الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
164 /
مَا يُقَالُ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ أَوْ خُسُوفِ القَمَرِ
الحديث هنا عن كسوف الشمس وخسوف القمر، وما يُستحبُّ للمسلم أن يقوله عند حصول ذلك.
إنَّ الله عز وجل سخَّر لابن آدم أنواعاً من المخلوقات إكراماً له وتفضُّلاً عليه؛ ليقوم بطاعة الله وليُحقِّق توحيد الله وليكون شاكراً لأنعم الله، فقد سخَّر جلَّ وعلَا للإنسان السموات والأرض والليل والنهار، والشمس والقمر، ونعمُه سبحانه على الإنسان لا تُحصَى ولا تُعدُّ.
1 سورة: الجاثية، الآية (12 ـ 13) .
2 سورة: لقمان، الآية (29) .
3 سورة: إبراهيم، الآيات (32 ـ 34) .
فالشمسُ والقمرُ هما من جملة النِّعم التي تفضَّل الله بها على عباده ومَنَّ بها عليهم، وجعلهما سبحانه دائِبَيْن أي: مُستمِرَّيْن لا يفتران يسعيان لمصالح الإنسان من حساب الأزمنة ومصلحة الأبدان والحيوان والزروع والثمار، وجعلهما سبحانه يجريان بحساب متقن وتقدير مقدَّر لا يتخلَّفان عنه علواً ولا نزولاً، ولا ينحرفان يميناً ولا شمالاً، ولا يتغيَّران تقدُّماً ولا تأخُّراً، كما قال سبحانه:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} 1، وقال تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 2.
ثمَّ إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آيات الله، ومخلوقان من مخلوقاته ينجليان بأمره وينكسفان بأمره، فإذا أراد الله تعالى أن يخوِّف عباده من عاقبة معاصيهم وذنوبِهم كسفهما باختفاء ضوئهما كلِّه أو بعضِه؛ إنذاراً للعباد وتذكيراً لهم لعلَّهم يرجعون ويتوبون ويُنيبون، فيقومون بما أمرهم به ربُّهم، ويتركون ما حرَّمه عليهم، كما قال تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} 3، وفي هذا دلالة على كمال قدرة الله سبحانه، حيث إنَّه سبحانه قادرٌ على تحويل الأشياء وتبديل الأمور وتصريف الخلائق كيف شاء، ومن ذلك تغيير حال الشمس والقمر من النور والوضاءة إلى السواد والظلمة، والله على كلِّ شيء قدير.
1 سورة: الرحمن، الآية (5) .
2 سورة: يس، الآيات (38 ـ 40) .
3 سورة: الإسراء، الآية (59)
ولذا شُرع عند حصول الكسوف الفزعُ إلى الصلاة والدعاء والذِّكر والاستغفار والصدقة.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا "1.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزِعاً يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، فَأَتَى المَسْجِدَ فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ، وَقَالَ: هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ"2.
لقد خسفت الشمس في عهد النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم مرَّة واحدة، وذلك في السنة العاشرة من الهجرة، حيث مات ابنُه إبراهيم رضي الله عنه، وقد كان الناسُ في الجاهلية يظنُّون أنَّ كسوفَ الشمس أو القمر إنَّما يكون لموتِ عظيم أو حياته، فبيَّن صلى الله عليه وسلم فسادَ هذا الظنِّ وخطأه، وقال كما في حديث عائشة المتقدِّم:"إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ".
وقد فزع صلى الله عليه وسلم عند كسوفها إلى المسجد، وأمر منادياً ينادي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس في المسجد رجالاً ونساءاً، فقام فيهم النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم وصفُّوا خلفه، فكبَّر وقرأ الفاتحة وسورة
1 صحيح البخاري (رقم:1044)، وصحيح مسلم (رقم:901) .
2 صحيح البخاري (رقم:1059)، وصحيح مسلم (رقم:912) .
