الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
::
المقدمة::
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد كان هذا الكتاب من ثمرات كتابي الأول "وقفات مصارحة للمرأة الصالحة" والذي تناولت فيه الحديث عن لباس المرأة وزينتها، وكان مما تناولته بالبحث؛ لباس المرأة أمام النساء والمحارم مما كان سببا في وقوفي على خلاف من تأخر من أهل العلم حول عورة المرأة وحجابها أمام الرجال الأجانب، فأثمر هذا الجهد المتواضع الذي بين يديك؛ وكان مما وقفت عليه ما ذهب إليه الشيخ الألباني- رحمه الله في مسألة الحجاب في كتابيه (الرد المفحم)
(1)
و (جلباب المرأة المسلمة) والتي أحدثت ضجة في المجتمعات الإسلامية بين مؤيد ومعارض، ولما كان للشيخ من مكانة علمية في الأمة الإسلامية كان ذلك داعيا إلى قبول رأيه من قبل البعض، وظهور حجته عند البعض الآخر لاستناده على بعض النصوص الصحيحة!! ولكن المتمحص في المسألة يجد أن هذه النصوص قد حُملت على غير محملها لأن هناك لَبس في المسألة وحقيقة غابت لغياب أحكامها وانقطاع أسبابها، وهي إنقطاع العبودية (ملك اليمين) فقد كان العبيد المملوكين الذين فرّق الشرع بينهم وبين الأحرار في بعض الأحكام الشرعية يمثلون جزء من
(1)
كتاب الرد المفحم: هو جمع علي حسن عبدالحميد تلميذ الشيخ الألباني وترتيبة نشره بعد وفاة الشيخ الألباني وهو من سمّاه.
المجتمع المسلم إلى أوائل القرن الماضي، ويعد وجوب الحجاب (تغطية الوجه) أحد الأحكام التي تختص بالحرية؛
فقد فرض الله الحجاب (تغطية الوجه) على المرأة الحرة عن الرجل الحر، فلم يُفرض على المرأة الحرة أن تحتجب من العبد المملوك لها أو لغيرها، ولم يُفرض على المرأة المملوكة أن تغطي وجهها، وكان هذا داعيا للخلاف بين الفقهاء المتقدمين في مسألتين: جواز نظر (الأجنبي) العبد المملوك للغير للوجه والكفين من المرأة الحرة، ومالذي يجب عند خوف الفتنة؛ أن يغض الرجل بصره أم تغطي المرأة وجهها. كان هذا مدار اختلاف الفقهاء المتقدمين في هذه المسألة وهو الذي أحدث اللبس عند المتأخرين ومنهم الشيخ الألباني الذي بنى رأيه في هذه المسألة على هذا الخلاف! أما وجوب ستر المرأة الحرة لوجهها عن الرجال الأحرار الأجانب فلا خلاف فيه بين من تقدم من أهل العلم بل الإجماع على وجوبه باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة، فقد افترض الله تغطية الوجه على جميع النساء الحرائر بقوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} صح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت (لما نزلت خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية) وفي رواية (من أكسية سود يلبسنها)
(1)
وقال ابن عباس رضي الله عنه في تأويلها (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة) وصح عن عبيدة السلماني أنه لما سُئل عن تأويلها (تقنع بردائه فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى
(1)
سنن أبي داود (4101) وصححه الألباني في صحيح أبي داود 4/ 61.
وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب). وهذا ماجرى عليه عمل النساء المسلمات الحرائر منذ زمن الرسالة، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 324):"ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب" اهـ.
