الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ــ::
مناقشة البحث الثاني::
ــ
أولا: أنكر الشيخ الألباني أن معنى الحجاب (تغطية الوجه) الذي تقتضيه آية الحجاب الأولى {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} هو معنى الحجاب الذي تقتضيه آية الحجاب الثانية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} !! مخالفا بذلك ما أجمع عليه أهل العلم، قال ابن عبد البر في التمهيد (8/ 235): (كانوا يرون النساء ولا يستتر نساؤهم عن رجالهم حتى نزلت آيات الحجاب
…
فأمر النساء بالحجاب ثم أمرن عند الخروج أن يدنين عليهن من جلابيبهن وهو القناع) اهـ
فإن آية الجلابيب نزلت تتمة لآية الحجاب {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فآية الحجاب هذه نزلت لبيان أحكام الحجاب في البيوت؛ فبينت أنه لا يجوز للرجال الأحرار الأجانب الدخول على النساء الحرائر في البيوت ومخالطتهن والجلوس معهن، بل عليهم إذا كان لهم حاجة أن يسألوهن من وراء حجاب؛ من جدار أو الستر الذي يرخى بين مصراعي الباب ونحوه كما سيأتي بيان ذلك قريبا.
ولما كانت النساء قد يحتجن إلى الخروج من البيوت أنزل الله تعالى في حقهن آية إدناء الجلابيب {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ
مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} فأمرهن إذا خرجن أن يدنين عليهن من جلابيبهن ليسترن وجوههن وسائر أبدانهن ــ ووضع الشروط لخروجهن وسيأتي بيانها في مناقشة البحث السابع إن شاء الله ــ وبهذا تم أمر الحجاب في حالتي الخروج والاستقرار في البيوت.
فيكون الفرق بين الآيتين في الطريقة التي تحتجب بها المرأة عن نظر الرجال حسب المكان كما قال شيخ الإسلام "فآية الجلابيب في الأردية عند البروز من المساكن، وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن"
ومما يثبت اتفاق الآيتين على معنى الحجاب (تغطية الوجه) ما ثبت في صحيح السنّة من تسمية كل من الآيتين بـ (آية الحجاب):
أما آية الحجاب الأولى {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فقد ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أنا أعلم الناس بهذهِ الآية آية الحجاب لما أهديت زينب بنت جحش رضي الله عنها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعاما ودعا القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون فأنزل الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ
وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الأحزاب: 53 فضُرب الحجاب وقام القوم.
(1)
أما آية الحجاب الثانية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} فقد ثبت تسميتها آية الحجاب في القصة التي كانت سببا لنزولها كما جاء في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت (خرجت سودة بعد ما ضُرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن"
(2)
وفي رواية قالت (فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال عرفتك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب قالت: فأنزل الله عز وجل آية الحجاب).
(3)
(4)
(1)
صحيح البخاري 4/ 1799 (4514).
(2)
صحيح البخاري 4/ 1800 (4517) صحيح مسلم 4/ 1709 (2170).
(3)
صحيح البخاري 5/ 2303 (5886).
(4)
1 - مما يبين أن القصة واحدة أن البخاري جمع بين الروايتين في موضع آخر في صحيحه 1/ 67 (146) فقال بعد أن أورد حديث عائشة رضي الله عنها "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح فكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فخرجت سودة=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ألا قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله آية الحجاب" وحدثنا زكريا قال حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قد أُذِن أن تخرجن في حاجتكنَّ).
