المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله - فقه السنة - جـ ٢

[سيد سابق]

فهرس الكتاب

- ‌الزواج

- ‌الترغيب في الزواج:

- ‌حكمة الزواج:

- ‌حكم الزواج

- ‌تقديم الزواج على الحج:

- ‌اختيار الزوجة:

- ‌اختيار الزوج:

- ‌الخطبة:

- ‌النظر إلى المخطوبة:

- ‌العدول عن الخطبة وأثره:

- ‌عقد الزواج:

- ‌شروط الإيجاب والقبول

- ‌ألفاظ الإنعقاد:

- ‌العقد بغير اللغة العربية:

- ‌عقد الزواج للغائب:

- ‌شروط صيغة العقد:

- ‌اشتراط التنجيز في العقد:

- ‌ زواج المتعة

- ‌العقد على المرأة وفي نية الزوج طلاقها:

- ‌زواج التحليل:

- ‌الزواج الذي تحل به المطلقة للزوج الأول:

- ‌صيغة العقد المقترنة بالشرط:

- ‌ الشغار:

- ‌شروط صحة الزواج:

- ‌حكم الاشهاد على الزواج:

- ‌ما يشترط في الشهود:

- ‌شهادة النساء:

- ‌عقد الزواج شكلي:

- ‌شروط نفاذ العقد:

- ‌شروط لزوم عقد الزواج:

- ‌متى يكون العقد غير لازم:

- ‌رأي الفقهاء في الفسخ بالعيب:

- ‌شروط سماع الدعوى بالزواج قانونا:

- ‌تحديد سن الزوجين لسماع دعوى الزواج:

- ‌تحديد سن الزواج لمباشرة عقد الزواج رسميا:

- ‌المحرمات من النساء:

- ‌الزنا والزواج:

- ‌زواج نساء أهل الكتاب:

- ‌الفرق بين المشركة والكتابية

- ‌زواج المسلمة بغير المسلم:

- ‌وجوب العدل بين الزوجات:

- ‌حق المرأة في اشتراط عدم التزوج عليها:

- ‌حكمة التعدد:

- ‌تاريخ تعدد الزوجات

- ‌الولاية على الزواج:

- ‌عضل الولي:

- ‌زواج اليتيمة:

- ‌انعقاد الزواج بعاقد واحد:

- ‌الوكالة في الزواج:

- ‌الكفاءة في الزواج:

- ‌الحقوق الزوجية:

- ‌المهر:

- ‌وجوب المتعة:

- ‌النفقة:

- ‌المرأة تسلم دون زوجها:

- ‌الحقوق غير المادية:

- ‌إتيان الرجل زوجته:

- ‌حرمة التكلم بما يجري بين الزوجين أثناء المباشرة:

- ‌إتيان الرجل في غير المأتى:

- ‌العزل وتحديد النسل

- ‌حكم إسقاط الحمل:

- ‌الإيلاء:

- ‌تجاوز الصدق بين الزوجين:

- ‌إمساك الزوجة بمنزل الزوجية:

- ‌الانتقال بالزوجة:

- ‌اشتراط عدم خروج الزوجة من دارها:

- ‌منع الزوجة من العمل:

- ‌خروج المرأة لطلب العلم:

- ‌تأديب الزوجة عند النشوز:

- ‌تزين المرأة لزوجها:

- ‌التبرج:

- ‌تزين الرجل لزوجته:

- ‌الخطبة قبل الزواج:

- ‌إعلان الزواج:

- ‌الغناء عند الزواج:

- ‌وصايا الزوجة:

- ‌الوليمة:

- ‌زواج غير المسلمين:

- ‌إسلام أحد الزوجين دون الآخر:

- ‌الطلاق:

- ‌الطلاق من حق الرجل وحده:

- ‌من يقع منه الطلاق:

- ‌الطلاق قبل الزواج:

- ‌الطلاق باللفظ:

- ‌الطلاق بالكتابة:

- ‌الإشهاد على الطلاق:

- ‌من ذهب إلى وجوب الاشهاد على الطلاق وعدم وقوعه بدون بينة:

- ‌التنجيز والتعليق صيغة الطلاق:

- ‌الطلاق السني والبدعي:

- ‌طلاق الحامل:

- ‌طلاق الآيسة والصغيرة والمنقطعة الحيض:

- ‌طلاق البتة:

- ‌الطلاق الرجعي والبائن:

- ‌التفويض والتوكيل في الطلاق:

- ‌ التطليق لعدم النفقة

- ‌التطليق للضرر:

- ‌التطليق لغيبة الزوج:

- ‌التطليق لحبس الزوج:

- ‌الخلع:

- ‌الخلع بتراضي الزوجين:

- ‌الشقاق من قبل الزوجة كاف في الخلع:

- ‌حرمة الاساءة إلى الزوجة لتختلع:

- ‌الخلع بين الزوج وأجنبي:

- ‌الخلع يجعل أمر المرأة بيدها:

- ‌جواز تزوجها برضاها:

- ‌خلع الصغيرة المميزة

- ‌خلع المحجور عليها

- ‌نشوز الرجل:

- ‌الشقاق بين الزوجين:

- ‌الظهار:

- ‌الفسخ:

- ‌اللعان:

- ‌العدة:

- ‌عدة الحائض:

- ‌أقل مدة للاعتداد بالاقراء:

- ‌عدة غير الحائض:

- ‌سن اليأس:

- ‌عدة الحامل:

- ‌عدة المتوفى عنها زوجها:

- ‌وجوب العدة في غير الزواج الصحيح:

- ‌طلاق الفار:

- ‌ انقضاء العدة

- ‌لزوم المعتدة بيت الزوجية:

- ‌حداد المعتدة:

- ‌نفقة المعتدة:

- ‌الحضانة:

- ‌الأم أحق بالولد من أبيه:

- ‌شروط الحضانة:

- ‌انتهاء الحضانة:

- ‌الطفل بين أبيه وأمه:

- ‌أحكام القضاء

- ‌الحدود:

- ‌جرائم الحدود:

- ‌عدالة هذه العقوبات:

- ‌سقوط الحدود بالشبهات:

- ‌الشبهات وأقسامها

- ‌مشروعية التستر في الحدود:

- ‌ستر المسلم نفسه:

- ‌الحدود كفارة للآثام:

- ‌إقامة الحدود في دار الحرب:

- ‌الخمر:

- ‌تشديد الإسلام في تحريم الخمر:

- ‌تحريم الخمر في المسيحية:

- ‌أضرار الخمر:

- ‌الخمر إذا تخللت:

- ‌المخدرات:

- ‌حد شارب الخمر:

- ‌بم يثبت الحد

- ‌شروط إقامة الحد:

- ‌التداوي بالخمر:

- ‌حد الزنا:

- ‌التدرج في تحريم الزنا:

- ‌الزنا الموجب للحد:

- ‌أقسام الزناة:

- ‌الجمع بين الجلد والتغريب:

- ‌شروط الإحصان:

- ‌المسلم والكافر سواء:

- ‌شروط الحد:

- ‌بم يثبت الحد:

- ‌من أقر بزنا امرأة فجحدت:

- ‌وقت إقامة الحد:

- ‌حضور الإمام والشهود والرجم:

- ‌شهود طائفة من المؤمنين الحد:

- ‌الضرب في حد الجلد:

- ‌هل للمجلود دية إذا مات

- ‌ عمل قوم لوط:

- ‌ الاستمناء:

- ‌ السحاق:

- ‌ إتيان البهيمة:

- ‌ الوطء بالاكراه:

- ‌ الخطأ في الوطء:

- ‌ الوطء في نكاح مختلف فيه:

- ‌ الوطء في نكاح باطل:

- ‌حد القذف:

- ‌شروط القاذف:

- ‌شروط المقذوف:

- ‌بم يثبت حد القذف:

- ‌كيفية التوبة:

- ‌هل يحد بقذف أصله

- ‌سقوط الحد:

- ‌الردة:

- ‌حكمة قتل المرتد:

- ‌مال المرتد:

- ‌لحوقه بدار الحرب:

- ‌هل يقتل الساحر:

- ‌الكاهن والعراف

- ‌شروط الحرابة:

- ‌سقوط الحدود بالتوبة قبل رفع الجناة إلى الحاكم:

- ‌حد السرقة:

- ‌أنواع السرقة:

- ‌جحد العارية:

- ‌لنباش:

- ‌متى يقدر المسروق:

- ‌سرقة الجماعة:

- ‌الطرار:

- ‌المسجد حرز:

- ‌السرقة من الدار:

- ‌عقوبة السرقة:

- ‌الجنايات:

- ‌المحافظة على النفس كرامة الانسان:

- ‌القصاص بين الجاهلية والإسلام:

- ‌أنواع القتل:

- ‌أداة القتل:

- ‌ القود أو العفو

- ‌شروط وجوب القصاص:

- ‌الجماعة تقتل بالواحد:

- ‌ثبوت القصاص:

- ‌استيفاء القصاص

- ‌بم يكون القصاص:

- ‌هل يقتل القاتل في الحرم

- ‌القصاص فيما دون النفس:

- ‌شروط القصاص فيما دون النفس:

- ‌موت المقتص منه:

- ‌الدية:

- ‌على من تجب:

- ‌دية المرأة:

- ‌لمن تجب:

- ‌وجود قتيل بين قوم متشاجرين:

- ‌القتل بعد أخذ الدية:

- ‌اصطدام الفارسين:

- ‌ضمان صاحب الدابة:

- ‌ضمان القائد والراكب والسائق:

- ‌الدابة الموقوفة:

- ‌ضمان ما أتلفته الطيور:

- ‌ضمان ما أصابه الكلب أو الهر:

- ‌ما يقتل من الحيوان وما لا يقتل:

- ‌ما لا ضمان فيه:

- ‌ضمان ما أتلفته النار:

- ‌إفساد زرع الغير:

- ‌غرق السفينة:

- ‌ضمن الطبيب:

- ‌الرجل يفضي زوجته:

- ‌الحائط يقع على شخص فيقتله:

- ‌الإذن في أخذ الطعام وغيره:

- ‌القسامة:

- ‌التعزير:

- ‌السلام في الإسلام:

- ‌كفالة الحرية الدينية لغير المسلمين:

- ‌الإعتراف بحق الفرد:

- ‌جريمة إهدار الحقوق:

- ‌الجهاد:

- ‌الاستنصار بالضعفاء:

- ‌فضل الجهاد:

- ‌الجهاد لا يعد له شئ:

- ‌فضل الشهادة:

- ‌الجهاد لاعلاء كلمة الله:

- ‌فضل الرمي بنية الجهاد:

- ‌الحرب في البحر أفضل من الحرب في البر:

- ‌صفات القائد:

- ‌الواجب على قائد الجيش:

- ‌وصية عمر رضي الله عنه:

- ‌واجب الجنود:

- ‌وجوب الدعوة قبل القتال:

- ‌الدعاء عند القتال:

- ‌وجوب الثبات أثناء الزحف:

- ‌الكذب والخداع عند الحرب:

- ‌الغارة على الأعداء ليلا:

- ‌انتهاء الحرب:

- ‌الهدنة:

- ‌عقد الذمة:

- ‌الأحكام التي تجري على أهل الذمة:

- ‌الجزية:

- ‌عقد الذمة للمواطنين وللمستقلين:

- ‌بم ينقض العهد

- ‌موجب النقض:

- ‌الغنائم:

- ‌من لا سهم له في الغنيمة:

- ‌الأجراء وغير المسلمين لا يسهم لهم:

- ‌الغلول:

- ‌الحربي يسلم:

- ‌أسرى الحرب:

- ‌معاملة الأسرى:

- ‌الاسترقاق:

- ‌معاملة الرقيق:

- ‌طريق التحرير:

- ‌أرض المحاربين المغنومة:

- ‌العجز عن عمارة الارض الخراجية:

- ‌ميراث الأرض المغنومة:

- ‌الفيء:

- ‌عقد الأمان:

- ‌نتيجة الأمان:

- ‌متى يتقرر هذا الحق:

- ‌عقد الأمان لجهة ما:

- ‌المستأمن:

- ‌العهود والمواثيق:

- ‌شروط العهود:

- ‌نقض العهود:

- ‌من معاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم:

الفصل: وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله

وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من خرج على الطاعة، وفارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية (1) ". أخرجه مسلم.

‌شروط الحرابة:

ولا بد من توافر شروط معينة في المحاربين حتى يستحقوا العقوبة المقررة لهذه الجريمة: وجملة هذه الشروط هي: 1 - التكليف.

2 -

وجود السلاح.

3 -

البعد عن العمران.

4 -

المجاهرة.

ولم يتفق الفقهاء على هذه الشروط، وإنما لهم فيها مناقشات نجملها فيما يلي:(1) شرط التكليف: يشترط في المحاربين: العقل، والبلوغ، لانهما شرطا التكليف الذي هو شرط في إقامة الحدود.

فالصبي والمجنون لا يعتبر الواحد منهما محاربا، مهما اشترك في أعمال المحاربة، لعدم تكليف واحد منهما شرعا، ولم يختلف في ذلك الفقهاء، ولكن اختلفوا فيما إذا اشترك في الحرابة صبيان أو مجانين.

فهل يسقط الحد عمن اشتركوا فيها بسقوطه عن هؤلاء الصبيان أو المجانين؟ قالت الاحناف: نعم يسقط الحد، لانه إذا سقط عن البعض، فإن هذا

(1) خرج على الطاعة: أي طاعة الحاكم الذي وقع الاجتماع عليه في قطر من الاقطار. فارق الجماعة: التي اتفقت على طاعة إمام، وانتظم به شملهم، واجتمعت به كلمتهم، وحاطهم من عدوهم. ميتة جاهلية: منسوبة إلى الجهل، وهو تشبيه لميتة من فارق الجماعة لمن مات على الكفر بجامع أن الكل لم يكن تحت حكم إمام.

ص: 466

السقوط يسري إلى الكل باعتبار أنهم جميعا متضامنون في المسؤولية، وإذا سقط حد الحرابة نظر في الاعمال التي ارتكبت على أنها جرائم عادية يعاقب عليها بالعقوبات المقررة لها.

فإن كانت الجريمة قتلا رجع الامر إلى ولي الدم، فله أن يعفو، وله أن يقتص.

وهكذا في بقية الجرائم.

ومقتضى المذهب المالكي، والمذهب الظاهري وغيرهما إنه إذا سقط حد الحرابة عن الصبيان والمجانين، فإنه لا يسقط عن غيرهم ممن اشتركوا في الاثم والعدوان، لان هذا الحد هو حق لله تعالى، وهذا الحق لا ينظر فيه إلى الافراد.