وقد استمرت النساء المسلمات في مختلف العصور وفي جميع البلاد الإسلامية على ستر وجوههن عن الرجال الأجانب، إلى أن بدأ السفور في أوائل القرن الرابع عشر الهجري إثر الاستعمار الغربي، ففي أوائل القرن الثالث عشر الهجري (أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ومطلع القرن التاسع عشر) فوجئت الممالك الإسلامية بطوفان من الاستعمار الغربي الذي أخذ يمتد من قطر إلى قطر، وما أن انتصف القرن التاسع عشر حتى أصبحت معظم الأمم المسلمة تحت سطوة المستعمر الغربي الأوربي، وفي هذه الفترة من الضعف والانهزامية أصبحت الأمم الإسلامية تحاكي أمم الغرب في الزي واللباس وسائر المظاهر الاجتماعية، وأصبح المنهزمون يستحيون من كل ما نظر إليه أعداء الإسلام بالتحقير والتعيير - ومن ذلك الحجاب والنقاب الذي نظر إليه الغرب بعين المقت والازدراء وصوره أقبح تصوير فيما كتب ونشر- ولو كان من الأمور الثابتة في الشرع، ومن هنا بدأت الدعوة إلى السفور ونزع الحجاب؛ حيث قام هؤلاء المنهزمون بحركة ما يسمى (تحرير المرأة) التي بدأوها في أوائل القرن الرابع عشر الهجري (أواخر القرن التاسع عشر الميلادي) لحمل المرأة المسلمة على اقتفاء آثار المرأة الأوربية واتباع المناهج الاجتماعية الرائجة بين أمم الغرب، ونشط دعاة السفور والانحلال في بث أفكارهم التي استقوها من البلاد الغربية الكافرة لمحاربة الحجاب ونزعه؛ فقام الملك "زوغو" في ألبانيا بنزع
الحجاب عن وجوه المؤمنات وفرض السفور على نساء وطنه مسايرة للدول الأوروبية، وفي بلاد الأفغان قامت "شاه خانم" ملكة الأفغان بخلع الحجاب بطلب من زوجها لتكون قدوة للأفغانيات، وفي بلاد المغرب بعد أن خرج الاستعمار الفرنسي ترك نخبة تكونت بفرنسا واستطاعت تلك النخبة المغتربة أن تؤكد أن تحرير المرأة المغربية هو نزعها للحجاب،
وفي تركيا دعا إلى تحرير المرأة "أحمد فارس الشدياق" في صحيفته (الجوائب)، وفي العراق اتفق "جميل الزهاوي" وصاحبه "الرصافي" على الهجوم على الدين والاستهزاء بتعاليمه فكانا أول داعيين إلى السفور فيها، وفي لبنان قامت المحاربة للحجاب والداعية إلى السفور "نظيرة زين الدين" صاحبة أول كتاب صدر في الشام وشرارة الإفساد الذي كان عنوانه (السفور والحجاب)، وفي مصر كانت الريادة في الدعوة إلى تحرير المرأة لـ " قاسم أمين" الذي رحل إلى فرنسا لإكمال تعليمه فانبهر بالحياة في أوروبا فخرج بكتابيه (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة)؛ وبعد أن سرت تلك الأفكار الملوثة التي نشرها متزعموا الإفساد، كان من المؤسف أن صمت المصلحون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمجتمع بأكمله أمام تلك الأفكار، ولم يواجهها بقوة وحزم، حتى تطورت وطبقت على أرض الواقع فكانت أول امرأة مصرية أزالت الحجاب عن وجهها "هدى شعراوي" في القرن الماضي، وأول امرأة كشفت وجهها في بلاد الشام وكيلة مدرسة ثانوية، وبعد هذه البداية من هاتين المرأتين في مصر والشام آل الأمر إلى ما هو مشاهد فيهما من كشف الرؤوس والصدور والأعضاد
والسيقان، فالأساس الذي بني عليه هذا الانفلات من النساء في البلاد العربية والإسلامية هو التقليد لنساء الغرب.
(1)
ولم يبق على جادة السلامة والاستقامة إلا بلاد الحرمين التي بقيت النساء فيها محافظة على الحشمة وستر الوجوه والبعد عن الاختلاط بالرجال، وفي الآونة الأخيرة نشط المستغربون التغريبيون المتبعون الشهوات بالسعي لأن تميل هذه البلاد ميلاً عظيماً فتتبع النساء فيها غيرهن في الانحلال والتبرج والسفور، وواكب ذلك نشأة "مسألة الحجاب" والتشكيك في وجوب الحجاب وفرضيته على المرأة بسبب اللبس الذي نشأ عند بعض أهل العلم المتأخرين بسبب انقطاع العبودية (ملك اليمين) وغياب أحكامها، فنسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يرد نساء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى التمسك بما افترض الله عليهن من الحجاب (تغطية الوجه) هو ولي
ذلك والقادر عليه.
