَّ، أو متعلِّقاً بأمر الدنيا بأن يَظلم أو يظلم، أو متعلِّقاً بشأن المخالَطين والمعاشَرين بأن يزِلَّ أو يُزَلَّ أو يَجهلَ أو يُجهَل عليه، فاستعاذ من جميع هذه الأحوال بهذه الألفاظ البليغة والكلمات الوافية الدقيقة.
وقوله: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ" فيه تعوُّذٌ بالله من الضلال وهو ضِدُّ الهداية، وسؤاله تبارك وتعالى الإعاذة من الضلال متضمِّنٌ طلبَ التوفيق للهداية.
وقوله: "أن أضلَّ" أي: أن أضلَّ في نفسي بأن أرتكب أمراً يُفضي بي إلى الضلال، أو أقترف ذنباً يجنح بي عن سبيل الهداية.
وقوله: "أَوْ أُضَلَّ" أي: أن يضلنِي غيري من شياطين الإنس والجنِّ الذين لا همَّ لهم إلَاّ إضلالُ الناس وصدُّهم عن سواء السبيل.
وقوله:: "أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ" من الزلَّة، وهي العَثرة، وذلك بأن يهويَ الإنسانُ عن طريق الاستقامة، ومن ذلك قولهم: زلَّت قدَم فلان، أي: وقع من علوٍّ إلى هبوط، ويُقال: طريقٌ مزلَّة أي: تزلُّ عليه الأقدامُ ولا تثبت، والمراد هنا الوقوعُ في الذنب من حيث لا يشعر تشبيهاً بزلّة الرِّجل.
وقوله: "أَزِل" أي: من نفسي، وقوله:"أُزَلَّ" أي: أن يوقعنِي غيري في الزَّلَل.
وقوله: "أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ" من الظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه.
وقوله: "أو أَظلِمَ" أي: نفسي بإيقاعِها في الخطأ، وجرِّها إلى الإثم،
وغيري بأن أعتدي عليه أو أتصرَّف في ملكه بغير حقٍّ أو أناله بشيء من الأذى والسوء.
وقوله: "أو أُظلَم" أي: أن يظلِمنِي أحدٌ من الناسِ في نفسي أو مالي أو عِرضي.
وقوله: "أو أَجهل أو يُجهل عليَّ" من الجهل، وهو ضدُّ العلم.
وقوله: "أجهل" أي: أفعلُ فِعل الجهلاء، أو أشتغل في شيء لا يعنِينِي، أو أجهلَ الحقَّ الواجب عليَّ.
وقوله: "أو يُجهل عليَّ" أي: أن يجهل غيري عليَّ بأن يُقابِلَنِي مقابلة الجهلاء بالسفاهة والوقاحة والسِّباب ونحو ذلك.
ومَن سلِم من الغلط مع غيره في شيء من هذه الخصال ومن أن يَغلطَ معه غيرُه في شيء منها فقد عوفِي وعوفي الناسُ منه، فالحديث فيه التعوُّذُ من هذه الأمور من الطرفين، من طرف المتعوِّذ نفسِه، ومن طرف الناس الذين يلقاهم ويحتكُّ بهم، وكان بعضُ السَّلف يقول في دعائه:"اللَّهمَّ سلِّمنِي وسلِّم منِّي"1، ومَن كان هذا شأنُه سالِماً من شرِّ الناس، والناسُ سالِمون من شرِّه فهو على خير عظيم.
فهذا دعاءٌ عظيم ينبغي على المسلم أن يُحافظَ عليه كلَّما خرج من منزله؛ ليكون ملتجئاً إلى الله ومعتصماً به سبحانه من أن يناله شيءٌ من تلك الأمور، ثم عليه مع هذا الالتجاء أن يأخذَ بالأسبابِ فيحذرَ أشدَّ الحَذر من الضلال والزلل والظلم والجهل، فيكون بذلك جامعاً بين فعل الأسباب والاستعانة عليها بالله تبارك وتعالى.
1 ذكره ابن رجب في كتابه: شرح حديث لبيك اللهمَّ لبيك (ص:102) .