ولا تشترط الذكورة ولا الحرية، لانه ليس للانوثة ولا للرق تأثير على جريمة الحرابة، فقد يكون للمرأة (1) والعبد من القوة مثل ما لغيرهما، من التدبير وحمل السلاح والمشاركة في التمرد والعصيان، فيجري عليهما ما يجري على غيرهما من أحكام الحرابة.

(2)

شرط حمل السلاح: ويشترط في المحاربين أن يكون معهم سلاح، لان قوتهم التي يعتمدون عليها في الحرابة: إنما هي قوة السلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا بمحاربين، لانهم لا يمنعون من يقصدهم، وإذا تسلحوا بالعصي والحجارة، فهل يعتبرون محاربين؟ اختلف الفقهاء في ذلك.

فقال الشافعي، ومالك، والحنابلة، وأبو يوسف، وأبو ثور، وابن حزم:

وإنهم يعتبرون محاربين لانه لا عبرة بنوع السلاح، ولا بكثرته، وإنما العبرة بقطع الطريق.

وقال أبو حنيفة: ليسوا بمحاربين.

(1) يرى أبو حنيفة اشتراط الذكورة في الحرابة، وذلك لقرة قلوب النساء، وضعف بنيتهن، ولسن من أهل الحرب وهذه رواية ظاهر الرواية.

وروى الطحاوي عنه: أن هذا ليس بشرط وأن النساء والرجال سواء في الحرابة.

ص: 467

(3)

شرط الصحراء والبعد عن العمران: واشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين، ولان الواجب يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولان في المصر يلحق الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حد عليه.

وهو قول أبي حنيفة، والثوري، وإسحاق، وأكثر فقهاء الشيعة.

وقول الخرقي من الحنابلة، وجزم به في الوجيز.

وذهب فريق آخر إلى أن حكمهم في المصر والصحراء واحد، لان الاية بعمومها تتناول كل محارب.

ولانه في المصر أعظم ضررا، فكان أولى.

ويدخل في هذا العصابات التي تتفق على العمل الجنائي من السلب، والنهب، والقتل.

وهذا مذهب الشافعي، والحنابلة، وأبي ثور.

وبه قال الاوزاعي والليث والمالكية، والظاهرية.

والظاهر أن هذا الاختلاف يتبع اختلاف الامصار.

فمن راعى شرط الصحراء نظر إلى الحال الغالبة، أو أخذه من حال زمنه الذي لم يقع فيه مثل

ذلك في مصره، وعلى العكس من ذلك من لم يشترط هذا الشرط.

ولذا يقول الشافعي: إن السلطان إذا ضعف ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة.

وأما غير ذلك فهو اختلاس عنده.

(4)

شرط المجاهرة: ومن شروط الحرابة المجاهرة بأن يأخذوا المال جهرا، فإن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا، فهم منتهبون، لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة، فسلبوا منها شيئا، لانه لا يرجعون إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم، فهم قطاع طريق.

وهذا مذهب الاحناف والشافعية والحنابلة.

وخالف في ذلك المالكية والظاهرية.

قال ابن العربي المالكي: والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر،

ص: 468

وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خرج بعضا في المصر يقتل بالسيف ويؤخذ فيه بأشد من ذلك لا بأيسره.

فإنه سلب غيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة، فكان حرابة، فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل.

وقال: لقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي أمر قوم خرجوا محاربين في رفقة، فأخذوا منهم امرأة - مغالبة على نفسها من زوجها، ومن جملة المسلمين معه - فاختلوا بها، ثم جد فيهم الطلب، فأخذوا وجئ بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين، لان الحرابة إنما تكون في الاموال لا في الفروج.

فقلت لهم: " إنا لله وإنا إليه راجعون " ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الاموال، وإن الناس ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب بين أيديهم، ولا يرضون أن يحرب المرء في زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصا في الفتيا والقضاء.

وقال القرطبي: والمغتال كالمحارب، وهو أن يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح، ولكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر، فأطعمه سما فقتله، فيقتل حدا لا قودا، وقريب من هذا القول رأي ابن حزم حيث يقول: إن المحارب هو المكابر، المخيف لاهل الطريق، المفسد في سبل الارض، سواء بسلاح أم بلا سلاح أصلا.

سواء ليلا أم نهارا، في مصر أم فلاة، أم في قصر الخليفة، أم في الجامع سواء، وسواء فعل ذلك بجند أم بغير جند، منقطعين في الصحراء أم أهل قرية، سكانا في دورهم أم أهل حصن كذلك، أم أهل مدينة عظيمة أم غير عظيمة، كذلك واحد أم أكثر، كل من حارب المارة وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك عرض، فهو محارب عليه وعليهم، كثروا أو قلوا ".

