الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ــ::
مناقشة البحث الثامن::
ــ
استشهد الشيخ الألباني في هذا المبحث بما أخرجه أبو داود عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت عليها وعندها النبي صلى الله عليه وسلم في ثياب شامية رقاق فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض ببصره قال: (ما هذا يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى كفه ووجهه).
(1)
وذكر شاهدا له أخرجه البيهقي عن أسماء بنت عميس أنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر، وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام، فلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخرج، فقالت لها عائشة تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا كرهه، فتنحت فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال:" أولم تري إلى هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا " وأخذ بكفيه فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفه إلا أصابعه، ثم نصب كفيه على صدغيه حتى لم يبد إلا وجهه.
(2)
(1)
البيهقي في السنن الكبرى (13275) وقال: إسناده ضعيف. قال الشيخ الألباني: حسن في الشواهد "علّته ابن لهيعة". وهم بعضهم فصوّب (بكميه) بدل (بكفيه) والصواب كما وردت (بكفيه) يشهد له ما ورد في أدب النساء لعبد الملك بن حبيب (ت 238 هـ)(ص: 216)(وأمسك بكفيه حتى لم يبد من كفه إلا أصابعه).
(2)
أبو داود (4104) وقال: هذا مرسل خالد بن دريك لم يدرك عائشة.
وشاهد آخر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل" ثم قال: وهو مرسل صحيح يتقوى بما بعده!!
أولا: لابد أن نشير إلى ما تجلى في هذا المبحث من عدم إنصاف الشيخ الألباني غفر الله له بتضعيفه لحديث ابن عباس الذي فيه العين الواحدة وأثر عبيدة السلماني، ويتبين ذلك بالآتي:
(1)
استشهاده بحديث عائشة؛ رغم ضعفه لأربع علل في إسناده:
قال الحافظ ابن القطان في أحكام النظر (ص: 205): هذا حديث ضعيف؛ لأن سعيد بن بشير يضعف برواية المنكرات عن قتادة، وإن كان قد شهد له سبعة بالصدق، وابن عيينة بالحفظ، ولكنهم مع ذلك يضعفونه. وخالد بن دريك لم يدرك عائشة. قاله أبو داود، فالحديث منقطع. وزاد في كتابه بيان الوهم والإيهام (3/ 26):
…
وخالد بن دريك، فإنه مجهول الحال.
وقال ابن الملقن في البدر المنير (6/ 675): وهو معلول من أوجه: بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفه إلا أصابعه، ثم نصب كفيه على صدغيه حتى لم يبد إلا وجهه.
(1)
أحدها: الطعن في سعيد بن بشير لا سيما في روايته عن قتادة.
ثانيها: أن خالد بن دريك مجهول الحال. كذا قال ابن القطان.
(2)
(1)
البيهقي في السنن الكبرى (13275) وقال: إسناده ضعيف. قال الشيخ الألباني: حسن في الشواهد "علّته ابن لهيعة". وهم بعضهم فصوّب (بكميه) بدل (بكفيه) والصواب كما وردت (بكفيه) يشهد له ما ورد في أدب النساء لعبد الملك بن حبيب (ت 238 هـ)(ص: 216)(وأمسك بكفيه حتى لم يبد من كفه إلا أصابعه).
(2)
قال ابن الملقن: وهو وهم منه فقد وثقه النسائي وغير واحد، وقد قالَ هو في كتابه أحكام النظر: خالد بن دريك رجل شامي عسقلاني مشهور يروي عن ابن محيريز. اهـ قلت لكن ابن القطان لم يقل إنه مجهول العين حتى ينكر عليه بما قاله في كتابه أحكام النظر، ولعل توثيق من وثقه لم يخرجه عنده من حد الجهالة، ولم ينكره عليه الذهبي في كتابه (الرد على ابن القطان في كتابه الوهوم والإيهام).
ثالثها: أنه مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة
…
وأراد به الانقطاع.
رابعها: أنه مضطرب قال ابن عدي: لا أعلم يرويه عن قتادة غير سعيد بن بشير وقال فيه مرَّةً: عن خالد بن دريك عن أم سلمة بدل عن عائشة. قال ابن القطان في كتابه (أحكام النظر): فهذه زيادة علة الاضطراب.
(1)
ورغم هذه العلل في الحديث فهو مع ضعف سعيد بن بشير، منقطع، وفيه اضطراب، وفيه مجهول الحال! إلا أن الشيخ الألباني لم يمتنع من الاحتجاج به وتقويته بالشواهد، في حين أنه أنكر على مخالفيه احتجاجهم بحديث ابن عباس مع أن علتي حديث ابن عباس كما بينّاها هي خفّة في ضبط راويين لا تخرجه من دائرة الحديث الحسن وله شواهد منها شاهد صحيح عن عبيدة!!
(2)
قال الشيخ الألباني بعد أن ساق عبارات التعديل لسعيد بن بشير: (أنها لا تدل على أن سعيداً هذا ضعيف جدّا لا يصلح للاستشهاد به، بل هي إن لم تدل على أنه وسط يستدل بحديثه، فهي على الأقل تدل على أنه يعتبر ويتقوّى به، وهذا ما صرّح به الزيلعي، فقال وأقلّ أحوال مثل هذا أن يستشهد به"اهـ
فكيف يرد حديث "عبد الله بن صالح" الذي قال فيه الحافظ ابن القطان:
(1)
وانظر نصب الراية للزيلعي 1/ 299.
الرجل من أهل الصدق ولم يثبت عليه ما يسقط له حديثه لكنه مختلف فيه، فحديثه حسن)
(1)
؟!! وهل يعد سعيد بن بشير الذي قال عنه ابن حجر في التقريب (1/ 234): "ضعيف" أمثل من علي بن أبي طلحة الذي قال عنه (1/ 402): "صدوق قد يخطئ"! وهذا ما صرح به يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 265): فقال عن علي بن أبي طلحة "وهو أمثل من سعيد بن بشير".
(3)
قال الشيخ الألباني: إن سعيد بن بشير هذا لم يتفرد بمتن هذا الحديث، بل قد تابعه عليه ثقة حافظ عند أبي داود في "المراسيل" بسنده الصحيح عن هشام عن قتادة، فيكون إسناده مرسلاً صحيحاً، لأن قتادة تابعي جليل، قال الحافظ في "التقريب":"ثقة ثبت" وحينئذ يجرى فيه حكم الحديث المرسل إذا كان له شواهد
…
فقد رجحنا رواية قتادة المرسلة لقوة إسنادها اتباعاً لعلم الحديث، وإن كنا نعتقد أن ذلك لا يوهن من حجتنا شيئاً لأن كلاً من الرواية المرسلة والمسندة تؤيد الأخرى متنا!
فيقال إن كلاً من؛ حديث ابن عباس وهو أصح إسنادا من حديث عائشة، وأثر عبيدة وهو أصح إسنادا من معضل قتادة؛ تؤيد الأخرى متنا؟!! فقد وافق ابن عباس عبيدة السلماني عند الطبري بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين عنه، وعبيدة من كبار التابعين قال الذهبي: عبيدة بن عمرو السلماني الفقيه العلم، كاد أن يكون صحابياً، أسلم زمن الفتح باليمن وأخذ العلم عن علي وابن مسعود وبرع في الفقه، وكان ثبتا في الحديث، قال العجلي: كل شيء روى
(1)
بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام (4/ 678).
محمد عن عبيدة سوى رأيه فهو عن علي بن أبي طالب قال علي بن المديني وعمرو بن علي الفلاس: أصح الأسانيد محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي.
(1)
اهـ فكيف يُرمي بالضعف إسنادا قال عنه أهل الحديث إنه من أصح الأسانيد، وقد وافقه عليه ابن عباس (يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة) وسعيد بن جبير (يسدلن عليهن من جلابيبهن وهو القناع فوق الخمار) بل ووافقه ما احتج به الشيخ الألباني وصححه عن قتادة (أخذ عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب) ولذلك احتج به جمهور أهل العلم واعتمد عليه أهل التفسير وعملت به الأمة، وظاهر القرآن يؤيده فلا وجه للطعن فيه فهو الذي ينبغي أن يكون حجة باتفاق لا خلاف فيه كما قال ابن تيمية: "والمرسل في أحد قولي العلماء حجة كمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين، وفي الأخرى حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم وظاهر القرآن أو أرسل من وجه آخر.
(4)
نقل الشيخ الألباني قول ابن تيمية: (وإذا كان الحديث جاء من جهتين وقد علم أن المُخْبِرَين لم يتواطآ على اختلاقه، علم أنه صحيح
…
لاسيما إذا علم أن نقلته ليسوا ممن يتعمد الكذب وإنما يخاف على أحدهما النسيان أو الغلط. وذكر نحو هذا الحافظ العلائي وزاد: "فإنه يرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن لأنه يزول عنه حينئذ ما يخاف من سوء حفظ الرواة ويعتضد كل منهما بالآخر" قال ابن تيمية: وهذا الأصل ينبغي أن يعرف فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من
(1)
انظر: تذكرة الحفاظ 1/ 40، تهذيب الكمال 19/ 267، تهذيب التهذيب (7/ 78).
المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي). اهـ فلم لا يُعمِل هذا الأصل النافع مع حديث ابن عباس في تفسير آية إدناء الجلابيب (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة) فيقويه بما صح عن عبيدة (فتقنع به وأدنى رداءه من فوق حتى جعله قريبا من حاجبه أو على الحاجب) وسعيد بن جبير (يدنين عليهن من جلابيبهن؛ يسدلن عليهن من جلابيبهن وهو القناع فوق الخمار) وقتادة (أن الله أخذ عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب).
قال النووي في التقريب (ص/ 30): إذا كان راوي الحديث متأخراً عن درجة الحافظ الضابط، مشهوراً بالصدق والستر فروي حديثه من غير وجه قوي وارتفع من الحسن إلى الصحيح، والله أعلم.
ـ قال محمد جمال الدين القاسمي في قواعد التحديث (1/ 102): إعلم أن الحسن إذا روي من وجه آخر، ترقى من الحسن إلى الصحيح، لقوته من الجهتين فيعتضد أحدهما بالآخر.
وبذلك يتبين خطأ ما رمى به الشيخ الألباني أثر ابن عباس من الضعف، ووقوع فيما أنكره على مخالفيه بقوله:(وخالفوا علماء الحديث تأصيلاً، وهو تقوية الحديث بالطرق والشواهد فإن هذا من أصولهم التي يتفرَّع منها تقوية بعض الأحاديث التي ليس لها سند صحيح يحتج به، فمن كان جاهلاً بهذا الأصل وبطرق الحديث والشواهد وقع فيما وقع فيه هؤلاء من تضعيف هذا الحديث الصحيح)
فها هو قد خالف علماء الحديث تأصيلا، فضعّف حديث ابن عباس رغم أن له شواهد صحيحة يعتضد ويتقوى بها!!
ثانياً: قوّى الشيخ الألباني ما استشهد به من حديث عائشة وأسماء بنت عميس وقتادة؛ بما عدّه موافقة لها من رواتها بالقول أو بالفعل؛
1) فذكر عن عائشة رضي الله عنها قولها "المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً مَسَّه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تَلَثَّم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت" على أنها تريد بقولها "إن شاءت " تخيير المحرمة بين الكشف أو السدل!!
وسبق أن بينا في مناقشة البحث الخامس أن المراد بقولها "إن شاءت" هو إطلاق سبب التغطية؛ أي متى أرادت أن تغطي وجهها فلتسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها ولا ترفعه من أسفل لتتبرقع به وتتلثم، أي وإن لم يكن هناك سبب من وجود رجال أجانب وعليه بعض الأئمة، وقال بعضهم إن المحرمة لا تغطي وجهها إلا للستر من الرجال الأجانب وأن عليها الفدية إن غطته لغير هذا السبب. ومما يؤكد أنه لم يكن مقصود عائشة رضي الله عنها التخيير؛ قولها " كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا من رأسها على وجهها"
(1)
فلم تذكر هنا التخيير، ولا أن هناك من لم تكن تسدل!
(1)
مسند أحمد (24021) سنن أبي داود (1833) حسنه ابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح 3/ 106، وصححه علي القاري في مرقاة المفاتيح (5/ 1852) وصححه الألباني في حجاب المرأة /33 وفي مشكاة المصابيح (2/ 823).
ومما يشهد أن الثابت من فعلها وقولها هو إيجاب تغطية الوجه قولها رضي الله عنها (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن)
(1)
وسبق أن بينا في مناقشة البحث السادس أن التلفع يعني تغطية الوجه. وما كان منها في حادثة الإفك (فخمرت وجهي عنه بجلبابي)
(2)
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا ليستغفر لأهل البقيع قالت (اختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره)
(3)
وسبق أن بينا في مناقشة البحث الرابع أن التقنع يعني تغطية الوجه.
2) ثم ذكر عن أسماء بنت عميس ما روي عن قيس بن أبي حازم قال: "دخلت أنا وأبي على أبي بكر وإذا هو رجل أبيض خفيف الجسم عنده أسماء ابنت عميس تذب عنه وهي موشومة اليدين" وسبق أن بينا في مناقشة البحث السادس أن أسماء بنت عميس كانت أمة مملوكة اتخذها أبو بكر أم ولد له، وليست زوجة له من النساء الحرائر ولذلك لم تحتجب ومن أراد التفصيل فليرجع إليه.
3) ثم ذكر عن قتادة قوله في تفسير قوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} : "أخذ الله عليهن أن يُقَنِّعنَ على الحواجب" على أن معنى ذلك شد الجلباب على الجبين دون تغطية الوجه! وسبق أن بينا مراد قتادة كما قال أئمة التفسير هو
(1)
صحيح البخاري 1/ 210 (553) صحيح مسلم 1/ 446 (645).
(2)
صحيح البخاري 4/ 1774 (4473) صحيح مسلم 4/ 2129 (2770).
(3)
صحيح مسلم 2/ 669 (974).
تغطية وجوههن بالتقنع بشد الجلباب على الجبين ثم رد طرفه وعطفه على الأنف لستر الوجه.
قال الشوكاني في فتح القدير (4/ 304): قال المفسرون يغطين وجوههن إلا عيناً واحدة، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى، وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
وبذلك تبين أنه لاصحة لما نسبه الشيخ الألباني لرواة هذا الحديث من إباحتهم لكشف الوجه للنساء الحرائر.
ثالثاً: جاء في متن حديث عائشة رضي الله عنها إشكال يحتاج إلى توضيح؛ كدخول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم دون حجاب! ودخولها عليه بثياب رقاق!
(1)
أما دخول أسماء على النبي صلى الله عليه وسلم دون حجاب؛ فهو يستوجب أن يكون هذا الحديث قبل نزول الحجاب، إذ لو كان بعد الحجاب لسترها الجلباب الذي ستلبسه وجوبا للآية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} والذي صورت أم سلمة رضي الله عنها امتثال النساء لهذا الأمر بقولها (لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان
من أكسية سود يلبسنها)
(1)
وأكدت ذلك أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها فقالت " كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نتمشط قبل ذلك في الإحرام"
(2)
وقالت (خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت رجة الناس وهم يقولون آية
…
فخرجت متلفعة
(3)
بقطيفة للزبير حتى دخلت على عائشة).
(4)
ولهذا حمل بعض أهل العلم هذا الحديث على فرض صحته على ما قبل الحجاب؛ كابن قدامة (ت 620 هـ) في المغني (7/ 102) حيث قال" وأما حديث أسماء إن صح فيحتمل أنه كان قبل نزول الحجاب، فنحمله عليه".
ولكن هذا يشكل عليه أن النساء قبل نزول الحجاب كن يسدلن خمرهن ورائهن فتنكشف نحورهن
(5)
حتى نزلت آيات الحجاب؛ فأمرن بإدناء الجلابيب لتغطية وجوههن من الرجال الأجانب، ثم أمرن بضرب الخُمر على جيوبهن في البيوت وألّا يبدين من زينتهن إلا ما في الوجه والكفين من الزينة أمام كل من يحل له الدخول عليهن والنظر إليهن دون حجاب من الرقيق ونحوهم قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله
(1)
سنن أبي داود (4101) عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره 3/ 123 وصححه الألباني في جلباب المرأة /83.
