الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
152 /
مَا يُقَالُ عِنْدَ لِقَاءِ العَدُوِّ
لقد جاء في السُّنَّة أذكارٌ وأدعيةٌ يقولُها المسلمُ عند لقائه العدو أو ذي السلطان الجائر، وهي في الجملة الْتجَاءٌ إلى الله واعتصامٌ به واعتمادٌ عليه سبحانه في أن يَقِيَه شرَّهم، ويُسلمَه منهم، ويَحفظه من كيدهم ومكرهم، والله عز وجل حافظٌ لِمَن لَجَأَ إليه وكافٍ مَن اعتصم به؛ إذ الأمورُ كلُّها بيده، وما من دابَّة إلَاّ هو آخذٌ بناصيتها.
ومن الأذكار التي جاءت بها السُّنَّة عند لقاء العدوِّ ما رواه أبو داود والترمذي وغيرُهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا غَزَا قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ "1.
وقولُه: "اللَّهمَّ أنت عَضُدي"أي: عونِي فلا مُعين لِي سواك ولا مَلجأَ لي غيرُك، بك وحدك أستعين، وإليك وحدك ألتجئ.
وقوله: "ونصيري" أي لا ناصر لي سواك، ومن كان اللهُ ناصرَه فلا غالبَ له، كما قال تعالى:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2.
وقوله: "بك أَحُول" أي أحتال، ومنه قولك "لا حول ولا قوة إلَاّ بالله" أي لا حيلة في دفع سوء ولا قوة في درك خير إلَاّ بالله.
1 سنن أبي داود (رقم:2632)، والترمذي (رقم:3584) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:4757) .
2 سورة: آل عمران، الآية (160) .
وقوله: "وبك أصول" أي بك أحمل على العدو، من الصَّولة وهي الحَمْلَة.
وقوله: "وبك أقاتل" أي بعونك أقاتل عدوِّي.
ومن الأدعية في هذا المقام ما رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا خَافَ قَوْماً قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ"1.
وقوله: "اللَّهمَّ إنَّا نجعلُك في نُحورهم" أي في نَحر العدوِّ بأن تكون حافظاً لنا، ومدافعاً عنَّا، وحائلاً بينهم وبيننا مِنْ أن يَصلوا إلينا بأيِّ نوع من الأذَى، وخَصَّ نحورَهم بالذِّكر؛ لأنَّ العدوَّ يستقبلُ بنحره عند القتال، ولعلَّ في ذِكر النَّحر تفاؤلاً بأنَّ المؤمنين يَنحَرونَهم عن آخرهم بِمَدٍّ من الله وعون.
وقوله: "ونعوذ بك من شرورهم" أي من أن ينالونا بأيِّ نوع من الشَّرِّ، فأنت الذي تدفعُ شرورَهم وتكفينا أمرَهم وتحولُ بيننا وبينهم.
ومِمَّا يُشرعُ للمسلم أن يقولَه في مثل هذا المقام "حسبنا الله ونِعم الوكيل" ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام حِينَ أُلْقِىَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2") 3.
1 سنن أبي داود (رقم:1537)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:4706) .
2 سورة: آل عمران، الآية (173) .
3 صحيح البخاري (رقم:4563) .
ومعنى "حسبنا الله" أي: كافينا كلّ ما أهَمَّنا، فلا نتَوَكَّل إلَاّ عليه ولا نعتمد إلَاّ عليه كما قال سبحانه:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1 أي: كافيه كما قال: {لَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2.
وقوله: "ونِعم الوكيل" أي: نِعم المتوكَّلُ عليه في جلب النَّعماء ودفع الضَّرِّ والبلاء، كما قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 3.
وقد تضمَّنت هذه الكلمةُ العظيمةُ التوَكُّلَ على الله والاعتمادَ عليه والالتجاء إليه سبحانه، وأنَّ ذلك سبيلُ عِزِّ الإنسان ونَجاتِه وسلامته، قال ابنُ القيم رحمه الله:"وهو حَسْبُ من تَوَكَّل عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّنُ خوفَ الخائف، ويُجيرُ المستجير، وهو نِعم المولى ونعم النَّصير، فمَن تولَاّه واستنصرَ به وتوكَّلَ عليه وانقطعَ بكُلِّيَّته إليه تولَاّه وحفظَه وحَرَسَهُ وصانَه، ومَن خافه واتَّقاه أمَّنَه مِمَّا يخافُ ويَحذَر، وجَلَبَ إليه كلَّ ما يحتاج إليه من المنافع {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 4، فلا تَسْتَبْطِئْ نصرَه ورزقَه وعافيتَه، فإنَّ اللهَ بالغُ أمره، وقد جعل الله لكلِّ شيء قدْراً، لا يتقدَّم عنه ولا يتأخر"5.