ومن ثم يتبين أن مذهب ابن حزم وأسع المذاهب بالنسبة للحرابة، ومثله

ص: 469

في ذلك المالكية، لان كل من أخاف السبيل على أي نحو من الانحاء، وبأي صورة من الصور، يعتبر محاربا مستحقا لعقوبة الحرابة.

عقوبة الحرابة: أنزل الله سبحانه في جريمة الحرابة قوله: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض

فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض، ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الاخرة عذاب عظيم - إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم ".

(1)

فهذه الاية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الارض بالفساد، لقوله سبحانه:" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ".

وقد أجمع العلماء على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدي المسلمين، فأسلموا فإن الاسلام يعصم دماءهم وأموالهم وإن كانوا قد ارتكبوا من المعاصي قبل الاسلام ما يستوجب العقوبة:" قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ".

(2)

فدل ذلك على أن الاية نزلت في أهل الاسلام، ومعنى يحاربون الله ورسوله، أي يحاربون المسلمين بما يحدثونه من اضطراب، وفوضى وخوف وقلق، ويحاربون الاسلام بخروجهم عن تعاليمه وعصيانهم لها.

فإضافة الحرب إلى الله ورسوله إيذان بأن حرب المسلمين كأنها حرب الله تعالى ولرسوله، كقوله تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا ".

(3)

فالمحاربة هنا مجازية.

قال القرطبي: يحاربون الله ورسوله، إستعارة، ومجاز، إذ الله سبحانه

(1) سورة المائدة. الايتان: 33، 34.

(2)

سورة الانفال. الاية: 38.

(3)

سورة البقرة. الاية: 9.

ص: 470

وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الاضداد والانداد.

والمعنى يحاربون أولياء الله.

فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لاذيتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله تعالى: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا "(1) .

حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح السنة:" استطعمتك فلم تطعمني " اه.

سبب نزول هذه الاية: قال الجمهور في سبب نزول هذه الاية: " إن العرنيين (2) قدموا المدينة فأسلموا، واستوخموها (3) ، وسقمت أجسامهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة، فخرجوا، وأمر لهم بلقاح (4) ليشربوا من ألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الاسلام وساقوا الابل.

فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جئ بهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل (5) أعينهم، وتركهم في الحرة (6) يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ".

قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله، فأنزل الله عزوجل:" إنما الذين يحاربون الله ورسوله " الاية.

العقوبات التي قررتها الاية الكريمة:

والعقوبة التي قررتها هذه الاية للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في

(1) سورة البقرة الاية: 245.

(2)

جماعة من إحدى القبائل العربية المعروفة.

(3)

أصابهم المرض والوخم.

لعدم موافقة هوائها لهم.

(4)

لقاح جمع لقحة وهي الناقة الحلوب.

(5)

تسمل: تفقا.

وفعل بهم ذلك لانهم كانوا فعلوا ذلك بالراعي فكان قصاصا.

وجزاء سيئة سيئة مثلها.

(6)

الحرة: أرض خارج المدينة ذات حجارة سوداء.

ص: 471

الارض فسادا هي إحدى عقوبات أربع:

1 -

القتل.

2 -

أو الصلب.

3 -

أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف.

4 -

أو النفي من الارض.

وهذه العقوبات جاءت في الاية معطوفة بحرف " أو "، فقال بعض العلماء:" إن العطف بها يفيد التخيير، ومعنى هذا ان للحاكم أن يتخير عقوبة من هذه العقوبات، حسب ما يراه من المصلحة، بصرف النظر عن الجريمة التي ارتكبها المحاربون ".

وقال أكثر العلماء: إن " أو " لنا للتنويع لا للتخيير ومقتضاه أن تتنوع العقوبة حسب الجريمة، وأن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير.

حجة القائلين بأن " أو " للتخيير: قال الفريق الاول: إن هذا ما تقتضيه اللغة، ويتمشى مع نظم الاية، ولم يثبت من السنة ما يصرف ما دلت عليه من هذا المعنى.

فكل من حارب الله ورسوله وسعى في الارض بالفساد، فإن عقوبته إما القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي من الارض حسب ما يكون من المصلحة التي يراها الحاكم في تنفيذ إحدى هذه العقوبات، سواء قتلوا أم لم يقتاوا، وسواء أخذوا المال أم لم يأخذوا، وسواء ارتكبوا جريمة واحدة أم أكثر.

وليس في الاية ما يدل على أن للحاكم أن يجمع أكثر من عقوبة واحدة أو يترك المحاربين دون عقاب.

قال القرطبي: " قال أبو ثور: الامام مخير على ظاهر الاية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، كلهم قال: الامام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الاحكام التي

ص: 472

أوجبها الله تعالى من: القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي بظاهر الاية ".

قال ابن عباس: ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار.

وهذا قول أشعر بظاهر الاية.

قال ابن كثير: إن ظاهر - أو - للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله تعالى في جزاء الصيد:" فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم، هديا بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياما ".

