الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
142 /
ومن أذكار الصلاة
لا يزال الحديث عن الأذكار المتعلقة بالصلاة، لقد ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنواعٌ من الأذكار يُشرع للمسلم أن يَقولَها عند الرفع من الركوع، وهي في الجملة حمدٌ لله وثناءٌ عليه وتمجيد له سبحانه.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إِذا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهَ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"1.
وفي لفظ: "اللَّهُمَّ ربَّنا وَلَكَ الحَمْدُ" بزيادة "الواو" وهو في الصحيحين، قال ابن القيم رحمه الله:"ولا يُهمل أمرَ هذه الواو في قوله "ربنا ولك الحمد"، فإنَّه قد ندب الأمر بها في الصحيحين، وهي تجعل الكلامَ في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما، فإنَّ قوله: (ربَّنا) متضمن في المعنى أنت الرب والمَلِك القيُّوم الذي بيديه أزِمَّة الأمور وإليه مرجعها، فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: "ربنا" قوله "ولك الحمد" فتضمَّن ذلك معنى قول الموحِّد: له الملك وله الحمد"2.
وفي صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع من الركوع قال: اللَّهمَّ ربَّنا لكَ الحمدُ مِلءَ السموات، ومِلءَ الأرض، ومِلءَ ما بينهما، ومِلءَ ما شئتَ من شيء بعد"3.
1 صحيح البخاري (رقم:795، 796)، وصحيح مسلم (رقم:409) .
2 كتاب الصلاة (ص:177) بتصرف يسير.
3 صحيح مسلم (رقم:477) .
وقوله: "ملء السماوات
…
" إلخ أي: حمداً وصفه وقدره أنَّه يملأ العالم العلوي والسفلي والفضاء الذي بينهما، فهذا الحمد بهذه الصفة يملأ جميع الخلق الموجود.
وقوله: "وملء ما شئت من شيء بعد" أي: حمداً يَملأ ما يخلقُه الرَّبُّ تبارك وتعالى بعد ذلك وما يشاؤه سبحانه.
وعلى هذا فحمده سبحانه مَلأَ كلَّ موجود، ومَلأَ ما سيوجد1.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:"كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلَءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"2.
قوله: "رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ مِلَءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ" تقدم بيان معناه، وقوله:"أهل الثناء والمجد" أي أنت يا الله أهلٌ أن يُثنَى عليك وتُمَجَّد لعظمة صفاتك وكمال نعوتك وتوالي نعمك وكثرة آلائك.
وقوله: "أحقُّ ما قال العبد": أي: إنَّ هذا الثناء عليك والتمجيد هو أحق شيء قاله العبد وتلفظ به، فقوله:"أحقُّ" خبَرٌ لمبتدأ محذوف تقديره هذا الثناء والتمجيد، وقد جاءت هذه الجملة تقريراً لحمده وتمجيده والثناء عليه، ولبيان أنَّ ذلك أحقُّ شيء نَطق به العبدُ، وأفضلُ أمر تكلَّم به.
1 انظر: كتاب الصلاة لابن القيم (ص:177) .
2 صحيح مسلم (رقم:771) .
وقوله: "وكُلُّنا لك عبد" فيه اعتراف بالعبودية، وأنَّ ذلك حكم لجميع الناس، فكلُّهم معبدون مُذَلَّلُون لله سبحانه، هو ربُّهم وخالقُهم، لا ربَّ لهم ولا خالقَ سواه.
وقوله: "لا مانع لِما أعطيت ولا معطي لما مَنعت" فيه الاعتراف بتفرُّد الله تعالى بالعَطاء والمنع، والقبض والبسط، والخفض والرفع، لا شريك له في شيء من ذلك، فما يكتبه سبحانه لعبده من خير ونعمة، أو بلاء ونقمة فلا رادَّ له ولا مانع لوقوعه، وما يَمنعه سبحانه عن عبده من الخير والنعمة أو البلاء والنقمة فلا سبيل لوقوعه، كما قال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1، وكما قال سبحانه:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، فهو سبحانه المتفرِّدُ بالعطاء والمنع، وإذا أعطى سبحانه لَم يطق أحد منع من أعطاه، وإذا منع لَم يطق أحد إعطاء من منعه.
وقوله: "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" أي: لا ينفع عنده، ولا يخلص من عذابه، ولا يدني من كرامته جدود بني آدم، أي: حظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك، وإنما ينفعهم عنده التقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاته3.
وروى البخاري في صحيحه عن رفاعة بن رافع الزُّرَقي رضي الله عنه قال: "كُنَّا
1 سورة: يونس، الآية (107) .
2 سورة: فاطر، الآية (2) .
3 انظر: كتاب الصلاة لابن القيم (ص:177 ـ 187) .
يَوْماً نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ المُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ"1.
قوله: "حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيه" أي: أحمده حمداً، "وحمداً" مفعول مطلق مؤكد لعامله، وقوله:"كثيراً طيباً مباركاً فيه" هذه صفات للحمد، أي: أحمدك حمداً موصوفاً بالكثرة والطيب والبركة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن المتكلِّم" أي من القائل لهذه الكلمة: "ربَّنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فيه".
قوله: "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها" البضعة: قطعة من العدد، قيل: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، قوله:"يبتدرونها" من الابتدار، وهو السبق، أي يتسابقون إلى كتابتها في صحائف الحسنات.
ومن فوائد هذا الحديث أنَّ على المأموم المبادرة إلى قول (ربنا ولك الحمد) عقيب تسميع الإمام، وهذا مستفادٌ من حرف الفاء من قوله:"فقال رجلٌ وراءه" فإنَّ الفاء تفيد التعقيب.
ومن فوائد الحديث كثرةُ الملائكة الكاتبين، ومحبَّةُ الملائكة للخير وأهله، وتسابقُهم وتنافسُهم فيه.
وفي الحديث خصوصية النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم برؤيته هؤلاء الملائكة: حيث رآهم صلوات الله وسلامه عليه، ولم يرهم من حوله من الصحابة.
1 صحيح البخاري (رقم:799) .
ثمَّ هل هؤلاء الملائكة الذين يبتدرون إلى كتابة هذه الكلمة من الحفظَة أو من غيرهم، قولان لأهل العلم، والأقرب والله تعالى أعلم أنَّهم غير الحفظة، ومِمَّا يؤيِّد هذا ما جاء في صحيح البخاري عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إنَّ لله ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر" إلى آخر الحديث، وفي لفظ:"فُضُلاً عن كتَّاب الناس"1، وقد استدل به أهلُ العلم على أنَّ بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة، والله أعلم.
1 صحيح البخاري (رقم:6408) ، والمسند (2/251) .