الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
175 /
كَفَّارَةُ المَجْلِسِ
إنَّ الواجبَ على كلِّ مسلم أن يَحفظَ مجالسَه من أن تضيع في اللَّغَط والباطل وفيما يضرُّ الإنسانَ في الآخرة، وأن يحرصَ على ملئها بالنافع المفيد من أمر الدِّين والدنيا، وليعلم أنَّ ألفاظَه معدودةٌ عليه، مكتوبةٌ في صحائفه، مسطَّرةٌ في أعماله، وسوف يُحاسَب عليها عندما يلقى الله عز وجل، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشرٌّ، والله تعالى يقول:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 1.
فمن الخير للمسلم أن يحفظَ مجالسَه ويجتهدَ في عمارتها بذكر الله تعالى ونحو ذلك مِمَّا يسرُّه أن يلقى اللهَ به، وما جلس أحدٌ مجلساً ضيَّعه في غير ذكر الله إلَاّ ندم أشدَّ النَّدم.
روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ، إِلَاّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً" 2؛ لأنَّ الذين يقومون عن مجلس فيه جيفةُ حمار لا يحصل لهم في مجلسهم ذلك إلَاّ الروائح المنتنة، والمنظر الكريه، ولا يقومون إلَاّ وهم بندامة وحسرة، فكذلك مَن يقومون عن مجلس ليس فيه ذكر الله، لا يحصل لهم إلَاّ الخوضُ في الآثام والتنقُّل في أباطيل الكلام، إلى غير ذلك من الأمور التي تضرُّ في الآخرة، وتورثُ الحسرةَ والندامة.
1 سورة: ق، الآية (18) .
2 سنن أبي داود (رقم:4855)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:5750) .
ثم إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قد أرشد إلى أن يُختم المجلس بذكر الله وطلب مغفرته؛ ليكون ذلك كفَّارةً لِمَا كان من الإنسان في مجلسه، ففي الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَاّ غُفر لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ"1.
وروى أبو داود عن أبي بَرزَة الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"2.
وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها: " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس مجلساً أو صلَّى تكلَّم بكلمات، فسألته عائشة عن الكلمات فقال: إن تكلَّم بخير كان طابعاً عليهنَّ إلى يوم القيامة، وإن تكلَّم بغير ذلك كان كفَّارةً له: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ"3.
ورغم أهميَّة هذا الدعاء وعظم فضله، إلَاّ أنَّ كثيراً من الناس تضيعُ مجالسُهم في اللَّغَط واللَّهو وما لا فائدة فيه، وفي الوقت نفسه يَحرمون أنفسَهم من هذا الخير العظيم.
1 سنن أبي داود (رقم:4858)، وسنن الترمذي (رقم:3433) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:1516) .
2 سنن أبي داود (رقم:4859)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:1517) .
3 سنن النسائي (3/71)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:1518) .
وقد ذهب عددٌ من أهل العلم إلى أنَّ هذا الذِّكرَ هو المعنِيُّ بقول الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} 1.
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وروي عن جماعة من أهل العلم بتأويل القرآن في قول الله عز وجل {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} منهم مجاهد وأبو الأحوص ويحيى بن جعدة، قالوا: حين تقوم من كلِّ مجلس تقول: سبحانك اللهمَّ وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، قالوا: ومن قالَها غُفر له ما كان منه في المجلس، وقال عطاء: إن كنتَ أحسنتَ ازددتَ إحساناً، وإن كان غير ذلك كان كفَّارةً"2.
ومن الدعوات العظيمة التي كان يختم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من مجالسه، ما رواه الترمذي وغيرُه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:"قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُو بِهَؤَلَاءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ: اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا"3.
1 سورة: الطور، الآية (48) .
2 بهجة المجالس (1/53) .
3 سنن الترمذي (رقم:3502)، وحسَّنه العلَاّمة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:1268) .
وهي دعوةٌ جامعةٌ لأبواب الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
وقوله: "اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ" أي: اجعل لنا حظًّا ونصيباً من خشيتك ـ وهي الخوف المقرون بالتعظيم لله ومعرفته سبحانه ـ ما يكون حاجزاً لنا ومانعاً من الوقوع في المعاصي والذنوب والآثام، وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ خشيةَ الله أعظمُ رادع وحاجز للإنسان عن الوقوع في الذنوب، والله يقول:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، فكلَّما ازدادت معرفة العبد بالله ازداد خشيةً لله وإقبالاً على طاعته وبُعداً عن معاصيه.
وقوله: "وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ" أي: ويسِّر لي من طاعتك ما يكون سبباً لنيل رضاك وبلوغ جنَّتك التي أعدَدتَها لعبادك المتَّقين.
وقوله: "وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا" أي: اقسم لنا من اليقين وهو تمام العلم وكماله بأنَّ الأمرَ لله من قبل ومن بعد، وأنَّه سبحانه يُدبِّر أمورَ الخلائق كيف يشاء ويقضي فيهم ما يريد ما يكون سبباً لتهوين المصائب والنوازل التي قد تحلُّ بالإنسان في هذه الحياة، واليقين كلَّما قوي في الإنسان كان ذلك فيه أدعى إلى الصبر على البلاء؛ لعلم الموقن أنَّ كلَّ ما أصابه إنَّما هو من عند الله، فيرضى ويسلِّم.
وقوله: "وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا" فيه سؤال الله أن يبقي له السمع والبصر وسائر القوى؛ ليَتمتَّع بها مدَّة حياته.
وقوله: "واجعَلْه الوارثَ منَّا" أي: اجعل هذا التمتُّعَ بالحواس والقوى باقياً مستمرًّا بأن تبقى صحيحةً سليمةً إلى أن أموت.
1 سورة: فاطر، الآية (28) .
وقوله: "واجعل ثأرنا على من ظلمنا" أي: وفِّقنا للأخذ بثأرنا مِمَّن ظلمنا، دون أن نتعدَّى فنأخذ بالثأر من غير الظالم.
وقوله: "وانصرنا على من عادانا" أي: اكتب لنا النصر على الأعداء.
وقوله: "ولا تجعل مصيبتنا في ديننا" أي: لا تُصبنا بما ينقص ديننا ويُذهبه من اعتقاد سيِّء أو تقصير في الطاعة أو فعل للحرام، وذلك لأنَّ المصيبةَ في الدِّين أعظمُ المصائب وليس عنها عِوَض، خلاف المصيبة في الدنيا.
وقوله: "ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا" أي: لا تجعل أكبر قصدنا وحزننا لأجل الدنيا؛ لأنَّ مَن كان أكبرَ قصده الدنيا فهو بمعزل عن الآخرة، وفي هذا دلالة على أنَّ القليلَ من الهمِّ مِمَّا لا بدَّ منه في أمر المعاش مُرخَّصٌ فيه.
وقوله: "ولا مبلغ علمنا" أي: لا تجعلنا بحيث لا نعلم ولا نفكِّر إلَاّ في أحوال الدنيا.
وقوله: "ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا" أي: من الكفار والفجَّار والظلمة.
وبهذا ينتهي الكلام على هذا الدعاء العظيم، وهو من جوامع كلم النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وبه مسكُ الختام، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
تمَّ الكتاب بحمد الله ويليه القسم الرابع إن شاء الله وهو في شرح جملة من الأدعية الجوامع المأثورة عن النَّبِيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم.