الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله {عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} فلا بأس بالمرأة أن تضع الجلباب عند هؤلاء المسلمين في هذه الآية.
وسنذكر من الشواهد والقرائن في الآية ومما أُثر عن الصحابة والتابعين ومن أقوال المفسرين وغيرهم من أهل العلم ما يؤكد ما ذكرنا؛ من أن هذه الآية
…
{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} تُبين ما يجوز للمرأة إظهاره لمن يحل له الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب ممّن لم يستثن في الآية؛ وليس المراد ما تظهره المرأة الحرة للرجال الأحرار الأجانب الذين يجب عليها الاحتجاب منهم:
- أولا:
ما أثر عن الصحابة والتابعين في تفسير هذه الآية
يؤكد هذا المعنى ويشهد له:
وقد أشار الشيخ الألباني إلى من فسّر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين؛ مكتفيا بسرد أسمائهم ومخرجي أقوالهم! وبالرجوع إلى أقوالهم في المواضع المشار إليها يتبين أنهم لم يقتصروا في تفسير الزينة الظاهرة على (الوجه والكفين) فقط بل زاد بعضهم (الخاتم والسوار) وهي من الزينة التي لم يقل أحد من أهل العلم بجواز إبدائها للرجال الأجانب ولا الشيخ الألباني نفسه!
وهذه أقوالهم التي أشار إليها الشيخ الألباني:
1 -
فقوله: عائشة رضي الله عنها. عبد الرزاق، وابن أبي حاتم "الدر المنثور"، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه ابن حزم.
- أما عبد الرزاق فلم يخرج لها شيئا في تأويل قوله (إلا ما ظهر منها) ولعله سبق قلم أراد أن يقول الطبري، فإنه هو الذي أخرج لها في تفسيره (18/ 119) في تأويل قوله {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} عن ابن جريج بإسناد صحيح قال: قالت عائشة (القلب والفتخة) والقلب: هو السوار كما في النهاية في غريب الأثر (4/ 98) والفتخة: جمعها فتخ، وهي خواتيم كبار كما في النهاية في غريب الأثر (3/ 408).
- ومثله ما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي؛ قال السيوطي في الدر المنثور (6/ 180): وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الزينة الظاهرة فقالت (القلب والفتخة) وضمت طرف كمها.
(1)
ولم يُخرّج أنها قالت (الوجه والكفان) إلا البيهقي في سننه الكبرى (2/ 226) وقد صرح الشيخ الألباني بضعف هذه الرواية في رده المفحم/ 129 فقال: ولفظ
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (3/ 546) تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2575) سنن البيهقي الكبرى (7/ 86).
حديثها عن البيهقي (2/ 226): " {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الوجه والكفان" وإسناده ضعيف
(1)
، لكن له طريق أخرى بنحوه عند ابن أبي شيبة وغيره! اهـ
وقد رأينا ما أخرجه عنها ابن أبي شيبة وغيره بلفظ (القلب والفتخة) وليس (الوجه والكفان)!
* فخلاصة ما صح عن عائشة رضي الله عنها أن الزينة الظاهرة هي السوار والخاتم.
2 -
أما قول الشيخ الألباني: عبد الله بن عباس رضي الله عنه. ابن أبي شيبة، والطحاوي، والبيهقي، وصححه ابن حزم أيضاً، وله عنه سبعة طرق. اهـ
- أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 546): عن جابر بن زيد عن ابن عباس ولا يبدين زينتهن قال (الكف ورقعة الوجه) وفي إسناده مقال
(2)
وعلى فرض صحته
(1)
في إسناده عقبة بن الأصم قال البيهقي: وعقبة ضعيف لا يحتج به. كما في تنقيح تحقيق أحاديث التعليق 3/ 52.
(2)
قال الشيخ الألباني إرواء الغليل (6/ 200) هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال البخارى، غير صالح الدهان ترجمه ابن أبى حاتم (2/ 1/393) وروي عن أحمد: ليس به بأس، وعن ابن معين: ثقة. اهـ
قلت: صالح هذا لم يرو عنه أحد في الكتب الستة؛ وفي تهذيب الكمال (13/ 40): قال بن عدي: " لم يحضرني له حديث وليس بالمعروف. ولم يخرجوا له شيئا " وفي إسناده أيضا زياد بن الربيع؛ قال الشيخ الألباني: "هو ثقة دون أي خلاف يذكر وقد احتج به البخاري في صحيحه". قلت لم يرو له البخاري إلا حديث واحدا؛ قال المزي في تهذيب الكمال (9/ 460): قال أبي داود: ثقة. وقال أحمد بن حنبل: شيخ بصري ليس به بأس، قال ابن شاهين: كان شيخا صدوقا وليس بحجة، قال البخاري: في إسناده نظر.
فإن المراد قصر ما يحل إظهاره من الزينة بما كان في رقعة الوجه والكفين دون توسع فيما جاورهما.
وعند ابن أبي شيبة من طريق آخر (3/ 547) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (وجهها وكفها). وإسناده ضعيف، قال الشيخ الألباني في رده المفحم /133:" وقد تابعه سعيد بن جبير عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة أيضا وفي سنده ضعيف".
(1)
- أما ما أخرجه الطحاوي عن ابن عباس: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: (الكحل والخاتم)
(2)
.
- وكذلك البيهقي لم يخرج له أنه قال (الوجه والكفين) إلا من طريق واحدة ضعيفة في السنن الكبرى (2/ 225): قال (ما في الكف والوجه). أما ما صح من الطرق عند البيهقي فقال فيها ابن عباس (الكحل والخاتم)
(3)
وفي رواية قال: والزينة الظاهرة (الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها).
(4)
(1)
وهو عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي؛ ضعفه أحمد وابن معين وأبو داود والنسائي وأبو حاتم (تهذيب الكمال 16/ 128).
(2)
شرح معاني الآثار للطحاوي (4/ 332).
(3)
سنن البيهقي الكبرى (7/ 85)(2/ 225).
(4)
سنن البهقي الكبرى (7/ 94) وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 18/ 118، وإسناده حسن.
- وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2574) عن ابن عباس قال (وجهها وكفاها والخاتم).
(1)
- وأخرج الطبري في تفسيره (18/ 119) عن ابن عباس قال (الخاتم والمسكة). المسكة: السوار.
* فخلاصة ما صح عن ابن عباس أن الزينة الظاهرة هي مافي الوجه والكفين من الزينة ونص على أن منها الخاتم والسوار.
3 -
أما قول الشيخ الألباني: عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ابن أبي شيبة، وصححه ابن حزم. اهـ
- أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 546) قال ابن عمر: الزينة الظاهرة الوجه والكفان.
(2)
وما أشبه إسناده بإسناد أثر ابن عباس في تفسير آية الإدناء الذي
(1)
صحح إسناده يحيى بن معين في الجزء الثاني من حديث يحيى بن معين (الفوائد) 1/ 88.
(2)
في إسناده هشام بن الغاز: قال المزي في تهذيب الكمال (30/ 259): قال أحمد بن حنبل: صالح الحديث، وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، وقال دحيم: ثقة، قال عبد الرحمن بن إبراهيم: مستقيم الحديث. وفيه شبابة بن سوار: قال المزي في تهذيب الكمال (12/ 347): قال علي بن المديني: شيخ صدوق إلا أنه كان يقول بالإرجاء، وقال محمد بن سعد: صالح الحديث، وقال أبو حاتم: صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به، قال ابن عدي: لا بأس به.
رماه الشيخ بالضعف!! ولذلك عزا تصحيحه لابن حزم!! ومع ذلك فإن المراد كما أسلفنا قصر ما يحل إظهاره من الزينة بما في الوجه والكفين من الزينة.
4 -
أما قول الشيخ الألباني: أنس بن مالك رضي الله عنه. وصله ابن المنذر، وعلقه البيهقي. اهـ
- قال السيوطي في الدر المنثور (6/ 179): وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال (الكحل والخاتم). وهو ما علقه البيهقي في سننه الكبرى (2/ 225): عن ابن عباس في قوله ولا يبدين زينتهن {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال (الكحل والخاتم) وروينا عن أنس بن مالك مثل هذا.
* فهذا أنس رضي الله عنه يوافق قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهما في أن الخاتم من الزينة الظاهرة.
5 -
أما قول الشيخ الألباني: أبو هريرة رضي الله عنه. ابن عبد البر في "التمهيد".هـ
- قال ابن عبد البر في التمهيد (6/ 368): وقد روى عن أبي هريرة في قوله تعالى
{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال (القلب والفتخة) قال جرير بن حازم: القلب السوار، والفتخة الخاتم.
* وهذا أبو هريرة رضي الله عنه أيضا يوافق عائشة وابن عباس رضي الله عنهم على أن المراد بالزينة الظاهرة السوار والخاتم.
6 -
أما قول الشيخ الألباني: المسور بن مخرمة رضي الله عنه. ابن جرير الطبري. اهـ
- أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (18/ 119) عن المسور بن مخرمة: في قوله (إلا ما ظهر منها) قال (القلبين والخاتم والكحل). القلبين: مثنى من القلب وهو السوار.
* وهذا المسور بن مخرمة رضي الله عنه يوافق أيضا عائشة وابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهم أن المراد بالزينة الظاهرة الخاتم والسوار.
وبعد أن عرضنا هذه الأقوال التي أشار إليها الشيخ الألباني دون أن ينقلها؛ ننقل أيضا ما أشار إليه من تصحيح ابن حزم لبعض هذه الأقوال دون أن ينقل قول ابن حزم أو يشير إلى الموضع الذي صححها فيه!!
قال ابن حزم في المحلى (3/ 221): وقد روينا عن ابن عباس في {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال "الكف والخاتم والوجه"، وعن ابن عمر "الوجه والكفان"، وعن أنس "الكف والخاتم" وكل هذا عنهم في غاية الصحة، وكذلك أيضا عن عائشة وغيرها من التابعين.
فالأثر الذي صححه ابن حزم عن ابن عباس وأنس؛ فيه أن الخاتم من الزينة الظاهرة، كما أن ابن حزم أشار إلى صحة ما أثر عن عائشة ولم يصح عنها إلا قولها (القلب والفتخة). وكذلك ما صح عن بعض التابعين من تلامذة ابن عباس مما يعضد الأقوال السابقة:
- عن قتادة في قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال "المسكتان والخاتم والكحل"وعنه من طريق آخر قال: "الكحل والسوران والخاتم".
(1)
- عن سعيد بن جبير قال {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الكحل والخاتم.
(2)
وفي رواية قال: الخاتم والخضاب والكحل.
(3)
- عن مجاهد قوله {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال الكحل والخضاب والخاتم.
