الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الإعجاز في نغم القرآن
إن هذا القرآن -في كل سورة منه وآية، وفي كل مقطع منه وفقرة، وفي كل مشهد منه وقصة، وفي كل مطلع منه وختام- يمتاز بأسلوب إيقاعي غني بالموسيقى مملوء نغما، حتى ليكون من الخطأ الشديد في هذا الباب أن نفاضل فيه بين سورة وأخرى أو نوازن بين مقطع ومقطع، لكننا حين نومئ إلى تفرد سورة منه بنسق خاص، إنما نقرر ظاهرة أسلوبية بارزة نؤيدها بالدليل، وندعمها بالشاهد، مؤكدين أن القرآن نسيج واحد في بلاغته وسحر بيانه، إلا أنه متنوع تنوع موسيقى الوجود في أنغامه وألحانه!
ولعلنا لا نخطئ إن رددنا -مع الأستاذ سيد قطب- سحر القرآن إلى نسقه الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعا: "فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة، والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة، وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي، وضم ذلك إلى الخصائص التي ذكرنا، فشأى النثر والنظم جميعا"1.
وإن هذه الموسيقى الداخلية لتنبعث في القرآن حتى من اللفظة المفردة في كل آية من آياته، فتكاد تستقل -بجرسها ونغمها- بتصوير لوحة كاملة فيها اللون زاهيا أو شاحبا، وفيها الظل شفيفا أو كثيفا.
1 التصوير الفني في القرآن "لسيد قطب"86.
أرأيت لونا أزهى من نضرة الوجوه السعيدة الناظرة إلى الله، ولونا أشد تجهما من سواد الوجوه الشقية الكالحة الباسرة في قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة} 1؟ لقد استقلت في لوحة السعداء لفظة "ناضرة" بتصوير أزهى لون وأبهاه، كما استقلت في لوحة الأشقياء لفظة "باسرة" برسم أمقت لون وأنكاه.
وحين تتسمع همس السين المكررة تكاد تستشف نعومة ظلها مثلما تستريح إلى خفة وقعها في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 2. بينما تقع الرهبة في صدرك وأنت تسمع لاهثا مكروبا صوت الدال المنذرة المتوعدة مسبوقة بالياء المشبعة المديدة في لفظة "تحيد" بدلا من "تنحرف" أو "تبتعد" في قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} 3.
وتقرأ قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} 4، فلا ترى في المعجم غير كلمة "زحزح" تصور مشهد الإبعاد والتنحية بكل ما يقع في هذا المشهد من أصوات، وما يصاحبه من ذعر الذي يمر بحسيس النار ويسمعه ويكاد يصلاه!.
وليأخذنك من الغيظ مثل ما يأخذ جنهم حين تتسمع لفظ "تميز" من قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} 5، وليستولين عليك القلق وأنت تكرر هاء السكت في أكثر فواصل سور الحاقة، فتنسى وأنت تتلو قوله تعالى:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 6 أن الذي هلك سطانه من أوتي
1 سورة القيامة 22-25.
2 سورة التكوير 15-18.
3 سورة ق 19.
4 سورة آل عمران 185، وقارن بالكشاف 1/ 235.
5 سورة الملك 8.
6 سورة الحاقة 29.
كتابه بشماله لا أنت ولا سلطانك، فتظل من الآيات في قلق شديد.
وما أحسب شفتيك إلا منقبضتين استقباحا واستهجانا لحال الكافر الذي يتجرع صديده ولا يكاد يسيغه، في قوله:{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} 1 فتستشعر في لفظ "التجرع" ثقلا وبطئًَا، يدعوان إلى التقزز والكراهية!.
ولا أحسبك إلا مستشعرا عنف لفظة الكبكبة في قوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} 2 حتى لتكاد تتصور أولئك المجرمين يكبون على وجوههم أو على مناخرهم، ويلقون إلقاء المهملين، فلا يقيم أحد لهم وزنا!
فإن يك هذا كله في اللفظة المفردة، تعبر مستقلة عن لوحة كاملة، فكيف بالآية التي تتناسق في جوها الكلمات، أو في السورة التي تنسجم حول فكرتها جميع الآيات!.