(2)
صحيح ابن خزيمة 4/ 203 (2690) المستدرك على الصحيحين 1/ 624 (1668) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في إرواء الغليل 4/ 212.
(3)
سبق أن بينا في الجواب عن الحديث الرابع في مناقشة البحث السادس أن التلفع يعني تغطية الوجه.
(4)
صحيح البخاري 1/ 358 (1005) مسند أحمد 6/ 354 والسياق له، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 405: رجاله ثقات.
(5)
قال الفراء (كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار) من فتح الباري لابن حجر (8/ 490).
تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: "الزينة الظاهرة الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها"
(1)
فدل ذلك على أن هذا الحديث كان بعد الحجاب، وعليه فإن أسماء ستغطي وجهها وتستتر بالجلباب عند دخولها على أختها عائشة - كما قالت آنفا عن نفسها - فلما لم يكن هذا دل على أن هناك خطأ أو وهم من رواة هذا الحديث؛ بأن أسماء بنت أبي بكر هي التي دخلت على عائشة بهذه الثياب الرقاق؛ والصحيح: أنها ليست أسماء بنت أبي بكر؛ فإما أن تكون التي دخلت على عائشة بثياب رقاق هي جارية قاربت سن المحيض - كما سيأتي في رواية ابن جريج - أو أن عائشة هي التي كانت لابسة لهذه الثياب الرقاق، يؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قيد حديثه بمن بلغت سن المحيض كما في رواية ابن دريك (إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها) وفي رواية ابن جريج كما سيأتي (إذا عركت لم يحل لها) فدل ذلك على أن اللابسة للثياب الرقاق كانت قريبة من سن بدء المحيض، وهذا يبعد أن تكون أسماء؛ لأن أسماء ولدت قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة، وعائشة كان لها عند الهجرة تسع سنوات تقريبا؛ فهي الأقرب لسن المحيض، وهي الأقرب أن يقع منها ذلك لصغر سنّها.
(1)
تفسير الطبري 18/ 120، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2576 (14410)، البيهقي في السنن الكبرى 7/ 94 (13315) من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال السيوطي في الإتقان (2/ 5): ما ورد عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة خاصة فإنها من أصح الطرق عنه وعليها اعتمد البخاري في صحيحه. أهـ
(2)
أما الأمر الثاني المشكل في الحديث وهو لبس الثياب الرقاق؛ فإما أن يكون وهم من الرواة فقد جاء في رواية أسماء بنت عميس (وعليها ثياب واسعة الأكمام)، أو يكون صحيحا وعليه فإنه من المستبعد أن يكون المراد بالثياب الرقاق في هذا الحديث؛ الثياب الباطنة التي تشف عن البدن؛ للأمور الآتية:
1 -
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات)
(1)
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (14/ 110): "وقيل معناه تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها". اهـ
وهذا يدل على أن الرقة في الثياب (الباطنة) الملاصقة للبدن لم تلبسها النساء على عهده صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن إطلاق لفظ (الثياب) في القرآن والحديث؛ قد يراد به الثياب الظاهرة من الخمار أو الجلباب: ومن ذلك قوله تعالى {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} النور: 60 قال ابن جرير الطبري في تفسيره (18/ 165): (فليس عليهن حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهن؛ يعني جلابيبهن). اهـ فسمى الله تعالى الجلابيب في هذه الآية؛ ثيابا.
(1)
صحيح مسلم 3/ 1680 (2128)
- ثبت أن رفاعة طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها وأرتها خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة (ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات لجلدها أشد خضرة من ثوبها).
(1)
وهذه عائشة رضي الله عنها عبرت بالثوب عن الخمار.
- ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُريتك في المنام يجئ بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت).
(2)
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر بالثوب عمّا يغطى به الوجه من خمار أوجلباب، وكذلك في الآثار الآتية:
- ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها.
(3)
- ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اختلط رجال بالنساء في الطريق قال (استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق) فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
(4)
(1)
صحيح البخاري 5/ 2192 (5487) ومن ذلك أيضا ما ورد عنها أنها قالت "المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً مسه ورس أو زعفران، ولا تتبرقع ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها " سنن البيهقي الكبرى 5/ 47 (8832) وصححه الألباني في إرواء الغليل 4/ 212.
(2)
صحيح البخاري 5/ 1969 (4832)
(3)
أبو داود (4106) وصححه الألباني في صحيح أبي داود 4/ 62.
(4)
أبو داود (5272) صححه الألباني في مشكاة المصابيح (2/ 935)
- ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً مسه ورس أو زعفران، ولا تتبرقع ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها".
(1)
3 -
لو كان المراد بالثياب الرقاق الثوب الملاصق للبدن؛ لجاء التعبير عنه بقوله (وعليها درع رقيق) لأن المتعارف عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تسمية الثوب الذي تلبسه المرأة (درع) كما هو ثابت في بعض الأحاديث والآثار:
- كما ثبت عن عطاء قال: وكنت آتي عائشة رضي الله عنها
…
قال ورأيت عليها درعا مورَّدا.
(2)
- وثبت عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه أنه قال: "دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطر ثمنه خمسة دراهم".
(3)
- ورد عن شميسة أنها قالت (دخلت على عائشة وعليها ثياب من هذه السيد الصفاق
(4)
ودرع وخمار)
(5)
- ورد عن عبيد الله الخولاني وكان في حجر ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن ميمونة " كانت تصلي في الدرع والخمار ليس عليها إزار".
(6)
(1)
سنن البيهقي الكبرى 5/ 47 (8832) وصححه الألباني في إرواء الغليل 4/ 212.
