المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه: - مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح

[صبحي الصالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌مقدمة المؤلف في الطبعة الجديدة:

- ‌مقدمة الكتاب:

- ‌الباب الأول: القرآن والوحي

- ‌الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها

- ‌الفصل الثاني: ظاهرة الوحي

- ‌الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره

- ‌الباب الثاني: تاريخ القرآن

- ‌الفصل الأول: جمع القرآن وكتابته

- ‌مدخل

- ‌جمع القرآن كتابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

- ‌ جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه:

- ‌الفصل الثاني: المصاحف العثمانية في طور التجويد والتحسين

- ‌الفصل الثالث: الأحرف السبعة

- ‌الباب الثالث: علوم القرآن

- ‌الفصل الأول: لمحة تاريخية عن علوم القرآن

- ‌الفصل الثاني: علم أسباب النزول

- ‌الفصل الثالث: علم المكي والمدني

- ‌الفصل الرابع: لمحة خاطفة عن فواتح السور

- ‌الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء

- ‌الفصل السادس: علم الناسح والمنسوخ

- ‌الفصل السابع: علم الرسم القرآني

- ‌الفصل الثامن: علم المحكم والمتشابه

- ‌الباب الرابع: التفسير والإعجاز

- ‌الفصل الأول: التفسير "نشأته وتطوره

- ‌الفصل الثاني: القرآن يفسر بعضه بعضا

- ‌منطوق القرآن ومفهومه:

- ‌عام القرآن وخاصه:

- ‌المجمل والمبين:

- ‌النص والظاهر:

- ‌الفصل الثالث: إعجاز القرآن

- ‌مدخل

- ‌تشبيه القرآن واستعارته:

- ‌المجاز والكناية:

- ‌الفصل الرابع: الإعجاز في نغم القرآن

- ‌خاتمة:

- ‌جريدة المراجع على حروف المعجم:

- ‌ باللغة العربية:

- ‌ باللغات الأجنبية:

- ‌مسرد الأعلام:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه:

3-

‌ جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه:

روى البخاي في "صحيحه" بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. فأرسلت به حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القراء فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق"1.

1 صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، الباب الثاني والباب الثالث، الإتقان 1/ 102، المصاحف لابن أبي داود 18؛ تفسير الطبري 1/ 20-21، ورواية الطبري تربط في سياق واحد بين عمل أبي بكر وعمل عثمان في جمع المصاحف، وهي من حديث زيد بن ثابت نفسه، بينما هي في صحيح البخاري تنفرد بوصف عمل عثمان، وهي من حديث أنس بن مالك كما رأينا.

ص: 78

ينبئنا هذا النص الصحيح بخمسة أمور على جانب عظيم من الأهمية:

أولا- إن اختلاف المسلمين في قراءة القرآن كان الباعث الأساسي على أمر عثمان باستنساخ صحف حفصة وجمعها في مصاحف. فلا مستند لبلاشير وغيره من المستشرقين في التشكيك بنيات عثمان في جمع القرآن، فمن أين لهم أن هذا الخليفة إنما سعى إلى تحقيق هذا العمل العظيم بدافع من نزعته "الأرستقراطية"، فلم يجمع كتاب الله -بزعمهم- إلا باسم الطبقة "الأرستقراطية" المكية التي كان خير ممثل لها1؟!

لا مستند لهم في شيء من هذا إلا خيالهم الخصيب، وظنهم الكاذب..

وإلا فأين الرواية التاريخية الصحيحة التي تثبت دعواهم؟ وهل يفضل عاقل الأخذ بتخرصاتهم على ما أورده رجل كالبخاري ما عرف التاريخ من يضارعه في الثقة والضبط والأمانة؟

ثانيا- إن اللجنة التي كلفت بهذا العمل كانت رباعية2.

وإذا استثنينا زيد بن ثابت الذي كان مدنيا من الأنصار، لاحظنا أن الأعضاء الثلاثة الباقين كلهم مكيون من قريش3. وهؤلاء الأربعة جميعا من

1 انظر Blachere p. 57

2 ومن الغريب أن ابن أبي داود، لشدة ولوعه بإيراد الروايات المختلفة في الموضوع الواحد مهما تتضارب، لا يكتفي بذكر هذه اللجنة الرباعية التي سماها البخاري، بل يتطوع بتسمية قوائم بلجان أخرى، منها لجنة ثنائية مؤلفة من زيد بن ثابت وسعيد بن العاص، ومنها لجنة ثنتا عشرية "انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص 22، 24، 25". وكان هذا التضارب مادة صالحة للتعليق والتعقيب لدى المستشرق شفالي "انظر:

"Schwally، Die Sammlung des Qorans، ll، 50 Sqq"

أما المستشرق بلاشير فلا يكتم استغرابه الشديد من ذكر ابن أبي داود اسم أبي بن كعب في إحدى اللجان مع أن المفروض أنه كان قد توفي قبل سنتين على الأقل. وهذا وهم تاريخي من بلاشير، لأنه يظن أن هذه اللجنة الناسخة للمصاحف إنما تألفت في حدود سنة 30هـ"انظر: Blachere، Intr، au Coran 53 في حين أن ابن حجر يقول:"وكان ذلك -أي: استنساخ المصاحف- في سنة خمس وعشرين. قال: وغفل بعض من أدركناه فزعم أنه كان في حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر له مستندًا"الإتقان 1/ 102.

3 وهنا يذهب الخيال الخصيب ببلاشير كل مذهب، فيسرف في وصف الرهط القرشيين الثلاثة "بالأرستقراطية"،كما وصف بها عثمان من قبل- وما ندري أي أرستقراطية يعني في ذلك المجتمع الإسلامي الوليد الذي لا تزال تعاليم الدين فيه غضة! -ويشير بعد ذلك إلى صلات=

ص: 79

ثقات الصحابة وأفاضلهم1.

ثالثا- إن اللجنة الرباعية باتخاذها صحف حفصة أساسا لنسخ المصاحف إنما استندت إلى أصل أبي بكر.

رابعًا- إن القرآن نزل بلغة قريش، فهي اللغة المفضلة لكتابة النص القرآني عند حدوث الخلاف بين القرشيين الثلاثة وزيد. وسنرى أن هذا لا ينافي كتابة القرآن بطريقة تجمع الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، لأن تلك الكتابة كانت غير معجمة ولا مشكولة، ولأن وجوه القراءات كانت توزع على المصاحف حين لا يحتملها الرسم الواحد.

خامسًا- إن عثمان أرسل إلى الآفاق الإسلامية بمصحف مما نسخه هؤلاء الأربعة، ورأى -حسما للنزاع- أن يحرق ما عدا ذلك من الصحف والمصاحف الخاصة.

ويبدو أن حذيفة بن اليمان لم يكن وحده فزعا من اختلاف المسلمين في القراءة، فقد كثر الخلاف وساور القلق أنفس الصحابة الكرام، وبلغ ذلك عثمان ففزع بدوره ورأى أن يتدارك الأمر قبل استفحاله. وقد أشار إلى ذلك ابن جرير الطبري في "تفسيره" في الخبر الذي أخرجه من طريق أيوب عن

= المصاهرة بين هؤلاء الرهط وبين عثمان، فجمعت بينهم -بزعمه- المصالح المشتركة، فما كان أحد منهم يتصور أن يتم جمع القرآن واستنساخ المصحف في غير مكة مدينتهم الغالية. ولكي يتم بلاشير نسج هذه القصة الخيالية يجعل ثالثة الأثافي موافقة زيد للمكيين الثلاثة وتملقه لهم، لعلمه أن زيدا كان مدنيا أبعد ما يكون عن النزعة الأرستقراطية "انظر: Blachere Intr، au Coran، 58"

وهذا الكلام يكاد -لتهافته وتناقضه- يكذب آخره أوله. فحسبنا هذا التكلف في إشراك زيد المدني في خطة المكيين الثلاثة دليلا على فساد هذا الاستنتاج الذي لا يستند إلى عقل ولا نقل.

1 وقد اعترف كثير من المستشرقين بورع أعضاء اللجنة واحتياطهم في نسخ المصاحف. ونذكر على سبيل المثال قول بلاشير: "لا يسع أحدًا الشك في عمق شعور، أعضاء اللجنة بمسئوليتهم. ولئن فاتهم منهج البحث الذي لم يكن متيسرا لأحد في عصرهم، فلم يفتهم الاحتياط والورع".