وبعد أن تبين السبب في نشأة " مسألة الحجاب " كان لزاما علينا بيان ما وقع فيه الشيخ الألباني من خطأ في هذه المسألة، وذلك من خلال مناقشة البحوث التي طُرحت في كتابه (الرد المفحم) وخلاصة ما ستجده في مناقشة البحوث:
(1)
انظر: عودة الحجاب لمحمد إسماعيل المقدم (1/ 15)، هل يكذب التاريخ لعبد الله الداوود، الطبعه الثالثة 1429، توزيع مؤسسة الجريسي.
* أولا: أن المراد بقوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الأحزاب: 59 هو أمر نساء المسلمين الحرائر بتغطية وجوههن؛ كما أجمع على ذلك أهل العلم من مفسرين ومحدثين وفقهاء لغويين. وأنه لاحجة لما ذكر الشيخ الألباني من نفي دلالة الإدناء لغة على تغطية الوجه؛ محتجا بالمعنى العام للإدناء عند أحد اللغويين؛ دون ما صرح به من هم أئمة في اللغة بأن المراد بالإدناء في الآية تغطية الوجه، وما اتفق عليه المفسرون في أكثر من أربعين كتابا في التفسير على تفسير هذه الآية بتغطية الوجه.
* ثانيا: أن قول ابن عباس " تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به" لم يكن تفسيرا لآية إدناء الجلابيب كما ذكر الشيخ الألباني! بل لم يستشهد به مطلقا أي أحد من المفسرين في تفسير هذه الآية؛ وإنما كان لبيان كيفية تغطية وجه المرأة حال إحرامها للحج أو العمرة، فإن الثابت شرعا أنه يجب على المرأة المحرمة ستر وجهها عن الرجال الأجانب بسدل الجلباب من فوق رأسها على وجهها، وليس لها أن تشدّه على جبينها ثم ترفعه من أسفل وتعطفه على الأنف؛ فالمنهي عنه حال الإحرام هو الشد والإلصاق على الوجه بالنقاب واللثام لا تغطية الوجه.
* ثالثاً: أن مفاد آية الحجاب {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الأحزاب: 53 والتي فسرها أئمة التفسير؛ بـ (من وراء ستر بينكم وبينهن) يقتضي تغطية الوجه لأن المراد بها منع الرجال الأحرار من الدخول على النساء الحرائر والاختلاط
بهن في البيوت ونحوها: وهذا ما جرى عليه عمل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساء سلف هذه الأمة.
* رابعاً: أن الحجاب (تغطية الوجه) الذي تقتضيه آية الحجاب الأولى:
{فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}
…
هو معنى الحجاب الذي تقتضيه آية الحجاب الثانية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} لما ثبت في صحيح السنّة من تسمية كل من الآيتين بـ (آية الحجاب)
* خامساً: أن التفريق بين الرجال والنساء في أحكام النظر؛ بزيادة أمر النساء بتغطية وجوههن لمنع الرجال الأحرار من النظر للنساء الأجنبيات الحرائر؛ أمر متقدم متقرر عند أهل العلم على اختلاف مذاهبهم.
* سادساً: الأصل الذي اعتمد عليه أهل العلم في بيان معنى آية إدناء الجلابيب؛ ما أُثر عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسيرها قال: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة)
(1)
وهذا الأثر يعد من الآثار الثابتة التي اعتمد عليها جل أهل العلم في تفسير هذه الآية.
فظاهر القرآن والسنة وآثار الصحابة والتابعين تؤيده؛ فلا وجه للطعن فيه فهو ثابت عمل به الأئمة واحتجوا به.
(1)
حسن إسناده أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 463).
* سابعاً: من الشواهد التي تقوي حديث ابن عباس هذا وتعضده؛ ما أخرجه الطبري بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال سألت عبيدة السلماني عن قوله {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (فتقنع بردائه فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب)
(1)
وهذا الأثر كذلك مما اعتمد عليه جل أهل التفسير في تفسير آية إدناء الجلابيب، وعبيدة السلماني من كبار التابعين وفقهائهم ممن أخذ علمه عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، ومخضرم ثقة ثبت.