(2)
صحيح البخاري 2/ 585 (1539).
(3)
صحيح البخاري 2/ 926 (2485).
(4)
ثوب صفيق: متين. والمراد به هنا الرداء.
(5)
الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 70 وصحح إسناده الألباني في جلباب المرأة /129.
(6)
ابن أبي شيبة في مصنفه (6171) وصححه الألباني في تمام المنة / 162. وورد عن أم الحسن قالت: "رأيت أم سلمة تصلي في درع وخمار". مصنف عبد الرزاق (5027) وصححه الألباني في تمام المنة /162.
وعلى ذلك قد يكون المراد بالثياب الرقاق في هذا الحديث؛ هي الخمار، ولم نقل الجلباب لأن الجلباب لا يشف عن شيء من البدن لكونه يلبس فوق الثياب. ومما يشهد أن الرقيق الذي وقعت النساء في لبسه هو الخمار؛ ماورد " أن حفصة بنت عبد الرحمن دخلت على عائشة أم المؤمنين وعلى حفصة خمار رقيق فشقته عائشة وكستها خمارا كثيفا".
(1)
4 -
أن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بيده لبيان حدود ما يباح كشفه من الوجه والكفين؛ يدل على أن ما أنكره كان للتوسع بكشف ما لا يباح كشفه في أحدهما:
1 -
فإما أن يكون التوسع بإظهار ما لا يحل إظهاره مما جاور الوجه؛ كالنحر أو الشعر، بلبس خمار رقيق يشف عن ذلك، كما في رواية خالد بن دريك (وعليها ثياب شامية رقاق).
2 -
أو أن يكون التوسع بإظهار ما لا يحل إظهاره من الذراعين، بلبس ثياب واسعة الأكمام، كما في رواية أسماء بنت عميس (وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام).
(1)
موطأ مالك (2/ 913)، سنن البيهقي الكبرى (3082). قال عبد القادر الأرنؤوط في جامع الأصول
(10/ 647) حديث حسن.
(3)
ومما يشهد لما ذكرنا بأن التي دخلت على عائشة بثياب رقاق هي جارية قاربت سن المحيض، أو أن عائشة هي التي كانت لابسة لهذه الثياب الرقاق؛ مارواه ابن جرير بإسناد صحيح إلى ابن جريج عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، فقالت عائشة: يا رسول الله إنها ابنة أخي وجارية، فقال: "إذا عركت
(1)
المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا" وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى).
(2)
ففيه شاهد على أن التي دخلت على عائشة ليست أسماء بنت أبي بكر، وقد تكون ابنة أخيها عبد الله بن الطفيل اسمها أسماء مما أحدث اللبس عند الرواة، أو كما ذكرنا قد تكون عائشة هي التي كانت مظهرة من زينتها ما أنكره عليها النبي صلى الله عليه وسلم،
فيكون قولها (دخلت علي ابنة أخي مزينة) أي دخلت علي حال كوني متزينة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم أعرض منكرا عليها ما رأى من إظهارها لما لا يحل إظهاره، فبادرته بقولها (إنها ابنة أخي وجارية) إذ لو كانت المتزينة هي ابنة أخيها لما كان لتبريرها بقولها (إنها ابنة أخي) فائدة!
ولما كان حديث ابن جريج هذا يوافق حديث خالد بن دريك وحديث أسماء بنت عميس في معناه وهو دخول أختها أو ابنة أخيها مظهرة من زينتها - أو تكون هي المظهرة من زينتها - ما لا يحل لها إظهاره، أو كما ذكرنا أن عائشة هي التي كانت مظهرة لهذه الزينة عند دخولها عليها.
(1)
العراك: المحيض (غريب الحديث لابن الجوزي 2/ 90).
(2)
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 18/ 119، وقال عقبه: وأشار به أبو علي.
كما أنه يوافقه فيما كان من كلامه صلى الله عليه وسلم فقال في حديث خالد بن دريك "لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى كفه ووجهه" وقال في حديث أسماء بنت عميس " ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا " وقال في حديث ابن جريج "لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا " فكلها وإن اختلفت ألفاظها إلا أنها متوافقة في المعنى؛ فيصلح حينئذ أن يعتضد كل منها بالآخر. لأنه يصدق عليها حينئذ ما استشهد به الشيخ الألباني من قول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (13/ 348): "فيعلم قطعا أن تلك الواقعة حق في الجملة".
كما أن الروايات قد اتفقت على إظهار الوجه، أما ما يظهر من الكفين؛ ففي رواية خالد بن دريك أطلق جواز إظهار الكفين، وفي رواية أسماء بنت عميس قصر ما يحل إظهاره من الكفين على الأصابع، وفي رواية ابن جريج زاد على الكف مقدار قبضة من الذراع (وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى) وهو الأرجح لأنه الموافق للقرآن فقد صح عن عائشة، وأبي هريرة، والمسور بن مخرمة؛ في تأويل قوله {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أنها (القلب والفتخة). قال جرير بن حازم: القلب السوار، والفتخة الخاتم. كما صح عن ابن عباس وقتادة في تأويلها أنها (الخاتم والمسكة)
(1)
. قال مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسيره (2/ 417): {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} " يعنى الوجه والكفين
(1)
الطبري في تفسيره (18/ 119) المسكة: السوار كما في النهاية 4/ 331.
وموضع السوارين". وهذا يشهد لصحة حديث ابن جريج وأن موضع السوار من الذراع مما يلي الكف يعد من الزينة الظاهرة، وهذا مما لم يقل بجواز كشفه للرجال الأجانب الشيخ الألباني ولا غيره من أهل العلم! وهذا يؤكد ما ذكرنا بأن المراد بالحديث بيان ما يحل للمرأة إظهاره لمن يحل له الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب من الرقيق ونحوهم، وليس المراد جواز إظهار ذلك لمن يجب عليها الاحتجاب منهم من الرجال الأحرار الأجانب.
لكن الشيخ الألباني ضعَف حديث ابن جريج بما لا يوجب له الضعف، وساقه بلفظ مصحّف لم أجده عند ابن جرير ولا غيره فقال في كتابه جلباب المرأة (ص/41): رواه من طريق قتادة: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج يدها إلا إلى ها هنا؛ وقبض نصف الذراع". وهذا إسناد منقطع، ثم روي نحوه عن ابن جريج قال: قالت عائشة: خرجت لابن أخي عبد الله بن الطفيل مزينة، فكرهه النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إنه ابن أخي يا رسول الله! فقال:"إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها، إلا ما دون هذا". وقبض على ذراع نفسه - ثم قال الشيخ الألباني- والحديث منكر لضعفه من قبل إسناده، ومخالفته لما هو أقوى منه، ألا وهو حديث عائشة من رواية
أبي داود، وكونه أقوى منه، لأن له شاهدا من قوله صلى الله عليه وسلم وهو حديث أسماء، وجريان عمل الصحابيات عليه كما سيأتي بيانه، بخلاف هذا، فإنه لا شاهد له يقويه، ولم يجر عليه عمل، فكان منكرا، وفي حديث ابن جريج خاصة نكارة أخرى، وهي مخالفته للقرآن، فإنه صريح في إنكار خروج عائشة أمام ابن أخيها مزينة، والله عز وجل يقول:{ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية، وفيها:{أو بني إخوانهن} ،
فهي صريحة الدلالة على جواز إبداء المرأة زينتها لابن أخيها، فكان الحديث منكرا من هذه الجهة أيضا
…
وقد كنت بينت أن حديث قتادة مرسل، وحديث ابن جريج معضل. اهـ
ثم أسهب الشيخ الألباني في تضعيف حديث ابن جريج بما لا يصح:
1) فقوله (حديث ابن جريج معضل، بينه وبين عائشة مفاوز) غير صحيح؛ فإنه قد ثبت أن من شيوخ ابن جريج: عطاء بن أبي رباح، وابن أبي مليكة، ونافع، وميمون بن مهران وغيرهم ممن سمع من عائشة وحدث عنها
(1)
، فرواية ابن جريج عن عائشة مرسلة وليست معضلة، كما أنه قال بإرسال حديث قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو معضل بين قتادة والنبي صلى الله عليه وسلم مفاوز!! كما قال ذلك ابن حجر في الدراية (1/ 123) وابن الملقن في البدر المنير (6/ 67).
2) وقوله (مخالفته لما هو أقوى منه ألا وهو حديث عائشة من رواية أبي داود) فقد بيّنا آنفا أن حديث ابن جريج يوافق حديث خالد بن دريك (حديث عائشة) ولا يخالفه، أما كونه أقوى منه؛ فغير صحيح، بل إن حديث ابن جريج أقوى من
(1)
انظر تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 128): وابن جريج هو عبدالملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي الأموي مولاهم المكي الفقيه. صاحب التصانيف أحد الأعلام: قال أحمد بن حنبل: كان من أوعية العلم، حدث عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة ونافع والزهري وخلق كثير، ولد سنة نيف وسبعين وأدرك صغار الصحابة، مات ابن جريج سنة خمسين ومائة.
حديث خالد بن دريك؛ فقد أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح إلى ابن جريج
(1)
، إلا أن ابن جريج أرسله عن عائشة، فهو مرسل صحيح يتقوى بالشواهد. ولم يخفَ ذلك على الشيخ الألباني ولذلك قال (وكونه أقوى منه لأن له شاهدا) ولم يقل لأنه أصح إسنادا.
3) كما أعلّ الشيخ الألباني حديث ابن جريج؛ بضعف مرسلات ابن جريج! وهو قد قال في رده المفحم (ص/93): (وتقوية المرسل بالشواهد أمر معروف لدى العلماء ولو كان النوع الذي لا يحتج به) كما أنه قبِل تقوية مرسل قتادة على ضعف مرسلاته، فقال ردا على من قال بأن مراسيل قتادة ضعيفة لا تقوم بها حجة وأنها بمنزلة الريح.
(2)
فقال الشيخ الألباني (ص/91): "عدم الاحتجاج بمرسل قتادة ليس موضع خلاف وإنما: هل يتقوى بالمسند الضعيف أم لا؟!! هذا هو الموضوع، فنحن نرى تبعاً للبيهقي وغيره أن يتقوى"اهـ
4) أما قوله (وكونه أقوى منه لجريان عمل الصحابيات) يريد ما استشهد به في كتابه من الآثار؛ وقد بينا أنه لاحجة فيها على جواز كشف النساء الحرائر؛ إما
(1)
وانظر المطالب العالية لابن حجر (3/ 609) تنقيح التحقيق (4/ 585).
(2)
لكونها قبل فرض الحجاب، وإما لكون من وقع منهن الكشف من الإماء المملوكات ولسن من الحرائر.
5) أما قوله (فإنه لا شاهد له يقويه) فغير صحيح؛ فإن لحديث ابن جريج من الشواهد ما يتقوى بها:
1 -
أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره (18/ 118) بإسناد صحيح إلى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج من يدها إلا ها هنا وقبض على نصف الذراع". وهو يوافق حديث ابن جريج تمام الموافقة فيما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الذراع، فإنك إذا قبضت بيدك على نصف الذراع بقي مقدار قبضة من الذراع.