2 -
صرحت عائشة رضي الله عنها بموافقة الله تعالى لعمر رضي الله عنه فيما كان يطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم من حجب نسائه بستر وجوههن عند الخروج، لأنه سبق أن ضرب عليهن الحجاب في البيوت بعدم الدخول عليهن ومخاطبتهن إلا من وراءحجاب، وكان ذلك أيضا من جملة ما أراده عمر رضي الله عنه فكان يقول "يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر" صحيح البخاري 1/ 157 (393). فنزلت آية الحجاب {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الأحزاب: 53 صبيحة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب رضي الله عنها، ولكنه لم يتم مقصود عمر رضي الله عنه بحجب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بستر وجوههن بالأردية عند الخروج، ولذلك لما كن يخرجن ليلا لقضاء حاجتهن من البراز؛ ورأى عمر سودة فقال لها ما قال حرصا منه على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الأحزاب: 59 ولذلك كان عمر يعد نزول الحجاب من موافقاته فكان يقول " وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أُسارى بدر" متفق عليه، ولو كان مراد عمر هو منعهن من الخروج لما عد نزول الحجاب من موافقاته إذ إنه لم يوافق على منعهن من الخروج! ولا يُتصور أن عمر يريد بقوله (احجبهن) منعهن من الخروج لقضاء حاجتهن وهو يعلم أنه لا طريق لهن لقضاء حاجتهن من البراز إلا بالخروج إلى المناصع! ومن قال بأن عمر رضي الله عنه أراد منعهن من الخروج فإنما هو بسبب أنه توهم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم شرعن بتغطية وجوههن بالجلابيب إثر نزول آية الحجاب الأولى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} والصحيح أنهن إنما شرعن بإرخاء الستر بينهن وبين الرجال في البيوت إثر هذه الآية، ولم يكن يخرجن إلا لقضاء حاجتهن من البراز ليلا كما قالت عائشة رضي الله عنها (وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل) صحيح البخاري 4/ 1775 (4473). فكن يستترن بظلمة الليل إلى أن نزلت آية إدناء الجلابيب إثر قصة سودة فاستترن بها.
وفي هذا استدراك لما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/ 531) واستشهد به الشيخ الألباني في كتابه جلباب المرأة حاشية ص/ 106: قال الحافظ رحمه الله في شرحه للحديث المذكور: "إن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام احجب نساءك وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب ثم قصد بعد ذلك ألا يبدين أشخاصهن أصلا ولو كن مستترات فبالغ في ذلك فمنع منه وأذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعا للمشقة ورفعا للحرج". وقد تبين لك مما سبق الخطأ في ذلك وهو أن الحافظ ابن حجر ممن توهم أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم شرعن بتغطية وجوههن بالجلابيب إثر نزول آية الحجاب الأولى {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فظن أن عمر رضي الله عنه أراد بعد ذلك ألا يبدين أشخاصهن أصلا ولو كن مستترات، وهذا لم يكن كما بينّاه آنفا.
ومما يؤكد أن المراد بقولها (فأنزل الله آية الحجاب) آية إدناء الجلابيب؛ أنها صرحت في الرواية الأولى أن خروج سودة هذا كان بعدما ضُرب عليهن الحجاب بقوله تعالى {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فإن لم يكن المراد هنا بآية الحجاب؛ آية إدناء الجلابيب فماذا تكون إذن؟! ومما يؤكد ذلك ويشهد له:
1 -
قال ابن عبد البر (ت 463 هـ) في التمهيد (8/ 235): كانوا يرون النساء ولا يستتر نساؤهم عن رجالهم حتى نزلت آيات الحجاب
…
فأمر النساء بالحجاب ثم أمرن عند الخروج أن يدنين عليهن من جلابيبهن وهو القناع.
2 -
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ت 728 هـ) في مجموع الفتاوى (22/ 110): قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها ثم أنزل الله آية الحجاب بقوله {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
…
فحجب النساء عن الرجال.
3 -
قال ابن حجر (ت 852 هـ) في فتح الباري (1/ 249): وطريق الجمع بينها أن أسباب نزول الحجاب تعددت
…
والمراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
…
. وقال في موضع آخر (11/ 24): حكى ابن التين عن الداودي أن قصة سودة هذه لا تدخل في باب الحجاب وإنما هي في لباس الجلابيب وتُعقب بأن إرخاء الجلابيب هو الستر عن نظر الغير إليهن وهو من جملة الحجاب.