"Blachere، Inter، au Cor.، 61"

ص: 80

أبي قلابة أنه قال: "لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: "أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا. اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما"1.

وساعد على هذا الاختلاف أن مصاحف أخرى مشهورة قد عرفت إلى جانب صحف حفصة في الزمن الممتد من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى جمع عثمان الناس على مصحف واحد. وأشهر تلك الصحف اثنان منسوبان إلى اللذين قاما بجمعهما:

وهما مصحف ابن كعب ومصحف عبد الله بن مسعود2.

ولعل بعض المصاحف الأخرى التي لم تعرف ولم تشتهر كانت كذلك موجودة، كما يذكر ابن النديم في "الفهرست" وابن أبي داود في "المصاحف" وابن أشتة في "المصاحف" وإن كنا لا نميل إلى المبالغة في

1 تفسير الطبري 1/ 21 وتجد مثل هذا النص في الإتقان 1/ 102-103 نقلا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق أيوب عن أبي قلابة أيضًا. وفي الرواية بعد ذلك: "فاجتمعوا فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا في أي آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانًا، فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة، فيقال له: كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا؟ فيقول:كذا وكذا، فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكان". ويقرب من هذا ما في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص21 والمقنع لأبي عمرو الداني ص8.

2 وصاحبا هذين المصحفين من أجل الصحابة وأعلمهم بكتاب الله، أما أبي فبلغ من فضله وثقة الناس بعلمه أن كان الناس يكتبون عنه وهو يملي عليهم حين جمع القرآن في المصحف على عهد أبي بكر رضي الله عنه "انظر كتاب المصاحف لابن أبي داود ص9".وأما عبد الله بن مسعود فهو أحد الأربعة الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم في حديثه المشهور:"خذوا القرآن عن أربعة: عبد الله -يعني ابن مسعود- وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب". انظر البخاري 6/ 186.

ويلي هذين المصحفين في الشهرة مصحف أبي موسى الأشعري ثم مصحف المقداد بن عمرو، "انظر طبقات ابن سعد ج3 ق1 ص114-116".

ص: 81

عددها، لأننا لا نملك مستندا صحيحا يؤكد وجودها في زمن ما1.

وجدير بالذكر أن هذه المصاحف لم تصل إلينا، وإنما وردتنا نصوص عن ترتيب السور فيها وبعض أوجه قراءاتها، وما تبرح في كثير من جوانبها بحاجة إلى الفحص والتدقيق2.ولكن قرار عثمان بإحراقها3 كان حكيما بلا ريب لأن بقاءها كان لا بد أن يزيد في أسباب الشقاق، ولا سيما وقد بعد عهد الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد وقع عمل عثمان من قلوب الناس موقع القبول والاستحسان4 إلا عبد الله بن مسعود الذي كان له -كما رأينا- مصحف خاص به، فإنه عارض في ذلك في بادئ الأمر، وأبى أن يحرق مصحفه5 ثم ألهمه الله أن يرجع

1 من ذلك ما ينسبه ابن أبي داود في "كتاب المصاحف ص50 وما بعدها" إلى عمر بن الخطاب من القيام بجمع مصحف خاص به. ويحلو للمستشرق شفالي أن يذكر ذلك في دراسته القرآنية:

انظر "Schwally، Die Sammlung des Qorans، ll، 27"

ولكن المستشرق بلاشير كان أبعد نظرا وأوسع أفقا حين أدرك أن روايات ابن أبي داود في هذا الصدد لا تؤكد نسبة مصحف خاص إلى عمر، وإنما تشير إلى بعض أوجه القراءات الخاصة التي آثر عمر أن يقرأ القرآن عليها. انظر:

"Blachere. Introducion au coran، 35".

وراجع في الصحفة نفسها الحاشية 37 "not 37".

2 وهنا لا يرى بلاشير بدا من الاعتراف بضرورة الاستناد إلى النصوص الصحيحة إذا أردنا أن نعرف شيئا عن تلك المصاحف.

انظر: Balchere، Intr.، cor، p.37

3 نطق حديث البخاري -كما رأينا- بإحراقها. ولكن ابن أبي داود يأبى إلا أن يذكر عددا من الروايات المتضاربة في هذا الموضوع، فيتردد بني إحراق الصحف وتمزيقها وقذفها في الماء "انظر كتاب المصاحف ص13، 16، 20".

