الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ــ::
مناقشة البحث العاشر::
ــ
(1)
يتبين أن الإمام السرخسي ممن يقول بالفرق بين الحرائر والإماء في الحجاب: فقال في كتابه المبسوط في الصفحة السابقة للصفحة للتي أشار إليها الشيخ الألباني (10/ 151): وأما النظر إلى إماء الغير والمدبرات وأمهات الأولاد والمكاتبات فهو كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الآية فأمر الله تعالى الحرائر باتخاذ الجلباب ليعرفن به من الإماء.
(2)
ننقل قول الإمام السرخسي بتمامه؛
قال الإمام السرخسي في المبسوط (10/ 152): (ولكنا نأخذ بقول علي وبن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد جاءت الأخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها وكفها
…
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يباح النظر إلى قدمها أيضا وهكذا ذكر الطحاوي لأنها كما تبتلى بإبداء وجهها في المعاملة مع الرجال وبإبداء كفها في الأخذ والإعطاء تبتلى بإبداء قدميها إذا مشت حافية أو منتعلة وربما لا تجد الخف في كل وقت، وذكر في جامع البرامكة عن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعيها أيضا لأنها في الخبز وغسل الثياب تبتلى بإبداء ذراعيها أيضا). اهـ
فقد ذكر الشيخ الألباني اجتهاد السرخسي في إباحته للنظر إلى الوجه والكفين؛ ولم يذكر اجتهاده في إباحته للنظر إلى القدمين والذراعين!!
وهذا يكشف أن مراد الإمام السرخسي هو ما يباح إبداؤه لمن يحل له الدخول على المرأة
والنظر إليها دون حجاب من العبيد والأتباع، وليس مراده جواز ذلك لمن يجب عليها الاحتجاب منهم من الرجال الأحرار الأجانب، ومما يبعد أن يكون مراده فيما سبق إطلاق جواز النظر إلى الوجه والكفين من المرأة الحرة للرجال الأحرار الأجانب:
قول السرخسي في المبسوط (2/ 41): (قال) -الإمام أبو حنيفة - (وليس على النساء خروج في العيدين وقد كان يرخص لهن في ذلك فأما اليوم فإني أكره ذلك) يعني للشواب منهن فقد أمرن بالقرار في البيوت ونهين عن الخروج لما فيه من الفتنة، فأما العجائز فيرخص لهن في الخروج إلى الجماعة لصلاة المغرب والعشاء والفجر والعيدين، ولا يرخص لهن في الخروج لصلاة الظهر والعصر والجُمَع في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرخص للعجائز في حضور الصلوات كلها وفي الكسوف والاستسقاء لأنه ليس في خروج العجائز فتنة والناس قل ما يرغبون فيهن وقد كن يخرجن إلى الجهاد مع رسول الله يداوين المرضى ويسقين الماء ويطبخن. وأبو حنيفة قال في صلوات الليل: تخرج العجوز مستترة وظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليها بخلاف صلوات النهار.
(3)
أما ما ذكره الشيخ الألباني من" استمرار القول بجواز النظر إلى وجه المرأة وكفيها إذا أمن الناظر الفتنة" فهذا كما بيّنا أن المراد به جواز النظر حال جواز الكشف أي؛ النظر إلى الوجه والكفين من الإماء اللاتي لم يفرض عليهن الحجاب، ونظر العبيد والأتباع للوجه والكفين من النساء الحرائر اللاتي لم
يفرض عليهن الاحتجاب منهم، كما بيّنا أن من أئمة الفقهاء من لم يدع جواز النظر هنا على إطلاقه بل منع من النظر لغير حاجة ولو أمن الفتنة:
* فمن المذهب الحنبلي:
المغني (ت 620 هـ)(7/ 78): فأما نظر الرجل إلى الأجنبية من غير سبب فإنه محرم إلى جميعها في ظاهر كلام أحمد.
الإنصاف للمرداوي (ت 885 هـ)(8/ 27 - 29): فلا يجوز له النظر إلى الأجنبية قصدا وهو صحيح وهو المذهب
…
واختاره الشيخ تقي الدين فقال أصح الوجهين لا يجوز كما أن الراجح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز.
كشاف القناع (5/ 14): ولا يجوز النظر إلى شيء من الحرة الأجنبية قصدا.
* ومن المذهب الشافعي:
المهذب (ت 476 هـ)(2/ 34): وأما من غير حاجة فلا يجوز للأجنبي أن ينظر إلى الأجنبية.
متن أبي شجاع (ت 500 هـ)(1/ 158): ونظر الرجل إلى المرأة على سبعة أضرب أحدها نظره إلى أجنبية لغير حاجة فغير جائز.
الوسيط للغزالي (ت 505 هـ)(5/ 32): وإن كانت أجنبية حرم النظر إليها مطلقا ومنهم من جوز النظر إلى الوجه حيث تؤمن الفتنة وهذا يؤدي إلى التسوية بين النساء والمرد وهو بعيد.
شرح صحيح مسلم للنووي (ت 676 هـ)(4/ 31): وأما نظر الرجل إلى المرأة فحرام في كل شيء من بدنها.
فتح المعين للمليباري (ت 987 هـ)(3/ 258): يحرم على الرجل ولو شيخا هرما تعمد نظر شيء من بدن أجنبية حرة أو أمة بلغت حدا تشتهى فيه ولو شوهاء أو عجوزا وعكسه وإن نظر بغير شهوة أو مع أمن الفتنة على المعتمد.
* ومن المذهب المالكي:
الذخيرة لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت 684 هـ)(13/ 315):
ويجوز النظر للمتجالة لقوله تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} ولا يجوز له أن ينظر للشابة إلا لعذر من شهادة أو علاج أو إرادة تزوجها.
القوانين الفقهية لابن جزي (ت 741 هـ)(1/ 294): الفصل الأول في حكم النظر وهو أربعة أقسام؛ الأول: نظر الرجل للمرأة فإن كانت زوجته أو مملوكته جاز له أن ينظر إلى جميع جسدها، وإن كانت ذات محرم جاز له رؤية وجهها ويديها دون سائر جسدها على الأصح، وإن كانت أجنبية جاز أن يرى الرجل من
المتجالة الوجه والكفين ولا يجوز أن يرى ذلك من الشابة إلا لعذر من شهادة أو معالجة أو خطبة.
مواهب الجليل (ت 954 هـ)(3/ 405): قال في التوضيح يجوز النظر للشابة الأجنبية الحرة في ثلاثة مواضع للشاهد وللطبيب ونحوه، وللخاطب وروي عن مالك عدم جوازه للخاطب ولا يجوز لتعلم علم ولا غيره انتهى.
(4)
أما قول الشيخ الألباني (هل يجب على النساء أن يسترن وجوههن لفساد الزمان وسداً للذريعة؟) فإن من قال بذلك من الفقهاء الأعلام على اختلاف مذاهبهم وجلالة قدرهم؛ فمرادهم ستر ذلك حال جواز الكشف والنظر؛ أي ستر الإماء لوجوههن، وستر وجوه الحرائر عمن يحل له النظر إليهن من العبيد المملوكين ونحوهم خشية الفتنة وسداً للذريعة؛ أما ستر وجه المرأة الحرة عمن يجب عليها الاحتجاب منهم من الرجال الأحرار الأجانب عنها؛ فهو واجب وفرض افترضه الله عليها بقوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} وليس الذي أوجبه عليها فساد الزمان وسد الذريعة.
* فقهاء المذهب الحنبلي
- المرداوي في الإنصاف (ت 885 هـ)(8/ 26): قلت الصواب أن - الأمة- الجميلة تنتقب وأنه يحرم النظر إليها كما يحرم النظر إلى الحرة الأجنبية. اهـ
* فقهاء المذهب الشافعي
- غاية البيان للرملي (ت 1004 هـ)(1/ 247): وقضية كلام الناظم حرمة نظر الرجل الفحل - من العبيد - إلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها ند أمن الفتنة وهو كذلك كما في المنهاج، لاتفاق المسلمين على منع النساء - الإماء اللاتي لم يفرض عليهن الحجاب - من الخروج سافرات الوجوه.
- حاشية قليوبي على شرح منهاج الطالبين (ت 1069 هـ)(3/ 209): قوله (لأن النظر إلخ) فيحرم عليهن الخروج سافرات الوجوه لأنه سبب للحرام.
* فقهاء المذهب الحنفي
- البحر الرائق لابن نجيم (ت 970 هـ)(2/ 381) والدر المختار (1/ 405): تمنع المرأة الشابة من كشف وجهها بين الرجال في زماننا للفتنة. وفي فتاوي قاضيخان: ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة.
- مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لعبد الرحمن الكليبولي المدعو شيخي زادة (ت 1078 هـ)(1/ 122): وفي المنتقى تمنع الشابة عن كشف وجهها لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب بل فرض لغلبة الفساد.
* فقهاء المذهب المالكي
- مواهب الجليل للخطاب (ت 954 هـ)(1/ 499): واعلم أنه إن خشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين قاله القاضي عبد الوهاب ونقله عنه الشيخ أحمد زروق في شرح الرسالة وهو ظاهر التوضيح فهذا ما يجب عليها.
- الفواكه الدواني للنفراوي (ت 1125 هـ)(2/ 277): اعلم أن المرأة إذا كان يخشى من رؤيتها الفتنة وجب عليها ستر جميع جسدها حتى وجهها وكفيها. . . وأقول الذي يقتضيه الشرع وجوب سترها وجهها في هذا الزمان.
(5)
أما قوله (ومن فرَّق، فقد تناقض وتعصّب للرجال على النساء، إذ إنهم مشتركون جميعاً في وجوب غضِّ النظر، فمن زاد على الآخر حكماً جديداً بغير برهان من الله ورسوله، فقد تعدَّى وظلم) فيقال أن حجاب المرأة مشروع بأمر الله الحكيم في تشريعه؛ فإن الله حين أودع الفتنة في النساء وأودع الميل لهن في الرجال خصّهن من دون الرجال بأمور؛ كأمرهن بالقرار في البيوت، وأمرهن بعدم الخضوع في القول، وكان مما خصّهن به الحجاب. وقد فرق الشرع الحكيم بين الرجال والنساء في أمور كثيرة، والتفريق بين الرجال والنساء؛ بمنع النظر للنساء بأمرهن بتغطية وجوههن بالحجاب دون الرجال؛ أمر متقدم متقرر عند أهل العلم على اختلاف مذاهبهم، بل إن القول بمساواة الرجل بالمرأة في أحكام النظر هو الذي لم يقل به أحد من علماء الإسلام، وإليك بعض أقوالهم في إثبات الفرق بينهما:
قال الحافظ ابن حجر (ت 852 هـ) في فتح الباري (9/ 337) والعيني في عمدة القاري (20/ 217): استمرار العمل على جواز خروج النساء؛ إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال. ولم يؤمر الرجال قط بالانتقاب لئلا يراهم النساء؛ فدل على تغاير الحكم بين الطائفتين.
* ومن فقهاء المذهب الحنفي:
ـ بدر الدين العينى (ت 855 هـ) في البناية شرح الهداية (12/ 134) وابن عابدين في حاشية رد المختار (1/ 407): قال في الملتقط الغلام إذا بلغ مبلغ الرجال ولم يكن صبيحا فحكمه حكم الرجال وإن كان صبيحا فحكمه حكم النساء وهو عورة من قرنه إلى قدمه، لا يحل النظر إليه عن شهوة، وأما الخلوة والنظر إليه لا عن شهوة فلا بأس به ولهذا لم يؤمر بالنقاب.
* ومن فقهاء المذهب الحنبلي:
- إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن مفلح أبو إسحاق (ت 884 هـ) في المبدع في شرح المقنع (7/ 11): ويباح للمرأة النظر من الرجل إلى غير العورة
…
ولأنه لو منعن النظر لوجب على الرجال الحجاب لئلا ينظرن إليهم كما تؤمر النساء به.
* ومن فقهاء المذهب الشافعي:
- قال أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505 هـ) في الوسيط في المذهب (5/ 36): نظر المرأة إلى الرجل
…
الأصح أنها تنظر إلى ما وراء العورة وتحترز عند
خوف الفتنة كما يحترز الرجل من النظر إلى الأمرد إذ لو استوى النظران لأمر الرجال أيضا بالتنقّب كما أمر النساء.
* ومن فقهاء المذهب المالكي:
- الإمام أبو الوليد ابن رشد (ت 595 هـ) في بداية المجتهد (1/ 183): وسبب الفرق أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن، ولم يحجب الرجال عن النساء.
فهل ينطبق قوله غفر الله له (فمن زاد على الآخر حكماً جديداً بغير برهان من الله ورسوله، فقد تعدَّى وظلم) على هؤلاء الأعلام!
ــ:: الخاتمة للشيخ الألباني:: ــ
قال الشيخ الألباني: هذا، ولا بد لي في هذه الخاتمة من لفت النظر إلى أن التشدد في الدين شر لا خير فيه. قال صلى الله عليه وسلم: " إن الدين يسير، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا
…
" رواه البخاري. فلا بدَّ أن القراء الكرام لاحظوا هذا التشدد مجسماً فيما حكينا من أقوالهم وآرائهم منها قولهم: " حتى ظفرها"، وفي الصلاة أيضاً! وما تكلفوا به من رد الأدلة القاطعة بجريان العمل بكشف الوجه في القرون المشهود لها بالخيرية، وشهادة فضلاء الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين بجواز ذلك
…
وإني لأعتقد أن مثل هذا التشديد على المرأة لا يمكن أن يخرج لنا جيلاً من النساء يستطعن أن يقمن بالواجبات الملقاة على عاتقهن في كل البلاد والأحوال مع أزواجهن وغيرهم، ممن تحوجهم الظروف أن يتعاملن معهم، كما كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كالقيام على خدمة الضيوف، وإطعامهم، والخروج في الغزو، يسقين العطشى، ويداوين الجرحى، وينقلن القتلى، وربما باشرن القتال بأنفسهن عند الضرورة، فهل يمكن للنسوة أن يباشرن مثل هذه الأعمال وهن منقبات ومتقفزات؟ لا وربي، فإن ذلك مما لا يمكن إلا بالكشف عن (إلا ما ظهر منها) كما سنرى في بعض الأمثلة الشاهدة لما كان عليه النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
…
وعلى هذا المنهج النبوي الكريم يجب على المشايخ والدعاة أن يقوموا بتربية الناس رجالاً ونساءً، ولن يستطيعوا ذلك إلا إذا تعرفوا على السنة، والسيرة النبوية الصحيحة التي تشمل: قوله صلى الله عليه وسلم، وفعله، وتقريره، وما كان عليه سلفنا الصالح مما صح عنهم، فإن فقه العالم لا يستقيم إلا بهذا كله، مستعيناً
على ذلك بأقوال الأئمة المجتهدين والعلماء المحققين وإلا حاد عن الحق وسبيل المؤمنين، والله در شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين نبَّه على هذا بقوله:
" والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة ثبوت لفظه ودلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله".
واعتقادي أن العلماء لو التزموا هذا المنهج، لزال كثير من الخلاف القائم بينهم، بشرط أن يُخلصوا لله تبارك وتعالى في طلب الحق، والله المستعان.
ــ:: مناقشة الخاتمة:: ــ
(1)
بعدما تبين خطأ الشيخ الألباني فيما ذهب إليه من جواز كشف وجه المرأة الحرة وكفيها للرجال الأحرار الأجانب، وثبت أن تغطية الوجه فرض افترضه الله عليها؛ تبين الخطأ في تسمية ذلك غلوا وتشددا!!
فإن التشدد المنهي عنه هو أن يجهد العبد نفسه في الطاعات حتى يعجز وينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة
(1)
، فكيف إذا كان العمل بما هو فرض وواجب؟! بل إن الشيخ الألباني مع قوله بجواز الكشف؛ قال بأن تغطية الوجه هي الأفضل كقوله في الرد المفحم (ص: 109): (قد قررنا مرارا أن تغطية المرأة وجهها هو الأفضل) فكيف يوصف التمسك بالأفضل بأنه غلو وتشدد!!
أما قوله: (لاحظوا هذا التشدد مجسماً فيما حكينا من أقوالهم وآرائهم منها قولهم: " حتى ظفرها") منكرا هذا القول لأنه حمله على عورة الصلاة! وسبق أن بيّنا أن المراد بهذا القول عورتها عند الخروج أمام الرجال الأجانب وهذا ما صرّح به الإمام أحمد، كما أن هذا القول ليس وليد هذا العصر بل إن له أصل ثابت وهو ما صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان"
(2)
وهو قول أحد كبار التابعين وفقهائهم وهو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهو أحد الفقهاء السبعة الذين انتهى إليهم
(1)
كما قال ابن حجر في الفتح 1/ 94.
(2)
الترمذي (1173) الطبراني في المعجم الأوسط 8/ 101 (8096) وصححه الألباني في إرواء الغليل 1/ 303.