(4)
فخلاصة ما صح عن الصحابة؛ عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، والمسور بن مخرمة والتابعين؛ سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة؛ أن الزينة الظاهرة هي: الكحل والخاتم والسوار.
(1)
تفسير الطبري 18/ 118
(2)
نفسير الطبري 18/ 117
(3)
مصنف ابن أبي شيبة 3/ 547 (17015).
(4)
تفسير الطبري 18/ 117.
فإذا ثبت عن كبار الصحابة والتابعين في تفسير قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
…
أن الخاتم والسوار من الزينة الظاهرة؛ دل ذلك على أن الذين تبدى لهم الزينة الظاهرة ليسوا من الرجال الأجانب الذين يُحتجب عنهم. لأنه من الثابت شرعا النهى عن إبداء هذه الزينة للرجال الأجانب، وأهل العلم قاطبة مجمعون على تحريم إبداء ذلك للرجال الأجانب
(1)
،
(1)
ومنهم الشيخ الألباني حيث قال في جلباب المرأة /89: فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره
…
لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا لم يكن على الوجه وكذا الكفين شيء من الزينة لعموم قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن) وإلا وجب ستر ذلك ولا سيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن بأنواع من الزينة والأصبغة مما لا يشك مسلم في تحريمه، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن سعد (8/ 238 - 239) عن أخت حذيفة وكان له أخوات قد أدركن النبي صلى الله عليه وسلم قالت:(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر النساء أليس لكن في الفضة ما تحلين؟ أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به قال منصور: فذكرت ذلك لمجاهد فقال: قد أدركتهن وإن إحداهن لتتخذ لكمها زرا تواري خاتمها). اهـ
ومما يشهد أيضا لعدم جواز إبداء هذه الزينة للرجال الأجانب ما ورد عن عمارة بن خزيمة قال: خرجنا مع عمرو بن العاص متوجهين إلى مكة فإذا نحن بامرأة عليها حبائر لها وخواتيم وقد بسطت يدها على الهودج، فقال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نحن بغربان وفيها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين فقال" لا يدخل الجنة من النساء إلا قدر هذا الغراب في هؤلاء الغربان". أخرجه أحمد في مسنده (17860) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 400 رجاله ثقات، والنسائي في السنن الكبرى (9268) وأبي يعلى في مسنده (7343) واللفظ له، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 4/ 466 (1850) وقال الحبائر: ضرب من الأسورة، وفي لسان العرب 4/ 115: الحبائر: الأسورة من الذهب والفضة.
فدل استحضار عمرو بن العاص لهذا الحديث بعد أن رأى هذه المرأة التي أظهرت يديها بما فيها من أساور وخواتيم أمام الرجال الأجانب على أن هذا الأمر مما نهى عنه الشرع وأنه قد يكون حائلا دون دخول الجنة!
قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره (19/ 158):
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: عنى بذلك: الوجه والكفان، يدخل في ذلك إذا كان كذلك: الكحل، والخاتم، والسوار، والخضاب. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل؛ لإجماع الجميع على أن على كل مصل أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه من ذراعها إلى قدر النصف.
(1)
اهـ
وقال ابن عطية (ت 542 هـ) في تفسيره المحرر الوجيز (4/ 178) والقرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (12/ 228) والشوكاني في فتح القدير (4/ 27): أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذارا من الافتتان، ثم استثنى ما يظهر من الزينة، واختلف الناس في قدر ذلك
…
وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ، ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس. قال القرطبي: فهذا أقوى من جانب الاحتياط، ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها. اهـ
(1)
لما أخرجه من حديث ابن جريج وقتادة، وقد بينا أن المراد من الحديث إباحة إظهار مقدار قبضة من الذراع وليس نصف الذراع.
فمما يبين أن مرادهم أن الزينة الظاهرة إنما يباح إظاهرها لمن يحل لهم الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب:
1 -
قولهم (لا يبدين زينتهن للناظرين) لتقييد من يحل إبداء الزينة الظاهرة لهم بكونهم ممن أبيح لهم النظر للمرأة.
2 -
قولهم (والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ) وهذا مما لم يقل بجواز إبدائه للرجال الأحرار الأجانب أحد من أهل العلم مطلقا ولا الشيخ الألباني نفسه؛ فهذا يؤكد أن مرادهم أن من تبدى لهم الزينة الظاهرة هم ممن أبيح لهم الدخول على المرأة والنظر إليها دون حجاب.
3 -
قولهم بعدها (ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس) وهذا تصريح بأن الزينة الظاهرة إنما تبدى لمن يباح لهم الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب.
4 -
قول القرطبي (فهذا أقوى من جانب الاحتياط ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها) فجعل الاقتصار على كشف الوجه والكفين من جانب الاحتياط ومراعاة الفساد وهذا يؤكد أن من أُبيح لها أن تكشف لهم ذلك هم ممن يباح لهم الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب حتى كان الاقتصار على كشف الوجه والكفين لهم يعد من باب الاحتياط ومراعاة الفساد. فإنه من المجمع عليه أن ستر ماعدا الوجه والكفين من الرجال الأجانب واجب وليس من باب الاحتياط!
فلما ثبت أن المراد بالزينة الظاهرة؛ ما تبديه المرأة لمن يحل له الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب؛ ثبت بذلك براءة ابن عباس مما نسب إليه من القول بجواز كشف الوجه.
قال أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 463): أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: " والزينة الظاهرة: الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم فهذه تظهر في بيتها لمن دخل من الناس عليها" هكذا تمام كلام ابن عباس ولكن كثيراً من العلماء ينقلون عنه الشق الأول! فما نسب إلى ابن عباس بأن المراد من قوله تعالى (إلا ما ظهر منها) الوجه والكفان، ليس مطلقاً وإنما هو مقيد في بيتها لمن دخل من الناس عليها. ومما يؤكد هذا تفسيره لقوله تعالى (يدنين عليهن من جلابيبهن) فقد أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس قال:" أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة" فقد صح مثله عن عبيدة السلماني. وانظر الرواية التالية لابن عباس: أخرج الطبري بسنده الحسن عن ابن عباس، قال {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} إلى قوله:{عورات النساء} قال: الزينة التي يبدينها لهؤلاء: قرطاها وقلادتها وسوارها، فأما خلخالاها ومعضداها، ونحرها، وشعرها فإنه لا تبديه إلا لزوجها " وفيها أن الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها وقلادتها وسواراها، وأما الخلخال والنحر والشعر فلا تبديه إلا لزوجها. ومع الأسف الشديد أن مسألة جواز كشف الوجه واليدين ينسبه العلماء لابن عباس على إطلاقه، فليحرر.
- ثانيا: توافق المعنى الذي يحمله تأويل ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم لهذه الآية {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} حيث ظن المتأخرون أن تأويل ابن عباس للزينة الظاهرة بما في الوجه والكفين من الزينة؛ يناقض تأويل ابن مسعود الذي قال إنها تعني الثياب الظاهرة، والصحيح أنه لاتناقض بينهما؛ فإن الآية تضمنت معنيين مترادفين أشار ابن عباس إلى أحدهما وأشار ابن مسعود إلى الآخر، فإن الله تعالى نهى المرأة في هذه الآية عن إبداء زينتها فقال {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} وهذه الزينة المنهية عن إبدائها كما صح عن ابن مسعود هي " القرط والدملج
(1)
والخلخال والقلادة"
(2)
وفي رواية قال " لا خلخال ولا شنف
(3)
ولا قرط ولا قلادة (إلا ما ظهر منها) قال: الثياب"
(4)
ولا يكون للمرأة أن تخفي هذه الزينة إلا بلبس ما يخفيها من خمار ورداء أو ملحفة مما تتخذه المرأة في بيتها، وهو ما عبر عنه ابن مسعود بقوله (الثياب) ويؤكد هذا المعنى أن الله تعالى ثنّى بعد هذا الأمر بقوله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
…
وليشددنها على جيوبهن حتى لا تنكشف نحورهن بما فيها من الزينة.
(1)
الدملج: المعضد من الحلي (النهاية في غريب الأثر 2/ 134).
(2)
ابن جرير في تفسيره 18/ 117 تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2574 والطبراني في المعجم الكبير 9/ 228 (9116) واللفظ له.
(3)
الشنف: ما علق في أعلى الأذن، وأما ما علق في أسفلها فقرط (القاموس المحيط/ 826)
(4)
المستدرك على الصحيحين (3499) وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وفيه شاهد أن الذين تبدى لهم الزينة الظاهرة هم ممن يحل لهم الدخول على المرأة ورؤيتها حتى انه قد يُظن أنه يجوز للمرأة أن تبدي لهم الخلاخل والقرطين والقلائد.
وأما المعنى الآخر الذي ذهب إليه ابن عباس فهو أن المرأة إذا أخفت هذه الزينة بلبس الرداء - دون أن تدنيه على وجهها - وضربت الخمار على جيبها فلن يبقى مكشوفا إلا الوجه والكفين بما فيهما من الزينة وإلى هذا المعنى أشار ابن عباس. وبذلك أمكن جمع كل ما ورد في تأويل قوله تعالى (إلا ما ظهر منها) واتضح الاتفاق وزال ما يُعد خلافا بين ابن مسعود وابن عباس.
ومما يؤكد ترادف المعنيين وعدم تناقضهما الآتي:
1 -
أنه قد صح عن بعض التابعين الجمع بين هذين القولين في تفسير هذه الآية
- قال مجاهد: الثياب والخضاب والخاتم والكحل
(1)
- قال عكرمة: ثيابها وكحلها وخضابها.
(2)
- قال الشعبي: الكحل والخضاب والثياب
(3)
. وفي رواية قال الكحل والثياب.
(4)
- قال الحسن: الوجه والثياب.
(5)
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2574 (14401)
(2)
يحيى بن معين في (الفوائد) 1/ 172 وقال إسناده صحيح.
(3)
تفسير الطبري 18/ 118
(4)
مصنف ابن أبي شيبة 3/ 546 (17007)
(5)
تفسير الطبري 18/ 118، مصنف ابن أبي شيبة 3/ 546 (17010) وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية كما سيأتي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه حجاب المرأة ولباسها في الصلاة (1/ 19): ولذلك ذهب بعض السلف إلى الجمع بين قوليهما فقال ابن جرير في تفسيره (18/ 94): وقال آخرون عني به الوجه والثياب؛ ثم روى بإسنادين صحيحين له عن الحسن البصري أنه قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
…
قال: "الوجه والثياب"
(1)
2 -
أنه لم يثبت عن ابن مسعود في تفسير هذه الآية ما يعارض قول ابن عباس: قال ابن مسعود: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} "الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة " فإنه لم يقل الزينة: الوجه والكف والكحل والخاتم! حتى يقال إنه خالف ابن عباس!
