الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
154 /
مَا يَقُولُهُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ
الكلام هنا سيكون بإذن الله عن الدُّعاءِ الذي يستحب للمسلمِ أن يدعوَ به إذا كان عليه دَيْنٌ، روى الترمذي في سننه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" أَنَّ مُكَاتَباً جَاءَهُ فَقَالَ: إنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي، فَأَعِنِّي قَالَ: ألَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ ثَبِيرٍ دَيْناً أَدَّاهُ اللهُ عَنْكَ قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ"1.
فهذا دعاءٌ عظيم يقولُه مَن عليه دينٌ وهو عاجزٌ عن أدائه، فإذا قالَه واعتنى به أدَّاه اللهُ عنه مهما كان حجمُ الدَّين، ولو كان مثلَ الجبل، كما مَرَّ في الحديث؛ لأنَّ التيسيرَ بيد الله، وخزائنه سبحانه ملأَى لا يَغيظها نفقة، فمَن التَجَأ إليه كفاه، ومَن طلب العونَ منه أعانه وهداه.
وهذا المكاتَب جاء إلى علي رضي الله عنه يشكو عجزَه وعدم قُدرته على أداء ما تَحمَّلَه من مال لسيِّده ليعتقه، فأرشدَه رضي الله عنه إلى هذا الدعاء العظيم الذي سمعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن له عظمَ فائدته وكبر عائدته على قائله، وأنَّ الله يقضي عنه دينَه مهما كثُر، قال:"ألَا أعلِّمُك كلمات عَلَّمَنِيهنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لو كان عليك مثل جبل ثبير دَيْناً أدَّاه الله عنك"، وهذا فيه تشويقٌ عظيمٌ وترغيبٌ للسَّامع، وحثٌّ على المواظبة على هذا الدعاء المبارك؛ ليتخَلَّص العبد من الدَّين الذي تَحمَّله، ومن هَمِّه الذي كدَّر بالَه وأشغله.
1 سنن الترمذي (رقم:3563)، وحسَّنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:1820) .
وقوله: "اللَّهمَّ اكفني بحلالك عن حرامك" يقال: كفاه الشيء كفاية، أي: استغنى به عن غيره، فهو يسأل اللهَ أن يجعلَه مكتفياً بالحلال مستغنياً به عن الحرام.
وقوله: "وأغنِنِي بفضلك عمَّن سواك" أي: واجعل فضلَك وهو ما تَمُنُّ به عليَّ من نعمة وخير ورزق مغنياً لي عمَّن سواك، فلا أفتقر إلى غيرك، ولا ألتجئُ إلى أحد سواك.
وهذا فيه أنَّ العبدَ ينبغي أن يكون مفوِّضاً أمرَه إلى الله، معتمداً عليه وحده، مستعيناً به سبحانه، متوكِّلاً في جميع أموره عليه، وكفى به سبحانه وكيلاً.
ولا بدَّ مع الدعاء من بذل السَّبب، والسَّعي الجادِّ لسداد الدَّين، والعزمِ الصادق على الوفاء به، والمبادرةِ إلى ذلك في أقرب وقتٍ يَتَهَيَّأُ السَّدادُ، والحذر الشَّديد من المُماطلة والتَّسويف، فإنَّ مَن كان كذلك فحَرِيٌّ به ألَاّ يُعان، أمَّا مَن حَمَلَ في قلبه هَمَّ الدَّين وكانت له نيَّةٌ صادقةٌ في أدائِه أعانه اللهُ، وأدَّى عنه دَينَه.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أخذ أموالَ النَّاس يريد أداءها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذها يريد إتلافَها أتلفه الله"1.
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن عبدٍ كانت له نيَّةٌ في أداء دَيْنِه إلَاّ كان له مِن الله عَوْن"2.
1 صحيح البخاري (رقم:2387) .
2 المسند (6/72)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:1801) .
وروى النسائي عن ميمونة رضي الله عنها، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"ما من أحَدٍ يُدانُ دَيْناً فعلمَ اللهُ منه أنَّه يريدُ قضاءَه إلَاّ أدَّاه اللهُ عنه في الدنيا"1.
فإن صَدَقَ العبدُ في عَزمِه وصَلحُت نيَّتُه تيَسَّرت أمورُه، وأتاه الله باليُسر والفَرَج من حيث لا يَحتَسب، ومَن صَحَّ توكُّلُه على الله تكَفَّلَ الله بعونه وسدَّدَ أمرَه وقَضَى دَينَه.
