الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ــ::
مناقشة تتمة البحث السابع (1)::
ــ
أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال سألت عبيدة عن قوله {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
…
قال فقال بثوبه فغطى رأسه ووجهه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه.
وفي رواية أخرى لابن جرير: فتقنع به فغطى أنفه وعينه اليسرى وأخرج عينه اليمنى وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب.
(1)
وهذا الأثر مما اعتمد عليه جل أهل التفسير في تفسير آية إدناء الجلابيب، ولكن الشيخ الألباني حكم عليه بالضعف ولم يكن محقا في ذلك لما يأتي:
أولا: قال إنه مقطوع موقوف، والموقوف هو ما أسند إلى صحابي، والمقطوع هو ما أسند إلى تابعي، فكيف يجتمعان في الحكم على أثر واحد! وقد احتج الشيخ الألباني بأثر قتادة المقطوع "أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يُقَنِّعن على الحواجب" قائلا: أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح إليه، ورمي هنا أثر عبيدة بالضعف وقد أخرجه ابن جرير بسند صحيح إليه!!
(1)
ابن جرير الطبري في تفسيره 22/ 46، صحح إسناده أ. د حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور 4/ 144، تفسير ابن أبي حاتم 10/ 3155 ولفظه: فرفع ملحفة كانت عليه فقنع بها، وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه واخرج عينه اليسرى من شق وجهه والايسر مما يلي العين.
بل إن إسناده من أصح الأسانيد، رجاله كلهم جبال في الثقة والضبط؛ ولا أظن أن هذا مما خفي على الشيخ فهو عند ابن جرير في الموضع الذي أخذ منه الشيخ الألباني أثر قتادة وابن عباس ولكنه غفر الله له عزا هذا الأثر إلى السيوطي في الدر، ولم يعزه إلى ابن جرير الطبري!! علاوة على أن قتادة من صغار التابعين لم يرَ إلا عددا من الصحابة فجُلّ رواياته عن
التابعين.
(1)
أما عبيدة السلماني فهو من كبار التابعين وأعلامهم
(2)
، ومخضرم ثقة ثبت، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره، نزل المدينة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعاصر الصحابة ولم يزل بها حتى مات؛ وبذلك فهو إنما يفسر ما كان سائداً في المجتمع الذي كان يمثله أجلة الصحابة رضي الله عنهم وأكابر الأمة الذين نزل بينهم القرآن وعليهم مدار هذا الدين.
قال عنه ابن عبد البر: هو من كبار أصحاب ابن مسعود الفقهاء.
(3)
وقال الذهبي: عبيدة السلماني الكوفي الفقيه العلم، كاد أن يكون صحابياً، أسلم زمن الفتح باليمن وأخذ العلم عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وبرع في الفقه، وكان ثبتا في الحديث، وقال العجلي؛ عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن
(1)
وانظر تقريب التهذيب 1/ 75.
(2)
قال النووي في التقريب (ص/ 34): اتفق علماء الطوائف على أن قول التابعي الكبير: قال رسول الله كذا أو فعله يسمى مرسلاً. اهـ وقول عبيدة تفسير للآية بما كان عليه الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
الاستيعاب 3/ 1023.
مسعود الذين يقرؤون ويفتون الناس، وقال ابن سيرين: ما رأيت رجلاً أشد توقياً من عبيدة
(1)
.
وقد قال الإمام الذهبي في الموقظة في علم مصطلح الحديث (ص: 39): فإن المرسل إذا صح إلى تابعي كبير، فهو حجة عند خلق من الفقهاء.
قال أبو العباس أحمد بن فرح الإشبيلي (ت 624 هـ) في الغرامية في مصطلح الحديث (ص: 106): وليعلم أن المقطوع يقع عليه الوصفان، الصحة والضعف تبعا لحال إسناده ومتنه، ولا يلزم من صحته وجوب العمل به، إذا كان مجردا عن قرينة تدل على أن له حكم الرفع.
ولما كان أثر عبيدة هذا تفسيرا للآية بما كان سائدا ومعمولا به في مجتمع أكابر الصحابة الذين نزل عليهم القرآن الكريم؛ كانت تلك قرينة توجب العمل به وتدل على أن له حكم الرفع.
هذا علاوة على ما ذكر الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (7/ 78) قال: قال علي بن المديني وعمرو بن علي الفلاس: أصح الأسانيد محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي وقال العجلي: كل شيء روى محمد عن عبيدة سوى رأيه فهو عن علي بن أبي طالب وكل شيء روي عن إبراهيم عن عبيدة سوى رأيه فإنه عن عبد الله بن مسعود.
(2)
اهـ
(1)
انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 40، تهذيب الكمال 19/ 267، تهذيب التهذيب (7/ 78).
(2)
وانظر معرفة الثقات للعجلي 2/ 124.
فهذه شهادة باتصال سند هذه الرواية حيث إنها تفسير منه للآية بما كان سائدا في مجتمع الصحابة وليست مما يقال بالرأي، وعليه فإن إسنادها يعتبر أصح الأسانيد كما قال ابن المديني وعمرو الفلاس، كما ثبت أن تفسير عبيدة للآية أخذه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإن لم يكن عن علي فهو عن عبد الله بن مسعود وهو أعلم وأفقه هذه الأمة بالقرآن.
وبذلك يكون قد اتفق على هذا التفسير لآية إدناء الجلابيب والذي يقتضي وجوب تغطية الوجه على النساء الحرائر؛ صحابيان: عبدالله بن عباس، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وتفسير الصحابي حجة يجب العمل به فحكمه كحكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: قال الشيخ الألباني (أنهم اضطربوا في ضبط العين المكشوفة) واستشهد بذكر سياق ابن تيمية لأثر عبيدة بالمعنى؛ على أنها رواية أخرى للأثر!! إلى قال (أن الاضطراب عند علماء الحديث علة في الرواية تسقطها عن مرتبة الاحتجاج بها) اهـ فيقال؛ إن الاضطراب الذي يسقط الاحتجاج بالأثر: هو ما روي على أوجه متعارضة متدافعة بحيث لا يمكن التوفيق بينها، وتكون متساوية في القوة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الأخرى.
(1)
والروايات الواردة لأثر عبيدة ليس فيها تعارض ولا تدافع! وتفسيره للآية كان بفعل منه وليس بقول؛ ولذلك اختلف تعبير الرواة لهذا الفعل، فلا وجه
(1)
انظر: تيسير مصطلح الحديث /141.
للطعن فيه بالاضطراب!! فإن كشف أي العينين لا يضر، فالأمر راجع للمرأة تكشف أيهما تشاء دون توسع في إظهار ما عداهما لأن الرخصة في إبداء العين إنما شرع لرؤية الطريق فقط.
كما قال الألوسي في روح المعاني (22/ 88): والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل ولذا عدي بعلى، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل.
كما أن الشيخ الألباني قد أنكر في بحثه الثامن - كما سيأتي - على من طعن حديث عائشة بالاضطراب في متنه فقال: ثم ماذا يفيدك هذا الشغب في هذا الاختلاف المرجوح مع اتفاق الطرق الثلاث على ذكر الوجه، وهو الجانب الأهم من الاختلاف. . .؟! فيقال وماذا يفيد الطعن في أثر عبيدة وقد اتفقت رواياته على ما مفاده تغطية الوجه وهو الجانب الأهم من الاختلاف؟!
ثالثا: قال الشيخ الألباني أنه قد خالف تفسير ترجمان القرآن: ابن عباس ومن معه من الأصحاب؟! وهذا قول غير صحيح؛ فإن أثر عبيدة موافق لما صح عن ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية (أمر الله
نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة) وقول سعيد بن جبير (يدنين عليهن من جلابيبهن؛ يسدلن عليهن من جلابيبهن وهو القناع فوق الخمار) بل وموافق لأثر قتادة الذي احتج به الشيخ الألباني (أن الله أخذ عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب) وتأمل هذه الموافقه: (فقنع بها، وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين) (فتقنع به. . . وأدنى رداءه من
فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب) فأين المخالفة التي ذكر الشيخ الألباني غفر الله له؟!
قال حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 464): أخرج الطبري بسنده الحسن من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة) فقد صح مثله عن عبيدة السلماني. اهـ
فما وجه حكم الشيخ الألباني على أثر عبيدة بالضعف؛ وإسناده من أصح الأسانيد ووافقه عليه ابن عباس وقتادة وابن جبير!
إذن فلا وجه للطعن في هذه الرواية وقد احتج بها أهل العلم واعتمد عليها أهل التفسير وعمل بها الأئمة.
* أما الحديث الثالث الذي أنكر الشيخ الألباني الاستشهاد به فهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه في تفسير آية إدناء الجلابيب قال: (فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا إحدى عينيها) وهذه الرواية وإن كانت بنفس معنى قول ابن عباس في تفسير هذه الآية؛ إلا أنه لضعف سندها لم يُعتمد
عليها في الاستدلال على وجوب تغطية الوجه، ومن ذكرها فإنما يسوقها في الشواهد على سبيل الاستئناس بها لا على سبيل الاعتضاد!! وسيأتي لاحقا استشهاد الشيخ الألباني بقول شيخ الإسلام ابن تيمية
في "مجموع الفتاوى"(18/ 26)"فإنَّ تعدد الطرق وكثرتها يقوي بعضها بعضاً، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فُجَّاراً فساقاً ".
* أما الحديث الرابع: فقد أسهب الشيخ الألباني في تضعيف هذا الحديث؛ وهو لا يعد من الأدلة التي يستشهد بها على وجوب تغطية الوجه! لأنه رواية للحديث الأول الذي استشهد به الشيخ الألباني واحتج به (حديث المرأة الخثعمية)! ومن استشهد بهذه الرواية فإنما أراد بها تبرير كشف المرأة الخثعمية لوجهها، وقد بينا آنفا سبب كشف المرأة الخثعمية لوجهها وهو كونها من الإماء المملوكات ومن المتقرر شرعا كما أسلفنا في مناقشة البحث الخامس والسادس أن الحجاب (تغطية الوجه) واجب على الحرائر دون الإماء. فلا حاجة للاستشهاد بهذه الرواية صحيحة كانت أو ضعيفة.
ــ:: تتمة البحث السابع للألباني (2):: ــ
قال الشيخ الألباني: الحديث الخامس: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن مكتوم ـ وذلك بعد أن أُمرنا بالحجاب ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" احتجبا منه" فقلنا: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟! " أخرجه أصحاب السنن من طريق الزهري: حدثني نبهان مولى أم سلمة عنها. وهو مخرج في "الإرواء" و "الضعيفة" وخلاصة التحقيق الوارد فيهما:
1 -
أن الحديث تفرّد به نبهان وعنه الزهري كما قال النسائي والبيهقي وابن البر وغيرهم.
2 -
وأن نبهان مجهول العين كما أفاده البيهقي وابن عبد البر وقريب منه قول الحافظ في "التقريب": "مقبول" وأن قوله في "الفتح": "إسناده قوي" غير قوي لمخالفته لقوله في "التقريب" وللقواعد الحديثية على أن قوله: "مقبول" وإن كان مؤيداً لضعف الحديث فهو غير مقبول لأن حقه أن يقول مكانه: "مجهول" لما تقدم من تفرد الزهري عنه، ولذلك لم يسع الحافظ إلا أن يصرح في مكان آخر من "الفتح" بقوله "وهو حديث مختلف في صحته".
قال الإمام أبو محمد بن قدامة المقدسي في "المغني" وأبو الفرج بن قدامة المقدسي في "الشرح الكبير" والشيخ منصور البهوتي في كتابه القيم "شرح منتهى الإرادات" و "المنتهى" للشيخ محمد تقي الدين الفتوحي، وكلهم من كبار علماء
الحنابلة قالوا: (ويباح لامرأة نظرٌ من رجل إلى غير عورة) لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فلا يراك" وقالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد" ولأنهن لو مُنِعنَ النظر لوجب على الرجال الحجاب كما وجب على النساء لئلا ينظرن إليهم. فأما حديث نبهان عن أم سلمة؛ قال أحمد: نبهان روى حديثين عجيبين: هذا الحديث، والآخر:"إذا كان لإحداكن مكاتب فلتحتجب منه"، كأنه أشار إلى ضعف حديثه، إذ لم يرو إلا هذين الحديثين المخالفين للأصول. وقال ابن عبد البر: نبهان مجهول لا يعرف إلا برواية الزهري عنه هذا الحديث وحديث فاطمة صحيح فالحجة به لازمة. ثم يحتمل أن حديث نبهان خاص بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال أحمد وأبو داود" وخلاصة الكلام على هذا الحديث أنهم قد خالفوا الإمام أحمد ومتَّبعيه من الحنابلة الكبار وغيرهم حديثياً وفقهياً. لأنهم صححوا الحديث وهو عند أحمد وغيره ضعيف معلَّل بالجهالة، ولم يتنبه لها ابن القطان في "نظره" (66/ 1) فإن من عادته أن يعلَّ الحديث بمثلها بل وبالجهالة الحالية عنده.
ــ:: مناقشة تتمة البحث السابع للألباني (2):: ــ
أولا: ثبوت هذا الحديث أو عدمه لا يعد حجة على جواز الكشف أو عدمه! لأنه مما يستشهد به في حكم نظر المرأة للرجل، ولكنا سنجيب عليه إتماما للبحث والفائدة:
ثانيا: ضعَف الشيخ الألباني هذا الحديث وأعلَه بتفرد نبهان وجهالته؛ مع أن التفرد ليس بعلة قادحة تمنع من الاحتجاج به إذا كان المتفرد ممن يحتمل تفرده، فإن في الصحيحين أحاديث عن الوحدان من الصحابة. أما جهالة نبهان فغير متفق عليها فهناك من عدله ووثقه، فليس من الإنصاف أن يرد حديثه، وقد استشهد الشيخ الألباني بآثار في أسانيدها من هو أشد جهالة من نبهان!
كما أن الشيخ الألباني ذكر ما قيل في نبهان من الجرح دون ما ذكر فيه من التعديل فإن هناك من قبل حديثه ووثقه غير ابن حبان؛
- كالترمذي حيث قال بعد أن ساق حديثه؛ حديث حسن صحيح.
- والحاكم حيث قال بعد أن ساق الحديث؛ هذا حديث صحيح الإسناد.
(1)
- والذهبي حيث قال في الكاشف: ثقة.
(2)
- وابن الملقن حيث قال بعد أن ساق حديثه: هذا الحديث صحيح.
(3)
(1)
المستدرك على الصحيحين 2/ 238.
(2)
الكاشف 2/ 316.
(3)
البدر المنير (7/ 512).
- والنووي حيث قال في شرحه على صحيح مسلم (10/ 96): وهذا الحديث حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما قال الترمذي هو حديث حسن، ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة معتمدة.
- والحافظ ابن حجر حيث قال فتح الباري (9/ 337): حديث أم سلمة الحديث المشهور أفعمياوان أنتما
…
وإسناده قوي وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته.
- والشوكاني حيث قال في نيل الأوطار (6/ 247): حديث أم سلمة أخرجه أيضا النسائي وابن حبان وفي إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق، وفي الباب عن عائشة عند مالك في الموطأ أنها احتجبت من أعمى فقيل لها إنه لا ينظر إليك قالت لكني أنظر إليه. اهـ
وهذا الأثر عن عائشة يعد شاهد لحديث نبهان يتقوى به، وقد ذكره ابن حجر في التلخيص الحبير أيضا كما سيأتي، ولعله مما خفي على الشيخ الألباني!
بل إن أول مُعدّل لنبهان هو كتاب الله {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} النور: 33 فلو لم تعلم أم سلمة فيه خيرا لما
كاتبته! ولذلك قال ابن حجر: فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته.
* أما قول الشيخ الألباني: (أن نبهان مجهول العين كما أفاده البيهقي وابن عبد البر) فأما البيهقي فلم يقل هو بجهالة نبهان وإنما قال في سننه الكبرى (10/ 327): وحديث نبهان قد ذكر فيه معمر سماعا للزهري من نبهان، إلا أن البخاري ومسلما صاحبي الصحيح لم يخرجا حديثه في الصحيح وكأنه لم يثبت عدالته عندهما أو لم يخرج من حد الجهالة برواية عدل عنه. اهـ
فلم يجزم (وكأنه) كما أنه لم ينسب ذلك الرأي إليه فقال (عندهما)، فهذا يبين أنه لا يرى هو جهالة نبهان بدليل اعتماده على حديثه في أبواب غض البصر ومنع المرأة من النظر إلى الرجل؛ فقد أخرجه في كتابه معرفة السنن والآثار (5/ 227)، وفي سننه الكبرى (7/ 91): باب مساواة المرأة الرجل في حكم الحجاب والنظر إلى الأجانب. كما أخرجه في سننه الصغرى (6/ 90): باب غض البصر إذا لم يكن سبب يبيح النظر.
* أما قول الشيخ الألباني: وقال ابن عبد البر: نبهان مجهول لا يعرف إلا برواية الزهري عنه هذا الحديث وحديث فاطمة صحيح فالحجة به لازمة ".
فيقال بأن هذا ما نقله ابن عبد البر عن الفريق الذي قال بجهالة نبهان، ولكنه أتبعه بمن قبل روايته واحتج بها فقال ابن عبد البر: "ومن صحح حديث نبهان قال إنه معروف وقد روى عنه ابن شهاب ولم يأت بمنكر
…
ففي
هذا الحديث دليل على أنه واجب على المرأة أن تحتجب عن الأعمى ويشهد له ظاهر قول الله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}
كما قال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ويشهد لذلك من طريق الغيرة أن نظرها إليه كنظره إليها
…
فمن ذهب إلى حديث نبهان هذا احتج بما ذكرنا وقال ليس في حديث فاطمة أنه أطلق لها النظر إليه وقال مكروه للمرأة أن تنظر إلى الرجل الأجنبي الذي ليس بزوج ولا ذي محرم،
قال وكما لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة فكذلك لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل لأن الله يقول {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} كما قال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} .
(1)
* أما ما نقله عن ابن حجر (ولذلك لم يسع الحافظ إلا أن يصرح في مكان آخر من "الفتح" بقوله (1/ 550): "وهو حديث مختلف في صحته") على أنه خلاصة رأي ابن حجر في الحديث! فالصحيح أن ابن حجر قال في فتح الباري (1/ 550): "وهو حديث مختلف في صحته وسيأتي للمسألة مزيد بسط في موضعه إن شاء الله تعالى". ليبين رأيه هو في ذلك الموضع من فتح الباري (9/ 337) فيقول فيه: "حديث أم سلمة الحديث المشهور أفعمياوان أنتما وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها وإسناده قوي وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته". اهـ
(1)
ابن عبد البر في التمهيد (19/ 154) والاستذكار (6/ 169)
فهذا القول هو الذي يُفسّر به قوله (مختلف في صحته) لا العكس! ولو أن الحافظ اكتفى بقوله" إسناده قوي" فقط لكان له وجه، ولكنه قال (وإسناده قوي وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان وليست بعلة قادحة فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته) ومما يؤكد ذلك أيضا قول ابن حجر في التلخيص الحبير 3/ 148: حديث أم سلمة أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان وليس في إسناده سوى نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق وعند مالك عن عائشة أنها احتجبت من أعمى فقيل لها إنه لا ينظر إليك قالت لكني أنظر إليه.
ثالثا: قال الشيخ الألباني: (ثم يحتمل أن حديث نبهان خاص بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال أحمد وأبو داود) وهذا كما في الفروع (8/ 186): في مسائل الأثرم أنه قال لأبي عبد الله -الإمام أحمد-: حديث نبهان عندك لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحديث فاطمة لسائر الناس؟ فقال: نعم، أو أظهر استحسانه.
إلا أن القول بخصوصية منع النظر بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قول ضعيف؛ فليست عامة النساء أطهر من أمهات المؤمنين حتى يباح لهن النظر للرجال دون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قيل العكس لكان أولى! أما الاحتجاج بقوله تعالى {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} الأحزاب: 32 فهذا تذكير لنساء النبي بما لهن من مقام القدوة لسائر نساء المسلمين تحفيزا لهن لامتثال الأوامر والنواهي. فهذا - ولله المثل الأعلى- كما لو أراد المعلم من تلاميذه أو الوالد من أولاده أن يمتثلوا خلقا
حسنا أو يجتنبوا آخر سيئا؛ فيوجه الخطاب لتلميذه المثالي أو لولده الأكبر قائلا (أنت لست مثلهم)؛ لعلمه أنه في مقام القدوة لهم، فهل يعني ذلك أن غيره من التلاميذ أو الأخوة ليس مطلوب منهم امتثال الخلق الحسن واجتناب السيئ! ومما يشهد لذلك اعتماد أهل العلم على حديث نبهان في القول بمنع سائر النساء من النظر للرجال الأجانب:
قال ابن حبان في صحيحه (12/ 387): قال أبو حاتم قوله صلى الله عليه وسلم أفعمياوان أنتما لفظة استخبار مرادها الزجر عن نظرهما إلى الرجل الذي كف وفيه دليل على أن النساء محرم عليهن النظر إلى الرجال إلا أن يكونوا لهن بمحرم سواء كانوا مكفوفين أو بصراء.
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم (10/ 96): الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها لقوله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} ولأن الفتنة مشتركة وكما يخاف الافتتان بها تخاف الافتتان به ويدل عليه من السنة حديث نبهان مولى أم سلمة.
وقال علي القاري في مرقاة المفاتيح (6/ 444): والصحيح الذي عليه الجمهور أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها لقوله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولحديث أم سلمة (أفعمياوان أنتما).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (6/ 248) ومحمد آبادي في عون المعبود (11/ 114): وقد استدل بحديث أم سلمة هذا من قال إنه يحرم على المرأة نظر الرجل كما يحرم على الرجل نظر المرأة وهو أحد قول الشافعي وأحمد قال النووي وهو الأصح،
وقال ابن عبد البر المالكي في التمهيد (19/ 154) والاستذكار (6/ 169): ففي هذا الحديث دليل على أنه واجب على المرأة أن تحتجب عن الأعمى ويشهد له ظاهر قول الله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} كما قال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ويشهد لذلك من طريق الغيرة أن نظرها إليه كنظره إليها.
وقال الجاوي الحنفي في نهاية الزين (1/ 47): الرجل له ثلاث عورات
…
ثالثتها جميع بدنه وشعره حتى قلامة ظفره وهي عورته عند النساء الأجانب فيحرم على المرأة الأجنبية النظر إلى شيء من ذلك ولو علم الشخص أن الأجنبية تنظر إلى شيء من ذلك وجب حجبه عنها، ولسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في حقه بل هو كوجه الصبي الأمرد في حق الرجل فيحرم النظر عند خوف الفتنة فقط فإن لم تكن فتنة فلا إذ لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لأمروا بالتنقيب أو منعوا من الخروج إلا لضرورة.
رابعا: قال الشيخ الألباني بأن من صحح حديث نبهان من الحنابلة المعاصرين فقد خالف الإمام أحمد ومتَّبعيه من الحنابلة الكبار وغيرهم حديثياً وفقهياً؛ لأنهم صححوا الحديث وهو عند أحمد وغيره ضعيف معلَّل بالجهالة، ولم يتنبه لها ابن القطان فإن من عادته أن يعلَّ الحديث بمثلها "
1 -
أما قوله أن من صحح حديث نبهان فقد خالف الإمام أحمد حديثيا؛ لأنه يرى أن الإمام أحمد قال بضعف حديث نبهان؛ وهذا لم يثبت عن الإمام أحمد إلا قوله أن نبهان روى "حديثين عجيبين"، ولذلك لم يعلل ابن القطان الحديث بالجهالة!!