(1)

وكقوله في كفارة الفدية: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ".

(2)

وكقوله في كفارة اليمين: " فإطعام عشرة مساكين، من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ".

(3)

هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الاية.

حجة القائلين بأن " أو " للتنويع: أما الفريق الثاني فقد استدل بما روي عن ابن عباس، وهو من أعلم الناس باللغة وأفقههم في القرآن الكريم، فقد روى الشافعي في مسنده عنه رضي الله عنه قال:" إذا قتلوا وأخذوا الاموال صلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الارض. "

(1) سورة المائدة. الاية: 95.

(2)

سورة البقرة الاية: 196.

(3)

سورة المائدة الاية: 89.

ص: 473

قال ابن كثير ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره - إن سنده - قال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد بن حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الاية، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة (1)، قال أنس: فارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الابل، وأخافوا السبيل،

وأصابوا الفرج الحرام.

قال أنس: فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: " من سرق مالا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته، ومن قتل اقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه ".

وقالوا: إن الذي يرجح أن الاية لتفصيل العقوبات، لا للتخيير هو أن الله جعل لهذا الافساد درجات من العقاب لان إفسادهم متفاوت، منه القتل، ومنه السلب والنهب، ومنه هتك العرض، ومنه إهلاك الحرث والنسل.

ومن قطاع الطرق من يجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه، فليس الحاكم مخيرا في عقاب من شاء منهم بما شاء، بل عليه أن يعاقب كلا منهم بقدر جرمه ودرجة إفساده، وهذا هو العدل:" وجزاء سيئة سيئة مثلها ".

(2)

وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في أصح الروايات عنه، وقول أبي حنيفة على تفصيل في ذلك - وقد ناقش الكاساني في البدائع (3) رأي القائلين بأن " أو " للتخيير نقاشا علميا، فقال: " إن التخيير الوارد في الاحكام المختلفة من حيث الصورة بحرف التخيير، إنما يجري ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحد، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد.

أما إذا كان مختلفا فيخرج مخرج بيان الحكم لكل في نفسه، كما في قوله تعالى:

(1) قبيلة تسمى بهذا الاسم.

(2)

سورة الشورى الاية: 40.

(3)

ج 7 ص 9.

ص: 474

" قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ".

(1)

إن ذلك ليس للتخيير بين المذكورين، بل لبيان الحكم لكل في نفسه، لاختلاف سبب الوجوب.

وتأويله: إما أن تعذب من ظلم، أو تتخذ الحسن فيمن آمن وعمل صالحا.

ألا ترى إلى قوله تعالى: " قال أما من ظلم فسوف نعذبه، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا - وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ".

(2)

وقطع الطريق متنوع في نفسه وإن كان متحدا من حيث الاصل، فقد يكون بأخذ المال وحده، وقد يكون بالقتل لا غير، وقد يكون بالجمع بين الامرين، وقد يكون بالتخويف لا غير، فكان سبب الوجوب مختلفا فلا يحمل على التخيير، بل على بيان الحكم لكل نوع، أو يحتمل هذا ويحتمل ما ذكر فلا يكون حجة مع الاحتمال.

وإذا لم يمكن صرف الاية الشريفة إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب.

فإما أن يحمل على الترتيب ويضمر في كل حكم مذكور نوع من أنواع قطع الطريق، كأنه سبحانه وتعالى قال:" إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا " إن قتلوا، أو يصلبوا، إن أخذوا المال وقتلوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، إن أخذوا المال لا غير، أو ينفوا من الارض، إن أخافوا، هكذا ذكر جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع أبو بردة الاسلمي بأصحابه الطريق على أناس جاؤوا يريدون الاسلام.

فقد قال عليه السلام:

" إن من قتل قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن قتل وأخذ المال صلب، ومن جاء مسلما هدم الاسلام ما كان قبله من الشرك ".

(1) سورة الكهف الاية: 86.

(2)

سورة الكهف الاية: 87.

ص: 475

بسط رأي القائلين بتنوع العقوبة إذا اختلفت الجريمة: قلنا إن جمهور الفقهاء يرى أن العقوبة تتنوع حسب نوع الجريمة، وإن ذلك ينقسم إلى أقسام:

1 -

أن تكون الحرابة مقصورة على إخافة المارة وقطع الطريق، ولم يرتكب المحاربون شيئا وراء ذلك، فهؤلاء ينفون من الارض، والنفي من الارض معناه إخراج المحاربين من البلد الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الاسلام. إلا إذا كانوا كفارا فيجوز إخراجهم إلى بلاد الكفر.

وحكمة ذلك أن يذوق هؤلاء وبال أمرهم بالابتعاد والنفي، وأن تطهر المنطقة التي عاثوا فيها فسادا من شرورهم ومفاسدهم، وأن ينسى الناس ما كان منهم من أثر سئ وذكرى أليمة.