4 -
قال بدر الدين العيني الحنفي (ت 855 هـ) في عمدة القاري (2/ 283 - 285): الحجب ثلاثة؛ الأول: الأمر بستر وجوههن يدل عليه قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَوَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}
…
الثاني: هو الأمر بإرخاء الحجاب بينهن وبين الناس يدل عليه قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الثالث: هو الأمر بمنعهن من الخروج من البيوت إلا لضرورة شرعية
…
قال التيمي الحجاب هنا استتارهن بالثياب حتى لا يرى منهن شيء عند خروجهن وأما الحجاب الثاني فهو إرخاؤهن الحجاب بينهن وبين الناس
(1)
…
وقال الداودي قوله (قد أذن أن
(1)
أراد أن الحجاب في هذا الحديث هو لبس الجلابيب عند الخروج، أما الحجاب (الثاني) أي الآخر فهو إرخاء الستر بينهن وبين الرجال في البيوت، وليس مراده أن لبس الجلابيب نزل أولا ثم نزل الأمر بإرخاء الحجاب في البيوت، كما حمله العيني مما جعله يقول إن هذا الكلام يخدشه حديث أنس الذي قال فيه (كنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل وكان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش
…
فأنزل آية الحجاب فضرب بيني وبينه سترا) أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 1982 (4871) بل إن قول أنس رضي الله عنه (وكان أول ما أنزل) يدل على أن هناك أمرا آخر نزل في شأن الحجاب؛ وهو الأمر بإدناء الجلابيب.
تخرجن) دال على أنه لم يرد هنا حجاب البيوت فإن ذلك وجه آخر إنما أراد أن يستترن بالجلباب حتى لا يبدو منهن إلا العين.
5 -
وقال السيوطي (ت 911 هـ) في الإتقان في علوم القرآن (1/ 67): ومنها آية الإذن في خروج النسوة في الأحزاب قال القاضي جلال الدين والظاهر أنها {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} الآية، ففي البخاري عن عائشة (خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة
…
فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن). وجاء في لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي (1/ 179): قوله تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} الآية وأخرج البخاري عن عائشة قالت" خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب. . . فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن".
6 -
قال القسطلاني (ت 923 هـ) في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (7/ 339): " قوله (أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن) دفعا للمشقة ورفعا للحرج وفيه تنبيه على أن المراد بالحجابالستر حتى لا يبدو من جسدهن شيء لا حجب أشخاصهن في البيوت" - أي بمنعهن من الخروج منها -.
وبذلك ثبت أن كلا من الآيتين تسمى آية الحجاب، وأن إدناء الجلباب يحمل معنى الحجاب في قوله تعالى {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ، وأن كلا الأمرين يقتضي تغطية وجه المرأة الحرة عن الرجال الأحرار الأجانب.
ثانياً: قال الشيخ الألباني إن مفاد آية الحجاب {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}
لايقتضي تغطية الوجه وأن كل ما تعنيه (أن المرأة في دارها لا تكون متجلببة ولا مختمرة فلا تبرز للسائل)!
وهذا مخالف لما فسر به أئمة التفسير هذه الآية، بل ومخالف قبل ذلك لمراد الله منها! فإن الله تعالى أراد بهذا الأمر الحد من دخول الرجال الأجانب على النساء، ومنع النساء عندها من البروز لهم حتى وإن كن مستترات بالجلابيب: وذلك؛ أولاً بتقييد الدخول بسؤال حاجة إذ لم يقل: وإذا دخلتم عليهن فخاطبوهن من وراء حجاب. وثانياً؛ أن الخطاب والأمر جاء موجها للرجال، ولو كان المقصود هو تستر النساء؛ لجاء الخطاب موجها لهن كما جاء في آية الجلابيب! أو لجاء الأمر لهن بلبس مايسترهن عند مخاطبة الرجال لهن! وثالثا؛ لو كان الأمر كما قال الشيخ الألباني لما قال تعالى بعد هذا الأمر {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}
…
.
* قال إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) في تفسيره جامع البيان (22/ 39): {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} يقول وإذا سألتم أزواج رسول الله ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعا {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} يقول من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن بيوتهن {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} يقول تعالى ذكره سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء وفي صدور النساء من أمر الرجال وأحرى من ألا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل.