2 -
أما قوله إنهم بتصحيحهم لحديث نبهان قد خالفوا الإمام أحمد فقهيا؛ فهذا قول غير صحيح! إذ إن القول بأنه لا يباح نظر المرأة للرجل؛ هو أحد قولي الإمام أحمد.
كما جاء في عون المعبود (11/ 114): وقد استدل بحديث أم سلمة هذا من قال إنه يحرم على المرأة نظر الرجل كما يحرم على الرجل نظر المرأة وهو أحد قول الشافعي وأحمد، قال النووي وهو الأصح.
قال ابن قدامة الحنبلي في المغني (7/ 81): فأما نظر المرأة إلى الرجل ففيه روايتان إحداهما لها النظر إلى ما ليس بعورة؛ والأخرى لا يجوز لها النظر من الرجل إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها، اختاره أبو بكر وهذا أحد قولي الشافعي لما
روى الزهري عن نبهان عن أم سلمة، ولقوله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن).
وفي المبدع لابن مفلح الحنبلي (7/ 11): ويباح للمرأة النظر من الرجل إلى غير العورة نصره في الشرح وغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة اعتدي في بيت أم مكتوم
…
ولأنه لو منعن النظر لوجب على الرجال الحجاب لئلا ينظرن إليهم كما تؤمر النساء به، وعنه لا يباح لها النظر إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها قدمه السامري وابن حمدان واختاره أبو بكر لحديث نبهان.
خامسا: أما ما ذكره الشيخ الألباني من رد بعضهم لحديث نبهان لمخالفته لحديث فاطمة بنت قيس؛ حيث أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد عند ابن أم مكتوم الأعمى فالجواب عنه من عدة وجوه:
1) ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لفاطمة أن تنظر للرجل الأعمى كما نص على ذلك بعض أهل العلم كالنووي في شرح صحيح مسلم (10/ 97):
وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها وهي مأمورة بغض بصرها فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة.
وفي عون المعبود (11/ 114): واحتجوا أيضا بحديث فاطمة بنت قيس
…
ويجاب بأنه يمكن ذلك مع غض البصر منها ولا ملازمة بين الاجتماع في البيت والنظر.
2) من دفع حديث نبهان بحجة صحة إسناد حديث فاطمة بنت قيس؛ فقد سبق أن بينا من أعلّ حديث فاطمة من أهل العلم وأسقط الاحتجاج به في مناقشة البحث السادس فليرجع إليه.
3) أن من احتج بمخالفة حديث نبهان لحديث فاطمة بنت قيس؛ قد غفل عن موافقة حديث نبهان لكتاب الله في موضعين:
الأول: قوله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} فإذا كانت النساء مأمورات في هذه الآية بأن يغضضن من أبصارهن عمن يحل لهم الدخول عليهن في البيوت دون حجاب عنهم - وسيأتي بيان ذلك في مناقشة البحث التاسع - فكيف يقال بإطلاق جواز نظرهن لمن لا يحل له رؤيتهن إلا وهن محتجبات!
الثاني: قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} الأحزاب: 53 ففرض وجود الحجاب (الساتر) بين الرجل والمرأة عند المحادثة من قرب في البيوت ونحوها؛ يدل على عدم إطلاق جواز نظر المرأة للرجل، بقرينة في الآية وهي قوله {وَقُلُوبِهِنَّ} فوجود الساتر والحاجز بين الجنسين أحرى لطهارة قلب كل منهما، وزوال هذا الساتر ينفي كمال الطهارة لقلب العين الناظرة - كمن تنظر للرجال وتخالطهم بنقابها - وهذا يبين أن الحجاب المضروب بينهما لمنع كلا الجنسين من النظر للآخر، ولذلك ينبغي أن