ونحن بلا ريب إنما نأخذ برواية البخاري الصحيحة، فا داعي للتردد، فلقد أحرقت تلك المصاحف، وكفى الله المؤمنين شر بقائها.

4 كتاب المصاحف لابن أبي داود ص12.

5 ويضعون في فيه رضي الله عنه عبارات يعرض فيها يزيد بن ثابت الذي كان في صلب أبيه حين اعتنق ابن مسعود الإسلام "ابن أبي داود ص17" أو كان يلعب مع الصبية حين كان ابن مسعود يحفظ بضعا وسبعين سورة أخذها كلها من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم "انظر طبقات ابن سعد ج2 القسم الثاني ص105 وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص15".

ولكننا نستبعد صدور هذه الأقوال عن ابن مسعود، وإن صدرت فهي لا تدل إلا على الانفعال الذي اعتراه حين نحي عن لجنة جمع القرآن ونسخه، ومع ذلك فإن أبي داود نفسه هو الذي ذكر عنه رجوعه إلى رأي عثمان "كتاب المصاحف ص12" فلماذ يتعلق بلاشير بالرواية الأولى ويتجاهل الآخيرة؟ انظر "Blachere; Intr. cor.، 37"

ص: 82

إلى رأي عثمان الذي كان في الحقيقة رأي الأمة كلها1 وهي حينئذ تنشد وحدة الكلمة والقضاء على أسباب النزاع.

وقد شرعت اللجنة الرباعية في تنفيذ قرار عثمان سنة خمسة وعشرين2، وإنما أمرهم عثمان أن ينسخوا من صحف حفصة مع أنهم كانوا جماعا لكتاب الله في صدورهم، لتكون مصاحفه مستندة إلى أصل أبي بكر المستند بدوره إلى أصل النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب بين يديه بأمره وتوقيف منه، فسدت بذلك كل ذريعة للتقول والتشكيك. قال أبو عبد الله المحاسبي: "

تلك المصاحف التي كتب منها القرآن كانت عند الصديق لتكون إمامًا ولم تفارق الصديق في حياته ولا عمر أيامه، ثم كانت عند حفصة لا تمكن منها، ولما احتيج إلى جمع الناس على قراءة واحدة وقع الاختيار عليها في أيام عثمان، فأخذ ذلك الإمام ونسخ في المصاحف

"3.

ولما أعيدت صحف حفصة إليها ظلت عندها حتى توفيت، وقد حاول مروان بن الحكم "ت65" أن يأخذها منها ليحرقها فأبت، حتى إذا توفيت أخذ مروان الصحف وأحرقها، وقال مدافعا عن وجهة نظره:"إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف الإمام، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب"4.

وقد اختلف في عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق، فقال أبو

1 كتاب المصاحف لابن أبي داود ص12.

2 الإتقان 1/ 102 وعلى هذا الأساس لا مسوغ لما يتوهمه بلاشير من أن اشتراك سعيد بن العاص في اللجنة كان "فخريا" لا عمليا، لأنه كان واليا على الكوفة في حدود سنة 30، وهي السنة التي يظن بلاشير أن اللجنة بدأت فيها تنفيذ قرار عثمان، وقد أشرنا إلى خطأ هذا الظن. وأخذنا بترجيح ابن حجر. راجع ص79 الحاشية 1 "وانظر Blachere، Intr.cor، 56"

3 البرهان 1/ 239.

4 كتاب المصاحف لابن أبي داود ص24.