من ذا الذي يقرأ قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} 3، ثم لا يتخيل في جو هذه الآية وحدها الشواظ الناري يتطاير، والنحاس الملتهب يذوب فوق رءوس المجرمين وهم يحاولون النفاذ من أقطار السموات!
ومن ذا الذي يقرأ سورة كاملة من سور القرآن -طويلة أو قصيرة ومكية أو مدنية- ثم لا يوقظ نسقها الرائع قلبه، ويهز إيقاعها العجيب مشاعره؟
إن المرء ليحار إذا قرأ مثلا سورة "الرحمن"، فيتساءل: هل انبعث إيقاعها الرخي المنساب من مطلعها أم من ختامها أم من خلال آياتها؟ وإذا هو يقطع بأن النغم يسري فيها كلها: في فواصلها ومقاطعها، وفي ألفاظها وحروفها، وفي انسياقها وانسيابها، حتى لو انتقي على حدة مقطع واحد من
1 سورة إبراهيم 17. وقارن بالكشاف 2/ 297.
2 سورة الشعراء: 94.
3 سورة الرحمن 35، وقارن بابن أبي الإصبع "بديع القرآن"222.
مقاطعها، أو موضوع واحد من موضوعاتها الجزئية، والتمس في أجزائه النغم والإيقاع، لكان في كل جزء منه نغمة، وفي كل حرف منه لحن من ألحان السماء!.
وعلى هذا الأساس من انفراد القرآن بحفاظه على تناسقه الإيقاعي -سواء أحللت على تعاقب سوره وحدة كاملة، أم اقتطعت بغير تعمد بعض أجزائه على حدة- على هذا الأساس يحلو لنا أن نقتطف من سور قرآنية متنوعة بعض مواقف الدعاء، ثم نقفو بآذاننا مواطن السحر في إيقاعها الجذاب.
والدعاء -بطبيعته- ضرب من النشيد الصاعد إلى الله، ولا يحلو وقعه في نفس الضارع المبتهل إلا أن تكون ألفاظه منتقاة، فلا غرو إذا بدا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في دعائه المأثور كالحريص على شيء من التقطيع المقصود، من سجع لطيف، أو طباق رشيق، أو رنة شافية. أما القرآن نفسه فلم ينطق على لسان النبيين والصديقين والصالحين إلا بأحلى الدعاء نغما، وأروعه سحر بيان! وإذا تذكرنا أن ابتهال الصالحين كثير في القرآن رغبا أو رهبا، طمعا أو خوفا، اسعجالا لخير أو دفعا لشر1، أدركنا سرا من أسرار التنغيم ينبعث من كل مقطع في كتاب الله.
ومن سحر القرآن أن النغم الصاعد فيه خلال الدعاء يثير بكل لفظة صورة، وينشئ في كل لحن مرتعا للخيال فسيحا: فنتصور مثلا -ونحن نرتل دعاء زكريا- شيخا جليلا مهيبا على كل لفظة ينطق بها مسحة من رهبة وشعاع من نور، ونتمثل هذا الشيخ الجليل -على وقاره- متأجج العاطفة، متهدج الصوت، طويل النفس، ما تبرح أصداء كلماته تتجاوب في أعماق قلوبنا شديدة التأثير. بل إن زكريا في دعائه ليحرك القلوب المتحجرة بتعبيره الصادق عن حزنه وأساه خوفا من انقطاع عقبه، وهو قائم يصلي في المحراب لا يني ينادي اسم "ربه" نداء خفيا، ويكرر اسم "ربه" بكرة وعشيا، ويقول في
1 قارن بإحياء علوم الدين "للغزالي" 1/ 301-372. "كتاب الأذكار والدعوات".
لوعة الإنسان المحروم وفي إيمان الصديق الصفي: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} 1. وإن البيان لا يرقى هنا إلى وصف العذوبة التي تنتهي في فاصلة كل آية بيائها المشددة وتنوينها المحول عند الوقف ألفا لينة كأنها في الشعر ألف الإطلاق: فهذه الألف اللينة الرخية المنسابة تناسقت بها "شقيا-وليا-رضيا" مع عبد الله زكريا، ينادي ربه نداء خفيا!!
