الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
167 /
أَذْكَارُ رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَالسَّفَرِ
لقد أرشد سبحانه إلى أنَّ وسائل النقل من السُّفُن والأنعام وكذلك ما سخَّره للناس في هذا الزمان من وسائل حديثة للنقل منها ما يسير على الأرض، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يمشي في البحار، واستقرارَ الناس على ظهورها واستواءَهم على متونها وتنقلَهم عليها من مكان إلى مكان براحة واطمئنان كلُّ ذلك من لطف الله وتسخيره وإكرامه وإنعامه، فكيف يليق بمَن ركبها أن يغفل عن ذكر المنعمِ والمتفضِّل بها والثناء عليه بما هو أهله.
وقد كان هديُ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم عند ركوب الدابَّة وفي السفر أكملَ الهدي وأتَمَّه، كيف لا وهو أكمل الناس طاعة، وأحسنهم عبادة، وأجملهم وأزكاهم سيرة، وفيما يلي عرضٌ لشيء من هديه صلوات الله وسلامه عليه في ذلك.
ففي الترمذي وأبي داود وغيرهما عن علي بن ربيعة قال: " شَهِدْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه وَأُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الحَمْدُ للهِ، ثُمَّ قَالَ:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ للهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ
1 سورة: الزخرف، الآيات (12 ـ 14) .
الذُّنُوبَ إِلَاّ أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ. فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذا قَالَ: اغْفِرْ لِي ذنُوبِي، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي"1.
وليتأمَّل المسلم هذا وما فيه من دلالة على كمال فضل الله وسعة مغفرته وتَمام برِّه وإحسانه، مع غناه الكامل عن توبة عباده واستغفارهم.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابَّته مسافراً أن يسأل الله أن يكتب له البرَّ والتقوى في سفره، وأن يُيَسِّر له العمل الصالح الذي يرضيه، وأن يهوِّن عليه السفر، وأن يعيذه فيه من العواقب السيِّئة في نفسه أو ماله أو أهله.
ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجاً إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثاً، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا البِرَّ وَالتَقْوَى، وَمِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المَنْظَرِ، وَسُوءِ المُنْقَلَبِ فِي المَالِ وَالأَهْلِ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ "2.
وقوله: "اللَّهمَّ إنَّا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى" البرُّ فعل
1 سنن أبي داود (رقم:2602)، وسنن الترمذي (رقم:3446) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (رقم:2742) .
2 صحيح مسلم (رقم:1342) .
الطاعات والتقوى ترك المعاصي والذنوب، هذا عند اجتماعهما في الذِّكر كما في هذا النصِّ، وأمَّا إذا ذكر كلُّ واحد منهما منفرداً فإنَّه يتناول معنى الآخر.
وقوله: "اللَّهمَّ هوِّن علينا سفرنا هذا واطْو عنا بُعده" أي: يسِّره لنا وقصِّر لنا مسافته.
وقوله: "اللهمَّ أنت الصاحب في السفر" المراد بالصحبة المعيةُ الخاصة التي تقتضي الحفظ والعون والتأييد، ومن كان الله معه فمِمَّن يخاف.
وقوله: "والخليفة في الأهل" الخليفة من يخلف من استخلفه فيما استخلف فيه، والمعنى أنِّي أعتمد عليك وحدك يا الله في حفظ أهلي.
وقوله: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من وعثاء السفر" أي: من مشقته وتعبه.
وقوله: "وكآبة المنظر" أي: سوء الحال والانكسار بسبب الحزن والألم.
وقوله: "وسوء المنقلب" أي: الانقلاب والقفول من السفر بما يُحزن ويسوء، سواء في نفسه أو في ماله وأهله.
وقوله: "وإذا رجع قالهنَّ وزاد فيهنَّ: آيبون تائبون عابدون لربِّنا حامدون" من السُّنَّة أن يُقال هذا عند القفول، وأن يُقال كذلك عند الإشراف على بلده والقرب منه؛ لِما روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه:"أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى المَدِينَةِ قَالَ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ "1.
وقوله: "آيبون" أي: نحن آيبون، من آب إذا رجع، والمراد راجعون بالسلامة والخير.
وقوله: "تائبون" أي: إلى الله عز وجل من ذنوبنا وتفريطنا.
1 صحيح البخاري (رقم:3085)، وصحيح مسلم (رقم:1345) .
وقوله: "لربِّنا حامدون" أي: لنعمه العظيمة وعطاياه الجسيمة وتسهيله وتيسيره.
ومن السُّنَّة التكبيرُ عند صعود الأشراف والأماكن المرتفعة والتسبيح عند نزول الأودية والأمكنة المنخفضة، ففي البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"كُنَّا إِذا صَعَدْنَا كَبَّرْنَا، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا"1.
وفي التكبير في الصعود شغلٌ للقلب واللسان بتعظيم الربِّ وإعلان كبريائه وعظمته، وفيه طرد للكبر والعجب والغرور، وفي التسبيح في الهبوط تَنْزيهٌ لله عن النقائص والعيوب وعن كلِّ ما يُنافي ويُضاد كماله وجلاله.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاء لِمَن أراد السَّفر بالحفظ وحسن العاقبة وتيسير الأمر، مع الوصيَّة بتقوى الله عز وجل.
ففي الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذا أَرَادَ سَفَراً: ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعُكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوَدِّعُنَا، فَيَقُولُ: أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ"2. أي: أسأل الله أن يحفظها عليك.
وفي الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أَنَّ رَجُلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي. قَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ، وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، فَلَمَّا أَنْ وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ: اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ"3.
1 صحيح البخاري (رقم:2993) .
2 سنن الترمذي (رقم:3443)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (رقم:3738) .
3 سنن الترمذي (رقم:3445)، وابن ماجه (رقم:2771) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (رقم:2739) .
وفي الترمذي أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي أُرِيدُ سَفَراً فَزَوِّدْنِي، قَالَ: زَوَّدَكَ اللهُ التَّقْوَى. قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ. قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: وَيَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ"1.
وكان صلى الله عليه وسلم يوصي من أراد السفر أن يدعو لِمَن يُخلِّف بأن يكون في وداع الله وحفظه، ففي عمل اليوم والليلة لابن السني عن موسى بن وردان قال:"أتيتُ أبا هريرة أُودِّعه لسفر أردته، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ألَا أعلِّمُك يا ابن أخي شيئاً علَّمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوله عند الوداع؟ قال: قلت: بلَى، قال: قل: أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ الَّذِي لَا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ"، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة قال: ودَّعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، وذكره2، أي: أنَّه سبحانه يحفظ ما استُودع.
وفي المسند عن النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ لقمان الحكيم كان يقول: إنَّ الله عز وجل إذا اسْتُودِع شيئاً حَفِظَه"3.
فنسأل الله أن يحفظَ علينا ديننا، وأن يوفِّقَنا جميعاً لكلِّ خير.
1 سنن الترمذي (رقم:3444)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (رقم:2739) .
2 عمل اليوم والليلة (رقم:505)، وسنن ابن ماجه (رقم:2825) ، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه (رقم:2278) .
3 المسند (2/87) .