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنَّه ذَكَرَ رجلاً من بني إسرائيل سألَ بعضَ بني إسرائيل أن يُسلفَه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أُشهدُهم، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل، فقال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقتَ، فدفعها إليه على أَجَل مسمًّى، فخرج في البحر فقضى حاجتَه، ثمَّ التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجَّلَه، فلم يَجد مركباً، فأخذ خشبَةً فنَقَرَها فأدخلَ فيها ألفَ دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زَجَّجَ موضعَها [أي: سوَّى موضعَ النقر وأصلحَه] ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللَّهمَّ إنَّك تعلَمُ أنِّي كنت تسلَّفتُ فلاناً ألفَ دينار، فسألني كفيلاً فقلت كفى بالله كفيلاً، فرَضِيَ بك، وسألني شهيداً، فقلت كفى بالله شهيداً، فرَضِيَ بك، وإنِّي جَهَدتُ أن أجد مركباً أبعثُ إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستوْدِعُكَها، فرمَى بها في البحر حتى وَلَجَت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمسُ مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرَّجلُ الذي كان أسلَفَه ينظرُ لعلَّ مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما نشَرَها [أي: قطعها بالمنشار] وجد المالَ
1 سنن النسائي (7/315)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم:5677) .
والصحيفةَ، ثم قدمَ الذي كان أسلَفَه فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلتُ جاهداً في طَلَب مركبٍ لآتيكَ بمالك فما وجدتُ مركباً قبل الذي أتيتُ فيه، قال: هل كنتَ بعثتَ إليَّ بشيء قال: أُخبرُك أنِّي لَم أجد مركباً قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإنَّ الله قد أدَّى عنكَ الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرفْ بالألف الدينار راشداً"1.
فهذه قصَّةٌ عجيبة ذكرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الرَّجل من بني إسرائيل؛ لنَتَّعظَ بها ونعتَبِرَ، ولنعلمَ كمالَ قدرة الله، وتمامَ عونه، وحسنَ كفايته لعبده، إذا أحسن الالتجاءَ إليه، وصَدَقَ في الاعتماد عليه، وتأمَّل كمالَ التوفيق حيث لَم تقع هذه الخشبةُ المشتملةُ على المال إلَاّ في يد صاحبه، فتبارك الله العليمُ القدير.
ولا ينبغي للمسلم أن يستهينَ بأمر الدَّين أو يُقلِّلَ من شأنه أو يتهاونَ في سداده، فقد ورد في السُّنَّة أحاديثُ عديدة تفيد خطورة ذلك، وتدلُّ على أنَّ نفسَ المؤمن معلقةٌ بالدَّين، وأنَّ الميتَ محبوسٌ بدَيْنِه حتى يُقْضَى عنه.
روى الإمام أحمد عن سَعد بن الأطول رضي الله عنه قال: مات أخي وترك ثلاثَ مائة دينار، وترك فيه ولداً صغاراً، فأردتُ أن أنفقَ عليه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ أخاك محبوسٌ بدَيْنه فاذهب فاقضِ عنه" قال: فذهبتُ فقضيتُ عنه ثم جئتُ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضيتُ عنه، ولم يبقَ إلَاّ امرأة تَدَّعِي دينارين، وليست لها بيِّنة، قال:"أَعطِهَا، فإنَّها صادقة"2.
1 صحيح البخاري (رقم:2291) .
2 مسند أحمد (4/136)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:1550) .
وروى أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نفسُ المؤمن معلَّقَةٌ ما كان عليه دَين"1.
ولهذا فإنَّ الواجبَ على المسلم إذا كان عليه دَينٌ أن يُبادرَ إلى سداده قبل أن يبْغَتَه الموتُ، فتُحبس نفسُه بدَيْنِه، ويكون مرتهناً به، وإذا لَم يكن عليه دَينٌ فليحمَد الله على العافية، وليتحاشَ الاستدانةَ ما لَم يكن لها حاجة داعيةً أو ضرورة مُلحَّةً؛ ليسلم مِن هَمِّ الدَّيْن، وليرح نفسه من عواقبه، وليكن في أَمَنَة من مغبَّته.
ففي المسند من حديث عُقبة بن عامر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُخيفوا أنفسَكم بعد أمْنِهَا" قالوا: وما ذلك يا رسول الله قال: "الدَّين"2.
أي: لا تسارعوا إلى الدَّيْن فتُخيفوا أنفسَكم من توابعه وعواقِبه، ونسأل الله لنا ولكم العافيةَ والسلامةَ والهدايةَ إلى كل خير.
1 مسند أحمد (2/440)، وصحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (رقم:1811) .
2 مسند أحمد (4/146)، وحسَّنه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم:2420) .