الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} 1: "شبه استظهار العبد بالله ووثوقه بحمايته، والنجاة من المكاره، باستمساك الواقع في مهواة بحبل وثيق مدلى من مكان مرتفع يأمن انقطاعه". ومن ذلك قوله في {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} 2: "أصل الموج حركة الماء، فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعار، والجامع سرعة الاضطراب وتتابعه في الكثرة"3.
والخلاصةن أننا لا نريد أن نستبدل التجسيم والتشخيص والتخييل بعبارات البلاغيين القدامى "التشبيه والاستعارة وما شابه ذلك" لأن هذه التسميات المختلفة شكليات لا تمس جوهر الموضوع في شيء، وإنما نريد ألا نغفل عن الحياة والحركة والتناسق الفني في المشاهد القرآنية، فإنها أوضح من أن تكتم، وأقوى من أن تهمل، وبعد ذلك فلنعبر عن الصورة المحسة أو المتخيلة بالتعبير الذي نؤثره، فإما يكون من الاصطلاحات القديمة التي تبث فيها الحياة وتنفخ فيها الروح، وإما أن يكون بألفاظنا الحديثة السهلة التي تنفر من التعقيد وتأبى كلفة التقعيد، وتصور الحياة بريشة الحياة نفسها وبأصباغها الزاهية وألوانها البديعة.
1 سورة آل عمران 103 وانظر الإتقان 2/ 76.
2 سورة الكهف 100.
3 الإتقان 2/ 74 وقارن بمجازات القرآن 217.
المجاز والكناية:
لقد استدعى بحثنا عن التشبيه والاستعارة أن نجري شيئا من التعديل في تصورنا طريقة القرآن في التعبير، كما كان يفهمها علماؤنا السالفون رضي الله عنهم وأرضاهم، ونفعنا بعلومهم، وكان هذا التعديل الطفيف ضروريا بالنسبة إلى التشبيه والاستعارة لقيام أكثر الصور المفصلة على أحدهما، وتركبها منهما. فغير هذين البابين قلما يحوجنا إلى تعديل في تصوره أو فهمه، فنستطيع أن ندرسه على ما نجده في ثنايا الكتب القديمة، لأنه يدخل في التصوير
العام، أو التعبير المجمل، الذي برع الأقدمون في تفريعه وتبويبه وتوفير الشواهد عليه، وفهموه من ورح التركيب في كل نص على حدة، تستوي في ذلك مباحثهم عن المجاز العام الذي ليست علاقته المشابهة، وعن الكناية وأنواع الرمز بها، وعن الإيجاز والمساواة والإطناب، وعن الخبر والإنشاء، وما شابه ذلك. ولقد يتيسر لأحدنا لدى عرض تلك المباحث وشواهدها ذوق خاص يود لو يضيفه إلى المفهومات القديمة، ولكن ذلك لن يغير من طبيعة الموضوع شيئا، لأن علماءنا السالفين كانوا في ذلك كله أقرب منا إلى النبع وأقدر منا على تتبع خصائص الأسلوب العربي، ولا سيما الأسلوب القرآني. فما يضيفه أحدنا إلى ملاحظاتهم وتوجيهاته ليس إلا قبسا من نارهم وشعاعا من نورهم.
فلنسمع إليهم يحدثونا عن مجاز القرآن، ولنستجد ما استجادوه من ألوان التعبير المجازي، فنحن معهم أمام ما سموه بالمجاز العقلي الذي علاقته المشابهة، وهو واقع في التركيب، وأمام ما سموه بالمجاز اللغوي الذي يستعمل فيه اللفظ في غير ما وضع له، وهو واقع في المفرد. ولن نخوض الآن معهم في أقسام كل من المجازين، فلتفصيل ذلك نرجع إلى كتب البلاغة، وإنما نتباعهم في بعض شواهدهم، فمن المجاز العقلي ما يكون أحد طرفيه حقيقيا دون الآخر كقوله تعالى:{فَأُمُّهُ هَاوِيَة} 1 قالوا في توضيح ذلك: "فاسم الأم "الهاوية" مجاز، أي: كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع"2،
وهذا فهم سديد، خصوصا إذا وقفنا عند هذا التركيب وحده ولم نربطه بالنسق القرآني الذي صاحبه، فإن ربطناه به وقرأنا الآيات كلها {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، نَارٌ حَامِيَةٌ} 3 تجلى لنا من مجموع المشهد معنى آخر لطيف، فالأعمال المعنوية جسمت ووزنت بموازين حسية، فإذا هي خفاف ترتفع بها كفة الموازين،
1 سورة القارعة 9.