{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال "الثياب"
(2)
ولم يقل تغطي الوجه والكفين بالثياب حتى يقال إنه خالف ابن عباس!
وقول ابن عباس {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الكف والوجه؛ ليست موضعا للخلخال ولا للقرط ولا للقلادة حتى يقال إنه خالف ابن مسعود!
(1)
عن عثمان البتي قال" ما فسر الحسن آية قط إلا عن الأثبات" سنن أبي داود (4626) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 4/ 206.
(2)
تفسير ابن جرير الطبري 18/ 118 تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2574 (14400) مصنف ابن أبي شيبة 3/ 546 (17004) المعجم الكبير 9/ 228 (9115).
فما وجه الخلاف إذن؛ وابن مسعود لم يعُدّ مما سيَخفَى من الزينة تحت الثياب؛ ما أظهره ابن عباس من الوجه والكف، وابن عباس لم يُظهر ما أخفاه ابن مسعود تحت الثياب!!
وهذا يبين خطأ الشيخ الألباني في قوله في كتابه الجلباب/53: فابن عباس ومن معه من الأصحاب والتابعين والمفسرين إنما يشيرون بتفسيرهم لآية {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إلى هذه العادة التي كانت معروفة عند نزولها وأقروا عليها فلا يجوز إذن معارضة تفسيرهم بتفسير ابن مسعود الذي لم يتابعه عليه أحد من الصحابة لأمرين اثنين:
الأول: أنه أطلق الثياب ولا قائل بهذا الإطلاق لأنه يشمل الثياب الداخلية التي هي في نفسها زينة، فإذن هو يريد منها الجلباب فقط الذي تظهره المرأة من ثيابها إذا خرجت من دارها.
والآخر: أن هذا التفسير لا ينسجم مع بقية الآية وهي: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية فالزينة الأولى هي عين الزينة الثانية كما هو معروف في الأسلوب العربي: أنهم إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه فهو هو فإذا كان الأمر كذلك فهل الآباء ومن ذكروا معهم في الآية لا يجوز لهم أن ينظروا إلا إلى ثيابهن الباطنة؟ اهـ
وبيان خطأ الشيخ الألباني في ذلك يتضح بالآتي:
إذا صح الإسناد إلى ابن مسعود؛ فينبغي أن يكون قوله هو المقدم في تفسير كتاب الله وهو من أعلم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، كما ذكر ابن عبد البر في الاستذكار (6/ 519): قال أبو وائل لما أمر عثمان بالمصاحف أن تشقق قال عبد الله "لا أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني" قال أبو وائل: فقمت إلى الخلق لأسمع ما يقولون؛ فما سمعت أحدا من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه. وقال عقبة بن عمرو الأنصاري: ما أرى رجلا أعلم بما أنزل الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن مسعود. وقال أبو موسى الأشعري ليوم أو ساعة أجالس فيها عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة كان يسمع حين لا نسمع ويدخل حين لا ندخل. وقال لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم. اهـ
كما أنه قد وافق ابن مسعود جمع من التابعين ممن قرن في تفسير الزينة الظاهرة بين الوجه والكفين؛ والثياب كما أسلفناهم، وأضف إ ليهم من وافقه: -كعبيدة السلماني {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
…
قال الثياب.
(1)
وموافقته هنا لابن مسعود في تفسير هذه الآية يشهد لما ذكرنا من كونه أخذ تفسير آية إدناء الجلابيب عن ابن مسعود أيضا.
(1)
يحيى بن معين (الفوائد) 1/ 172 وقال إسناده صحيح.
- وإبراهيم النخعي في قوله {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال الثياب.
(1)
- وماهان الحنفي {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال الثياب.
(2)
أما قوله (إنه أطلق الثياب ولا قائل بهذا الإطلاق لأنه يشمل الثياب الداخلية التي هي في نفسها زينة) فنقول إن ما أطلقه مقيد في رواية أخرى صحت عنه أنه قال في تأويل قوله {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} الرداء.
(3)
أما قوله (إن هذا التفسير لا ينسجم مع بقية الآية وهي: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية فالزينة الأولى هي عين الزينة الثانية
…
)
…
فيقال إذا كانت الزينة الأولى هي عين الزينة الثانية؛ فتكون على قول ابن مسعود ليست الثياب الباطنة فقط بل تكون كل ما سينكشف من الزينة إذا وضعت الثياب الظاهرة؛ وهذا ما أقره الشيخ الألباني؛ فقال إنه لا يجوز إبداء أكثر من هذه المواضع من الزينة حيث قال في الرد المفحم (ص: 75): "فإن المراد مواضع الزينة، وهي: القرط والدملج والخلخال والقلادة، وهذا باتفاق علماء التفسير وهو المروي عن ابن مسعود. . . فهذا النص القرآني صريح في أن المرأة لا يجوز لها
(1)
مصنف ابن أبي شيبة 3/ 546 (17006) تفسير الطبري 18/ 118
(2)
مصنف ابن أبي شيبة 3/ 546 (17009) وماهان الحنفي أبو سالم الكوفي الأعور العابد روى عن بن عباس وأم سلمة ثقة عابد قتله الحجاج سنة ثلاث وثمانين (تهذيب التهذيب 10/ 24، تقريب التهذيب 1/ 518)
(3)
تفسير الطبري 18/ 118، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2574 (14399).
أن تُبدي أمام المسلمة أكثر من هذه المواضع
…
ولا تخفى كثرة المفاسد التي تترتب من تكشف النساء أمام النساء المسلمات بل وأمام الذمّيات أيضاً، بل وأمام الرجال المحارم أيضاً".اهـ
والقرآن يشهد لصحة تفسير ابن مسعود؛ والقرآن يفسر بعضه بعضا:
1 -
فإن الرخصة بوضع الثياب للنساء القواعد في آخر سورة النور هي استثناء من هذه الآية، كما جاء ذلك عن ابن عباس قال {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فنسخ واستثنى من ذلك {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} النور 60.
(1)
فإذا كانت الآية الناسخة فيها استثناء النساء القواعد بالإذن لهن بوضع الثياب دل ذلك على أن الآية الأولى فيها عدم الإذن بوضع الثياب، وهذا يوافق ما قال ابن مسعود.
2 -
كما أخرج الطبري عن ابن عباس في قوله تعالى {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف: 31
…
{خُذُوا زِينَتَكُمْ}
…
قال الثياب.
(2)
وهذه موافقة من ابن عباس لابن مسعود في تفسير الزينة بالثياب.
(1)
سنن أبي داود 4/ 63 (4111) حسن إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود 4/ 63. وانظر الناسخ والمنسوخ للمقري 1/ 134 والناسخ والمنسوخ للكرمي 1/ 157 وناسخ القرآن ومنسوخه 1/ 43.
(2)
تفسير الطبري 8/ 160.
بل إن تفسير الزينة بالوجه والكفين هو خلاف ظاهر القرآن ولغة العرب، إلا أن يكون المراد مافي الوجه والكفين من الزينة:
قال الشنقيطي في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/ 516): الزينة في لغة العرب، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها: كالحلي، والحلل. فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة: الوجه، والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول.
كما أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها كقوله تعالى (يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) الأعراف 31، وقوله تعالى (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) الكهف 7، وقوله تعالى (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) الكهف 46، وقوله تعالى (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) الصافات 6، وقوله تعالى (فخرج على قومه في زينته) القصص 79، وقوله تعالى عن قوم موسى:(ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم) طه 87، وقوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) النور 31، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته، كما ترى، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم، وهو المعروف في كلام العرب; كقول الشاعر (يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل) وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين، فيه نظر. اهـ
* ثالثا: ومما يشهد أن نهي المرأة عن إبداء زينتها لمن يحل لهم رؤيتها ممن لم يستثن في الآية يحمل معنى لبسها لما يخفي هذه الزينة من الثياب الظاهرة (من رداء أو ملحفة أو جلباب) مع ضرب الخمار على الجيب؛ الأمور الآتية:
1) ما أسلفناه من أن الرخصة بوضع الجلباب والرداء للنساء القواعد في آخر سورة النور هي استثناء من هذه الآية، كما جاء عن ابن عباس {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فنسخ واستثنى من ذلك {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} .
(1)
وقد صح عن ابن مسعود وابن عباس أن المراد بقوله (أن يضعن ثيابهن)؛ الجلباب والرداء.
(2)
فإذا كانت آية القواعد التي هي رخصة بوضع الجلباب أو الرداء في البيت؛ هي استثناء من قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} دل ذلك على أن المراد بالنهي في قوله (ولا يبدين زينتهن) هو نهي المرأة عن وضع الثياب الظاهرة إلا لمن سماهم الله في الآية؛ ثم جاءت الرخصة للقواعد بوضع الثياب في البيوت أمام من يحل له الدخول عليهن دون حجاب ممن لم يسم في الآية ممن يعد غريبا عليهن وليس بمحرم لهن من العبيد المملوكين للغير والأتباع ونحوهم.
(1)
سنن أبي داود 4/ 63 (4111) حسن إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود 4/ 63. وانظر الناسخ والمنسوخ للمقري 1/ 134 والناسخ والمنسوخ للكرمي 1/ 157 وناسخ القرآن ومنسوخه 1/ 43.
(2)
تفسير الصنعاني 3/ 63، تفسير الطبري 18/ 166، سنن البيهقي الكبرى 7/ 93.
يشهد لذلك ما جاء في تأويل هذه الرخصة للقواعد:
- قال ابن عباس: هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عنها الجلباب.
(1)
- أخرج ابن أبي حاتم: عن مجاهد قال: تضع الجلباب في الدار والحجرة.
- وعن سعيد بن جبير قال: هو الجلباب من فوق الخمار فلا باس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق وعنه في قول الله (وأن يستعففن خير لهن) قال: يعني وألا يضعن الجلباب من فوق الخمار عند غير ذي محرم خير لهن من أن يضعنه.
- وعن مقاتل بن حيان قال: أن يضعن الجلباب ولا يضعن الخمار وروي عن الحسن وقتادة الزهري والاوزاعي نحو قول مقاتل بن حيان.
- وعن أبي صالح: تضع الجلباب، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
(2)
- وقال عطاء: هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب.
(3)
(1)
تفسير ابن جرير الطبري 18/ 165، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2641 (14844) والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 93 (13309) وصححه الشيخ عبد العزيز الطريفي في الحجاب في الشرع والفطرة ص/ 126
(2)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2641 (14845)(14855)(14841)(14842).
(3)
ذكره القرطبي في تفسيره 12/ 310
* كما فسرها بذلك إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره (18/ 165): قوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} يقول فليس عليهن حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهن يعني جلابيبهن وهي القناع الذي يكون فوق الخمار والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء غير متبرجات بزينة.
