الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يقال عند حضرة الموت
…
159 / مَا يُقالُ عند مَنْ حَضَرَهُ المَوْتُ
سبق الكلامُ على جملة من الآداب المتعلِّقة بعيادة المريض، والأدعية التي يَحسنُ أن تُقال عند عيادته، والحديثُ هنا سيكونُ عمَّا يُفعلُ ويُقال عند مَن حَضَرَته الوفاةُ، وكذلك ما يَقوله مَن حَضَرته الوفاةُ.
وأهمُّ شيءٍ في ذلك الدعاءُ له وأن لا يَقولَ في حضوره إلَاّ خيراً، ففي صحيح مسلم عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حَضَرتُم المريضَ أو الميِّتَ فقولُوا خيراً، فإنَّ الملائكةَ يُؤَمِّنونَ على ما تَقولُون"1.
وأن يَحرصَ على تلقِينِه كلمةَ التوحيد لا إله إلَاّ الله؛ لتكونَ آخرَ كلامه من الدُّنيا، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لَقِّنُوا موتاكم لَا إله إلَاّ الله " رواه مسلم2، والمرادُ بقوله:"موتاكم" أي: مَن حَضَرَه الموتُ منكم، لا مَن مات فعلاً.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ" رواه أبو داود3.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يَعلمُ أنَّه لا إله إلَاّ الله دخل الجنة" رواه مسلم4.
1 سبق تخريجه.
2 صحيح مسلم (رقم:916) .
3 سنن أبي داود (رقم:3116)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:6479) .
4 صحيح مسلم (رقم:26) .
وثبت في المسند للإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار فقال: يا خال قل: لا إله إلَاّ لله، فقال: أَخَالٌ أم عَم فقال: بل خال، فقال: فخَيْرٌ لي أن أقولَ: لا إله إلَاّ الله؟ فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نعم"1.
ومن لطيف ما روي في هذا الباب قصَّةُ الإمام المحدث أبي زرعة الرازي رحمه الله عندما حضرته الوفاةُ، وهي قصَّةٌ ثابتةٌ رواها غير واحد من أهل العلم عن أبي عبد الله محمد بن مسلم البادي قال: حضرت مع أبي حاتم محمد بن إدريس عند أبي زرعة عُبيد الله بن عبد الكريم الرازي وهو في النَّزْع، فقلت لأبي حاتم: تعال حتى نُلَقِّنَه الشهادةَ، فقال أبو حاتم: إنِّي لأستحيي من أبي زرعة أن أُلَقِّنَه الشهادةَ، ولكن تعال حتى نتذاكرَ الحديثَ، فلعلَّه إذا سمعَه يقول، قال محمد بن مسلم: فبدأتُ فقلتُ: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، فارْتَجَّ عليَّ الحديثُ، حتى كأنِّي ما سمعتُه ولا قرأتُه، فبدأ أبو حاتم وقال: حدثنا محمد بنُ بشار، قال: حدَّثنا أبو عاصم النبيل، عن عبد الحميد بن جعفر، فارتَجَّ عليه حتى كأنَّه ما قرأه ولا سمعه، فبدأ أبو زُرعة:(أي: وهو في النَّزْع) وقال: حدَّثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح ابن أبي عَريب، عن كثير بن مُرَّة، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كانَ آخرَ كلامه مِن الدُّنيا لا إله إلَاّ الله" وخرجتْ روحُه مع الهاء، من قبل أن يَقولَ دخل الجنَّة"2.
1 مسند أحمد (3/154)، وقال الهيثمي في المجمع (5/305) :"ورجاله رجال الصحيح".
2 رواها ابن البنا في فضل التهليل وثوابه الجزيل (ص 80 ـ 81) ، وانظر القصة مختصرة برواية عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل (1/345 ـ 346) .
ومن الدعوات العظيمة التي يَحسن بالمحتضَر أن يدعوَ الله بها سؤالُه سبحانه المغفرةَ والرحمةَ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّهَا سَمِعَت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُسْنِدٌ إِلَيَّ ظَهْرَهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى "1.
ومِمَّا يَحسنُ أن يُذكَّر به المحتضَر إحسانُ الظَّنِّ بربِّه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاث، يقول:" لا يَموتَنَّ أحدُكم إلَاّ وهو يُحسنُ بالله الظَّنَّ" رواه مسلم2.
وروى ابنُ أبي الدنيا في كتابه حسن الظن بالله، عن إبراهيم النخعي أنَّه قال:"كانوا يَستَحِبُّون أن يُلَقِّنوا العبدَ مَحاسنَ عَمله عند موتِه؛ لكي يُحسنَ ظَنَّه بربِّه عز وجل"3.
ولَم يثبت حديثٌ صحيحٌ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدلُّ على مشروعية قراءة شيءٍ من القرآن الكريم على المحتضَر، وحديث:" اقرؤوا ياسين على موتاكم " حديثٌ ضعيف لَم يثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، كما نبَّه على ذلك غيرُ واحد من أهل العلم4.
ثم إنَّ هناك أموراً ينبغي على المحتضَر مراعاتُها وملاحظتها:
مِن ذلك أنَّ عليه أن يَرضَى بقضاء الله ويصبر على قدَرِه؛ لينالَ أجرَ الصابرين وثوابَ المحتسبين، ففي صحيح مسلم عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
1 صحيح البخاري (رقم:4440)، وصحيح مسلم (رقم:2444) .