ص: 83

عمرو الداني1 في المقنع: "أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعلها على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية واحدًا: الكوفة والبصرة والشام، وترك واحدًا عنده. وقد قيل: إنه جعله سبع نسخ. وزاد: إلى مكة وإلى اليمن وإلى البحرين. قال: والأول أصح، وعليه الأئمة"2. أما السيوطي فيرى "أن المشهور أنها خمسة"3. وإذا أضفنا إليها المصحف الإمام الذي حبسه لنفسه بالمدينة أصبحت ستة، وكما رددنا الخمسة إلى ستة بإضافة المصحف الإمام نستطيع أن نرد السبعة إلى ستة إذا لم نجعل في عدادها ذلك المصحف المذكور. لذلك نميل إلى الرأي القائل: إن اللجنة استنسخت سبعة مصاحف، فأرسل عثمان بستة منها إلى الآفاق، واحتفظ لنفسه بواحد منها، ويزيدنا ميلا إلى هذا الرأي ما علمناه من تمكن بعض الأفراد من الحصول على نسخ لأنفسهم أخذوها من مصحف عثمان، كما فعل عبد الله بن الزبير وأمهات المؤمنين عائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عن الجميع4. ويخيل إلينا أنه ليس من المنطق أن يأذن الخليفة عثمان لبعض الأفراد -مهما يبلغ نفوذهم- بالحصول على نسخ من مصاحفه الرسمية، ثم يضن على الأمصار الإسلامية بنسخ من هذه المصاحف توحد كلمتهم وتقضي على أسباب النزاع بينهم، ولا سيما بعد أن اتضح لنا أن اختلاف المسلمين في قراءة القرآن كان الباعث الأساسي على تفكير عثمان بنسخ كتاب الله في المصاحف.

وأيا ما تكن عدة تلك المصاحف على وجه اليقين، فإنها جميعا تماثلت في اشتمالها على القرآن كله: مائة وأربع عشرة سورة خالية من النقط والشكل،

1 هو عثمان بن سعيد، أبو عمر الداني، أحد كبار الأئمة في القراءات، أشهر كتبه "التيسير في القراءات السبع"؛ و"المقنع في رسم القرآن" و"المحكم في نقط المصاحف" توفي سنة 444هـ، "انظر إنباه الرواة 2/ 342-341".

2 قارن البرهان 1/ 240 بالمقنع ص10.

3 الإتقان 1/ 104.

4 كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 81، 83، 85، 86. وانظر Anthur Jeffery Materials for the History of the Qur'an.212، 231، 235، 262.

والكتاب المذكور هو مدخل الناشر إلى كتاب المصاحف.

ص: 84

ومن أسماء السور والفواصل، اقتداء بأبي بكر، فإن صحفه كانت مجردة من كل ذلك. وفوق هذا، جردت المصاحف العثمانية مما ليس بقرآن من الشروح والتفاسير، فمن الصحابة من كان يكتب في مصحفه ما سمع تفسيره وإيضاحه من النبي صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فقد قرأ ابن مسعود وأثبت في مصحفه "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج": ولا ريب أن تلك الزيادة الأخيرة للتفسير والإيضاح، لأنها مخالفة لسواد المصاحف التي أجمعت عليها الأمة، وقد أوضح ذلك ابن الجزري فقال:"وربما يدخلون التفسير في القراءات إيضاحا وبيانا، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه"1 أي: مع القرآن في المصحف الذي يكتبه لنفسه، كمصحف عائشة.

لقد جردت إذن مصاحف عثمان من جميع هذه الزيادات التي لم تتوافر قرآنيتها وإنما كانت من قبيل التفسير أو تفصيل المجمل وإثبات المحذوف، وأهملت منها جميع الروايات الآحادية، وأضحت سورها وآياتها مرتبة على النحو الذي نجده في مصاحفنا اليوم، وخلو المصاحف العثمانية من النقط والشكل جعل رسم بعض الألفاظ القرآنية صالحا لأن يقرأ بأكثر من وجه، كقوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فقد قرئ كذلك "فتثبتوا"، وكقوله تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} فقد قرئ أيضًا: "فتلقى آدم من ربه كلماتٌ"، وإنما صلح الرسم للوجهين في الآيتين المذكورتين لورود دليل قاطع على صحة القراءة بهما، لأن رسول الله قرأ بهما أو لأن أحدًا من الصحابة قرأ بهما بحضوره فأقره ولم يعترض عليه. وورود مثل هذا الدليل على تواتر قراءة ما هو الذي يعين صلاحية الرسم لوجه دون آخر. فإن وجد دليل آحادي لم يبلغ درجة التواتر على قراءة ما لم يؤخذ به، واعتبر

1 الإتقان 1/ 134.