وروي عن مالك أن النفي معناه الاخراج إلى بلد آخر، ليسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم، واختاره ابن جرير.

ويرى الاحناف أن النفي هو الجسن ويبقون في السجن حتى يظهر صلاحم لان السجن خروج من سعة الدنيا إلى ضيقتها، فصار من سجن كأنه نفي من الارض إلا من موضع سجنه، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الاموات فيها ولا الاحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا!

2 -

أن تكون الحرابة بأخذ المال من غير قتل، وعقوبة ذلك قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لان هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وما يقطع منهما يحسم في الحال، بكي العضو المقطوع بالنار أو بالزيت المغلي أو بأية طريقة أخرى، حتى لا يستنزف دمه فيموت.

وإنما كان القطع من خلاف حتى لا تفوت جنس المنفعة فتبقى له يد يسرى ورجل يمنى ينتفع بهما، فإن عاد هذا المقطوع إلى قطع الطريق مرة أخرى قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقد اشترط جمهور الفقهاء أن يكون مبلغ المال المسروق نصابا، وأن يكون من حرز، لان السرقة جريمة لها عقوبة مقررة، فإذا وقعت الجريمة تعبها جزاؤها، سواء أكان مرتكبها فردا أم جماعة.

فإن لم يبلغ المال نصابا ولم يكن

ص: 476

من حرز فلا قطع، فإن كانوا جماعة، فهل يشترط أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا أو لا؟ أجاب عن ذلك ابن قدامة فقال: " وإذا أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا، قياسا على قولنا في السرقة.

وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا.

ويشترط ألا تكون لهم شبهة.

ولم يوافق مالك ولا الظاهرية على هذا الرأي، فلم يشترطوا في المال المسروق بلوغ النصاب ولا كونه محرزا، لان الحرابة نفسها جريمة تستوجب العقوبة بقطع النظر عن النصاب والحرز.

فجريمة الحرابة غير جريمة السرقة، وعقوبة كل منهما مختلفة، لان الله تعالى قدر للسرقة نصابا، ولم يقدر في

الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة.

وإذا كان في الجناة من هو ذو رحم محرم ممن سرقت أموالهم فإنه لاقطع عليه، ويقطع الباقون الذين شاركوه من الجناة عند الحنابلة وأحد قولي الشافعي.

وقال الاحناف: لا يقطع واحد منهم لوجود الشبهة بالنسبة للقريب، والجناة متضامنون فإذا سقط الحد عن القريب سقط عن الجميع.

ورجح ابن قدامة رأي الشافعية والحنابلة فقال: " إنها شبهة اختص بها واحد، فلا يسقط الحد عن الباقين " ومعنى هذا أن شبهة الاسقاط لا تتجاوز ذا الرحم، فلا يقاوم عليه الحد وحده، لان الشبهة لا تتجاوزه. اه.

3 -

أن تكون الحرابة بالقتل دون أخذ للمال، وهذا يستوجب القتل متى قدر الحاكم عليهم، ويقتل جميع المحاربين وإن كان القاتل واحدا، كما يقتل الردء - وهو الطليعة - لانهم شركاء في المحاربة والافساد في الارض.

ولاعبرة بعفو ولي الدم أو رضاه بالدية، لان عفو ولي الدم أو رضاه بالدية في القصاص لافي الحرابة.

4 -

أن تكون الحرابة بالقتل وأخذ المال.

وفي هذا القتل والصلب.

أي أن عقوبتهم أن يصلبوا أحياء ليموتوا، فيربط الشخص على خشبة أو عمود

ص: 477

أو نحوهما منتصب القامة. ممدود اليدين، ثم يطعن حتى يموت.

ومن الفقهاء من قال: إنه يقتل أولا ثم يصلب للعبرة والعظة.

ومنهم من قال: إنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام.

وكل ما تقدم فإنه اجتهاد من الائمة.

وهوفي نطاق تفسير الآية الكريمة،

وكل إمام له وجهة نظر صحيحة، فمن رأى تخيير الحاكم في اختيار إحدى العقوبات المقررة فوجهته ما دل عليه العطف بحرف - أو - وأن الامر متروك للحاكم يختار منها ما تدرأ به المفسدة وتتحقق به المصلحة. وأن من رأى أن لكل جريمة عقوبة محددة في الآية، فوجهه تحقيق العدالة مع رعاية ما تندرئ به المفاسد وتقوم بهالمصالح، فالكل مجمع على تحقيق غاية الشريعة من درء المفاسد وتحقيق المصالح.

وهذا الاجتهاد يسهل على أولياء الامور فهم النصوص وييسر طريق الاجتهاد، ويعين طالب العلم على الوصول إلى الحقيقة.

ولا شك أن أعمالا كثيرة تحدث من المحاربين المفسدين غير هذه الاعمال التي أشار إليها الفقهاء.

ويمكن استنباط أحكام لها مناسبة في ضوء ما استنبطه الفقهاء من الآية الكريمة من أحكام جزئية.