2 الإتقان 2/ 60.
3 سورة القارعة 8-11.
فلا يقابل خفتها وارتفاعها إلا هاوية سحيقة منخفضة في الدرك الأسفل من النار الحامية التي لا يكون للمجرم في ذلك الهول أم سواها يلجأ إليها ويعتصم بها. وساءت ملجأ ومعتصمًا!.
ومن المجاز اللغوي إطلاق اسم الكل على الجزء، نحو {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} 1 أي: أناملهم، ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد مبالغة في الفرار2، وفي ذلك تصوير لحالتهم النفسة وما أصابهم من الذعر والهلع وهم يولون هاربين.
ومن الغريب حقا أن بعض العلماء أنكروا وقوع المجاز في القرآن "منهم الظاهرية3 وابن القاص4 من الشافعية، وابن خويز منذاذ5 من المالكية، وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله". لكن الذين تذوقوا جمال الأسلوب القرآني يرون أن هذه الشبهة باطلة، "ولو سقط المجاز من القرآن لسقط منه شطر الحسن، فقد اتفق البلغء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو المجاز من القرآن لوجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها"6.
وإذ كان بعض العلماء يعتبر الكناية ضربا من ضروب المجاز، أنكر وقوعها في القرآن منكرو المجاز فيه. ولكن للكناية مفهوما آخر غير مفهوم
1 سورة البقرة 19.
2 الإتقان 2/ 60 "وانظر البرهان 2/ 262".
3 هم أهل الظاهر، أتباع الإمام داود بن علي بن خلف المعروف بالظاهري لأخذه بظاهر النصوص.
4 ابن القاص هو أحمد الطبري أبو العباس، من فقهاء الشافعية، من كتبه "أدب القاضي" توفي سنة 335هـ "طبقات الشافعية 2/ 103".
5 ابن خويز منذاذ "بمعجمتين أو إهمال الأولى" من علماء المالكية، تلميذ الأبهري، توفي في حدود سنة 400هـ.
6 الإتقان 2/ 59.
المجاز، فهي لفظ أريد به لازم معناه، وهي -على هذا- كثيرة في القرآن، لأنها من أبلغ الأساليب في الرمز والإيماء، وللقرآن قصد إلى الرمز في مواطن لا يجمل فيها التصريح، فإذا أراد الله أن يعبر عن الغاية من المعاشرة الزوجية -وهي التناسل- رمز إلى ذلك بلفظ "الحرث" في قوله:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} 1 ويكمل وصف تلك العلاقة بين الزوجين -بما فيها من مخالطة وملابسة- بأنها لباس من كل منهما للآخر {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 2. ومن هذا الباب في الإيماء اللطيف الذي يعلمنا أدب التعبير {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} 3، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 4، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا} 5. ومن أجمل الكنايات في مثل هذه المعاني {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} 6 {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} 7 لأن المراد بالفروج هنا فروج القمصان والثياب8، فما تنفرج ثياب المؤمنين عن ريبة ولا تنكشف دروع المؤمنات عن منكر، بل المؤمنون والمؤمنات نقية ثيابهم طاهرة أذيالهم عفيفة أنفسهم، على حد قوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} 9 كناية عن عفة النفس وطهارة الذيل10، ولذلك سموا هذا النوع من التعبير "كناية عن كناية"، وبه قال المفسرون في تأويل قوله تعالى:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} 11، فإحصانها فرجها كناية عن طهارة ذيلها
1 سورة البقرة 223 "وانظر الإتقان 2/ 79".
2 سورة البقرة 187 "وانظر البرهان 2/ 304 ومجازات القرآن 354".
3 سورة النساء 43.
4 سورة البقرة 187.
5 سورة الأعراف 189 "وانظر البرهان 2/ 304".
6 سورة المؤمنون 5.
7 سورة الأحزاب 35.
8 انظر البرهان 2/ 305.
9 سورة المدثر 4.
10 مجازات القرآن 353؛ تأويل مشكل القرآن 107.
11 سورة التحريم 12.
وعفتها الكاملة1، وكان النفخ في جيب درعها -كما ورد- تأكيدا لهذا المعنى الرمزي الذي يجمع إلى أدب التعبير إشادة لا نظير لها بعفة السيدة مريم التي فضلها الله على نساء العالمين.