طويلة يجهر بقراءته، ثم ركع ركوعاً طويلاًَ جدًّا، ثم رفع وقال: سمع الله لِمَن حمده ربَّنا ولك الحمد، ثمَّ قرأ الفاتحة وسورة طويلة لكنَّها أقصر من الأولى ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول، ثم رفع وقال: سمع الله لِمَن حمده ربَّنا ولك الحمد، وقام قياماً طويلاً نحو ركوعه ثم سجد سجوداً طويلاً جدًّا نحواً من ركوعه، ثمَّ رفع وجلس جلوساً طويلاً، ثمَّ سجد سجوداً طويلاً، ثمَّ قام إلى الركعة الثانية فصنع مثل ما صنع في الأولى، لكنَّها دونها في القراءة والركوع والسجود والقيام، ثمَّ تشهد وسلَّم، وقد تجلَّت الشمس، ثم خطب صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بليغة بيَّن فيها أنَّ الشمسَ والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وحثَّهم عند حصول ذلك إلى الفزع إلى الصلاة وذِكر الله ودعائه واستغفاره حتى يفرِّج الله وتنجلي، ومِمَّا قال في خطبته "يا أمَّة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمَته، يا أمَّة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"، ومِمَّا قال في خطبته "ما من شيء كنت لَم أره إلَاّ رأيته في مقامي هذا حتى الجنَّة والنار، وأوحي إلَيَّ أنَّكم تفتنون في قبوركم مثل فتنة المسيح الدجَّال يقال: ما علمك بهذا الرَّجل فأمَّا المؤمن أو الموقن فيقول: هو محمد وهو رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهدى، فأجبنا واتَّبعنا، فيُقال: نَمْ صالحاً إن كنت لموقناً به، وأمَّا المنافق أو المرتاب، فيقول: لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئاً فقلته".
وقال له الصحابة: يا رسول الله، رأيناك تناولتَ شيئاً في مَقامك، ثمَّ رأيناك تَكَعٍْكَعْتَ [أي رَجعْتَ إلى الوراء] قال: إنِّي رَأيتُ الجنَّةَ، فتناولتُ عنقوداً ولو أصَبْتُه لأكَلْتُم منه ما بقيت الدنيا، ورأيتُ النَّارَ فلَمَ أَرَ مَنظراً كاليوم قطُّ أفْظَع، ورأيتُ أكثرَ أهلها النِّساء، قالوا: بِمَ يا رسول الله قال: بكُفْرهنَّ، قيل: يَكْفُرْنَ بالله قال: يَكْفُرْنَ العشير، ويَكْفُرْنَ الإحسانَ، لَو
أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدَّهرَ كلَّه، ثمَّ رَأَتْ منكَ شيئاً قالت: ما رَأيتُ منك خيراً قطُّ"1.
إنَّ فزعَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم للكسوف وصلاتَه هذه الصلاة وعرضَ الجنَّة والنار عليه أثناء هذه الصلاة، ورؤيتَه لكلِّ ما نحن لاقوه من أمر الدنيا والآخرة، ورؤيتَه الأمَّةَ تُفتن في قبورها، وخطبتَه هذه الخطبة البليغة المؤثِّرة، وأمرَه أمَّته عند الكسوف أن يفزعوا إلى الصلاة والذِّكر والدعاء والاستغفار والتكبير والصَّدقة، ليدلُّ على عِظَم شأن الكسوف وأهميَّة الفزع فيه إلى الصلاة والدعاء والاستغفار.
والحالُ أنَّ كثيراً من الناس في هذا الزمان تهاونوا بأمر الكسوف ولم يُقيموا له وزناً ولم يُحرِّك لهم ساكناً، وما ذاك إلَاّ لضعف الإيمان والجهل بالسُّنَّة والاعتماد على مَن يحيل أمر الكسوف إلى الأسباب الطبيعية، مع الغفلة عن أسبابه الشرعية والحكمة البالغة التي من أجلها يُحدث الله الكسوف، وفَّقنا الله لتعظيم آياته والخوف منه، ورزقنا الاعتبار بآياته والانتفاع بها، إنَّه جوادٌ كريم.
1 هو في الصحيحين مفرَّق في عدة مواضع، انظر: صحيح البخاري (رقم:1044) ، وغيره، وصحيح مسلم (2/622 ـ 627) .