- وجاء في التسهيل لعلوم التنزيل (3/ 72): قال ابن مسعود إنما أبيح لهن وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، وقال بعضهم إنما ذلك في منزلها الذي يراها فيه ذوو محارمها.
* كما يؤيد ذلك تأويل قوله تعالى {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} بما يدل على ذلك:
- عن الحسن وقتادة قالا: "باديات عن النحر" وقال مقاتل بن حيان: ليس لها أن تضع الجلباب لتريد بذلك أن تظهر قلائدها وقرطها وما عليها من الزينة.
(1)
- قال شهاب الدين في التبيان في تفسير غريب القرآن (1/ 313): {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مكشوفات الشعور.
- وقال النسفي في تفسيره (3/ 157) في قوله {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية كالشعر والنحر والساق.
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2642 (14850)(14852)
فهذه الأقوال تؤكد أن النهي عمّا يمكن أن تكشفه المرأة في بيتها. وهو التبرج الذي نهى الله النساء عنه بعدما أمرهن بالقرار في بيوتهن. قال تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الأحزاب: 33 وهذه الآية مما حملها المتأخرون أيضا على غير محملها، والمراد بها والله أعلم نهي المرأة عن إظهار مالا يحل إظهاره من زينتها أمام من يحل له الدخول عليها دون حجاب.
قال ابن كثير في تفسيره (3/ 483): وقال مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقى الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها. وذلك التبرج ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج.
قال الطبري في تفسيره (22/ 4): وقيل إن التبرج هو إظهار الزينة وإبراز المرأة محاسنها للرجال.
2) الآثار التي تدل على لبسهن لهذه الثياب - الأردية - في البيوت:
- ما ورد عن إبراهيم النخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر. وما روي عن ابن أبي مليكة قال: رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر.
(1)
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (8/ 371).
- وما ورد عن شميسة أنها قالت (دخلت على عائشة وعليها ثياب من هذه السيد الصفاق ودرع وخمار)
(1)
- وما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (لا بد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلي فيهن: درع وجلباب وخمار، وكانت عائشة تحل إزارها
(2)
فتجلبب به)
(3)
.
- وما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها: الدرع والخمار والملحفة)
(4)
.
* وهذا مما أشكل على الشيخ الألباني فظن أن هذه الأردية التي تتخذها النساء في البيوت هي الجلابيب التي أُمرت بإدناءها عند الخروج ولذلك قال في كتابه جلباب المرأة (ص 121): واعلم أنه ليس من الزينة في شيء أن يكون ثوب المرأة الذي تلتحف به ملونا بلون غير البياض أو السواد كما يتوهم بعض النساء وذلك لأمرين: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه) والآخر: جريان العمل من نساء الصحابة على ذلك وأسوق هنا بعض الآثار الثابتة في ذلك مما رواه الحافظ ابن أبي شيبة في (المصنف)(8/ 371 - 372):
(1)
الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 70 وصحح إسناده الألباني في جلباب المرأة /129.
(2)
الجلباب: الإزار (غريب الحديث لابن الجوزي 1/ 163).
(3)
الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 71 وصحح إسناده الألباني في جلباب المرأة /135.
(4)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 37 (6175) وصححه الألباني في جلباب المرأة /135.
1 -
عن إبراهيم وهو النخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر.
2 -
عن ابن أبي مليكة قال: رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر.
3 -
عن القاسم أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة. وفي رواية عن القاسم: أن عائشة كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر وهي محرمة.
4 -
عن هشام عن فاطمة بنت المنذر أن أسماء كانت تلبس المعصفر وهي محرمة.
5 -
عن سعيد بن جبير: أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تطوف بالبيت وعليها ثياب معصفرة.
والجواب عليه بالآتي:
أولا: قوله (واعلم أنه ليس من الزينة في شيء أن يكون ثوب المرأة الذي تلتحف به ملونا)؛ مناقض لقوله في الصفحة التي تسبقها (ص 120): والمقصود من الأمر بالجلباب إنما هو ستر زينة المرأة فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب نفسه زينة وهذا كما ترى بين لا يخفى ولذلك قال الإمام الذهبي في (كتاب الكبائر)(ص 131): (ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت ولبسها الصباغات
والأزر الحريرية والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة).
كما أنه مخالف أيضا لما نقله عن الألوسي في هامش تلك الصفحة: " ثم أعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن ويتسترن به إذا خرجن من بيوتهن وهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان، وفيه من النقوش الذهبية أو الفضية ما يبهر العيون وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة وقد عمت البلوى بذلك".
ثانيا: أن ذلك مخالف لما جاء مصرحا به في صحيح السنة من لبس النساء للجلابيب السود امتثالا لآية الأمر بإدناء الجلابيب كما صح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت" لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها"
(1)
قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة (ص 83): شبهت الأكسية في سوادها بالغربان.
فالثابت أن الأكسية التي سارعت إلى لبسها النساء عند الخروج امتثالا لآية إدناء الجلابيب هي المرط السود:
(1)
عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره 3/ 123 وابن أبي حاتم في تفسيره (17784) سنن أبي داود (4101) وصححه الألباني في جلباب المرأة /83.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت (رحم الله نساء الأنصار لما نزلت {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما على رؤوسهن الغربان) وفي رواية (ما منهن امراة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجزت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فاصبحن يصلين وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان).
(1)
قال ابن قتيبة في غريب الحديث (2/ 454): قولها: فأصبحن على رؤوسهن الغربان. تريد: أن المروط كانت من شعر أسود فصار على الرؤوس منها مثل الغربان، ومما يوضح هذا حديث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (خرج ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود)
(2)
يشهد لذلك أيضا ما جاء في مسند أحمد (42/ 422)(25628): (عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعليه مرط من هذه المرحلات،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه بعضه، وعلي بعضه" والمرط من أكسية سود)
(3)
(1)
الدر المنثور (6/ 660)، ابن أبي حاتم في تفسيره (14406) حسن إسناده علوي السقاف في تخريج أحاديث وآثار كتاب في ظلال القرآن (ص: 323)، ابن مردويه كما في تخريج أحاديث الكشاف (2/ 432).
(2)
صحيح مسلم (4/ 1883).
(3)
إسناده صحيح على شرط مسلم. كما قال شعيب الأرنؤوط في تخريج مسند أحمد (41/ 212) وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (2/ 212): إسناده حسن صحيح.
قال العيني في عمدة القاري (4/ 89): وفي (مجمع الغرائب) المروط: أكسية من شعر أسود.
(1)
ومما يشهد لذلك أيضا ما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (أن نساء المؤمنات كن يصلين الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن)
(2)
وفي تاج العروس (22/ 155): اللفاع وهو الكساء الأسود. وفي معجم متن اللغة (5/ 194): اللفاع: الملحفة أو الكساء الغليظ تتلفع به المرأة، وزاد بعضهم الأسود.
(1)
وقال: وقال في المحكم (9/ 170) وقيل: هو الثوب الأخضر.
قال ابن حجر في فتح الباري (2/ 55): وقيل لا يسمى مرطا إلا إذا كان أخضر ولا يلبسه إلا النساء وهو مردود بقوله (مرط من شعر أسود). اهـ
لكن قد جاء في تهذيب اللغة للهروي (ت 370 هـ)(13/ 25): العرب تسمي الأسود أخضر.
وفي جمهرة اللغة لابن دريد (ت 321 هـ)(1/ 586): والعرب تسمي الأسود أخضر. قال الشاعر: (وراحت رواحا من زرود فنازعت
…
زبالة سربالا من الليل أخضرا) وقال الله عز وجل: {مدهامتان} أي سوداوان لشدة خضرتهما يعني الجنتين.
كما جاء في المعجم الاشتقاقي المؤصل (2/ 1086): {عاليهم ثياب سندس خضر} الإنسان: 21 عرفوا (السندس) بأنه رقيق الديباج، وقال الليث إن الديباج هو الصوف اللين، أو الزغب، الذي يخلص من بين شعر العنز). ونضيف إلى وصفه ما يؤخذ من قول الراجز: (وليلة من الليالي حندس
…
لون حواشيها كلون السندس) -الحندس: شديد الظلام - من أن السندس عرف باللون الأسود أو ما يقاربه. وقد وصفه القرآن الكريم بالخضرة {ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق} الكهف: 31 و "العرب تقول لكل أسود أخضر ولكل أخضر أسود.
(2)
صحيح البخاري (1/ 173) صحيح مسلم (1/ 445) واللفظ له.
ثالثا: أن الآثار التي استشهد بها الشيخ الألباني علاوة على ما في أسانيدها من العلل؛ فإن المراد بها الملاحف والأردية التي تتخذها النساء في البيوت كما أسلفنا؛ وليست الجلابيب التي تدنيها النساء عليهن عند الخروج، وبيان ذلك بالآتي:
1 -
استشهد أولا بقوله صلى الله عليه وسلم (طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه
…
) وهذا ليس فيه دلالة! فإن الطيب مما يحرم على المرأة الخروج به عند الرجال الأجانب! ولو خرجت به لكونه لون لا ريح له فسيستره الجلباب!
2 -
عن إبراهيم وهو النخعي (أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر)
(1)
على فرض صحة هذا الأثر فليس فيه حجة؛ لأن رؤية إبراهيم النخعي لهن كان بدخوله عليهن؛ فلا يؤخذ منه جواز الخروج بهذه اللحف الحمر. كما أن دخول إبراهيم النخعي عليهن ورؤيته لهن كان بسبب صغر سنه ولم يثبت أنه رأى من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة رضي الله عنها، ومع ذلك لم يثبت له سماع منها لصغر سنه كما في جامع التحصيل
(1/ 141): (قال يحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم؛ إبراهيم النخعي دخل على عائشة رضي الله عنها وهو صغير، زاد الرازيان؛ ولم يسمع منها شيئا).
(1)
أخرج هذا الأثر ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 159) عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر (زياد بن كليب) عن إبراهيم النخعي؛ وفي هذا الإسناد علة وهي عنعنة سعيد بن أبي عروبة وهو مدلس كما وصفه بذلك ابن حجر في التقريب (1/ 239)، وضعّفه علي بن المديني كما في جامع التحصيل (1/ 141) فقال: إبراهيم النخعي لم يلق أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له فعائشة، قال هذا لم يروه غير سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم وهو ضعيف. اهـ
وفي التاريخ الكبير (1/ 333) والثقات لابن حبان (4/ 9): عن أبي معشر أن النخعي حدثهم أنه دخل على عائشة فرأى عليها ثوبا أحمر، فقال له أيوب وكيف دخل عليها، قال كان يحج مع عمه وخاله فدخل عليها وهو غلام.