* قال الإمام أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي (ت 370 هـ) في أحكام القرآن (5/ 242): قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} قد تضمن حظر رؤية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبين به أن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميل والشهوة فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب. . . وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فالمعنى عام فيه وفي غيره إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته.
* قال الإمام علي بن أحمد الواحدي أبو الحسن (ت 468 هـ) في تفسيره (2/ 872): فخاطبوهن من وراء حجاب وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال فلما نزلت هذه الآية ضرب عليهن الحجاب فكانت هذه آية الحجاب بينهن وبين الرجال {ذَلِكُمْ} أي الحجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} فإن كل واحد من الرجل والمرأة إذا لم ير الآخر لم يقع في قلبه.
* قال القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي (ت 543 هـ) في أحكام القرآن (3/ 616): قوله {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وهذا يدل على أن الله أذن في مساءلتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها والمرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها.
* قال الإمام فخر الدين الرازي الشافعي (ت 604 هـ) في تفسيره الكبير مفاتح الغيب (25/ 195): أمر بسدل الستر عليهن وذلك لا يكون إلا بكونهن مستورات محجوبات وكان الحجاب وجب عليهن ثم أمر الرجال بتركهن كذلك ونهوا عن هتك أستارهن.
* قال الإمام عبد الله بن أحمد النسفي الحنفي (ت 710 هـ) في تفسيره مدارك التنزيل وحقائق التأويل (3/ 313): {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ} من خواطر الشيطان وعوارض الفتن وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال.
* قال الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير الشافعي (ت 774 هـ) في تفسيره (3/ 506): {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية ولو
كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب.
* قال العلامة محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) في فتح القدير (4/ 298):
{أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي أكثر تطهيرا لها من الريبة وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال وفى هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه. اهـ
وكما سبق من قول شيخ الإسلام (وآية الحجاب عند المخاطبة في المساكن) فلم يقيد شيخ الإسلام ولا أحد ممن سبقه؛ المخاطبة في المساكن من وراء حجاب بكونها إنما تشرع إذا كانت المرأة غير مختمرة ولا متجلببة كما قيدها الشيخ الألباني!!
بل إن الثابت أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من النساء؛ كن إذا جاء من يسألهن من الرجال يكلمنه من وراء حجاب، ولم يرد أنهن كن يلبسن الجلباب ويبرزن بأشخاصهن للسائل في البيوت!! يشهد لذلك الآثار الآتية:
1 -
عن يوسف بن ماهك قال كان مروان على الحجاز. . . فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة رضي الله عنها فلم يقدروا عليه فقال مروان إن هذا الذي أنزل الله فيه {وَالَّذِي قَالَلِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} الأحقاف: 17 فقالت عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري.
(1)
2 -
عن مسروق بن الأجدع أنه أتى عائشة فقال لها يا أم المؤمنين إن رجلاً يبعث بالهدي إلى الكعبة ويجلس في المصر فيوصي أن تقلد بدنته. . . قال فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب وقالت لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث هديه إلى الكعبة. . .
(2)
3 -
قال عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث: اجتمع ربِيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا والله لو بعثنا هذين الغلامين قالا لي وللفضل بن عباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات. . . ثُم دخل ودخلنا عليه
(1)
صحيح البخاري 4/ 1827 (4550).
(2)
صحيح البخاري 5/ 2115 (5246) صحيح مسلم 2/ 959 (1321).
وهو يومئذ عند زينب بِنت جحش. . . قال فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه قال وجعلت زينب تلمع علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه.
(1)
4 -
عن أبي موسى رضي الله عنه قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال. . . ثم قال اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا فأخذا القدح ففعلا ما أمرهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادتهما أم سلمة من وراء الستر أفضلا لأمكما مما في إنائكما فأفضلا لها منه طائفة.