ص: 85

شاذًا1 لمخالفته أخبار الثقات، ولو صح الرسم للقراءة به، كقوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، ففي القراءات الآحادية الشاذة:"إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ". وغني عن البيان بعد هذا أن كل لفظ قرآني لم يتواتر في قراءته أكثر من وجه كان يكتب برسم واحد فقط، وأن كل ما صح فيه تواتر أكثر من وجه وتعذر رسمه في الخط محتملا لجميع الوجوه، كان لا بد أن يلجئ الناسخين إلى كتابته في بعض المصاحف بوجه، وفي بعضها الآخر بوجه ثانٍ، كقوله تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} فقد تواتر فيه وجه آخر صحيح "وأوصى" بالهمز لا بالتضعيف، ولذلك كتب في بعض المصاحف العثمانية بالتضعيف وفي بعضها الآخر بالهمز2. على أن هذا النوع الأخير قليل جدا، وقد ذكر محصورا في آيات معدودة في أكثر الكتب المؤلفة حول "المصاحف".

ولكي يزيد عثمان من إقبال الناس على تلقي القرآن من صدور الرجال واعتمادهم على الحفظ وعدم اتكالهم على النسخ والكتابة، راح يرسل في الأكثر الأغلب مع المصحف الخاص بكل إقليم حافظًا يوافق قراءته، فكان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرئ المكي، والمغيرة بن شهاب مقرئ الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرئ البصري3.

أما إحراق عثمان للمصاحف الفردية فلم يقدم عليه إلا بعد مشورة وتأييد من الصحابة الكرام، فهذا سويد بن غفلة يقول:"قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا"4.

1 الإتقان 1/ 133.

2 يقول السيوطي في "الإتقان 2/ 289" في هذا الصدد، أما القراءات المختلفة المشهورة بزيادة لا يحتملها الرسم ونحوها، نحو أوصى ووصى، وتجري تحتها ومن تحتها، وسيقولون الله ولله، وما عملت أيديهم وما عملته، فكتابته على نحو قراءته. وكل ذلك وجد في مصاحف الإمام".

3 مناهل العرفان للزرقاني 1/ 396-397.

4 الإتقان 1/ 103.

ص: 86

وقال علي أيضا: "لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل"1.

وإن الباحث ليساءل: أين أصبحت المصاحف العثمانية الآن؟ ولن يظفر بجواب شاف على هذا السؤال، فإن الزركشة والنقوش الفاصلة بين السور أو المبينة لأعشار القرآن تنفي أن تكون المصاحف الأثرية في دار الكتب بالقاهرة عثمانية، لأن المصاحف العثمانية كانت مجردة من كل هذا. على أن بعض المستشرقين جمعوا الكثير من الروايات التاريخية التي تؤكد رؤية بعض العلماء القدامى للمصاحف أو لسور منها في أمصار إسلامية معينة، وفي طليعة هؤلاء المستشرقين الأستاذ كواترمير Quatremere كما أشار إلى ذلك كل من برجشتراسر وبرتزل في دراستهما لتاريخ النص القرآني2. ثم إن المستشرق كازانوفا اعتمد على دراسة سلفه كواترمير فأعاد النظر فيها واستدرك عليها الكثير، ومنه علمنا أن أحد المصاحف العثمانية كان في مستهل القرن الرابع الهجري معروفا في بعض الأوساط العلمية3، وأن الرحالة المشهور ابن بطوطة رأى بنفسه بعض تلك المصاحف التي يظن أنها عثمانية. أو بعض صحائف منها فقط، في غرناطة ومراكش والبصرة وبعض المدن الأخرى.

1 البرهان 1/ 240، وشبيه بهذا ما في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص12. ولكن، بلاشير يرى أن علي بن أبي طالب لم يقف هذا الموقف المؤيد من إحراق عثمان للمصاحف الفردية، بل كان تأييده له في إعدامه لما جمع من القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مفرقا في الرقاع والأكتاف والأقتاب والعسب. إذ كفى الأمة شر الاختلاف بإزالة تلك الآثار المتفرقة التي يخشى أن تزيد مع الأيام أسباب الشقاق "Blachere،Intr، 63" وغاية بلاشير من ذلك واضحة، وهي التشكيك بموقف علي كرم الله وجهه من صنيع عثمان، وهو بذلك يحمل النصوص ما لا يسعها أن تحمل؛ لأنها تضافرت حتى عند شيعة علي وأنصاره المتحمسين على تلقي عمل عثمان بالرضى والقبول. انظر مقال

Mirza Alexandre Kazem. Jurnal Asiatique، Decembre 1843.