العلم في المدينة حيث قال فيما صح عنه: " كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها"
(1)
. كما قال به الإمام أحمد بن حنبل " ظفر المرأة عورة فإذا خرجت فلا يبين منها شيء ولا خفها فإن الخف يصف القدم وأحب إلي أن تجعل لكمها زرا عند يدها لا يبين منها شيء) وقد اعتمد عليه فقهاء المذهب،
(2)
أما قوله: (الأدلة القاطعة بجريان العمل بكشف الوجه في القرون المشهود لها بالخيرية، وشهادة فضلاء الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين بجواز ذلك)
فقد بيّنا أن ما جرى من كشف من النساء بعد نزول الحجاب كان بسبب كونهن من الإماء المملوكات اللاتي لم يفرض عليهن الحجاب، أوكشف النساء الحرائر للعبيد المملوكين الذين لم يفرض عليهن الشرع الاحتجاب منهم، إذ لم يرد في حديث صحيح ولا ضعيف أن امرأة من النساء الحرائر كشفت وجهها للرجال الأحرار الأجانب منذ أن نزل الحجاب، بل إن الذي جرى عليه العمل وظاهر القرآن والسنة والإجماع يدل على وجوب تغطية وجه المرأة الحرة لوجهها من الرجال الأحرار الأجانب.
(3)
أما قوله إن الحجاب فيه تعسير ومشقة، وأنه عائق دون قيام المرأة بواجباتها!! فيقال أليس من أمر المرأة بالقيام بواجباتها هو من أمرها بالحجاب؟! وجعل دائرة واجباتها تنحصر في بيتها؛ من رعاية شؤون بيتها وتربية أبنائها والقيام بحق زوجها (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها) وهذا كله لم يكن
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (17712).
الحجاب حائلا دون شيء منه، بل إن من فرض عليها الحجاب أمرها بالقرار في بيتها {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فأعفاها من الجمع والجماعات وأوجب نفقتها على وليّها قطعا لأسباب الخروج.
قال القرطبي في تفسيره (14/ 179): والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة.
ومنذ أن فرض الله الحجاب؛ والمرأة المتحجبة تقوم بدورها في بيتها وأسرتها بل ومجتمعها أحسن القيام، فلم تتعطل حركة السير ولم تتوقف دفة القيادة! بل إن الحياة الأسرية أفضل ما تكون في الأسر المحافظة، بخلاف الأسر التي سارعت نساؤها إلى هتك الحجاب وأهملن بيوتهن وخرجن يطالبن مساواتهن بالرجال!!!
وأما قوله بأن غطاء الوجه عائق دون القيام بما قد تضطر إليه المرأة من خدمة الضيوف وإطعامهم
…
فإن الذي يحول دون المرأة وخدمة الرجال والاختلاط بهم ليس غطاء الوجه، وإنما الوقوف عند قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ثم هل غاية التيسير على المرأة والسماحة والرفق بها؛ أن تكشف وجهها لتعمل خادمة للضيفان وتزاول الشاق من الأعمال؟!! فليست القضية قضية هل تستطيع المرأة مباشرة تلك الأعمال وهي منتقبة! فقد رأينا في
زماننا هذا البارعات في الطب وهن من المنتقبات، بل إن أدق الأعمال
وأصعبها لا يزاولها الرجال إلا باللثام
(1)
، ولكن القضية هل من الضرورة خروج المرأة واختلاطها بالرجال لمزاولة تلك الأعمال؟!!
(4)
استشهد ببعض الأمثلة كشاهد لما كان عليه النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن استشهاده ليس فيه حجة على جواز الكشف للنساء الحرائر؛ وذلك لكون النساء الكاشفات من الإماء اللاتي لم يفرض عليهن الحجاب، أو لكون ما استشهد به كان قبل نزول الحجاب، ولذلك لم يستشهد بهذه الأمثلة ضمن أدلته التي استشهد بها مسبقا!!
وإليك هذه الأمثلة والجواب عليها:
1 -
أعاد الاستشهاد بحديث فاطمة بنت قيس والذي بيّنا أنه ليس فيه دلالة لأنها كانت من الإماء، ولذلك لم يستشهد به أحد من أهل العلم على جواز الكشف مع ما فيه من نكارة في متنه وإسناده مما يبطل الاحتجاج به أصلا.
2 -
عن سهل بن سعد قال: "لما عرَّس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاماً ولا قدمه إليهم إلا امرأته أم أسيد
…
فكانت امرأته يومئذ خادمهم، وهي العروس" رواه البخاري ومسلم
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (13/ 177): هذا محمول على أنه كان قبل الحجاب.