* ثامناً: مما يشهد لأثر ابن عباس أيضا؛ أثر قتادة (أن الله أخذ عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب) وأثر ابن عباس (وإدناء الجلباب أن تقنّع وتشد على جبينها) فإنها تحمل معنى تغطية الوجه كما حملها عليه القرطبي، والشوكاني والثعالبي وغيرهم من المفسرين فقالوا؛ (قال ابن عباس وقتادة ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه).
* تاسعاً: أن الاعتجار والتقنع والتلفع بالجلابيب تعني تغطية الوجه عند مجموع أهل العلم من لغويين وفقهاء ومحدثين ومفسرين وهي من صور إدناء الجلباب التي سارعت إليها النساء عند نزول آية إدناء الجلابيب.
(1)
صحح إسناده أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 463).
* عاشراً: هناك حُكمان شرعيان ذهل عنهما أكثر أهل العلم المتأخرين، وانطوت آثارها في التصانيف المتأخرة، ولم يشر إليها بعض المتقدمين لكونها معلومة عندهم بالضرورة:
الأول: أن الحجاب (تغطية الوجه) إنما هو فرض على النساء الحرائر دون الإماء (الجواري المملوكات) لأن المراد بقوله {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} في قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} النساء الحرائر دون الإماء، وهذا أحدث اللبس عند المتأخرين فيما ورد في بعض الأحاديث والآثار من كشف بعض النساء لوجوههن لكونهن من الإماء؛ فاستشهدوا بها على جواز الكشف للحرائر من النساء!!
الثاني: أن هناك فئات من الذكور الأجانب لم يفرض على النساء الحرائر الاحتجاب منهم، ولم ينههم الشرع من الدخول عليهن في البيوت ورؤيتهن دون حجاب، وهم من ذكرهم الله تعالى في سورة النور فقال عز وجل {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} النور: 31 وقال عز وجل {يَاأَيُّهَا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} النور: 58 وهم: العبيد المملوكون، والتابعون غير أولي الإربة، ومن لم يبلغ الحلم من الأحرار. وهذا أيضا أحدث اللبس عند الحديث عن عورة المرأة أمام هذا الأجنبي
وجواز نظره للوجه والكفين منها، فأشكل ذلك على بعضهم، فحمله على جواز نظر الرجل الحر للوجه والكفين من المرأة الحرة الأجنبية عنه!!
* الحادي عشر: للمرأة الحرّة عورتان؛
(1)
عورة في النظر؛ وهي تختلف باختلاف الناظرين، وهم قسمان:
1 -
فإما أن يكون الناظر رجلا حرا أجنبيا عنها؛ فالمرأة كلها عورة؛ يجب عليها أن تحتجب منه ولا يحل له الدخول عليها ولا النظر إليها.
2 -
وإما أن يكون الناظر ممن يحل له الدخول على المرأة في البيت والنظر إليها دون حجاب وهم قسمان:
القسم الأول: من استثناهم الله في آية النور، وحدود ما تبديه المرأة لهم تنحصر في مواضع الزينة.
والقسم الثاني: من لم يستثن في الآية كالمحارم من الرضاع والمصاهرة، والعبيد المملوكون للغير، والذين لم يبلغوا الحلم من الأحرار، وهؤلاء هم من وقع الخلاف بين الفقهاء في حكم نظرهم للمرأة، فمنهم من أطلق جواز نظره للوجه والكفين من المرأة، ومنهم من قيد الجواز بالحاجة وأمن الفتنة، ومنهم من منع من النظر لغير حاجة لأنه مظنة الفتنة.
كما حصل الخلاف في حكم النظر للإماء (المملوكات اللاتي لم يفرض عليهن الحجاب) فمنهم من أوجب عليهن تغطية الوجه في هذا الزمان لأنه مظنة الفتنة، ومنهم من لم يوجب عليهن ذلك ولكن قال هو في حقهن مستحب وعلى الرجل غض البصر.
هذا مدار الخلاف بين الفقهاء في مسألة النظر؛ وهو الذي بنى عليه الشيخ الألباني رأيه في مسألة تغطية الوجه كما سترى استشهاده بأقوالهم في البحوث القادمة.
(2)
وعورة في الصلاة؛ والمرأة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها وكفيها - واختُلف في قدميها - وكون الوجه ليس بعورة في الصلاة؛ لا يعني جواز كشفه للرجال الأجانب، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر لا طردا ولا عكسا، والذي ثبت أن الأئمة (مالك والشافعي وأباحنيفة) لم يتكلموا إلا عن عورة المرأة في الصلاة، ولم يؤثر عن أحد منهم قول صريح عن عورة المرأة عند الرجال الأحرار الأجانب، إلا قول الإمام أحمد (ظفر المرأة عورة فإذا خرجت فلا يبين منها شيء ولا خفها فإن الخف يصف القدم وأحب إلي أن تجعل لكمها زرا عند يدها لا يبين منها شيء)
(1)
.
(1)
انظر الفروع 5/ 110.
* الثاني عشر: أن جميع ما استشهد به الشيخ الألباني من الأحاديث والآثار؛ ليس فيها حجة على جواز كشف الوجه للنساء الحرائر؛ وذلك إما لضعف تلك الآثار أو لكونها قبل نزول الحجاب، أو لكون النساء الكاشفات من الإماء اللاتي لم يفرض عليهن الحجاب؛
- كالجارية الخثعمية؛ كما أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي " واستفتته جارية شابة من خثعم " وفي الاستذكار لابن عبد البر " فاستقبلته جارية من خثعم ".
- وسفعاء الخدين: "فقامت امرأة من سفلة النساء سفعاء الخدين"(أي فيهما تغير وسواد) وعند النسائي " فقامت امرأة ليست من علية النساء ".
- وفاطمة بنت قيس: " أخبرني أبو بكر بن أبي الجهم قال دخلت أنا وأبو سلمة على فاطمة بنت قيس في ملك آل الزبير فسألناها عن المطلقة ثلاثا".
- وسبيعة الأسلمية: "قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ولد؛ سبيعة الأسلمية أن تنكح إذا وضعت".
- والمرأة التي لأبي ذر "وعنده امرأة له سوداء شعثة ".
- وأم يعقوب الأسدية: "فانطلقت مع عجوز من بني أسد" من الحبشة.
- وسمراء بنت نهيك: " سمراء بنت نهيك الأسدية أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمّرت".
- وأم زفر: قال ابن حجر "هي أم زفر الحبشية السوداء".
كما استشهد الشيخ الألباني بمن كن يشاركن في الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لمداواة الجرحى وصنع الطعام من الإماء العجائز؛
كالرُّبيِّع بنت معوذ قالت: " كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم".
وأم عطية قالت" غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى".
وأم سليم " كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فسيقين الماء ويداوين الجرحى".
* الثالث عشر: أخرج أبو داود عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت عليها وعندها النبي صلى الله عليه وسلم في ثياب شامية رقاق فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض ببصره قال: (ما هذا يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى كفه ووجهه).
(1)
والذي تحقق أن هذا الحديث وإن صح فإنه ليس فيه حجة على جواز كشف وجه المرأة الحرة للرجال الأحرار الأجانب الذين يجب عليها الاحتجاب منهم؛ لأن المراد به بيان حدود ما يحل للمرأة إظهاره لمن يحل لهم الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب من محارم، وعبيد مملوكين ونحوهم.
(1)
أبو داود (4104) وقال: هذا مرسل خالد بن دريك لم يدرك عائشة.