ثمَّ إنَّ فيما تقدَّم دلالةٌ على عظَم شأن هذه الكلمة وأنَّها قولُ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد.
1 سورة: الطلاق، الآية (3) .
2 سورة: الزمر، الآية (36) .
3 سورة: الأنفال، الآية (40) .
4 سورة: الطلاق، الآيتان (2 ـ 3) .
5 بدائع الفوائد (2/237 ـ 238) .
فإبراهيمُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَفْحَمَ قومَه وبيَّن لهم بالحُجَج القاطعة والبراهين الساطعة أنَّ المعبودَ بحقٍّ هو الله، وأنَّ ما يعبدونه من دونه إنَّما هي أوثانٌ لا تَملك لعابديها جلبَ نفع ولا دفعَ ضر، {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 1، فلمَّا أُفحم القوم ولم يكن لديهم أيُّ حجة يقاومونه بها لَجأوا إلى استعمال القوة و {قََالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} 2، وقد دلَّت كلمتُهم هذه على إفلاسهم من الحُجج والبراهين، وعلى شدَّة سفههم وحقارة عقولهم، إذ كيف يعبدون من أقرُّوا أنَّه يحتاج إلى نصرهم، ثم إنَّهم أجَجُّوا ناراً عظيمة وأَلْقَوا فيها نبيَّ الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قاصدين قتلَه بأشنع القتلات، فقال عليه السلام حين ألقي في النار:"حسبنا الله ونعم الوكيل"، فانتصر الله لخليله، وقال للنار:{كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 3، فكانت كذلك برداً وسلاماً عليه لَم ينله فيها أذى، ولَم يُصبه فيها مكروه.
ومحمد صلى الله عليه وسلم قالها حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} 4، وذلك بعد ما كان من أمر أُحُدٍ ما كان، بلغ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه أنَّ أبا سفيان ومَن معه من المشركين قد أجمعوا الكرَّة عليهم، فخرج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ومعه جَمعٌ من أصحابه حتى انتهى إلى حمراء الأس وهي تَبعُدُ عن المدينة قدر ثلاثة أميال فألقَى اللهُ الرُّعبَ في قلب أبي سفيان حين بلغه الخبَر،
1 سورة: الأنبياء، الآيتان (66 ـ 67) .
2 سورة: الأنبياء، الآية (68) .
3 سورة: الأنبياء، الآية (69) .
4 سورة: آل عمران، الآية (173) .
فرجع إلى مكة، ومرَّ به ركبٌ من عبد قيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون عنِّي محمداً رسالةً أُرسلُكم بها إليه؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنَّا قد أجْمَعنا السيرَ إليه وإلى أصحابه؛ لنستأصل بَقيتَهم، يريد بذلك إرعابَهم وإخافتَهم، فمَرَّ الرَّكبُ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قاله أبو سفيان وأصحابُه فقال:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1، وازداد إيمانُهم بالله وثقتُهم به، ورجعوا إلى المدينة دون أن يُصابوا بسوء أو أذًى، بخلاف المشركين الذين رَجعوا وقلوبُهم مُمتلئةٌ خوفاً ورعباً.
وفي هذا أنَّ التوكُّلَ على الله أعظمُ الأسباب في حصول الخير ودفع الشَّرِّ في الدنيا والآخرة3.
1 سورة: آل عمران، الآية (173) .
2 سورة: آل عمران، الآيات (172 ـ 174) .
3 انظر: تيسير العزيز الحميد (ص:502 ـ 505) .