فسؤاله عن كيفية دخوله عليها يؤكد أنه لم يكن لأحد أن يدخل عليهن ويكلمهن إلا من وراء حجاب
(1)
؛ فيكون دخول إبراهيم مع علقمة والأسود للسماع من عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب، واخترق إبراهيم الحجاب لصغر سنه ونظر إليها.
2 -
عن ابن أبي مليكة قال: (رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر). أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 159) وفي إسناده علّه فإن ابن أبي مليكة لم يدرك أم سلمة كما قال القاري في مرقاة المفاتيح (5/ 84) وعلى فرض أنه أدركها؛ فسيكون دخوله عليها في صغره. ومع ذلك فليس فيه حجة، لأن ابن أبي مليكة لم يصرح بخروجها بهذه الملحفة المعصفرة، بل إن رؤيته لدرعها -
ثوبها- المعصفر يؤكد أن ذلك كان بدخوله عليها لأنها لو كانت خارجة لما استطاع رؤية درعها لأن الجلباب سيستره.
(1)
قال ابن عبد البر في الاستذكار 6/ 170: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكلمن إلا من وراء حجاب. وقال النووي في المجموع (16/ 351): وقد ثبت أن كثيرا من راويات الحديث وحافظاته يسمعهن الأجانب عنهن من وراء حجاب، وقد كان أبو الشعثاء جابر بن زيد يسأل عائشة من وراء حجاب.
3 -
عن القاسم (أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة). وفي رواية عنه: (أن عائشة كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر وهي محرمة).
وهذا ليس فيه حجة أيضا فليس في الأثر ما يثبت خروج عائشة بهذه الثياب المعصفرة، والقاسم هو ابن أخيها محمد بن أبي بكر، فهو ممن يدخل عليها ويراها دون حجاب فلا حجة في رؤيته لثيابها المعصفرة وهي محرمة.
4 -
عن هشام عن فاطمة بنت المنذر (أن أسماء كانت تلبس المعصفر وهي محرمة). وهذا أيضا ليس فيه حجة، فإن الذي رأى هذه الثياب المعصفرة هي امرأة.
5 -
عن سعيد بن جبير: (أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تطوف بالبيت وعليها ثياب معصفرة). وإسناده لا يصح؛ أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 160) والطبراني في المعجم الكبير (12/ 40) عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن سعيد بن جبير؛ وهو كالأول آفته سعيد بن أبي عروبة ضعفه ابن معين كما أنه مدلس وقد عنعن، فلا يصح بذلك ولا تقوم به حجة. ولعل الشيخ الألباني وهل عن أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخرجن بالنهار ينظر إليهن الرجال حتى وإن كن مستترات بالجلابيب، بل وحتى في الحج أو العمرة لم يكن يخالطن الرجال ومن ذلك ما استشهد به هو في كتابه الجلباب ص 109: (أن عمر بن الخطاب أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في آخر حجة حجها وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قال كان عثمان ينادي ألا لا يدنو إليهن أحد ولا ينظر
إليهن أحد وهن في الهوادج على الإبل فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب وكان عثمان وعبد الرحمن بذنب الشعب فلم يصعد إليهن أحد)
(1)
بل ولم يكنَّ يخاطن الرجال حتى في الطواف؛ فإما أن يطفن وهن راكبات في الهوادج من وراء الناس كما روي عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة "وفي رواية" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون"
(2)
وإما أن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن معتزلات عن الرجال كما روي عن عطاء قال (كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة
(3)
من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت عنك وأبت، وكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال).
(4)
قال المهلب: قول عطاء قد طاف الرجال مع النساء؛ يريد أنهم طافوا في وقت واحد غير مختلطات بالرجال، لأن سنتهن أن يطفن ويصلين وراء الرجال ويستترن عنهم.
وبذلك فلا يصح قول الشيخ الألباني (ليس من الزينة في شيء أن يكون ثوب المرأة الذي تلتحف به ملونا بلون غير السواد) إذ ليس لقوله هذا مستند شرعي
(1)
الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 210 حسن الألباني إسناده في جلباب المرأة /109.
(2)
صحيح البخاري 2/ 585 (1540)، 2/ 587 (1546).
(3)
حجرة: أي ناحية من الناس معتزلة وقيل بمعنى محجورا بينها وبين الرجال بثوب ونحوه.
(4)
صحيح البخاري 2/ 585 (1539).
يصح الاستناد عليه، بل هو مخالف لما جاء مصرحا به في صحيح السنة من لبس النساء للجلابيب السود امتثالا لآية إدناء الجلابيب، فهذا هو الأصل والمعمول به في هذه المسألة.
- رابعا: أن إبداء الزينة لمن سمى الله في الآية يكون بوضع هذه الثياب (الأردية) لا بوضع الخمار؛ يشهد لذلك الآتي:
1) الآثار الواردة في تفسير هذه الآية:
- أخرج الطبري والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الزينة الظاهرة الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} والزينة التي تبديها لهؤلاء الناس قرطاها وقلادتها وسواراها فأما خلخالها ومعضدتها ونحرها وشعرها فلا تبديه إلا لزوجها.
(1)
قال البيهقي في سننه الكبرى (7/ 94) تعقيبا على هذه الرواية: وهذا هو الأفضل ألا تبدي من زينتها الباطنة شيئا لغير زوجها إلا ما يظهر منها في مهنتها.
(1)
تفسير الطبري 18/ 120، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2576 (14410)، البيهقي في السنن الكبرى 7/ 94 (13315) وإسناده حسن كما أسلفنا.
- أخرج الطبري عن ابن مسعود في قوله {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}
…
قال: الطوق
(1)
والقرط.
(2)
- أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال من المسلمات، لا تبديه ليهودية ولا لنصرانية وهو النحر والقرط.
(3)
- وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن مجاهد قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول {أَوْ نِسَائِهِنَّ} فليست من نسائهن.
(4)
- وأخرج الطبري عن جابر بن زيد في قوله {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال نساء المؤمنات الحرائر ليس عليهن جناح أن يرين تلك الزينة، قال وإنما هذا كله في الزينة ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى شيء من عورة المرأة، قال {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} فليس ينبغي لها أن تكشف قرطها للرجل وأما الكحل والخاتم والخضاب فلا بأس به، قال والزوج له فضل والآباء من وراء الرجل لهم فضل والآخرون يتفاضلون قال وهذا كله يجمعه ما ظهر من الزينة.
(5)
(1)
الطوق: حلي للعنق (القاموس المحيط 1/ 1168).
(2)
تفسير الطبري 18/ 120.
(3)
الدر المنثور للسيوطي 6/ 183.
(4)
من تفسير ابن كثير 3/ 285.
(5)
ابن جرير الطبري في تفسيره 22/ 42.
كما أورد ابن أبي حاتم الآثار الآتية:
- عن سعيد بن جبير قال {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}
…
يعني ولا يضعن الجلباب وهو القناع من فوق الخمار إلا لبعولتهن أو آبائهن.
(1)
- عن سعيد بن جبير في قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني عبد المرأة، لا يحل لها أن تضع جلبابها عند عبد زوجها.
(2)
وقال مجاهد: تضع المرأة الجلباب عند المملوك.
(3)
- عن الزهري قال: لا يبدو لهؤلاء الذين سمى الله من لا يحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر - أي من غير أن تحسر الخمار عن شعرها- وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم.
(4)
وفي رواية عنه في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} قال: يرى الشيء من دون الخمار فأما أن تسلخه فلا.
(5)
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2576 (14408)
(2)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2577 (14419).
(3)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2577 (14420).
(4)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2574 (14397) رجاله ثقات عدا ابن لهيعة لكنها من رواية ابن وهب عنه وقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/ 238 - 239) أنه ممن روى عنه قبل أن يقع الوهم في حديثه وقبل احتراق كتبه فحديث هؤلاء عنه أقوى، وقد سئل ابن زرعة عنه وعن سماع القدماء منه فقال أوله وآخره سواء إلا أن ابن المبارك وابن وهب يتبعان أصوله.
(5)
تفسير عبد الرزاق الصنعاني 3/ 56.
- قال ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 383): اختلف العلماء فيما يبدو للأب من الزينة على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه الرأس قاله قتادة.
الثاني: أن الذي تبدي القرط والقلادة والسوار فأما خلخالها وشعرها فلا، قاله ابن عباس ونحوه عن ابن مسعود.
الثالث: أن يكون على رأسها خمار ومقنعة فتكشف المقنعة له.
ولو تأملت الأقوال الثلاثة لوجدت أن معناها واحد وهو أن تضع الرداء (وهو ما سماه المقنعة) دون أن تضع الخمار ليبدو الرأس والقرطين دون الشعر. ولذلك ذكرها ابن العربي في أحكام القرآن (3/ 384) ثم قال: وهي متقاربة المعنى.
فخلاصة هذه الآثار أن المستثنين في الآية إنما يوضع عندهم الرداء دون الخمار؛ إذ لو كان المقصود وضع الخمار وإظهار الشعر لجاء مصرحا به ولو في بعض الروايات!!
قال ابن كثير في تفسيره (3/ 284): {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية؛ كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير تبرج.
2) الآثار التي تدل على كون الخمار من عامة لباسهن في البيوت أمام من يحل له الدخول عليهن:
- عن أنس بن مالك: أن صفية رضي الله عنها لما غضب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتت عائشة فقالت: يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيته عني، فعمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته بورس وزعفران فنضحته بشيء من ماء ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ما لك؟ فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فرضي عن صفية.
(1)
- كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها نذرت على نفسها ألا تكلم عبد الله بن الزبير أبداً، ثم استشفع ابن الزبير بمن يكلمها حتى كلمته وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها.
(2)
وذلك يقتضي ملازمة الخمار لها، كما يقال في الرجل كان يذكر الشيء فيبكي حتى تبل دموعه لحيته!!
- عن العالية أنها قالت: رأيت على عائشة درعا موردا وخمارا جيشانيا.
(3)
(1)
سنن النسائي الكبرى 5/ 369 (9162) الأحاديث المختارة للمقدسي (1727) وقال إسناده حسن. وله شاهد عند أحمد بن حنبل في مسنده 6/ 95 (24684) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 321: فيه سمية روى لها أبو داود وغيره ولم يضعفها أحد وبقية رجاله ثقات. وقال الألباني في الإرواء 7/ 85: ورجاله ثقات رجال مسلم غير سمية وهي مقبولة عند الحافظ ابن حجر.
(2)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 2255 (5725).
(3)
الطبقات لابن سعد 8/ 487 ورجاله رجال الصحيح عدا العالية وقد ذكرها ابن حبان في ثقاته.