* الرابع عشر: أن هذا الحديث يصلح أن يكون مبيناً لقوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فالمنهي في الآية هو المنهي في الحديث، فالذي ينبغي أن تُحمل عليه هذه الآية هو ما يجوز للمرأة إظهاره لمن يحل لهم الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب ممّن لم يستثن في الآية؛ فإن هناك فئات من الناس يحل لهم الدخول على المرأة ورؤيتها دون حجاب لم يستثنوا في الآية وهم: العم والخال، والمحرم بالمصاهرة (زوج البنت، وزوج الأم، وابن الزوج، وأبو الزوج)
(1)
والمحرم بالرضاع، والعبيد المملوكون للغير، والعبد المملوك إذا كان من أولي الإربة، والصبية المميزون الذين لم يبلغوا الحلم، والنساء غير المسلمات؛ فهؤلاء هم المعنيون بنهي المرأة الحرة عن إبداء زينتها لهم {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وليس الرجال الأحرار الأجانب الذين يجب عليها الاحتجاب منهم، يشهد لذلك ظاهر القرآن وما صح عن ابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة والتابعين في تأويلها، وما حملها عليه أئمة التفسير، وجرى عليه العمل.
قال أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 463): فما نسب إلى ابن عباس بأن المراد من قوله تعالى (إلا ما ظهر منها) الوجه والكفان، ليس مطلقاً وإنما هو مقيد في بيتها لمن دخل من الناس عليها. ومما يؤكد هذا؛ تفسيره لقوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
(1)
كما سيأتي لاحقا أنهم ليسوا المعنيين بقوله (أو آباء بعولتهن. .. أو أبناء بعولتهن)
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الأحزاب: 59
فقد أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس قال: " أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة" فقد صح مثله عن عبيدة السلماني
…
ومع الأسف الشديد أن مسألة جواز كشف الوجه واليدين ينسبه العلماء لابن عباس على إطلاقه، فليحرر.
* الخامس عشر: الثابت في السنة أن الأكسية التي سارعت إلى لبسها النساء عند الخروج امتثالا لآية إدناء الجلابيب هي الأكسية السود؛ كما صح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت" لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها" وعن عائشة رضي الله عنها قالت (رحم الله نساء الأنصار لما نزلت شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما على رؤوسهن الغربان) فلا صحة لجواز التجلبب بغير اللون الأسود.
* السادس عشر: القول بأن (عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل) قول غير صحيح، إذ لم يدل عليه حديث صحيح ولا ضعيف! بل دلت نصوص الكتاب والسنة على خلاف ذلك؛ قال الشيخ الألباني: هذا القول لا أصل له في الكتاب والسنة بل هو خلاف قوله تعالى في آية النور {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} إلى قوله {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فإن المراد مواضع الزينة،
وهي: القرط والدملج والخلخال والقلادة، وهذا باتفاق علماء التفسير وهو المروي عن ابن مسعود. فهذا النص القرآني صريح في أن المرأة لا يجوز لها أن تبدي أمام المسلمة أكثر من هذه المواضع.
* وختامها: فإن ديننا دين السماحة والوسطية؛ فلم يمنع المرأة من كشف ما تحتاج إليه من عينيها لرؤية الطريق، ولم يأذن لها بكشف الوجه بأكمله لأنه مظنة الفتنة، وليس في تغطيته مشقة ولا تفويت مصالح لها، وليس فيه عائق دون القيام بواجباتها.
هذا مجمل ما ستجده في مناقشة البحوث التي احتج بها الشيخ الألباني على رأيه في مسألة الحجاب، والتي تبين منها أن الشيخ الألباني قال قولا شذ فيه، وجانب الحق والصواب، وخالف الأدلة والبراهين، وخالف جماهير العلماء، ومع ذلك فإننا نقول بأن الشيخ معذور بل إن شاء الله مأجور؛
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (6/ 93): إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا، قد تكون منه الهفوة والزلة؛ هو فيها معذور بل مأجور، لا يجوز أن يتّبع فيها، مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين.