(2)
5 -
عن يزيد بن بابنوس قال ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة فاستأذنا عليها فألقت لنا وسادة وجذبت إليها الحجاب فقال صاحبي يا أمّ المؤمنين ما تقولين في العراك.
(3)
6 -
عن مسروق قال بكت عائشة رضي الله عنها وبيني وبينها حجاب فقلت يا أم المؤمنين ما يبكيك قالت يا بني ما ملأت بطني من طعام فشئت أن أبكي إلا بكيت أذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان فيه من الجهد ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام بر في يوم مرتين حتى لحق بربه.
(4)
(1)
صحيح مسلم 2/ 752 (1072).
(2)
صحيح مسلم 4/ 1943 (2497).
(3)
مسند أحمد بن حنبل 6/ 219 (25883) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 33) رجاله ثقات. وحسنه الألباني في جلباب المرأة /109.
(4)
تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار 2/ 696 (1008)، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
7 -
عن شهر بن حوشب قال دخلت على أم سلمة بالمدينة وبيني وبينها حجاب فسمعتها تقول (كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)
(1)
.
8 -
عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت فأرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم علينا فرددنا عليه السلام ثم قال أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن قالت فقلنا مرحبا برسول الله وبرسوله، فقال تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئا ولا تزنين ولا تسرقن الآية قالت
فقلنا نعم قالت فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت
(2)
ثم قال اللهم اشهد
(3)
.
10 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: أومت امرأة من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4)
(1)
جامع الترمذي (3522) المعجم الأوسط للطبراني 3/ 33 (2381) واللفظ له، صححه الألباني في صحيح جامع الترمذي 5/ 538.
(2)
قال ابن حجر في فتح الباري 13/ 204: ويحتمل أنهن كن يشرن بأيديهن عند المبايعة بلا مماسة، وقال العيني في عمدة القاري 19/ 231: بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة. يؤيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري 6/ 2637 (6788) عن عائشة رضي الله عنها قالت" كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايِع النّساء بالْكلامِ". وفي صحيح مسلم 3/ 1489 (1866) قالت" لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام".
(3)
مسند أحمد بن حنبل 6/ 408 (27350) سنن أبي داود 1/ 296 (1139) مختصرا، صحيح ابن خزيمة (1722) 3/ 112، الأحاديث المختارة للضياء المقدسي 1/ 402 (285) وحسن إسناده، قال الألباني في الجلباب (ص 75) حسن إسناده الذهبي في مختصر البيهقي.
(4)
سنن أبي داود (4166) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 4/ 77.
وهذا الأمر ثابت عند أهل العلم:
- قال ابن عبد البر في الاستذكار 6/ 170: إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكلمن إلا من وراء حجاب متجالات كن أو غير متجالات.
- وقال النووي في المجموع (16/ 351): وقد ثبت أن كثيرا من راويات الحديث وحافظاته يسمعهن الأجانب عنهن من وراء حجاب، وقد كان أبو الشعثاء جابر بن زيد يسأل عائشة من وراء حجاب.
- وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/ 41) بعد أن ذكر توجيه بعض الأئمة لرواية محمد بن إسحاق عن امرأة هشام بن عروة " وجائز أن يكون سمع منها وبينهما حجاب" قال: ذاك الظن بهما كما
أخذ خلق من التابعين عن الصحابيات، مع جواز أن يكون دخل عليها ورآها وهو صبي فحفظ عنها.
(1)
(1)
هنا لابد أن نبين أن من خص أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بحكم في الحجاب؛ فإنما خصهن بعدم جواز دخول الرقيق المملوكين للغير عليهن؛ إلا ما ملكت أيمانهن، وبعدم جواز إبراز شخوصهن إذا خرجن من بيوتهن حتى وإن كن مستترات بالجلابيب، كما جاء في معاني القرآن للنحاس (5/ 372): فكان لا يحل لأحد أن يسألهن طعاما ولا غيره ولا ينظر إليهن متنقبات ولا غير متنقبات إلا من وراء حجاب وكانت عائشة إذا طافت بالبيت سُتِرَت.
كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9/ 324) عن القاضي عياض منكرا عليه: والذي ذكر عياض "أن الذي اختُصَّ به أُمّهات المؤمنين ستر شخوصهن زيادة على سِتر أجسادهن" وقد بالغ الحافظ ابن حجر في نفي ذلك وقال بأنهن كن يظهرن شخوصهن إذا كن مستترات حتى في البيوت! واستشهد بقوله الشيخ الألباني في جلباب المرأة حاشية ص/106: قال ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة أقبل الحجاب أو بعده قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب". اهـ
وقول ابن حجر هذا فيه نظر؛ فقوله (وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص) يبطله الأدلة الثابتة التي سقناها آنفا، أما استدلاله بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (كن يحججن ويطفن) فهذا لا دليل فيه على جواز إبراز شخوصهن في البيوت وإن كن مستترات؛ لأنهن إنما كن يخرجن للطواف مستترات بجلابيبهن مستخفيات بظلمة الليل، كما ثبت ذلك من قول عطاء (وكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن) صحيح البخاري 2/ 585 (1539).
ثالثاً: مما يؤكد أن آية إدناء الجلابيب تقتضي وجوب ستر الوجه من المرأة؛ إشراك أمهات المؤمنين مع غيرهن في هذا الأمر فقال تعالى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} ومن المجمع عليه أن الله تعالى أوجب على أزواج النبي التستر الكامل بما في ذلك الوجه والكفين في آية الحجاب {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ولم يستثن عضواً من عضو، فلو كان المراد بإدناء الجلباب مجرد تغطية الرأس من غير أن يشمل الوجه؛ لكان كلامه تعالى في آية الجلابيب عبثاً في حق أمهات المؤمنين! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فإنه لا يعقل أن يؤمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أولا بالتستر الكامل بما في ذلك الوجه والكفين؛ ثم يؤمرن في هذه الآية بتغطية الرأس دون
الوجه؛ مع بقاء الآية الأولى محكمة غير منسوخة!! فإذا دل هذا الأمر على وجوب ستر الوجه والكفين في حق طائفة من إحدى الثلاث طوائف التي وجه لها الأمر في هذه الآية: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ونساء المؤمنين؛ دل ذلك على وجوبه في حق الطائفتين الأخريين.
- قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان (6/ 244): والقرينة المذكورة هي قوله تعالى {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدلّ على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب.
رابعاً: أنكر الشيخ الألباني دلالة آية إدناء الجلابيب على تغطية الوجه بقوله: فلأن الجلباب هو الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها وليس على وجهها وعلى هذا كتب اللغة قاطبة، ليس في شيء منها ذكر للوجه البتة.
والجواب عليه بالآتي:
1) أنه سبق أن أقرَّ بهذا المعنى لإدناء الجلابيب في كتابه جلباب المرأة المسلمة (ص: 152) في معرض كلامه عن تشبه النساء بالرجال وتشبه الرجال بالنساء حيث قال: (الجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان). وكذلك فيما استشهد به في كتابه الجلباب (ص 83) حيث قال: والجلباب: هو الملاءة التي تلتحف به المرأة فوق ثيابها على أصح الأقوال وقال ابن حزم (3/ 217): "والجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما
غطى جميع الجسم لا بعضه" وقال ابن كثير: "هو الرداء فوق الخمار، وهو بمنزلة الإزار اليوم".
قلت: ولعله العباءة التي تستعملها اليوم نساء نجد والعراق ونحوهما وهو يستعمل في الغالب إذا خرجت من دارها، كما روى الشيخان وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق
…
قلت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: "لتلبسها أختها من جلبابها".
(1)
قال الكشميري في فيض الباري (1/ 503): (قوله: "لتلبسها
…
" علم منه أن الجلباب مطلوب عند الخروج، وأنها لا تخرج إن لم يكن لها جلباب. والجلباب: رداء ساتر من القرن إلى القدم، وقد مر معنا أن الخمر في البيوت والجلابيب عند الخروج)
(2)
اهـ
(1)
أم عطية هذه كانت من الإماء يشهد لذلك قولها " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى" ولذلك لم يكن لها جلباب، وفي الحديث دلالة على أن لبس الجلباب واجب على الحرائر والإماء، إلا أن الحرائر أُمرن أن يدنينه على وجوههن، يشهد لذلك أن عمر رضي الله عنه كان فيما صح عنه ينهى الإماء من التقنع وليس من لبس الجلباب، كما صح عنه أنه لما رأى أمة متقنعة قال:(ما بال الجلباب ضعيه عن رأسك).
(2)
قال الشيخ الألباني: وتقييده الخمر بالبيوت فيه نظر؛ فالحق الذي يقتضيه العمل بما في آيتي النور والأحزاب أن المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر وتلبس الجلباب على الخمار؛ لأنه كما قلنا سابقا أستر لها وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها وهذا أمر يطلبه الشارع. اهـ
والذي يظهر أن الكشميري لم يُرِد أن الجلباب يغني عن الخمار عند الخروج؛ ولكنه أراد أن يشير إلى معنى آخر وهو أن الخمار محتاج إليه للستر في البيوت - كما سيأتي بيان ذلك في مناقشة البحث الثامن والتاسع إن شاء الله - قال الكشميري في الموضع المشار إليه (1/ 348): فإن قلت: إن إدناء الجلباب يغني عن ضرب الخمر على جيوبهن. قلت: بل إدناء الجلباب فيما إذا خرجت من بيتها لحاجة، وضرب الخمر في عامة الأحوال، فضرب الخمر أيضا محتاج إليه.
2) أن كون الجلباب؛ هو الملاءة التي تلتحف بها المرأة فوق ثيابها؛ لا ينفي كون الوجه داخل فيما تستره الملاءة! لأن الالتحاف لا يشترط في معناه أن يخرج الوجه من جسد الملتحف!! كما أن تغطية الوجه فرضت بأمر زائد على لبس الجلباب {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} وهو إدناءه عليها حتى يستر وجهها كما أطبق على ذلك جل أهل العلم من لغويين ومفسرين وفقهاء ومحدثين كما أسلفنا في مناقشة البحث الأول وكما سيأتي:
- قال العلامة البارع اللغوي أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في الكشاف (3/ 569): الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل. وقيل: الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره. ومعنى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ.
- قال الإمام علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن في لباب التأويل في معاني التنزيل (5/ 276): يدنين. أن يرخين ويغطين عليهن من جلابيبهن جمع جلباب وهو الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقيل الملحفة وكل ما يستتر به من كساء، وغيره. قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب إلا عينا واحدة.
- وقال برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (6/ 135): ثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة
…
وإن كان ما يغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها
…
وإن كان المراد ما دون الملحفة فالمراد ستر الوجه واليدين.
- وقال العلامة زين الدين أبو الفرج الشهير بابن رجب في فتح الباري (2/ 138): (الجلباب): قال ابن مسعود ومجاهد وغيرهما: هو الرداء، يستر أعلاها، إلا أنه يقنعها فوق رأسها، وقد فسر عبيدة السلماني قولالله {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} بأنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، وهذا كان بعد نزول الحجاب، وقد كن قبل الحجاب يظهرن بغير جلباب، ويرى من المرأة وجهها وكفاها. ثم أمرت بستر وجهها وكفيها، وكان الأمر بذلك مختصا بالحرائر دون الإماء.
- وقال العلامة الشوكاني في فتح القدير (4/ 304): وهو ثوب أكبر من الخمار قال الجوهري الجلباب الملحفة وقيل القناع وقيل هو ثوب يستر جميع بدن المرأة.