- عن شميسة أنها دخلت على عائشة وعليها ثياب من هذه السيد الصفاق
(1)
ودرع وخمار.
(2)
-كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي في بيتي حتى دفن عمر بن الخطاب فيه، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جداراً فتفضلت بعد).
(3)
- وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة
…
فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها - وفي المستدرك وجعلت على رأسها خمارها - ففتحت
(1)
ثوب صفيق: متين. والمراد به هنا الرداء.
(2)
الطبقات لابن سعد 8/ 70 وصحح الألباني إسناده في جلباب المرأة /128.
(3)
الطبقات لابن سعد 3/ 364 واللفظ له، مسند أحمد بن حنبل 6/ 202 (25701) المستدرك على الصحيحين 3/ 63 (4402) وصححه، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 26: رجال أحمد رجال الصحيح. وصحح إسناده يحيى بن معين في الجزء الثاني من حديثه (الفوائد) 1/ 176. والشاهد منه أنه لو لم يكن دأبها لبس الخمار قبل أن يدفن عمر رضي الله عنه لقالت إنه عندما دفن لبست الخمار وتحفظت، ولو لم تكن تلبسه لما أشارت إلى كثرة وضعها له، وذلك يحمل على ما كان وقت النوم أو الامتشاط ونحوه من أوقات وضع الثياب في العورات الثلاث.
الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(1)
(2)
- ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمَّام فقال: إنه سيكون بعدي حمامات ولا خير في الحمامات للنساء، فقالت: يا رسول الله فإنها تدخله بإزار، فقال:"لا وإن دخلته بإزار ودرع وخمار وما من امرأة تنزع خمارها في غير بيت زوجها إلا كشفت الستر فيما بينها وبين ربها".
(3)
(1)
صحيح مسلم (4/ 1938) المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 677) وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
ومما يستأنس به في ذلك ما قيل أن الملائكة لا تنظر للزينة الباطنة للمرأة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (22/ 119): روي أن الملائكة لا تنظر إلى الزينة الباطنة فإذا وضعت خمارها وقميصها لم يُنظر إليها، وروي في ذلك حديث عن خديجة:
-والحديث هو ما روي عن خديجة رضي الله عنها قالت: (قلت يا رسول الله يا ابن عمي هل تستطيع إذا جاءك الذي يأتيك أن تخبرني به فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم يا خديجة، قالت خديجة فجاءه جبريل ذات يوم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خديجة هذا صاحبي الذي يأتيني قد جاء، فقلت له قم فاجلس على فخذي الأيمن فقام على فخذي الأيمن فقلت هل تراه؟ قال: نعم، فقلت له تحول فاجلس على فخذي الأيسر فقلت هل تراه، قال: نعم فقلت له فتحول فاجلس في حجري فقلت له هل تراه؟ قال: نعم، قالت خديجة: فتحسرت وطرحت خماري فقلت هل تراه؟ قال: لا، فقلت هذا والله ملك كريم لا والله ما هذا شيطان). وفي رواية قالت: (أبشر فإنه والله ملك وليس بشيطان) رواه ابن سعد في الطبقات 8/ 55، والطبراني في المعجم الأوسط 6/ 287 (6435) وحسن الهيثمي إسناده في مجمع الزوائد 8/ 256.
- يشهد لذلك مارواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها" فإن جبريل أتاني حين رأيت فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك" رواه مسلم 2/ 669 (974).
(3)
المعجم الأوسط للطبراني 3/ 321 (3286) وفي إسناده ابن لهيعة، قال الشيخ الألباني "حديثه في المتابعات والشواهد لاينزل عن رتبة الحسن". والروايات التي صححها الشيخ الألباني بلفظ (ثيابها) تعد شواهد له.
قال الشيخ الألباني الحديث صحيح بلفظ: "ثيابها" مكان "خمارها" وضعّف الحديث بهذا اللفظ ووصفه بالنكارة! لأنه يرى أنه مخالف للروايات الأخرى التي جاءت بلفظ "ثيابها" مكان "خمارها":
وذلك فيما صح أن نسوة من أهل حمص استأذن على عائشة رضي الله عنها فقالت: لعلكن من اللواتي يدخلن الحمامات، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله".
(1)
وكذلك فيما صح عن أم الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيها يوما فقال من أين جئت يا أم الدَّرداء قالت من الحمّام فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من امرأة تنزع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله من ستر"
(2)
فيجاب عليه بالآتي:
أولا: قوله أنه مخالف للروايات الأخرى الصحيحة لا يصح؛ لأنه مقيّد لما أُطلق فيها وليس مخالفا لها، فإن الروايات الأخرى جاء فيها لفظ (ثيابها) مطلقا قد يراد به الثياب الظاهرة وهي الجلباب والخمار وقد يراد به الثياب الباطنة، فجاءت هذه الرواية مقيدة لها بأن المراد بها؛ الثياب الظاهرة من الجلباب والخمار، فما وجه النكارة في ذلك ونصوص الشرع شاهدة على صحة ذلك.
(1)
مسند أحمد بن حنبل 6/ 173 (25446) سنن ابن ماجه 2/ 1234 (3750) المستدرك على الصحيحين للحاكم 4/ 321 (7781) صححه الألباني في صحيح الجامع (2710).
(2)
مسند أحمد بن حنبل 6/ 362 (27086) المعجم الكبير للطبراني 24/ 255 (652) وصححه الألباني في صحيح الترغيب حديث رقم (169).
فإنه قد ورد في كثير من النصوص إطلاق لفظ الثياب والمراد هو الجلباب أو الخمار كما أسلفنا: ومن ذلك قوله تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} النور: 60 قال ابن جرير الطبري في تفسيره (18/ 165): (فليس عليهن حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهن يعني جلابيبهن وهي القناع الذي يكون فوق الخمار والرداء الذي يكون فوق الثياب) اهـ فسمى الله تعالى الجلابيب في هذه الآية؛ ثيابا.
- وما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُريتك في المنام يجئ بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت. . .)
(1)
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر بالثوب عمّا يغطى به الوجه من خمار أو جلباب.
- وكذلك ما صح أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة (ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات لجلدها أشد خضرة من ثوبها)
(2)
وهذه عائشة رضي الله عنها عبرت بالثوب عن الخمار.
فلا يستبعد أن يكون المراد بالثياب في هذا الحديث؛ هو الخمار.
(1)
صحيح البخاري 5/ 1969 (4832).
(2)
صحيح البخاري 5/ 2192 (5487)
ثانيا: أما السبب الثاني الذي لأجله ضعّف الشيخ الألباني الحديث بلفظ (خمارها)؛ فهو كما قال: مخالفته لقوله تعالى في آية النور {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية أما أن ترفع خمارها في غير بيت زوجها أمام النساء المسلمات، فالآية صريحة بذلك. اهـ
فيقال بأن الحديث بهذا اللفظ (خمارها) يوافق آية النور هذه تمام الموافقة لأن هذه الآية جاءت آمرة المرأة بضرب خمارها على جيبها ناهية عن وضعه إلا لمن استثني في الآية، أما من لم يستثن في الآية ممن يحل لهم النظر فالمرأة منهية عن نزع الخمار أمامهم، ومنهم النساء غير المسلمات، وفي هذا الحديث جاء التحذير من دخول الحمامات التي يدخلها النساء غير المسلمات.
قال البيهقي في معرفة السنن والآثار (10/ 24): وروينا عن عمر بن الخطاب، أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح:(أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات ومعهن نساء أهل الكتاب، فامنع ذلك وحل دونه) وفي رواية أخرى (فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها) قال أحمد: وهذا في العورة المحققة، والذي يؤكده ما روي عن مجاهد أنه قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة ولا تقبلها؛ لأن الله يقول: (أو نسائهن).
3) ما جاء في صفة مسح المرأة لرأسها عند الوضوء مما يدل على أن الخمار كان من عامة لباسهن في البيوت:
- ومن ذلك ما روته أم علقمة مولاه عائشة رضي الله عنها أن عائشة كانت إذا توضأت تدخل يدها من تحت الرداء تمسح برأسها كله.
(1)
- وعن نافع أنه رأى صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر تنزع خمارها ثم تمسح على رأسها بالماء ونافع يومئذٍ صغير.
(2)
- وسئل ابن المسيب كيف تمسح المرأة رأسها؟ قال: تسلخ خمارها ثم تمسح رأسها.
(3)
- وعن إبراهيم النخعي قال: إذا توضأت المرأة فلتنزع خمارها ولتمسح برأسها.
(4)
- وعن عطاء بن أبي رباح في المرأة إذا أرادت أن تمسح رأسها قال: تدخل يديها تحت الخمار فتمسح مقدم رأسها.
(5)
(1)
مالك في المدونة الكبرى 1/ 16، البيهقي في سننه الكبرى (286). إسناد مالك رجاله ثقات عدا أم علقمة وقد ذكرها ابن حبان في الثقات وقال ابن حجر عنها في التقريب" مقبولة" وروى البخاري لها تعليقا. وقال ابن سعد في الطبقات 8/ 490: أم علقمة روى عنها ابنها علقمة أحاديث صالحة.
(2)
موطأ مالك 1/ 35 (70) إسناده صحيح.
(3)
مصنف عبد الرزاق 1/ 17 (50) إسناده متصل ورجاله رجال الصحيح.
(4)
مصنف ابن أبي شيبة 1/ 31 (251) إسناده متصل ورجاله رجال الصحيح.
(5)
مصنف ابن أبي شيبة 1/ 30 (246) إسناده متصل ورجاله رجال الصحيح.
* ولو كانت النساء كاشفات عن شعورهن في البيوت في عامة أحوالهن أمام من يحل له الدخول عليهن لتواترت الآثار بذكر رؤية القرون وصفة الشعور كما تواترت بذكر الخُمر والأردية، وإن ورد شيء من ذلك فيحمل على أنه حال وضعهن للخمر كحال امتشاطهن ونحو ذلك
(1)
فلا يحتج به على أنهن لم يكن يلبسن الخمر في عامة أحوالهن.
4) ومما يشهد لذلك أيضا ما أثر عن بعض السلف من التابعين من كراهة النظر إلى الشعر من ذوات المحارم:
أخرج عبد الرزاق في مصنفه باب ما يُرى من ذوات المحارم
(2)
:
- قال الزهري: لا بأس أن ينظر إلى قصة المرأة من تحت خمارها إذا كان ذا محرم فأما أن تسلخ خمارها فلا. وفي رواية؛ المرأة تسلخ خمارها عند ذي محرم؟ قال: أما أن يرى الشيء من دون الخمار فلا بأس وأما أن تسلخ الخمار فلا.
- عن ابن طاووس عن أبيه قال: ما كان أكره إليه من أن يرى عورة من ذات محرم، وكان يكره أن تسلخ خمارها عنده.
(1)
كما أخرج البخاري (3882) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخلت على حفصة ونسواتها تنطف. " نسواتها تنطف" أي ضفائرها تقطر ماء، فهذا قد يكون لخروجها للتو من مغتسلها، أو قد يكون رأى مازاد عن الخمار من الضفائر. وكذلك ما روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يفلون أمهاتهم، فهذا محمول على الضرورة، كما تعقبه ابن عبد البر في التمهيد (16/ 231) بقوله: إنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وكذلك شعور ذوات المحارم العجائز دون الشواب ومن يخشى منه الفتنة.
(2)
مصنف عبد الرزاق 7/ 212 بأسانيد متصلة ورجالها ثقات.
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه
(1)
:
- عن طاووس إنه كان يكره أن ينظر الرجل إلى شعر ابنته أو اخته.
- عن عامر الشعبي أنه يكره أن ينظر إلى شعر كل ذات محرم.
- عن الحسن البصري في المرأة تضع خمارها عند أخيها قال والله ما لها ذلك.
- عن الضحاك بن مزاحم قال: لو دخلت علي أمي لقلت غطي رأسك.
5) يؤيد ذلك أيضا ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أن المحرم لا ينظر إلا إلى الوجه والكفين من المرأة:
- المحرر في الفقه لمجد الدين أبي البركات (2/ 13): وقيل لا ينظر الخاطب والمحرم إلا الوجه والكفين.
- الفروع لمحمد بن مفلح المقدسي (5/ 108): وينظر من أمة مستامة رأسا وساقا وعنه سوى عورة الصلاة وقيل كمخطوبة وكذا ذات محرم وهي إليه وكذا عبدها وقال جماعة وجها وكفا.
وقال في موضع آخر (5/ 112): ولأحد الزوجين نظر كل صاحبه وكذا سيد مع سريَّته ويحرم أن تتزين لمحرم غيرهما -الزوج والسيد-
(1)
مصنف بن أبي شيبة 4/ 11 بأسانيد متصلة ورجالها رجال الصحيح.
- وفي المبدع لإبراهيم بن مفلح (7/ 8): (وعنه لا ينظر من ذوات محارمه إلا إلى الوجه والكفين) لقول ابن عباس في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
…
يعني وجهها وكفيها.
- وفي الإنصاف للمرداوي (8/ 20): لا ينظر من ذوات محارمه إلى غير الوجه ذكرها في الرعاية وغيرها، وعنه لا ينظر منهن إلا إلى الوجه والكفين.
- وفي التمهيد لابن عبد البر (المالكي)(8/ 236): ذوي المحارم لا يحتجب منهم ولا يستتر عنهم إلا العورات والمرأة فيما عدا وجهها وكفيها عورة بدليل أنها لا يجوز لها كشفه في الصلاة.
- وفي القوانين الفقهية لابن جزي (المالكي)(1/ 29): وإن كانت ذات محرم جاز له رؤية وجهها ويديها دون سائر جسدها على الأصح.
- وفي الفتاوى الهندية للشيخ نظام (الحنفي)(5/ 333) ونقله ابن عابدين في حاشيته (1/ 404): يرخص للمرأة كشف الرأس في منزلها وحدها فأولى أن يجوز لها لبس خمار رقيق يصف ما تحته عند محارمها كذا في الْقُنْية.
- قال أبو الأعلى المودودي الحنفي في كتابه الحجاب/273: جسم المرأة كله إلا وجهها ويديها عورة يجب أن تسترها حتى عن أدنى أقاربها في البيت، فلا يجوز لها تكشف عورتها على أحد غير زوجها سواء كان أباها أو أخاها أو ابن أخيها.
- خامسا: تصريح بعض المفسرين بأن هذه الآيات نزلت لتنظيم مخالطة من أُحل لهم الدخول على النساء في البيوت:
كما قال أبو السعود العمادي في تفسيره (6/ 168) والألوسي في روح المعاني (18/ 133): إنه عز وجل إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمي العفائف شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال والنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات.
يشهد لذلك سبب نزول الآية التي قبلها الذي أورده السيوطي في الدر المنثور (6/ 171) قال: أخرج الفريابي وابن جرير من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال: قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولد ولا والد فيأتيني الآتي فيدخل علي فكيف أصنع) ولفظ ابن جرير (وأنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال) قال فنزلت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
(1)
النور: 27
وقد ذكر في الإتقان أن دخول سبب النزول في الحكم قطعي.
(2)
(1)
تفسير الطبري 18/ 111.
(2)
نقله الألوسي في روح المعاني 18/ 209.
كما يشهد لذلك أيضا الآية التي جاءت بعدها آمرة بإنكاح وإحصان من يحل لهم الدخول دون حجاب من العبيد:
- سادسا: من القرائن في الآية ما شرع من الاستئناس قبل الدخول في البيوت {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} النور: 27 واختصاص هذا الحكم في هذه الآية بمن يحل لهم الدخول في البيت دون حجاب؛ يشهد له أمور:
(1)
أن المنهي عنه في الآية هو الدخول بغير استئناس؛ وليس المنهي عنه هو الدخول، وهذا يدل على أن الداخل ممن أجاز له الشرع الدخول دون حجاب
(1)
، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التشديد في النهي عن دخول الرجال الأجانب على النساء فقال صلى الله عليه وسلم " إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال" الحمو الموت".
(2)
(2)
أن الاستئذان في هذه الآية جاء بلفظ الاستئناس
(3)
{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}
(4)
والاستئناس كما صح عن مجاهد رضي الله عنه في قوله {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} قال: تنحنحوا وتنخموا.
(5)
(1)
يؤكد ذلك: أن تقييد البيوت المنهي عن دخولها بغير استئناس باستثناء بيوت المخاطبين منها {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} يوحي بقرب هذه البيوت للمخاطبين، بخلاف لو جاء النهي مطلقا لدل على عمومه، وكذلك لما كانت البيوت المنهي عن دخولها غير محددة فهي تختلف من رجل إلى آخر كل حسب محرميّته، جاءت نكرة {بُيُوتًا} ، ولو كان المراد هو جميع البيوت لجاءت معرّفة بأل كأن يقول (لا تدخلوا البيوت غير بيوتكم) أو لعُرّفت بالإضافة (بيوت غيركم).
(2)
صحيح البخاري 5/ 20054 (4934) صحيح مسلم 4/ 1711 (2172).
(3)
وهو مغاير للاستئذان العام الذي شُرع مقرونا بضرب الحجاب ومنع دخول الرجال على النساء في سورة الأحزاب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الأحزاب: 53 وجاء بيانه في السُّنة: عن ربعي قال حدثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: أألج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية" اخرجي فقولي له: قل السلام عليكم أأدخل، فإنه لم يحسن الاستئذان". سنن أبي داود 4/ 345 (5177) صححه الألباني في صحيح الجامع. حديث رقم (4397).
وجاء عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي قال فدخلت عليه ولم أسلم ولم استأذن فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فقل السلام عليكم أأدخل. سنن أبي داود 4/ 344 (5176) جامع الترمذي 5/ 64 (2710) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 4/ 344.
كما يتبين من هذه الأحاديث أن المشروع في الاستئذان العام؛ تقديم التسليم على الاستئذان كما روي عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: "لا يؤذن له حتى يبدأ بالسلام"، أما في هذه الآية فالاستئناس مقدم على التسليم فقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} قال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في أحاديث الرسول (3/ 90): فالاستئناس التنبيه ثم يكون بعده التسليم.
(4)
قال بعض المفسرين" تستأنسوا" هو خطأ ووهم من الكاتب وأن الصحيح" تستأذنوا" مستشهدين على ذلك بقول لابن عباس! وقد أنكر عليهم هذا القول القرطبي وابن كثير وقال أبو حيان: من روى عن ابن عباس أنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس بريء من ذلك القول.
(5)
تفسير الطبري (8/ 111) من عدة طرق، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2566 (14346)
وقال جابر بن زيد الاستئناس: التنحنح والتجرس حتى يعرفوا أن قد جاءهم أحد، قال: والتجرس كلامه وتنحنحه.
(1)
وصح عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه.
(2)
وفي رواية عن أبي عبيدة قال كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس سلم ورفع صوته.
(3)
(3)
يؤكد ذلك قول أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن (5/ 167): {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان
(1)
تفسير الطبري 18/ 112.
(2)
تفسير الطبري (18/ 112) وصحح إسناده ابن كثير في تفسيره (3/ 281).
(3)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2566 (14343).
وإن لم يكن من صاحب البيت إذن، ولذلك قال مجاهد الاستئناس التنحنح والتنخع فكأنه إنما أراد أن يعلمهم بدخوله، وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول بغير إذن.
- وقول القرطبي في تفسيره (12/ 213): {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} تستعلموا أي تستعلموا من في البيت قال مجاهد (بالتنحنح) أو بأي وجه أمكن ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به ويدخل إثر ذلك، وقال معناه الطبري ومنه قوله تعالى (فإن ءانستم منهم رشدا) النساء: 6 أي علمتم
…
قلت: وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان كما قال مجاهد ومن وافقه.
- وقول الألوسي في روح المعاني (18/ 135): وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم.
(4)
ثم جاءت قرينة أخرى في الآية التي تليها وهي قوله {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} النور: 28
فالخطاب موجه فيها لمن يحل له دخول البيت ممن اعتاد دخوله من مماليك وتابعين ونحوهم؛ فنهوا عن دخولها إذا لم يكن أهلها فيها إلا بإذن ممن يملك الإذن {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} عن سعيد بن جبير في قوله
تعالى {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} يعني الرجوع خير لكم من القيام والقعود على أبوابهم
(1)
. وهذا يشهد لكون المخاطبين من الرقيق ونحوهم.
(5)
وقرينة أخرى في آخر السورة في قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} النور: 58 فبعد أن شُرع الاستئناس لمن يحل له دخول البيت دون استئذان؛ وقع الحرج ممن يكثر دخولهم وخروجهم في جميع الأوقات وهم الصبية المميزون والمملوكون، فقُيّد دخولهم أوقات النوم وانكشاف العورات ووضع الثياب؛ بأن شرع لهم الاستئذان في هذه الأوقات
(2)
، ورفع الحرج عنهم فيما عدا هذه الأوقات فأذن لهم الدخول بلا استئناس ولا استئذان (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم).
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2568.