(1)
كالخوذة في القتال، والكمامات للأطباء، والمهندسين في المصانع.
3 -
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "تزوجني الزبير وما له غير الأرض من مال ولا شيء غير فرسه
…
فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني، ثم قال:"إخ إخ". ليحميني خلفه، قالت: فاستحييت". أخرجه البخاري ومسلم
وهذا مع أن ليس فيه أنها كانت كاشفة إلا أنه محمول على ما كان قبل الحجاب ولذلك لم يستشهد به أحد من أهل العلم على جواز النظر أو الكشف.
قال ابن حجر في فتح الباري (9/ 324): والذي يظهر أن القصة كانت قبل نزول الحجاب ومشروعيته
…
ولم تزل عادة النساء قديما وحديثا يسترن وجوههن عن الأجانب.
4 -
عن جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى امرأة من الأنصار، فبسطت له عند صور ورشت حوله وذبحت شاة، وصنعت له طعاماً فأكل وأكلنا معه".
وهذا أيضا مع أنه ليس فيه دلالة على أنها كانت كاشفة على مرأى منهم؛ إلا أنه محمول على ما قبل الحجاب، أو أنها كانت من الجواري المملوكات، ولذلك لم يستشهد به أحد من أهل العلم على جواز النظر أو الكشف.
5 -
عن أنس قال: " لما كان يوم أحد
…
رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سُليم، وإنهما لمشمِّرتان أرى خدم سوقهما (يعني: الخلاخيل) تنفران (أي: تحملان) القِرَب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم
…
أخرجه الشيخان.
قال ابن حجر في فتح الباري (6/ 78): وهذه كانت قبل الحجاب.
فقد جاء التصريح فيه بأن هذا كان في غزوة أحد التي كانت قبل الحجاب!!
6 -
عن الرُّبيِّع بنت معوذ قالت: " كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونردُّ الجرحى والقتلى إلى المدينة". أخرجه البخاري
7 -
عن أم عطية قالت: " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى" أخرجه مسلم وللبخاري نحوه.
مع أنه ليس في هذين الأثرين حجة على جواز الكشف إذ إن هذا يمكن القيام به مع تغطية الوجه بالبرقع واللثام؛ إلا أن اللاتي كن يشاركن معهم في الغزو للقيام على خدمتهم؛ العجائز والمتجالات من الإماء، وأم عطيّة، والربيّع بنت معوّذ؛ كنَّ من الإماء، كما سبق أن بيّناه.
قال الإمام السرخسي في المبسوط (2/ 41): وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يرخص للعجائز في حضور الصلوات كلها لأنه ليس في خروج العجائز فتنة والناس قل ما يرغبون فيهن، وقد كن يخرجن إلى الجهاد مع رسول الله يداوين المرضى ويسقين الماء ويطبخن.
8 -
عن أنس: " أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها، فرآها أبو طلحة. فقال: يا رسول الله! هذه أم سليم معها خنجر! فقال لها رسول الله: " ما هذا الخنجر؟ " قالت: اتخذته إن دنا أحد من المشركين بقرت به بطنه" أخرجه
مسلم، وفي رواية:" كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فسيقين الماء ويداوين الجرحى" صححه الترمذي.
في هذا شاهد لمنع اختلاط الرجال بالنساء، وأن لكل جنس وظائف تختص به، فكانت وظيفة النساء في الغزو إعداد الطعام، ومداواة الجرحى، وقد روى المروزي في السنة 1/ 48 (151): أن الربيّع قالت كنا نغزو ولا نقاتل ولكنا نسقي القوم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة.
وقال ابن حجر في فتح الباري (6/ 78): ولم أر في شيء من ذلك التصريح بأنهن قاتلن. اهـ
أما اتخاذ أم سليم يوم حنين خنجراً، فإن إخبار أبي طلحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك دال على أن حمل السلاح غير مستساغ للنساء، ولذلك بررت فعلها بأنها لم تتخذه للمشاركة في القتال مع الرجال، فإن إظهار القوة الجلادة من المرأة أمر غير مطلوب، وانظر إلى رأي السرخسي الحنفي الإمام المجتهد الذي احتج الشيخ الألباني بقوله آنفا؛ ماذا يقول في حج المرأة الذي قيل إنه جهادها:
قال الإمام السرخسي في المبسوط (4/ 33): ولا رمل عليها في الطواف بالبيت ولا بين الصفا والمروة لأن الرمل لإظهار التجلد والقوة والمرأة ليست من أهل القتال لتظهر الجلادة من نفسها ولا يؤمن أن يبدو شيء من عورتها في رملها وسعيها أو تسقط لضعف بنيتها فلهذا تمنع من ذلك وتؤمر بأن تمشي مشيا
…
وكذلك لا تستلم الحجر إذا كان هناك جمع لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال
والزحمة معهم فلا تستلم الحجر إلا إذا وجدت ذلك الموضع خاليا عن الرجال والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ
أما ما استشهد به الشيخ الألباني على جريان الأمر على هذا المنوال بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فكلها آثار لا تصح ولا تقوم بها حجة.
