الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن أذكار الصباح (4)
…
127 / ومن أذكار النوم
إنَّ من الدعوات المباركة التي كان يحافظ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يأوي إلى فراشِه لينام ما روى مسلمٌ في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ وَلَا مُؤْوِي "1.
وهذا الدعاء فيه تذكُّرٌ من المسلم عندما يريد أن ينام لِمَاضي أيّامه وسالف أوقاته وما أمدَّه اللهُ فيها من المطعم والمشرب والكفاية والإيواء، في حالِ وجود عددٍ من الناس منهم مَن لا يجد طعاماً يُشبعه ويغذّيه، أو شراباً يسدُّ ظمأه ويُرويه، أو لباساً يسترُه ويواريه، أو مسكناً يستكنُّ فيه ويؤويه، بل منهم من أدركه حتفُه في مجاعاتٍ مهلكة وقحطٍ مفجع، فمن أكرمَه اللهُ بالطعام والشراب ومنَّ عليه بالكفاية والإيواء يجبُ أن يستشعرَ عِظم نعمة الله عليه وكبَرَ منَّته سبحانه بأن يسَّرَ له الغذاء والشراب وأكرمه بالكفاية والإيواء، وشكرُ النِّعمة مؤذنٌ بدوامها والمزيد، فاللهُ جلَّ وعلا يقول:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} 2، فالشُّكرُ معه المزيدُ دائماً وأبداً؛ ولذا قيل:"فمتى لَم ترَ حالَكَ في مزيدٍ فاستقبل الشكرَ"، أي: فإنَّك إذا استقبلته كان المزيدُ حليفك.
وقولُه: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا
…
" إلى آخره فيه الثناءُ على الله عز وجل وحمدُه سبحانه على سوابغ نعمائه وتوالي فضله وعطائه، وجزيل
1 صحيح مسلم (رقم:2715) .
2 سورة: إبراهيم، الآية (7) .
مواهبه، وسعة إحسانه، وكريم أياديه، وهو سبحانه أهلُ الحمد والثناء.
وقوله: "وَكَفَانَا" من الكفاية أي: دفع عنّا شرَّ المؤذيات ووقانا أذى الغوائل والعاديات، وقيل: معناه كفانا مُهِمَّاتنا وقضى لنا حاجاتِنا، ولا مانع من أن يكون كلا المعنيين مراداً، إذ كلٌّ منهما داخلٌ في معنى الكفاية مندرجٌ تحت مدلولها.
وقوله: "وآوَانَا" أي: هيَّأ لنا مأوى نأوي إليه، ورزقنا مسكناً نسكن فيه، وردَّنا إلى المنْزل لنستريح فيه، ولم يجعلنا منتشرين كالبهائم بلا مسكنٍ ولا مأوى، قال الله تعالى مُمْتَنًّا على عباده بهذه النِّعمة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} 1 أي: تسكنون فيها، وتُكنُّكم من الحرِّ والبرد، وتستركم من الأعين، وتجتمعون فيها أنتم ومن تعولون، وفيها من المصالح والمنافع ما لا يمكن الإحاطةُ به، فالحمدُ لله الذي منَّ فأفضل وأعطى فأجزل، له الحمد حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه كما يحب سبحانه ويرضى.
ومن الأوراد المأثورة عند النوم ما ثبت في الصحيحين عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّ فاطمةَ رضي الله عنها أتت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً فقال: "ألا أخبركِ ما هو خيرٌ لك منه: تُسبِّحين اللهَ عند منامِك ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين اللهَ ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّرين اللهَ أربعاً وثلاثين" قال عليٌّ رضي الله عنه: "فما تركتُها بعدُ" قيل: ولا ليلةَ صفِّين؟ قال: "ولا ليلةَ صفِّين"2.
فهذه فاطمةُ بنتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقاسيه من الطحن والسقي والخدمة، وتسألُه أن يعطيها خادماً (والخادم
1 سورة: النحل، الآية (80) .
2 صحيح البخاري (رقم:5362) وصحيح مسلم (رقم:2727) .
يطلق على الذكر والأنثى) ليخفَّ عنها ما تجده من تعبٍ ومشقَّةٍ في تلك الأعمال وقد روي في سنن أبي داود عن عليّ رضي الله عنه في وصف ما كانت تجده رضي الله عنها من مشقَّة في أعمالها المنزليّة أنَّه قال: "إنَّها جرَّت بالرَّحى حتَّى أثَّرتْ في يدها، واستقت بالقربة حتَّى أثَّرت في نحرها، وكنست البيت حتّى اغبرّت ثيابُها"1.
فأرشدها صلواتُ الله وسلامُه عليه إلى ما هو خيرٌ لها من خادم فقال: "ألا أخبركِ ما هو خيرٌ لك منه" أي: الخادم، وفي هذا من حسن النصح وتمام التشويق ما لا يخفى، فلمَّا تهيَّأتْ نفسُها وتحفَّزتْ لمعرفة هذا الأمر الذي هو خيرٌ لها من الشيء الذي جاءت تسألُه قال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"تُسبِّحين اللهَ عند منامِك ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين اللهَ ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّرين اللهَ أربعاً وثلاثين" أي: تقولين إذا أخذتِ مضجعكِ سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرَّة، والحمدُ لله ثلاثاً وثلاثين مرَّة، واللهُ أكبر أربعاً وثلاثين مرَّة، فيكون مجموعُ ذلك مائة.
ففرحت رضي الله عنها بهذا الخير العظيم الذي دلَّها عليه الناصحُ الأمينُ صلواتُ الله وسلامُه عليه، وفرح به زوجُها عليٌّ رضي الله عنه، حتّى إنَّه قال:"فما تركتُه بعدُ" أي: بعد سماعه له، وفي روايةٍ قال:"فما تركتُهنَّ منذ سمعتهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقيل له: ولا ليلةَ صفِّين أي: ما تركت تلك الكلمات ولا في تلك الليلة. وليلة صفين هي ليلة الحرب المعروفة بصفين قريباً من الفرات، التي دارت بينه وبين أهل الشام، فقال رضي الله عنه:"ولا ليلةَ صفِّين" أي: لَم يترك هذه الكلمات ولا في تلك الليلة، ومن المعلوم أنَّ الإنسان عند بعض الشدائد
1 سنن أبي داود (رقم:5063) لكن سنده ضعيف.
قد يذهلُ عن أمور اعتنى بها وألف المحافظة عليها، ومع ذلك لَم يدع رضي الله عنه هؤلاء الكلمات ولا في تلك الليلة، وفي هذا دلالةٌ على شدَّة المحافظة وحسن الاهتمام وتمام الحرص.
ثمَّ إنَّ أهلَ العلم قد استدلُّوا بهذا الحديث على أنَّ من فضائل الذِّكر وفوائدِه العظيمة أنَّه يعطي الذَّاكرَ قوَّةً في بدنه وصحَّته ونشاطه وهمَّته، وفي هذا يقول ابنُ القيم رحمه الله:"الذِّكرُ يعطي الذَّاكرَ قوَّةً حتَّى إنَّه ليفعل مع الذِّكر ما لَم يطق فعلَه بدونه، وقد شاهدتُ من قوَّة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيتِه وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيباً " ثمَّ أورد حديثَ عليٍّ المتقدِّم وقال عقِبَه: "فقيل إنَّ من داوم على ذلك وجد قوَّةً في بدنِه مغنيةً عن خادم"1.
ونقل رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّه قال: "بَلَغنا أنَّه مَن حافظ على هؤلاء الكلمات لَم يأخذه إعياءٌ فيما يعانيه من شغلٍ وغيره"2 اهـ.
والله المسؤول أن يوفِّقنا جميعاً لهذا ولكلِّ خيرٍ إنَّه سميعٌ مجيبٌ.
1 الوابل الصيِّب (ص:155 ـ 156) .
2 الوابل الصيِّب (ص:206) .