وتستخدم الكناية في القرآن لاختصار مقدمات لا أهمية لها بالتنبيه على النتيجة الحاسمة التي يتقرر فيها المصير. مثاله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 2: فهذه كناية عن أنه جهنمي3 وأن مصيره إلى اللهب {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} 4، فهي تسعى بالنميمة، ومصيرها أن تكون حطبا لجهنم5، وأن تكون مغلولة اليد، وواضح أن الكناية هنا لخصت في ومضة واحدة المصير الذي يراد تصويره.
ولقد بلغ بالقرآن حرصه على الرمز والإيماء أن يكني عن الحقائق الدينية الكبرى المتعلقة بذات الله وصفاته، بأسلوب تزيده المبالغة حسنا، لأنه يقرب الفكرة المجردة من الصورة المحسة، فتستحيل المبالغة فيه بلاغة، ويصير التهويل فيه تخييلا، فالله يقول في سعة جوده وكرمه:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 6، ويؤثر للتعبير عن هذا المعنى اللفظ نفسه الذي يكنى به عن إسراف العبد وتبذيره في قوله:{وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 7، أي: لا تبالغ في الإنفاق والعطاء كمن يبسط يده فلا يردها عن الإنفاق شيء. وفي هذا الجو الرمزي نستطيع أن نتملى جمال الكناية عن الشئون الغيبية "بالمفاتح": {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} 8 وجمال الكناية عن أزلية الأرزاق والمقدرات بالخزائن: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا
1 الإتقان 2/ 79 وانظر البرهان 2/ 305-306.
2 سورة المسد 1.
3 البرهان 2/ 308.
4 سورة المسد 4-5.
5 البرهان 2/ 308.
6 سورة المائدة 64 "وانظر البرهان 2/ 308 والإتقان 2/ 79".
7 سورة الإسراء 29.
8 سورة الأنعام 59 "وانظر مجازات القرآن 136".
نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 1.
وإن القرآن ليدعك أحيانا ترسم في خيالك صورة ناطقة لا تقف عند الرمز الكنائي، بل تجاوزه إلى التعريض، وإذا كنت في الكناية تذكر اللفظ وتريد لازم معناه، فإنك في التعريض تذكر اللفظ وتلوح به إلى ما ليس من معناه، لا حقيقة ولا مجازا. مثال:{وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} 2، فلو أجرينا الكلام على ظاهره لكان إخبارا بازدياد حر جنهم، وكونه أشد من حر الدنيا وهو معلوم للمخاطبين بالقرآن، فلا معنى لذكره والتنبيه عليه، ولكن الغرض الحقيقي التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال المعتذرين بشدة الحر بأنهم سيردون جنهم ويجدون حرها الذي لا يوصف.
هذا ما نفهمه من الآية، ولكن السبكي في كتابه "الإغريض في الفرق بين الكناية والتعريض"3 يذهب في فهمها مذهبا آخر يقيمه على منهجه في التفرقة بين هذين الأسلوبين فهو يقول: "الكناية لفظ استعمل في معناه مرادا منه لازم المعنى، فهي بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة، والتجوز في إرادة إفادة ما لم يوضع له، وقد لا يراد بها المعنى بل يعبر بالملزوم عن اللازم وهي حنيئذ مجاز، ومن أمثلته:{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} : فإنه لم يقصد إفادة ذلك، لأنه معلوم، بل إفادة لازمه، وهو أنهم يردونها ويجدون حرها إن لم يجاهدوا، وأما التعريض فهو لفظ استعمل في معناه للتلويح بغيره نحو {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} 4 نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة، لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا
1 سورة الحجر 21.
2 سورة التوبة 81.
3 السبكي هو تقي الدين علي بن عبد الكافي المتوفى سنة 756هـ وكتابه "الإغريض" ذكره في "كشف الظنون 1/ 130".
4 سورة الأنبياء 63.
يكون عاجزًا1.
ولا ريب أن معنى التلويح والتعريض ظاهر في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ولكنه ليس أقل ظهورا ووضوحا في الآية السابقة {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} كما فهمناها، فكلا المثلين يصلح شاهدا على التعريض الذي فيه معنى أبلغ من الكناية.
1 نقلا عن الإتقان 2/ 81.