رد اعتراض ودفع إشكال:

قال في المنار: روى عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد أن الفساد هنا: الزنا، والسرقة، وقتل النساء، وإهلاك الحرث والنسل، وكل هذه الاعمال من الفساد في الارض.

واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد: بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبات في الشرع غير ما في الآية، فللزنا والسرقة والقتل، حدود، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ويضمنه الفاعل ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده ".

وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين الذين يكاثرون أولي الامر، ولا يذعنون لحكم الشرع، وتلك الحدود إنما هي للسارقين، والزناة أفرادا، الخاضعين لحكم الشرع فعلا.

وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز بصيغة اسم الفاعل المفرد كقوله، سبحانه " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "(1)، وقال: " الزانية

(1) سورة المائدة.

الآية: 28

ص: 478

والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (1) وهم يستخفون بأفعالهم، ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربو الله ورسوله ومفسدون، والحكم هنا منوط بالوصفين معا.

وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين، لان الوصفين متلازمان " انتهى واجب الحاكم والامة حيال الحرابة: والحاكم والامة معا مسئولون عن حماية النظام وإقرار الامن وصيانة حقوق الافراد في المحافظة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا شذت طائفة، فأخلوا السبيل، وقطعوا الطريق، وعرضوا حياة الناس للفوضى والاضطراب.

وجب على الحاكم قتال هؤلاء، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العرنيين، وكما فعل خلفاؤه من بعده، ووجب على المسلمين كذلك أن يتعاونوا مع الحاكم على استئصال شأفتهم وقطع دابرهم، حتى ينعم الناس بالامن والطمأنينة، ويحسوا بلذة السلام والاستقرار وينصرف كل إلى عمله مجاهدا في سبيل الخير لنفسه، ولاسرته، ولامته، فإن انهزم هؤلاء في ميدان القتال، وتفرقوا هنا وهناك، وانكسرت شوكتهم، لم يتبع مدبرهم، ولم يجهز على جريحهم إلا إذا كانوا قد ارتكبوا جناية القتل، وأخذوا المال، فإنهم يطاردون حتى يظفروا بهم ويقام عليهم حد الحرابة.

توبة المحاربين قبل القدرة عليهم: إذا تاب المحاربون المفسدون في الارض قبل القدرة عليهم، وتمكن الحاكم من القبض عليهم، فإن الله يغفر لهم ما سلف، ويرفع عنهم العقوبة الخاصة بالحرابة لقول الله سبحانه:

" ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ".

وإنما كان ذلك كذلك، لان التوبة قبل القدرة عليهم والتمكن منهم

(1) سورة النور الآية: 2

ص: 479

دليل على يقظة الضمير والعزم على استئناف حياة نظيفة بعيدة عن الافساد والمحاربة لله ولرسوله، ولهذا شملهم عفو الله وأسقط عنهم كل حق من حقوقه إن كانوا قد ارتكبوا ما يستوجب العقوبة، أما حقوق العباد فإنها لا تسقط عنهم، وتكون العقوبة حينئذ ليست من قبيل الحرابة، وإنما تكون من باب القصاص.

والامر في ذلك يرجع إلى المجني عليهم لا إلى الحاكم، فإن كانوا قد قتلوا سقط عنهم تحتم القتل، ولولي الدم العفو أو القصاص، وإن كانوا قد قتلوا وأخذوا المال، سقط الصلب وتحتم القتل وبقي القصاص وضمان المال.

وإن كانوا قد أخذوا المال سقط القطع وأخذت الاموال منهم إن كانت بأيديهم، وضمنوا قيمة ما استهلكوا، لان ذلك غصب.

فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يجعله الحاكم عنده حتى يعلم صاحبه لان توبتهم لا تصح إلا إذا أعادوا الاموال المسلوبة إلى أربابها.

فإذا أرى أولو الامر إسقاط حق مالي عن المفسدين من أجل المصلحة العامة، وجب أن يضمنوه من بيت المال.

ولقد لخص ابن رشد في بداية المجتهد أقوال العلماء في هذه المسألة فقال: " وأما ما تسقطه عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال:

1 -

أحدها أن التوبة إنما تسقط حد الحرابة فقط، ويؤخذ، بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين " وهو قول مالك.

2 -

والقول الثاني أنها تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله من الزنا، والشراب، والقطع في السرقة، ولا تسقط حقوق الناس من الاموال، والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول (1) .

3 -

والقول الثالث: أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ في الدماء وفي الاموال بما وجد بعينه.

4 -

والقول الرابع: أن التوبة تسقط جميع حقوق الآدميين من مال، ودم، إلا ما كان من الاموال قائما بعينه.

شروط التوبة: للتوبة ظاهر وباطن، ونظر الفقه إلى الظاهر دون الباطن الذي لا يعلمه

(1) هذا هو أعدل الاقوال الذي اخترناه ونبهنا عليه من قبل.

ص: 480