ولقد استشعرنا هذا الجو الغنائي كله ونحن نتصور نبيا يبتهل وحده في خلوة مع الله، وكدنا نصغي إلى ألحانه الخفية تصاعد في السماء، فكيف بنا لو تصورنا جماعة من الصديقين الصالحين وصفهم الله بأنهم من أولي الألباب "الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض" كيف بنا لو تصورنا هؤلاء يشتركون ذكرانا وإناثًا، شبانا وشيبا، بأصوات رخية متناسقة تصعد معا وتهبط معا وهي تجأر إلى الله وتنشد هذا النشيد الفخم الجليل:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 2.
إن في تكرار عبارة "ربنا" لما يلين القلب، ويبعث فيه نداوة الإيمان، وإن في الوقوف بالسكون على الراء المذلقة المسبوقة بهذه الألف اللينة لما يعين على الترخيم والترنيم، ويعوض في الأسماع أحلى ضربات الوتر على أعذب العيدان!
1 أوائل سورة مريم. وقارن ببديع القرآن "لابن أبي الإصبع"20.
2 سورة آل عمران 191-194.
ولئن كان في موقفي الدعائين هذين نداوة ولين، ففي بعض مواقف الدعاء القرآنية الأخرى صخب رهيب: ها هو ذا نوح عليه السلام يدأب ليلا ونهارا على دعوة قومه إلى الحق، ويصر على نصحهم سرا وعلانية، وهم يلجون في كفرهم وعنادهم ويفرون من الهدى فرارا، ولا يزدادون إلا ضلالا واستكبارًا.
فما على نوح -وقد أيس منهم- إلا أن يتملكه الغيظ ويمتلئ فوه بكلمات الدعاء الثائرة الغضبى تنطلق في الوجوه مديدة مجلجلة، بموسيقاها الرهيبة وإيقاعها العنيف، وما أظنك تتخيل الجبال إلا دكا، والسماء إلا متجهمة عابسة، والأرض إلا مهتزة مزلزلة، والبحار إلى هائجة ثائرة، حين دعا نوح على قومه بالهلاك والتبار وفقال:{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} 1.
أما الحناجر الكظيمة المكبوتة التي يتركها القرآن في بعض مشاهده تطلق أصواتها الحبيسة -بكل كربها وضيقها وبحتها وحشرجتها- فهي حناجر الكافرين النادمين يوم الحساب العسير. ولنا الآن أن نتمثل شرذمة من أولئك المجرمين تلفح وجوههم النار، فيتحسرون ويحاولون التنفيس عن كربهم ببعض الأصوات المتقطعة المتهدجة كأنهم بها يتخففون من أثقال تنقض ظهورهم ويفرغون عن طريقها ما يعانون من عذاب أليم: وإذا هم يوم الدين يدعون ربهم دعاء التائبين النادمين ويقولون: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} 2.
ولو شئنا أن نستعرض "نماذج" أخرى سوى ما سبق -لإبراز الإيقاع القرآني العجيب في مواقف الدعاء- لطال بنا الحديث وخرجنا عن الإيماءة العجلى إلى البحث المفصل الدقيق، مع أن التوسع في هذا الموضوع لم يكن
1 الآيات الأخيرة من سورة نوح.
2 سورة الأحزاب 67-68.
مقصودا لذاته في كتابنا هذا، فقد اتجهنا بالدرجة الأولى إلى علوم القرآن، فألممنا بأكثرها إلماما، وحاولنا تتبعها في أطوارها التاريخية، ثم عرضنا من غير إسهاب للإعجاز القرآني في التصوير والتعبير والتناسق الفني العجيب.
وبعد
…
فذلك شأن الإيقاع في القرآن: ليست الفاصلة فيه كقافية الشعر تقاس بالتفعيلات والأوزان، وتضبط بالحركات والسكنات، ولا النظم فيه يعتمد على الحشو والتطويل، أو الزيادة والتكرار، أو الحذف والنقصان، ولا الألفاظ تحشد حشدا، وتلصق إلصاقا، ويلتمس فيها الإبهام والإغراب، بل الفاصلة طليقة من كل قيد، والنظم بنجوة من كل صنعة، والألفاظ بمعزل عن كل تعقيد: إن هو إلا أسلوب يؤدي غرضه كاملا غير منقوص، يلين أو يشتد، ويهدأ أو يهيج! ينساب انسيابا كالماء إذا يسقي الغراس، أو يعصف عصفا كأنه صرصر عاتية تبهر الأنفاس!