الأول: عن مهاجر الأنصاري: " أن أسماء بنت يزيد الأنصارية شهدت اليرموك مع الناس، فقتلت سبعة من الروم بعمود فسطاط ظلتها".
وليس في هذا ما يحتج به على جواز الكشف! علاوة على ضعف إسناده لأن مدار هذا الأثر على مهاجر الأنصاري وهو مولى (مملوك) لأسماء بنت يزيد قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب (1/ 548): مقبول. وقال الشيخ الألباني عقب هذا الأثر إسناده حسن! وقد أنكر على من حسن إسناد حديث نبهان مولى أم سلمة!!
ثم إنه على فرض صحة إسناد هذا الأثر؛ فإن أسماء بنت يزيد لم تحمل سلاحا ولم تشارك الرجال في القتال، وإنما دافعت عن نفسها بعمود خيمتها، ولا يمكن أن يقول أحد أن من لوازم الحجاب أن تبقى المرأة مكتوفة الأيدي لا تدافع عن نفسها عندما يحصل لها مثل ذلك!
الثاني: عن خالد بن سيحان قال: شهدت تُستر مع أبي موسى ومعنا أربع نسوة يداوين الجرحى، فأسهم لهن" أخرجه ابن أبي شيبة بسند يحتمل التحسين.
وهذا أيضا ليس فيه حجة على كشف الوجه ولا على مشاركة النساء للرجال في القتال، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 538) عن العوام بن مزاحم، عن خالد بن سيحان، قال:(شهدت تستر مع أبي موسى أربع نسوة أو خمس، فكن يستقين الماء ويداوين الجرحى ، فأسهم لهن أبو موسى). وهذا إسناد لا يصح ولا تقوم به حجة؛ فيه مجاهيل؛ وهم خالد بن سيحان؛ ليس له رواية عند أصحاب السنن ولا المسانيد، والعوام بن مزاحم؛ ليس ممن عرف بحمل العلم، وعلى فرض ثبوته فليس فيه حجة على جواز الكشف لأنه كما ذكرنا قد يداوين المرضى وهن منتقبات، كما يمكن أن تكون هؤلاء النسوة من العجائز المتجالات من الإماء.
الثالث: عن عبدالله بن قرط الأزدي قال: " غزوت الروم مع خالد بن الوليد، فرأيت نساء خالد بن الوليد ونساء أصحابه مشمرات يحملن الماء للمهاجرين يرتجزن". أخرجه سعيد بإسناد صحيح، وله عنده طريق آخر ضعيف معضل.
وهذا أيضا ليس فيه حجة لأنه لم يذكر رؤيته لوجوههن وإنما رآهن يحملن الماء وهذا من وظيفتهن في الغزوات، علاوة على أن هؤلاء النسوة قد يكن من الإماء.
هذا على فرض صحة إسناده وإلا فإنه لا يصح لأنه مرسل فيه شريح بن عبيد الحضرمي وهو كما قال عنه ابن حجر في التقريب 1/ 265: كان يرسل كثيرا، وفي التهذيب 4/ 288: أنه لم يسمع من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك قال الشيخ الألباني عقبه أن له طريق آخر ضعيف معضل ولكن هل يصح تقوية المرسل بضعيف معضل؟!
وبذلك تبين أن الشيخ الألباني رحمه الله قال قولا شذ فيه وجانب الحق والصواب في هذه المسألة، وخالف الأدلة والبراهين، وخالف جماهير العلماء؛ فسقطت بذلك حجته وبطل ماقاله من إباحة كشف الوجه للمرأة الحرة، وإني أختم بما ختم به الشيخ الألباني وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية:
" والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة ثبوت لفظه ودلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله".