الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ــ::
مناقشة البحث الثالث::
ــ
أولاً: في الوقت الذي يبيح فيه الشيخ الألباني جواز كشف وجه المرأة؛ ينكر القول بجواز كشف إحدى العينين أو كلتيهما لرؤية الطريق ويعدَّ ذلك تساهُل من مخالفيه! ولا ينكر أحدا إنه وإن كانت العينان أجمل ما في الوجه؛ إلا أنه لا يمكن أن تعرف المرأة الشوهاء من الحسناء بمجرد الكشف عن إحدى العينين أو كلتيهما بخلاف ما لو خرجت المرأة سافرة عن وجهها بأكمله!! كما أن في إباحة كشف العينين للمرأة لرؤية الطريق إذا تعذر عليها رؤيته؛ تجلي لسماحة الدين وتيسيره على المرأة حين أباح لها ذلك للحاجة، فلا إفراط بمنعها من كشف ما يتيسر معه رؤيتها للطريق؛ ولا تفريط بإباحة سفورها عن وجهها بأكمله.
قال الألوسي في تفسيره روح المعاني (22/ 88) في تفسير آية الإدناء: والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل؛ ولذا عدي بعلى، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل. اهـ
كما إن الشيخ الألباني قد أقرَّ بمشروعية ذلك في كتابه جلباب المرأة المسلمة (ص: 152) حيث قال: (الجلابيب التي تسدل من فوق الرءوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان) وقال في موضع آخر منه (والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف نساء الصحابة، وكذا الوجه أو العينين على الأقل)!! اهـ
ثانيا: أن هذا القول ليس وليد هذا العصر؛ بل هو حكم شرعي مبني على "أصل ثابت" وهو ما أُثر عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير آية إدناء الجلابيب: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة).
(1)
وقول الشيخ الألباني في رده المفحم أنه من (الآثار الواهية) لعلّتين لم يذكرهما فيه وإنما أحال القارئ إلى كتابه (جلباب المرأة) لا يصح؛ فإن هاتين العلَّتين لا تقدح في صحة هذا الأثر، ولا تصل به إلى درجة القول بأنه من الآثار الواهية!!
قال الشيخ الألباني في الموضع المشار إليه من كتابه جلباب المرأة (هامش ص 88): (لا يصح هذا عن ابن عباس، لأن الطبري رواه من طريق علي عنه، وعلي هذا هو ابن أبي طلحة وهو مع أنه تكلم فيه بعض الأئمة، لم يسمع من ابن عباس، بل لم يره، وقد قيل: بينهما مجاهد، فإن صح هذا في هذا الأثر؛ فهو متصل، لكن في الطريق إليه أبو صالح، واسمه عبد الله بن صالح، فيه ضعف) اهـ
والجواب على هاتين العلّتين بالآتي:
العلّة الأولى؛ علة الانقطاع بين علي وابن عباس تندفع بما قيل بأن بين علي وابن عباس؛ مجاهد، وهذا ما صرح به الشيخ الألباني نفسه فقال (وقد قيل
بينهما مجاهد، فإن صح هذا في هذا الأثر فهو متصل)
(1)
صحح هذا الإسناد ابن حجر في فتح الباري (13/ 271)، والسيوطي في الإتقان (2/ 5)، وحسّنه حكمت بن بشير في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 464).
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 389): وحملنا على قبول رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإن كان لم يلقه لأنها في الحقيقة عنه عن مجاهد وعكرمة عن ابن عباس.
وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (4/ 110): "وعلي يقال لم يسمع من ابن عباس لكنه إنما أخذ التفسير عن ثقات أصحابه مجاهد وغيره وقد اعتمده البخاري وأبو حاتم وغيرهما في التفسير". وقال في الأمالي المطلقة (1/ 62): " قالوا لم يسمع علي بن أبي طلحة من ابن عباس وإنما أخذ التفسير عن مجاهد وسعيد بن جبير عنه. قلت بعد أن عرفت الواسطة وهي معروفة بالثقة حصل الوثوق به".اهـ.
فهذه شهادة باتصال تفسيره إلى ابن عباس.
أما قول الشيخ الألباني أن علي بن أبي طلحة " قد تكلم فيه" فهذه إشارة إلى أنه ليس بالضعيف الذي يرد حديثه؛ فقد روى عنه الثقات وخرج له مسلم، ووثقه العجلي وذكره ابن حبان في ثقاته، وعدّه الدارقطني في كتابه (ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم ممن صحت روايته عن الثقات عند البخاري ومسلم).
وقال الحافظ ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام (3/ 541): قال بعد أن ساق حديثا في إسناده علي بن أبي طلحة: وسائر من في هذا الإسناد لا يسأل عنهم. . . فإن علي بن أبي طلحة ثقة.
قال الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (5/ 163): روى معاوية بن صالح عنه عن ابن عباس تفسيرا كبيرا ممتعا.
قال الحافظ ابن حجر في الأمالي المطلقة (1/ 62): وقد اعتمد البخاري في أكثر ما يجزم به معلقا عن ابن عباس في التفسير على نسخة معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة هذا.
العلّة الثانية: وهي قوله عن عبد الله بن صالح "فيه ضعف" وهذه إشارة إلى أنه ليس بالضعيف الذي يرد حديثه، إذ أن حديثه لاينزل عن رتبة الحسن:
- قال عمر الوادياشي الأندلسي في تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج (2/ 253) منكرا على ابن حزم تضعيفه له فقال: وقد روى عنه ابن معين والبخاري وقال أبو زرعة حسن الحديث.
- قال الحافظ ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام (4/ 678): والحديث من أجله حسن، والرجل من أهل الصدق، ولم يثبت عليه ما يسقط له حديثه، لكنه مختلف فيه.
- وقال الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (4/ 122): " قلت وقد روى عنه البخاري في الصحيح، على الصحيح، ولكنه يدلسه، يقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه، وهو هو
…
وفي الجملة ما هو بدون نعيم بن حماد، ولا إسماعيل بن أبي أويس، ولا سويد بن سعيد، وحديثهم في الصحيحين ".
- وفي تهذيب التهذيب (5/ 226 - 228): قال أبو حاتم الرازي سمعت أبا الأسود النضر بن عبد الجبار وسعيد بن عفير يثنيان على كاتب الليث وقال أبو حاتم أيضا سمعت عبد الملك بن شعيب بن الليث يقول أبو صالح ثقة مأمون
…
وكان ابن معين يوثقه
…
وقال أبو حاتم ولم يكن وزن أبي صالح وزن الكذب كان رجلا صالحا وقال سألت أبا زرعة عنه فقال لم يكن عندي ممن يتعمد الكذب وكان حسن الحديث، وقال أبو هارون الخريبي ما رأيت أثبت من أبي صالح قال وسمعت يحيى بن معين يقول هما ثبتان ثبت حفظ وثبت كتاب وأبو صالح ثبت كتاب
…
وقال ابن القطان هو صدوق ولم يثبت عليه ما يسقط له حديثه إلا أنه مختلف فيه فحديثه حسن
(1)
. اهـ
* فإذا كان هذا رأي الذهبي، وأبي حاتم، وابن القطان، وابن عدي، وأبي زرعة، وابن معين، وأبي هارون الخريبي، وعبد الملك بن شعيب؛ فكيف يرد حديثه؟! فهو ليس بأكثر ضعفا من ابن عقيل، وابن لهيعة وقد استشهد بهما الشيخ الألباني وقال "حديثهما حسن للخلاف المعروف فيهما" كما سيأتي ذلك لاحقا!
* ولذلك فإن هذه الرواية تعد من الروايات المقبولة والمعتبرة عند المفسرين والمحدثين:
- قال قال الإمام جلال الدين السيوطي في الإتقان في علوم القرآن (2/ 5): وأولى ما يرجع إليه في ذلك ما ثبت عن ابن عباس وأصحابه الآخذين عنه فإنه ورد عنهم ما يستوعب تفسير غريب القرآن بالأسانيد الثابتة الصحيحة. وها أنا أسوق هنا ما ورد من ذلك عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة خاصة فإنها من أصح الطرق عنه وعليها اعتمد البخاري في صحيحه.
وقال في موضع آخر منه (4/ 237): وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي، عنه قال أحمد بن حنبل" بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا"
…
وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا فيما يعلقه عن ابن عباس وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر كثيرا بوسائط بينهم وبين أبي صالح. اهـ
- كما قال الحافظ ابن حجر في كتابه العجاب في بيان الأسباب (1/ 203 - 207) بعد أن عدَّ الذين اعتنوا بجمع التفسير: والذين اشتهر عنهم القول في ذلك من التابعين أصحاب ابن عباس وفيهم ثقات وضعفاء؛ فمن الثقات:
1 -
مجاهد بن جبر
…
2 - ومنهم عكرمة
…
3 - ومن طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وعلي صدوق لم يلق ابن عباس لكنه إنما حمل عن ثقات أصحابه، فلذلك كان البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النسخة. اهـ
- وكان ابن حجر نفسه يصحح هذه الرواية ويحتج بها؛ فقد قال في فتح الباري (13/ 271): وأخرج الطبري بسند صحيح عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس قال الأب ما تنبته الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس وأخرج عن عدة من التابعين نحوه ثم أخرج من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بسند صحيح. اهـ
قال إدريس الصمدي في تحقيقه لأحكام النظر (ص/176): ورجال هذه الرواية كلهم ثقات إلا أنها منقطعة وذكر أن الواسطة بين علي وابن عباس؛ مجاهد بن جبير المكي، وهو إمام كبير ثقة ثبت، وقد احتج برواية علي بن أبي طلحة هذه عن ابن عباس البخاري في "الجامع الصحيح" أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة. ومن الذين اعتمدوا على هذه الرواية جمال الدين القاسمي في تفسيره، والإمام القرطبي في تفسيره، وكذلك ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة، فكانت هذه الرواية قوية عندهم. اهـ
فإذا كانت هذه الرواية قوية محتجا بها عند علماء التفسير وغيرهم، فلا وجه للطعن في هذا الأثر، فإنه يعد من الآثار الثابتة التي يحتج بها.
ثالثا: استشهد الشيخ الألباني بأثر ابن عباس (وإدناء الجلباب أن تقنّع وتشدُّ على جبينها)
(1)
مع تصريحه بضعفه؛ على أنه يناقض أثر العين الواحدة لابن عباس، وأنكر على مخالفيه استشهادهم لتقوية أثر العين الواحدة لابن عباس بما صح عن قتادة أنه قال" أن الله أخذ عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب"
(2)
؛ لأن الشيخ الألباني يرى أنه يناقضه!! والصحيح أن أثر ابن عباس (وإدناء الجلباب أن تقنّع وتشد على جبينها) وأثر قتادة (أن الله أخذ عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب) كلها توافق أثر ابن عباس (يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة)؛ ولا تناقضه، فكلها تحمل معنى تغطية الوجه وإن اختلفت كيفية التغطية، ومما يشهد لصحة ذلك ما يأتي:
1) أن هذا ما حملها عليه أهل التفسير: كالقرطبي والشوكاني وغيرهما فقد حملوا قول ابن عباس وقتادة على تغطية الوجه برد طرف الجلباب وعطفه على الأنف بعد شدّه على الجبين ـ وهذا هو التقنع ـ ولم يقل أحد منهم أن المراد أن تقنع الشعر وتشد الجلباب على الجبين دون تغطية للوجه!!
- قال الإمام القرطبي في تفسيره (14/ 243): والجلباب هو الثوب الذي يستر جميع البدن، واختلف الناس في صورة إرخائه فقال ابن عباس وعبيدة
(1)
استشهد به الشيخ الألباني مصحَّفا وذلك بزيادة (الهاء) في قوله (تشده) مما قد يوهم بأن التقنع يتحقق بشد الجلباب على الجبين فقط، والصحيح أن شد الجلباب على الجبين فعل متمم للتقنع كما يتضح ذلك من السياق الصحيح لهذا الأثر "وإدناء الجلباب أن تقنّع وتشد على جبينها"
(2)
الطبري في تفسيره 22/ 46 صحح الألباني إسناده في الرد المفحم /52.
السلماني ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال ابن عباس أيضاً وقتادة ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
- قال العلامة محمد بن جزي الكلبي في التسهيل لعلوم التنزيل (3/ 144): والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء، وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقيل: أن تلويه حتى لا يظهر إلا عيناها.
- قال المفسر النحوي أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (7/ 240): وقال ابن عباس وقتادة وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
- قال الثعالبي في تفسيره (3/ 236): الجلباب ثوب أكبر من الخمار، واختلف في صورة إدنائه فقال ابن عباس وغيره ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال ابن عباس أيضا وقتادة ذلك أن تلويه على الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
- قال العلامة الشوكاني في فتح القدير (4/ 304): قال الواحدي: قال المفسرون يغطين وجوههن إلا عيناً واحدة
…
وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
- قال العلامة الألوسي في روح المعاني (22/ 89): قال ابن عباس وقتادة تلوى الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير؛ تغطى وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة.
2) أن هذا هو الثابت عند أهل العلم في معنى التقنع:
- قال العلامة الزمخشري في تفسيره الكشاف (3/ 560): "ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة ".
- وقال الألوسي في تفسيره (روح المعاني)(22/ 89): وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن.
- وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في موضعين (10/ 274)(7/ 343) والعيني في عمدة القاري أيضا في موضعين (21/ 308)(17/ 136) والعظيم آبادي في عون المعبود (11/ 92) كلهم اتفقت عبارتهم في تعريف التقنع بقولهم: التقنع؛ هو تغطية الرأس وأكثر الوجه برداء أو غيره.
وسيأتي زيادة بيان وتفصيل لمعنى التقنع قريبا في مناقشة البحث الرابع.
وبذلك تبين أن أثر ابن عباس وأثر قتادة؛ توافق أثر العين الواحدة لابن عباس وتعد من الشواهد التي يتقوى بها.