2 صحيح مسلم (رقم:2877) .
3 حسن الظن بالله (رقم:30) .
4 انظر: إرواء الغليل (3/150) .
"عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَاّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ"1.
وعليه أن يَحذرَ من تَمَنِّي الموت، حتَّى وإن اشتدَّ به المرضُ وزاد عليه الألَمُ، لِمَا في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَتَمَنَّيَنَ أحدُكُم الموتَ لضُرٍّ أصابَه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً فليقل: اللَّهمَّ أحْيِنِي ما كانت الحياةُ خيراً لي، وتوفَّنِي ما كانتُ الوفاةُ خيراً لي"2.
وفي المسند للإمام أحمد عن أمِّ الفضل رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخلَ عليهم وعبَّاسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي، فتَمَنَّى عبَّاس الموتَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا عمّ لا تَتَمَنَّ الموتَ، فإنَّك إن كنتَ مُحسناً فأن تُؤَخَّر تَزْدَدْ إحساناً إلى إحسانك خيرٌ لك، وإن كنتَ مُسيئاً فأن تُؤَخَّرَ تَستعتِب من إساءَتِك خيرٌ لك، فلا تَتَمَنَّ الموتَ"3.
وينبغي عليه أن يَجمع لنفسه بين الرَّجاء والخوف، رجاءِ رحمة الله والخوف من عقابه على ذنوبه، فقد روى الترمذي وابنُ ماجه عن أنس رضي الله عنه:" أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ على شاب وهو بالموتِ، فقال: كيف تَجدُك قال: والله يا رسولَ الله إنِّي أرجو اللهَ وإنِّي أخافُ ذنوبي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا يَجتَمعان في قَلب عَبدٍ في مثل هذا المَوطِن إلَاّ أعطاهُ الله ما يرجو وأمَّنَه مِمَّا يَخاف"4.
1 صحيح مسلم (رقم:2999) .
2 صحيح البخاري (رقم:3651)، وصحيح مسلم (رقم:2680) .
3 المسند (6/339)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:3368) .
4 سنن الترمذي (رقم:905)، وسنن ابن ماجه (رقم:4351) ، وصحَّحه الألباني ـ رحمه
الله ـ في صحيح الجامع (رقم:3383) .
ويُستَحبُّ له أن يَكتب وَصيَّتَه، وإن كان عليه حقوقٌ فلْيَرُدَّها إلى أصحابها إن أمكنه ذلك، وإلَاّ أوصى بذلك، والوصيَّةُ واجبةٌ بماله وما عليه من الحقوق؛ لئلَاّ تضيعَ لِمَا في الصحيحين عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَا حَقُّ امرئ مُسلم يَبيتُ لَيْلَتَيْن، وله شيء يريد أن يوصي فيه إلَاّ وَصِيَّتُه مكتوبةٌ عند رأسه"1.
وأمَّا الوصيَّةُ بشيء من ماله بأن تُصرف في سُبُل البِرِّ والإحسان؛ ليَصِلَ إليه ثوابُها بعد موته فهي مستحبةٌ، وقد أَذن له الشَّارعُ بالتصرف عند الموت بثُلُث المال فأقلّ.
ويُستحَبُّ له كذلك أن يوصي أهلَه بتقوى الله عز وجل والمحافظة على أوامره والتَّمسُّك بسُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأن يُحذِّرَهم من الأهواء والبدع، وقد روى سعيد بن منصور في سننه وغيرُه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"كانوا يَكتُبُونَ في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلانُ بن فلان، أوصى أنَّه يشهد أن لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبدُه ورسوله، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّ اللهَ يبعثُ مَن في القبور، وأوصَى مَن ترك من أهله أن يتَّقوا الله، ويُصلحوا ذاتَ بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2 ") 3.
1 صحيح البخاري (رقم:2738)، وصحيح مسلم (رقم:1627) .
2 سورة: البقرة، الآية (132) .
3 سنن سعيد بن منصور (ص:126) ط. الدار السلفية.
وينبغي أن يوصيهم بأن يُجهَّزَ ويُدفنَ على السُّنَّة، وأن يحذِّرَهم من البدع لا سيما إن خشي وقوعَ شيء من ذلك، أو كان للبدع رواجٌ في مجتمعه، وقد أوصَى أبو موسى رضي الله عنه حين حَضَرَه الموتُ فقال:"إذا انطلقتُم بجنازتي فأسرعوا بي المشي، ولا تُتْبعونِي بمِجْمَر، ولا تَجعلنَّ على لَحدي شيئاً يحولُ بيني وبين التراب، ولا تجعلن على قبري بناءً، وأشهدُكم أنِّي بريءٌ مِن كلِّ حَالقَةٍ أو سالِقةٍ أو خارقة، قالوا سمعتَ فيه شيئاً قال: نَعم، مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه أحمد1.
نسأل الله لنا جميعاً حسن الختام والوفاة على الإيمان بمَنِّه وكرمه.
1 مسند أحمد (4/397)، وحسَّنه الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز (ص:18) .