وكما قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 74): فالله تبارك وتعالى من رحمته بالعباد قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير، ونبههم على سلوك طرقها، وبينها لهم أتم تبيين، حتى
إن في جملة ذلك أنه يقيض للحق المعاندين له؛ فيجادلون فيه فيتضح بذلك الحق وتظهر آياته وأعلامه، ويتضح بطلان الباطل وأنه لا حقيقة له، ولولا قيامه في مقابلة الحق لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق وبضدها تتبين الأشياء. اهـ
فقد كان من حسنات ما كتبه الشيخ الألباني في مسألة الحجاب أنه أيقض همة النائمين وأشعل الحماس للبحث في كتب العلم من تفاسير وفقه وغيرها، فكان دافعا للغوص في بحور من العلم لم نكن من قبل ننهل من سواحلها لنجد لآلئ من العلم دفينة، فقد ظن الناس أن الغوص قد انتهى زمانه واكتفى كل جيل بصيد من قبله، حتى ظُن أن العلم لدينا بلغ الذرى ومن المحال أن يترك من مضى صيدا لمن أتى، فرحمك الله يا شيخ؛ ركبنا بحر مذهبنا لنبحث عن الحق فوجدنا بحور المذاهب الأربعة كلها قد تطلعت لآلئها للباحثين عن الحق الذي لم يقصر الأئمة الأُول في بيانه، ولكنه جمود كل جيل على جهد من قبله حتى اندثرت بعض الحقائق بل وقُلب بعضها؛ إذ إن كل جيل لا ينقل ما يجده عن سابقه برمَّته؛ ولكنه يشرح ويفصِّل حسب فهمه لقول شيخه متأثرا بمتغيرات عصره، فمنهم من يصيب ومنهم من يخطئ، ثم يتناقل ذلك من بعدهم على أنه مُراد المصنف الأول وقول صاحب المذهب، والحقيقة أنه قد يكون خلافه، ولو أن المرجع في مثل هذه المسائل الخلافية هو كتاب الله وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم وعرض ما في هذه المصنفات عليهما واطراح ما خالفهما؛ لما اندثر الحق، ولما ظهر الجهل ببعض المسائل حتى ساد بين الناس خلاف ما أراد الله وعُمل به على أنه مراد الله وشرعه.
كما قال شيخ الإسلام ((والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله)).
فأسأل الله جل في علاه أن أكون قد وُفقت لهذا في كتابي ووافقت فيه الصواب، فجهدي جهد بشر مقصر، تجاسر وتعرض لما لا يطيق، وتطفل على مائدة الأفاضل، فلست أرى لنفسي منزلة تعد من منازلهم، ولا لذاتي منهل مورد يكون بين مناهلهم؛ وإني بالتقصير لمعترفة، ومن بحر الخطايا لمغترفة، ولكن {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الأعراف:164.
فإن تجدْ عيباً فسُدَّ الخلَلَا
…
جَلَّ مَنْ لا عيبَ فيهِ وعلا
وقد خصصت فيه اللون البنفسجي لما نقلته عن الشيخ الألباني من كتابيه "الرد المفحم" و "جلباب المرأة المسلمة"، واللون الأحمر للعناوين والنقاط المهمة، واللون الأخضر لموضع الشاهد من المنقولات التي خصصتها باللون الأسود، واللون الأزرق لتعليقاتي، وإذا توسطت تعليقاتي المنقولات جعلتها بين شرطتين - - وإن تلتها أشرت إلى انتهاء المنقول بـ (اهـ) وذلك حرصا على سهولة وسلامة فهم القارئ.
وفي تخريج الأحاديث اقتصرت على ذكر الصفحة ورقم الحديث دون ذكر الكتب والأبواب خشية الإطالة، كما أنني لم أضع فهرساً للمراجع اكتفاءً بالهوامش، فأذكر محقق الكتاب -إن وجد- وطبعته والناشر في أول موضع يرد فيه، هذا فيما رجعت فيه إلى الكتاب مباشرة، وما عدا ذلك فمرجعه البرامج التالية:
(1)
برنامج: مكتبة التفسير وعلوم القرآن، والمكتبة الألفية للسنة النبوية، ومكتبة الفقه وأصوله، الإصدار الرابع، مركز التراث للبرمجيات.
(2)
برنامج الجامع الكبير، الإصدار الخامس، مركز التراث للبرمجيات.
(3)
برنامج مكتبة الألباني، الإصدار الثاني.
(4)
برنامج المكتبة الشاملة، المكتب التعاوني بالروضة.
أسأل الله بمنّه وكرمه أن ينفع بكتابي هذا عامة المسلمين من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
…
كتبته الفقيرة إلى عفو ربها
أمل بنت محمد 1/ 3/ 1442 هـ