153 / ما يَقُولُ إِذا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ
الحديثُ هنا عمَّا يُشرَعُ للمسلم أن يقوله عندما يُصاب بمصيبة في نفسه أو وَلَده أو ماله أو نحو ذلك، وليعلم أوَّلاً أنَّ سُنَّة الله ماضيةٌ في عباده بأن يَبتليَهم في هذه الحياة الدنيا بأنواعٍ من البلايا وألوانٍٍ من المحن والرَّزايا، فيبتليهم بالفقر تارةً وبالغني تارة أخرى، وبالصِّحة تارة وبالمرض تارة أخرى، وبالسَّرَّاء حيناً وبالضَّرَّاء حيناً آخر، وليس في النَّاس إلَاّ مَن هو مُبتَلى، إمَّا بفوات محبوب أو حصول مكروه أو زوال مرغوب، فسرور الدنيا أحلامُ نوم أو كظِلٍّ زائل، إن أَضحَكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سَرَّت يوماً أحزَنت دهراً، وإن مَتَّعت قليلاً مَنَعت طويلاً، وما مَلأت داراً حبرة إلَاّ مَلأتها عبرة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:"لكلِّ فَرحة تَرحة، وما مُلئَ بيتٌ فَرَحاً إلَاّ مُلئَ تَرَحاً"، إلَاّ أنَّ عبدَ الله المسلم صائرٌ إلى خير في كلِّ أحواله، كما قال صلى الله عليه وسلم:"عَجَباً لأمر المؤمن إنَّ أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلَاّ للمؤمن، إن أصابَته سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خيراً له" رواه مسلم1.
وقد أرشد الله عبادَه إلى الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها عند المصيبة، وإلى الذِّكر الذي ينبغي أن يقولَه المُصابُ، يقول الله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2.
1 صحيح مسلم (رقم:2999) .
2 سورة: البقرة، الآيات (155 ـ 157) .
فأخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أنَّه يبتلي عبادَه بالمحن؛ ليَتَبَيَّنَ الصادقُ من الكاذب، والجازع من الصابر، والموقنُ من المرتاب، وذَكَرَ أنواعاً مِمَّا يبتليهم به، فهو يبتليهم بشيء من الخوف، أي: من الأعداء، والجوع، أي: بنقص الطعام والغذاء، ونقصٍ من الأموال، وهو يشمَلُ جميعَ أنواع النقص المعتري للأموال، سواء بالجوائح السماوية أو الغرق أو الضَّيَاع أو السَّلب أو غير ذلك، ويبتليهم كذلك بنقص الأنفسِ بذهاب الأحباب من الأولاد والأقارب والأصحاب، ويَدخُلُ تحت هذا ما يُصيب البدن من أنواع الأمراض والأسقام، ويبتليهم كذلك بنقص الثَّمَرات من الحبوب وثمار النخيل والأشجار، وهي أمورٌ لا بدَّ وأن تقع؛ لأنَّ العليمَ الخبيرَ أخبَرَ بوقوعها، وحظُّ الإنسان من المصيبة هو ما تُحدث له من أثر، فمَن رضيَ فله الرِّضا، ومن سَخط فله السخط، ولهذا لا بدَّ أن يعلمَ المصابُ أنَّ الذي ابتلاه بمصيبته هو أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنَّه سبحانه لَم يُرسل بلاءَه عليه ليهلكَه ولا ليعذِّبَه، وإنَّما ابتلاه ليمتحنَ صبرَه ورضاه وإيمانَه، وليسمع تَضرُّعَه وابتهالَه ودعاءَه، وليَرَهُ طريحاً ببابه، لائذاً بجَنَابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعاً يدي الضَّرَاعة إليه، يشكو بَثَّه وحُزنَه إليه؛ فينالَ بذلك عظيمَ موعود الله وجزيلَ عطائه ووافرَ آلائه ونعمائه، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 1، فما أوسَعَه من فضل وما أكرمَه من عطاء، يقول عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه:"نعم العدلان ونعمت العلاوة".
1 سورة: البقرة، الآيات (155 ـ 157) .
لقد جعل اللهُ هذه الكلمةَ كلمةَ الاسترجاع وهي قول المُصاب: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون" ملجأً وملاذاً لذوي المصائب، وعِِصمةً للممتَحَنين، فإذا لَجأَ المُصابُ إلى هذه الكلمة الجامعة لمعاني الخير والبركة سكن قلبُه، واطمأنت نفسُه، وهدأ بالُه، وعوَّضَه اللهُ في مصيبته خيراً.
روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها أنَّها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولَ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا، إِلَاّ آجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِيَّ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي خَيْراً مِنْهُ؛ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم"1. أي: أنَّ اللهَ أكرَمَها فتزوَّجت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
ومَن يتأمَّل هذه الكلمةَ العظيمةَ كلمةَ الاسترجاع، يجدُ أنَّها مشتملةٌ على علاج عظيم لذوي المصائب، بل فيها لهم أبلغ علاج وأنفعه في الحال والمآل، وكم لهذه الكلمة من الآثارِ الحميدة والعواقبِ الرشيدة والنتائج العظيمة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول الله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2، لكن مع قولها لا بدَّ من فهم مدلولها وتحقيق مقصودها؛ ليَحظَى العبدُ بهذا الموعود الكريم والثواب العظيم، وقد تضمَّنت هذه الكلمة أصلين عظيمين، إذا حقَّقَهما العبدُ علماً وعملاً تَسَلَّى عن مصيبته، ونال عظيمَ الثواب وجميل المآب.
أمَّا الأصل الأول: فهو أن يتحقَّق العبدُ أنَّ نفسَه وأهلَه ومالَه وولَده
1 صحيح مسلم (رقم:918) .
2 سورة: البقرة، الآية (157) .
مِلكٌ لله عز وجل، فهو الذي أوْجَدَهم من العدَم، ويتصرَّف فيهم بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، لا مُعقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، وهذا مستفادٌ من قوله "إنَّا لله" أي: نحن مماليك له، وتحت تصرفه وتدبيره، هو ربُّنا ونحن عبيدُه، وكلُّ شيء واقعٌ علينا فبقضائه وقدره، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1.
والأصل الثاني: أن يعلمَ العبدُ أنَّ مصيرَه ومرجعَه إلى الله، كما قال الله تعالى:{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 2، وقال تعالى:{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} 3، فلا بدَّ للعبد أن يخلفَ الدنيا وراءَ ظهره، ويأتي ربَّه يوم القيامة فرداً كما خلقَه أوَّلَ مرَّة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، وإنَّما يأتيه بالحسنات والسيِّئات، وهذا مستفادٌ من قوله:"وإنَّا إليه راجعون"، وهو إقرارٌ من العبد بأنَّه راجعٌ إلى الله، وأنَّه سبحانه سيُجازيه على ما قدَّم في هذه الحياة، وعندئذ يتَّجه إلى شَغْلِ نفسه بما ينفعه عند لقاء الله، فإذا قالَها المصابُ على هذا الوصف مستحضِراً لمعناها محقِّقاً لمدلوها ومقتضاها هُدي إلى صراط مستقيم.
روى أبو نعيم في الحلية عن الحسن بن علي العابد قال: "قال الفضيل ابن عياض لرجل: كم أتَت عليك قال ستُّون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك توشك أن تبلغ، فقال الرَّجل: يا أبا علي، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلمُ ما تقول فقال الرجل: قلت: إنَّا لله وإنَّا إليه
1 سورة: الحديد، الآية (22) .
2 سورة: النجم، الآية (42) .
3 سورة: العلق، الآية (8) .
راجعون، قال الفضيل: تعلَمُ ما تفسيرُه؟ قال الرَّجل: فسِّره لنا يا أبا علي، قال: قولُك إنَّا لله، تقول: أنا لله عبدٌ وأنا إلى الله راجعٌ، فمَن عَلِمَ أنَّه عبد الله وأنَّه إليه راجع، فليعلَم بأنَّه موقوفٌ، ومَن عَلم بأنَّه موقوفٌ فليعلم بأنَّه مسئولٌ، ومَن علم أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة قال: يسيرة، قال: ما هي قال: تُحسنُ فيما بقيَ، يُغفَر لك ما مضى، فإنَّك إن أسأتَ فيما بقي أُخِذتَ بما مضى وما بقي"1.
وفي هذا دلالةٌ على عظم اهتمام السَّلف رحمهم الله بمعاني الأذكار ومعرفة دلالاتها وتحقيق مقاصدها وغاياتها، وتأكيدهم على هذا الأمر العظيم؛ لتتحقق للعبد ثمارُها، وتظهر فيه آثارُها، وتتوافر له خيراتُها وبركاتها.
1 حلية الأولياء (8/113) .