3) إن عدم ذكر الوجه والكفين في كتب اللغة لا يلزم منه إخراجهما مما يستر؛ لأن كتب اللغة لم تصرح كذلك بستر القدمين ولا الشعر ولا الذراعين؛ فهل يخرج ذلك كله مما يستره الجلباب؟!! كما إن ما جاء في كتب اللغة أن الجلباب؛ (ما تتغطى به المرأة) و (تغطي به المرأة رأسها) فإن المراد به تغطية الرأس كله
بما فيه الوجه كما ذكر صاحب نظم الدرر: (وإن كان ما يغطي الرأس فإدناؤه ستر وجهها وعنقها) كما إن التغطية إذا أطلقت على المرأة (امرأة متغطية) فالمراد أنها مغطية لوجهها ومن ذلك:
- تفسير غريب ما في الصحيحين لمحمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الحميدي (1/ 575): الجلباب: ما تتغطى به المرأة من ثوب أو غيره.
- تاج العروس من جواهر القاموس لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي (2/ 175): وخصه بعضهم بالمشتمل على البدن كله
…
وقال تعالى (يُدنِينَ عَلَيهِنَّ من جلابِيبِهِنَّ) وقيل: هو ما تغطّي به المرأة.
- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (1/ 104): (الجلباب) ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء وقال ابن فارس (الجلباب) ما يغطى به من ثوب وغيره.
كما إنه قد ثبت في كتب اللغة أن من معاني الجلباب؛ المقنعة:
- كما في مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 149): الجلباب
…
قال النضر هو ثوب أقصر وأعرض من الخمار وهي المقنعة تغطي به المرأة رأسها.
- وفي النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 283): والجلباب: الإزار والرداء. وقيل الملحفة. وقيل هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها.
- وفي تاج العروس (2/ 175): الجلباب: ثوب أقصر من الخمار وأعرض منه، وهو المقنعة.
وقد جاء التصريح في كتب اللغة أن المقانع التي تغطي بها النساء رؤوسهن؛ شامل لوجوههن:
- كما في التكملة للصغاني (ت 650)(5/ 521) والقاموس المحيط (ص: 1060) وتاج العروس للزبيدي (30/ 437): والمميلات؛ اللاتي يملن قلوب الرجال إليهن، أو يملن المقانع عن رؤوسهن لتظهر وجوههن وشعورهن.
4) قال الشيخ الألباني في كتابه الجلباب ص 6: (فسروا الجلباب بأنه الثوب الذي يغطي الوجه، ولا أصل له في اللغة بل هو ينافي تفسير العلماء بأنه الثوب الذي تلقيه المرأة على خمارها، ولم يقولوا على وجهها) لكنه لم ينقل شيئا من أقوال المفسرين في تفسير آية إدناء الجلابيب كما أسلفنا! فقد اقتصر في معنى إدناء الجلباب بالاستشهاد بأثر ابن عباس عن كيفية تغطية وجه المرأة حال إحرامها، وبالمعنى العام للإدناء لأحد اللغويين! هذا فقط ما استشهد به الشيخ الألباني؛ وقد استشهدنا بما أجمع عليه أئمة المفسرين واللغويين، والفقهاء والمحدثين بأن المراد من الأمر بإدناء الجلابيب؛ هو تغطية الوجه.
ــ:: البحث الثالث:: ــ
قال الشيخ الألباني: ومن تناقضهم، أنهم- في الوقت الذي يوجبون على المرأة أن تستر وجهها- يجيزون لها أن تكشف عن عينها اليسرى وتسامح بعضهم فقال: بالعينين كلتيهما! بناء على بعض الآثار الواهية التي منها حديث لابن عباس وروي عنه ما يناقضه بلفظ: "وإدناء الجلباب أن تقنّع وتشده على جبينها". وهذا نص قولنا: إنه لا يشمل الوجه. ولذلك كتمه كل المخالفين، ولم يتعرضوا له بذكر! وهو ضعيف السند، لكن له شواهد كما يأتي
…
ويبدو لي أنهم- لشعورهم في قرارة نفوسهم بضعف حجتهم- يلجؤون إلى استعمال الرأي ولغة العواطف- أو ما يشبه الفلسفة- فيقولون: إن أجمل ما في المرأة وجهها، فمن غير المعقول أن يجوز لها أن تكشف عنه! فقيل لهم: وأجمل ما في الوجه العينان، فعمّوها إذن، ومروها أن تسترهما بجلبابها!