وقارن بكتاب الدكتور محمد عبد الله دراز بالفرنسية عن القرآن:

M. A. Draz، Initiation au Koran، p. 24.

2 انظر Bergestrasser et pretzel. Geschichte des Qoran texts، 7 sqq.

3 انظر Casanova، Mohammed et al fia du monde، p. 125.

ص: 87

خلال رحلاته الكثيرة1 غير أن كازانوفا- بعد إيراده تلك المعلومات الدقيقة المفيدة- لا يلبث أن يصرح بارتيابه بقيمتها التاريخية، وإذا هو يأتي بأغرب رأي وأجرئه في عالم الدراسات القرآنية، فما جمع عثمان للمصحف -في نظره- إلا قصة وهمية أحكم نسجها في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان توطئة للمبالغة في شأن التحسينات التي أدخلت على رسم المصاحف في عهد الخليفة المذكور2.

وأعجب من هذا كله أن كازانوافا لا يتورع عن المجازفة بإلقاء حكم صبياني لا يوافقه عليه عاقل بين الناس، حتى ولا إخوانه المستشرقون3، فيجعل الحجاج بن يوسف الثقفي أول جامع للقرآن4، وقد صرح بلاشير بعقم هذا الرأي وفساده فقال:"لا يمكننا قط أن نتابع كازانوافا على هذا الزعم الجريء الذي تنقصه النصوص الثابتة"5.

هذا، ومن المعروف أن ابن كثير6 -وهو من علماء القرن الثامن الهجري- قد رأى مصحف الشام، فهو يقوب في كتابه "فضائل القرآن":"أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديما بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود سنة 518هـ، وقد رأيته كتابا عزيزا جليلا عظيما ضخما بخط حسن مبين قوي، بجبر محكم، في رق أظنه من جلود الإبل"7.

ويبدو كذلك أن ابن الجزري صاحب "النشر في القراءات العشر" وابن فضل

1 Casanova، op،cit.،130-139.

2 Casanova، op،cit.،141

3 انظر على سبيل المثال "Blachere، Intr، cor.،p.92"

4 Casanova، op، cit. P،127

5 وانظر بقية استدلاله على خطأ هذا الرأي في "Blachere، Intr، cor. p.68"

6 ابن كثير هو إسماعيل بن عمر بن كثير، عماد الدين أبو الفداء، حافظ مؤرخ فقيه، له تفسير القرآن، والبداية والنهاية في التاريخ، وكثير من المؤلفات القيمة، توفي سنة 774هـ "الأعلام 1/ 109" وسيرد ذكره في مبحث "التفسير".

7 فضائل القرآن ص 49ط. المنار سنة 1348.

ص: 88

الله العمري1 صاحب "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" قد رأيا كلاهما هذا المصحف الشامي نفسه، ويميل بعض الباحثين إلى أن هذا المصحف أمسى زمنا ما في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد، ثم نقل إلى إنجلترا2. بينما يرى آخرون أن هذا المصحف بقي في مسجد دمشق حتى احترق فيه سنة 1310هـ3. والذي نعلمه علم اليقين ويعلمه كل باحث منصف أن كتاب غير القرآن لم يحط بالعناية التي أحيط بها ولم يصل بالتواتر كما وصل، فجاء -كما قال شفالي:"أكمل وأدق مما يتوقعه أي إنسان"4. ولاغرو، فهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

1هو شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري. مؤرخ حجة، أجل آثاره:"مسالك الأبصارفي ممالك الأمصار" توفي سنة 749 "الأعلام 1/ 85".

2 من أرد مزيد الاطلاع على المصاحف المخطوطة والمكتبات التي تشتمل على شيء منها فعليه بالمجلد العاشر من كتاب شوفان:

Chauvin، Bibliographie des ouvrages arabes ou relatifs aux Arabes Liege، t، x. p. 45-56

3 انظر خطط الشام 5/ 279، وقد ذكر لي الزميل الأستاذ الدكتور يوسف العش أن القاضي عبد المحسن الأسطواني أخبره بأنه قد رأى المصحف الشامي قبل احتراقه، وكان محفوظا بالمقصورة وله بيت خشب.

4-

انظر Die Sammlung des Qorans، ll،93.

ص: 89