لكن الشيخ الألباني قال عنه: وهذا إسناد منقطع!! والعجيب أنه ساق بعده أثرا آخر لقتادة (ص/58) وقال: أخرج أبو داود في "مراسيله" بسند صحيح عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل" ثم قال: وهو مرسل صحيح يتقوى بما بعده!!
فكلا الأثرين عن قتادة وكلاهما بإسناد صحيح إليه؛ فكيف يقبل أحدهما ويقال عنه "مرسل صحيح يتقوى بما بعده" ويرد الآخر ويقال عنه "إسناد منقطع" مع أن له ما يتقوى به أيضا!!
ثم قال الشيخ الألباني: بأن من شيوخ المرسِلَين (قتادة وابن جريج) عطاء ابن أبي رباح كما هو مذكور في ترجمتهما فيحتمل حينئذ أن يعود الحديث إلى طريق واحدة مرسلة فلا يصح أن يدعم أحدهما بالآخر!
فيقال بأن هذا احتمال لم يثبت!! بل إن الشيخ الألباني قوى مرسل خالد بن دريك بمرسل قتادة الذي سقناه آنفا وقد ثبت أن مدارهما على راو واحد وهو قتادة!! وقد أقر الشيخ الألباني بذلك في كتابه جلباب المرأة (ص/47): حديث قتادة مرسلا بلفظ "إن الجارية إذا حاضت لم يصلح أن يرى منها إلى وجهها ويداها إلى المفصل"رواه أبو داود في كتابه "المراسيل"، ورواه في "سننه" عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة
…
بلفظ: "إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه" فهذا بلا شك حديث واحد، مداره على راو واحد، وهو قتادة!!
فكيف يقبل تقوية مرسل خالد بن دريك بأثر قتادة؛ وقد ثبت أن مدارهما على راوٍ واحد!!! وينكر في المقابل تقوية أثر ابن جريج بمرسل قتادة لاحتمال لم يَثبُت بأن مدارهما على راوٍ واحد؟!!
2 -
ولذلك فإن من الشواهد التي يتقوى بها حديث ابن جريج؛ ما أخرجه أبو داود من حديث خالد بن دريك عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم " إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه".
3 -
كما أن من شواهده حديث أسماء بنت عميس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا "
قال دروزة محمد عزت (ت 1404 هـ) في التفسير الحديث (2/ 388) بعد أن ساق أثر ابن جريج وقتادة: والحديثان لم يردا في كتب الأحاديث الخمسة ولكنهما متفقان مع ما ورد فيها، ومع ما ذكره المؤولون في تأويل جملة آية سورة النور.
قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة (ص/ 48): والتوفيق لا يصار إليه إلا لو كان الحديثان من قسم الحديث المقبول. فحينئذ لا مناص من التوفيق بينهما كما هو معروف في علم المصطلح. اهـ
فلما كان حديث خالد بن دريك من الحديث المقبول كما ذكر الشيخ الألباني؛ وثبت هنا أن حديث ابن جريج من الحديث المقبول أيضا لأن له شواهد يتقوى بها؛ فلا مناص إذن من التوفيق بينهما، فيعتضد كل منهما بالآخر، ويكون الحديث بمجموع الطريقين حسن.
6) أما قوله (ولم يجر عليه عمل) فغير صحيح؛ فقد جرى عليه عمل الصحابيات وقال به أهل العلم، فقد كان الخمار من عامة لباسهن في البيوت أمام من يحل له الدخول عليهن، ومما يشهد لذلك:
- ورد عن شميسة أنها قالت (دخلت على عائشة وعليها ثياب من هذه السيد الصفاق
(1)
ودرع وخمار)
(2)
(1)
ثوب صفيق: متين. والمراد به هنا الرداء.
(2)
الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 70 وصحح إسناده الألباني في جلباب المرأة /129.
- كما ثبت في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها نذرت على نفسها ألا تكلم عبد الله بن الزبير
…
وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها.
(1)
وذلك يقتضي ملازمة الخمار لها، كما يقال في الرجل كان يذكر الشيء فيبكي حتى تبل دموعه لحيته!!
- كما ورد عن أنس بن مالك: أن صفية رضي الله عنها لما غضب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتت عائشة فقالت: يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيته عني، فعمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته
بورس وزعفران فنضحته بشيء من ماء ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
)
(2)
كما يشهد لذلك قول أهل العلم:
- ثبت عن بعض التابعين كالزهري، وطاوس، والشعبي، وحسن البصري، والضحاك؛ أنهم كرهوا النظر لشعر ذوات المحارم، وأن تضع المرأة خمارها عندهم.
(3)
(1)
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه 5/ 2255 (5725).
(2)
سنن النسائي الكبرى 5/ 369 (9162) الأحاديث المختارة للمقدسي (1727) وقال إسناده حسن. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 321: فيه سمية روى لها أبو داود وغيره ولم يضعفها أحد وبقية رجاله ثقات. وقال الألباني في الإرواء 7/ 85: ورجاله ثقات رجال مسلم غير سمية وهي مقبولة عند الحافظ ابن حجر.
(3)
مصنف عبد الرزاق 7/ 212، مصنف بن أبي شيبة 4/ 11.
- وقال إبراهيم بن محمد ابن مفلح في المبدع (7/ 8): (وعنه لا ينظر من ذوات محارمه إلا إلى الوجه والكفين) لقول ابن عباس في قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني وجهها وكفيها.
- وفي الإنصاف للمرداوي (8/ 20): لا ينظر من ذوات محارمه إلى غير الوجه ذكرها في الرعاية وغيرها، وعنه لا ينظر منهن إلا إلى الوجه والكفين.
- وفي التمهيد لابن عبد البر (8/ 236): ذوي المحارم لا يحتجب منهم ولا يستتر عنهم إلا العورات والمرأة فيما عدا وجهها وكفيها عورة بدليل أنه لا يجوز لها كشفه في الصلاة.
- وفي القوانين الفقهية لابن جزي (1/ 29): وإن كانت ذات محرم جاز له رؤية وجهها ويديها دون سائر جسدها على الأصح. اهـ
ولا زال العمل مستمرا على ذلك في بلادنا إلى القرن الثالث عشر، ثم بدأ التبرج في البيوت؛ حتى عمّ خارجها والله المستعان.
7) أما قول الشيخ الألباني: وفي حديث ابن جريج نكارة أخرى، وهي مخالفته للقرآن، فإنه صريح في إنكار خروج عائشة أمام ابن أخيها مزينة، والله عز وجل يقول:{ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية، وفيها:{أو بني إخوانهن} ، فهي صريحة الدلالة على جواز إبداء المرأة زينتها لابن أخيها. اهـ
فيقال؛ بل إن ظاهر القرآن يوافقه - كما ذكرنا سابقا وما سيأتي تفصيله في مناقشة البحث التاسع - فإن المراد بقوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كما قال ابن عباس: الزينة الظاهرة؛ الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم؛ فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} والزينة التي تبديها لهؤلاء الناس قرطاها وقلادتها وسواراها فأما خلخالها ومعضدتها ونحرها وشعرها فلا تبديه إلا لزوجها.
(1)
قال البيهقي في سننه الكبرى بعد أن ساق هذه الرواية (7/ 94): وهذا هو الأفضل ألا تبدي من زينتها الباطنة شيئا لغير زوجها إلا ما يظهر منها في مهنتها.
وهذا يكشف المراد بما استشهد به الشيخ الألباني في جلباب المرأة من قول البيهقي (ص/59): وقد قوى البيهقي الحديث من وجهة أخرى، فقال بعدما ساق حديث عائشة، وبعد أن روى عن ابن عباس وغيره في تفسيره:{إلا ما ظهر منها} ؛ أنه الوجه والكفان، قال:(مع هذا المرسل قول من مضى من الصحابة رضي الله عنهم في بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة، فصار القول بذلك قويا) فمراده ما أثر عن ابن عباس وغيره من الصحابة بأن الزينة الظاهرة ما في الوجه
(1)
تفسير الطبري 18/ 120، تفسير ابن أبي حاتم 8/ 2576 (14410) حسن إسناده أ. د. حكمت بن بشير بن ياسين في الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/ 463).
والكفين من الزينة، وأن هذا ما تبديه المرأة في بيتها لمن يحل له الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب، وليس كما حمله عليه الشيخ الألباني.
قال الشيخ الألباني في الرد المفحم (ص/99): قال ابن تيمية: "والمرسل في أحد قولي العلماء حجة إذا عضده قول جمهور أهل العلم وظاهر القرآن أو أرسل من وجه آخر".اهـ
فيقال وقد توفرت هذه الشروط كلها وزيادة في حديث ابن جريج كما تقدم بيانه فينبغي أن يكون حجة باتفاق لا خلاف فيه، فقد وافق ظاهر القرآن وقال به أهل العلم وجرى عليه عمل سلف هذه الأمة فصار قويا محتجا به على عورة المرأة أمام من يحل له الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب من محارم وغيرهم. وسيأتي زيادة بيان لذلك قريبا في مناقشة البحث التاسع.
فنخرج من هذا المبحث بأن حديث عائشة " إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفيه" ليس فيه حجة على جواز كشف وجه المرأة الحرة أمام الرجال الأحرار الأجانب؛ لأن المراد به هو ما يحل للمرأة إظهاره لمن يحل لهم الدخول عليها والنظر إليها دون حجاب؛ وليس ما تظهره للرجال الأحرار الأجانب الذين يجب عليها الاحتجاب منهم.
ــ:: البحث التاسع:: ــ
تفسير آية الزينة {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال الشيخ الألباني: بعد أن أثبتنا صحة هذا الحديث أريد أن أبين أنه يصلح حينئذٍ أن يكون مبيناً لقوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، فقوله صلى الله عليه وسلم فيه:" لم يصلح أن يرى منها" بيان لقوله تعالى (إلا ما ظهر منها) أي: وجهها وكفيها، فالمنهي في الآية هو المنهي في الحديث، والمستثنى فيها هو المستثنى في الحديث
…
ولا بد لي من سرد أسماء الصحابة المشار إليهم، مع ذكر بعض مخرجيها ومن صحح بعضها:
1 -
عائشة رضي الله عنها. عبد الرزاق، وابن أبي حاتم "الدر المنثور"، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وصححه ابن حزم.
2 -
عبد الله بن عباس رضي الله عنه. ابن أبي شيبة، والطحاوي، والبيهقي، وصححه ابن حزم أيضاً، وله عنه سبعة طرق.
3 -
عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ابن أبي شيبة، وصححه ابن حزم.
4 -
أنس بن مالك رضي الله عنه. وصله ابن المنذر، وعلقه البيهقي.
5 -
أبو هريرة رضي الله عنه. ابن عبد البر في "التمهيد".
6 -
المسور بن مخرمة رضي الله عنه. ابن جرير الطبري.