(2)
بقرينة تقييد الاستئذان في هذه الآية بقوله (ثلاث مرات) وهذه هي الصفة المعهودة في الاستئذان كما في صحيح البخاري 5/ 2305 (5891) قال النبي صلى الله عليه وسلم " الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع"، قال ابن عبد البر في التمهيد 3/ 197، والقرطبي في تفسيره 12/ 304: قال بعض أهل العلم إن الاستئذان ثلاثا مأخوذا من قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) قال يريد ثلاث دفعات، فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجميع. اهـ
(6)
ثم قال تعالى {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} النور: 59
فبعد أن رخّص الله تعالى للصبية المميزين الدخول في غير الأوقات الثلاث بغير استئذان ولا استئناس؛ عقب ببيان حالهم بعد البلوغ عند الدخول على أهلهم، فشرع لهم إذا بلغوا الحلم أن يستأذنوا عند دخولهم على أهليهم بالاستئناس في جميع الأوقات، ولذا قيد أمرهم بالاستئذان بقوله {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي فليستأذنوا كاستئذان من شرع لهم الاستئناس عند الدخول في أول السورة.
قال الشوكاني في فتح القدير (4/ 52): المقصود بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع ولا ريب في أن بلوغهم قبل بلوغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر كذلك في الواقع، وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم أي فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات.
(1)
(1)
وانظر: تفسير أبي السعود 6/ 195، روح المعاني للألوسي 18/ 216.
ومما يشهد لذلك ما أُثر عن سعيد بن المسيب أنه قال ليستأذن الرجل على أُمّة فإنما نزلت {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ}
…
في ذلك.
(1)
ولو كان المراد هو الاستئذان العام لجاء الأمر لهم بالاستئذان مطلقا دون تشبيهه باستئذان الذين من قبلهم. ولهذا قال الله تعالى أيضا في ختام هذه الآية {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وخلاصة ما سبق أن المعني بالخطاب في هذه الآية هم من يحل لهم الدخول على المرأة دون حجاب وليس الرجال الأحرار الأجانب الذين لا يحل لهم الدخول على النساء الحرائر، كما سبق من قول أبي بكر الجصاص: وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول بغير إذن. وقول الألوسي: وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم.
- سابعا: ومن القرائن في الآية أن الأمر بغض البصر جاء فيها مبعضا بـ "من" التبعيضية أي الغض من البصر لا غض البصر كلّه، مما يدل أيضا على أن الأمر في هذه الآية متعلق بمن يحل لهم النظر، أما الرجال الأحرار الأجانب فقد سبق أن أنزل الله في سورة الأحزاب منعهم من النظر بالكلّية إلى النساء الأجنبيات الحرائر بضرب الحجاب بينهم ومنعهم من الدخول عليهن في البيوت - كما سبق بيان ذلك- ولحرص الشارع الحكيم على قطع أسباب الزنا أمر من أُبيح لهم الدخول والنظر الغضّ من البصر؛ سواء كان النظر للمحارم، أو
(1)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2638، ابن جرير الطبري في تفسيره 18/ 165، ابن عبد البر في التمهيد.
للإماء اللاتي لم يُفرض عليهن الحجاب، أو نظر العبيد ونحوهم للوجه والكفين من النساء الأجنبيات الحرائر؛ يشهد لذلك أنه لم يرد في تأويلها ما يدل على أن المراد غض بصر الرجال الأحرار عن وجوه من حال الحجاب دون النظر إليهن من النساء الحرائر - وإن كان هذا مأمور به ولكن ليس المراد هنا -بل جاء في تأويلها ما يدل على أن المراد الغض من البصر حال جواز النظر:
قال ابن عباس: يغضوا من أبصارهم؛ من شهواتهم مما يكره الله.
(1)
وقال جابر بن زيد: يغض من بصره أن ينظر إلى ما لا يحل له، إذا رأى ما لا يحل له غض من بصره لا ينظر إليه.
(2)
وقال قتادة: أي عما لا يحل لهم.
(3)
قال الطبري في تفسيره جامع البيان (18/ 116): قال يغض من بصره أن ينظر إلى ما لا يحل له إذا رأى ما لا يحل له غض من بصره لا ينظر إليه ولا يستطيع أحد أن يغض بصره كله إنما قال الله (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم).
قال الثعلبي في تفسيره الكشف والبيان (7/ 86) والبغوي في معالم التنزيل (3/ 401) واختلفوا في قوله (مِنْ) فقال بعضهم: هو صلة أي يغضّوا أبصارهم،
(1)
ابن جرير في تفسيره 18/ 117، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2570 (14373)
(2)
ابن جرير في تفسيره 18/ 117.
(3)
من الدر المنثور 6/ 176، البخاري في صحيحه في التعاليق 5/ 2299.
وقال آخرون: هو ثابت في الحكم لأنّ المؤمنين غير مأمورين بغضّ البصر أصلا، وإنّما أمروا بالغضّ عمّا لا يحل النظر إليه.
قال الزمخشري في الكشاف (3/ 229) والنسفي في مدارك التنزيل (2/ 499): (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) من للتبعيض، والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل، فإن قلت: كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفروج؟ قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع؛ ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن
…
وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها - ممن أُبيح لهم الدخول والنظر من العبيد المملوكين ونحوهم.
قال ابن جزي الكلبي في التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 66): والغض المأمور به هو عن النظر إلى العورة، أو إلى ما لا يحل من النساء.
قال أبو حفص سراج الدين النعماني في اللباب في علوم الكتاب (14/ 349): قال الأكثرون: المراد غض البص عما يحرم والاقتصار به على ما يحل
…
ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن، وكذا الجواري المستعرضات، وأما أمر الفروج فمضيق.
قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (12/ 222): ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج غير أن ذلك معلوم بالعادة وأن المراد منه المحرم دون المحلل وفي البخاري وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء
العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن قال اصرف بصرك، يقول الله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وقال قتادة (عما لا يحل لهم)
…
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري)
(1)
…
ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها.
- ثامنا: بعد أن شُرع الاستئناس وأمر بغض البصر عما يحرم عليه رؤيته، وكانت الفروج من أعظم ذلك؛ جاء الأمر بحفظها بسترها عمن لا يحل له النظر إليها، وهذه قرينة أيضاً وهي أن المراد بحفظ الفروج في هذه الآية؛ حفظها عن النظر - وإن كان حفظها عن النظر بسترها؛ يستلزم حفظها عن الزنا - يشهد لهذا ما ورد في تأويلها عن السلف:
- قال أبو العالية كل فرج ذكر حفظه في القرآن فهو من الزنا إلا هذه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} فإنه يعني الستر.
(2)
- وقال جابر بن زيد كل ما في القرآن من حفظ للفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار.
(3)
(1)
صحيح مسلم 3/ 1699 (2159).
(2)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2571 (14379)، وابن جرير في تفسيره 18/ 116.
(3)
من الكشاف للزمخشري 3/ 234، تفسير الثعالبي 7/ 86، وذكره الشنقيطي في أضواء البيان 6/ 188.
قال الطبري في تفسيره (18/ 116): يكفوا من نظرهم إلى ما يشتهون النظر إليه مما قد نهاهم الله عن النظر إليه ويحفظوا فروجهم أن يراها من لا يحل له رؤيتها بلبس ما يسترها عن أبصارهم {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} يقول فإن غضها من النظر عما لا يحل النظر إليه وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين.
قال الثعلبي في الكشف والبيان (7/ 86) والبغوي في معالم التنزيل (3/ 401) والزمخشري في الكشاف (3/ 229): (يحفظوا فروجهم) عما لا يحل، قال أبو العالية: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا، إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.
وهذا يؤكد أن هذه الآية تعني من يحل لهم الدخول دون حجاب من المحارم أو المملوكين لأنهم وإن استأنسوا قبل الدخول إلا أنه يحتمل أن يصادف دخولهم انكشاف العورة إن لم يحصل تحفظ من أهل البيت، فجاء الأمر بالحرص على الاستتار حفظا للفروج.
ولما كانت النساء هن مكمن الفتنة؛ لم يقتصر الأمر لهن بالغض من البصر وحفظ الفروج فقط كما جاء في حق الرجال، بل تعداه إلى منع كل ما من شأنه أن يكون سبباً للافتتان بهن ممن يدخل عليهن أو من قد يخلو بهن ممن أُذن له الدخول عليهن، وذلك بأمرهن بالتستر وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها بقوله
تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} والمراد هو النهي عن إبداء زينتهن الباطنة لمن يحل له الدخول عليهن في البيوت - من الرقيق ونحوهم - والاكتفاء بإبداء الزينة الظاهرة لهم وذلك بلبس الرداء وضرب الخمار على الجيب كما أسلفنا.
- تاسعا: ومن القرائن كذلك قوله تعالى في آخر الآية {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} النور: 31 وهي النهي عن الضرب بالأرجل، فلما كان الخلخال من الزينة الباطنة التي لايجوز إبداؤها إلا للزوج كما قال ابن عباس: الزينة الظاهرة؛ الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم؛ فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} والزينة التي تبديها لهؤلاء الناس قرطاها وقلادتها وسواراها فأما خلخالها ومعضدتها ونحرها وشعرها فلا تبديه إلا لزوجها.
(1)
نهى الله المرأة عن تعمد إسماع صوت هذه الزينة لمن يدخل عليها - وإن كان النهي عن ذلك عند خروجها من باب أولى - لأن تعمد إسماع صوت الخلاخل أعظم فتنة من إظهارها؛
(1)
تفسير الطبري 18/ 120، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2576 (14410) حسن إسناده أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 463).
- قال ابن عباس في قوله {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال، أو يكون في رجليها خلاخل فتحركهن عند الرجال، فنهى الله عن ذلك لأنه من عمل الشيطان.
(1)
- قال جابر بن زيد {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} الأجراس من حليهن يجعلنها في أرجلهن في مكان الخلاخل فنهاهن الله أن يضربن بأرجلهن لتسمع تلك الأجراس.
(2)
- قال سعيد بن جبير: أن المرأة كانت يكون في رجلها الخلخال فيه الجلاجل فإذا دخل عليها غريب
(3)
تحرك رجلها عمدا ليسمع صوت الخلخال.
(4)
- قال مجاهد في قوله {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ}
…
قال الخلخال على الخلخال.
(5)
- قال قتادة {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} قال هو الخلخال لا تضرب امرأة برجلها ليسمع صوت خلخالها.
(6)
(1)
تفسير الطبري 18/ 124، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2579 (14433).
(2)
تفسير الطبري 18/ 124.
(3)
وهذا شامل لكل من لم يستثن في الآية من الرجال في حق الإماء، ولكل من يحل له الدخول على المرأة الحرة دون حجاب من الرقيق والأتباع.
(4)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2580 (14434)
(5)
تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2580 (14436).
(6)
تفسير الطبري 18/ 124، تفسير الصنعاني 3/ 58.