الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الأحرف السبعة
نجد في الأحاديث الصحيحة المروية من طرق مختلفة ما يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرح بنزول القرآن على سبعة أحرف. ومن أوضح هذه الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، ثم لببته بردائه أو بردائي، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت له: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام"، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا نزلت" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه" 1.
ويبدو أن حديث نزول القرآن على سبعة أحرف مروي عن جمع كبير من الصحابة يتعذر إحصاؤه، ففي مسند الحافظ أبي يعلي2 أن عثمان رضي
1 صحيح البخاري 6/ 185. ويقرب من هذا ما في تفسير الطبري 1/10 ومسند أحمد 1/ 24 "وفي طبعة شاكر ج1ص224 رقم الحديث 158" والبرهان 1/ 211.
2 هو أحمد بن علي بن المثى التميمي الموصلي، الحافظ الثقة، المعروف بأبي يعلى وله مسندان صغير وكبير. توفي بالموصل سنة 307 "الرسالة المستطرفة 53-54".
الله عنه قال يوما وهو على المنبر: "أذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف" لما قام. فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك، فقال عثمان رضي الله عنه: "وأنا أشهد معهم"1.
وتوافق هذه الجموع التي لم تحص عددا2 على هذا الموضوع، حمل بعض الأئمة على القول بتواتر الحديث، وفي طليعة هؤلاء أبو عبيد القاسم بن سلام3. وإذا لم يتوافر التواتر في الطبقات المتأخرة، فحسبنا صحة الأحاديث التي ذكرناها مؤكدا لهذه الحقيقة الدينية التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويميل جمهور العلماء إلى أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة4، واختار القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني هذا الرأي وقال:"الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضبطها عنه الأئمة، وأثبتها عثمان والصحابة في المصحف، وأخبروا بصحتها، وإنما حذفوا منها ما لم يثبت متواترًا"5.
وعبارة "الأحرف" -وهي جمع حرف- الواردة في الحديث تقع على معان مختلفة، فقد تكون بمعنى القراءة كقول ابن الجزري:"كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر"6. وقد تفيد المعنى والجهة 7 كما يقول أبو جعفر
1 الإتقان 1/ 78.
2 وفي وسعنا أن نكون فكرة عن هذا العدد الذي يتعذر إحصاؤه إذا استقصينا هذه الأسماء التي يصرح بها السيوطي في قوله: "ورد حديث""نزل القرآن على سبعة أحرف" من رواية جمع من الصحابة، أبي بن كعب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسلمان بن صرد، وابن عباس، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل؛ وهشام بن حكيم، وأبي أيوب، فهؤلاء أحد وعشرون صحابيًا" الإتقان 1/ 78.
3 نقل السيوطي عنه أنه نص على تواتر حديث الأحرف السبعة "انظر الإتقان 1/ 78".
4 الإتقان 1/ 85.
5 البرهان 1/ 224.
6 ابن الجزري، طبقات القراء 1/ 292.
7 البرهان 1/ 213.
محمد بن سعدان النحوي1، ولكن القول بأن المراد بها القراءات -كما حكي عن الخليل بن أحمد- هو أضعف الأقوال بلا ريب2، ولا سيما إذا توهم القائل أنها ما يسمى بالقراءات السبع3.
واختلاف العلماء في تحديد المراد من "الأحرف" المذكورة في الحديث أثار عددا من الأقوال المتضاربة في حقيقة الذي أنزل، فرأى فيه بعضهم خمسة وثلاثين وجها4، وبلغ بها آخرون أربعين5، وأكثرها لا يؤيده نقل صحيح ولا منطق سليم. ومنشأ الخطأ فيها إرادة التعيين على سبيل القطع والجزم مع أنه لم يأت في معناها -كما يقول ابن العربي:"نص ولا أثر، واختلف الناس في تعيينها"6.
ولم يكن بد من أن يتساءل العلماء: هل العدد محصور في سبعة أحرف أم المراد التوسعة على القارئ ولم يقصد به الحصر؟ فالذين يستبعدون الحصر هنا يغالون في هجران النصوص البالغة درجة التواتر -كما أسلفنا- مع أن تواردها على عدد "السبعة" لا يعقل أن يكون غير مقصود، ولا سيما إذا لوحظ أن الحديث يتناول قضية ذات علاقة مباشرة بالوحي وطريقة نزوله، وفي مثل هذه الأمور لا يلقي الرسول صلى الله عليه وسلم الخبر غامضًا، ولا يذكر عددا لا مفهوم له، فما نقل عنه علماء الصحابة هذا في شيء له بالاعتقاد صلة.
ولكن قوما ممن لا يبالون بالنصوص ولا يتورعون في هجرانها أو إخراجها عن ظاهرها تسرعوا فرأوا "أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد،
1 هو أحد القراء بدأ يقرأ بقراءة حمزة ثم اختار لنفسه قراءة خاصة تنسب إليه. توفي سنة 231 "انظر إنباه الرواة 2/ 140؛ طبقات القراء 2/ 143؛ بغية الوعاة 45".
2 البرهان 1/ 214.
3 الإتقان 1/ 78 ويعلق السيوطي على هذا الرأي الضعيف بقوله: "وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل، مثل {عَبَدَ الطَّاغُوتَ} ، و {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} "، "وانظر أيضا البرهان 1/ 223".
4 البرهان 1/ 212.
5 الإتقان 1/ 78.
6 البرهان 1/ 212.
بل المراد التيسير والتسهيل والسعة، ولفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين"1، ومن الغريب أن ينسب مثل هذا الرأي إلى القاضي عياض2 وهو الذي لا يفضل على الرواية الصحيحة شيئًا، ولكن السيوطي رد على هذا لقول ردا قويا مؤيدا بالنصوص3.
وإذن فلفظ السبعة لا يراد به الكثرة، بل الحصر كما فهمه أكثر العلماء، وهو الذي كان السبب فيما عانوه من محاولة البحث عن هذا العدد المعين "فالأكثر -كما يقول ابن حبان4- على أنه محصور في سبعة"5. بيد أن كثيرا من تلك المحاولات لم يحالفها التوفيق، كما رأينا في قول من جنح إلى أن الأحرف السبعة هي القراءات. ويكاد يقارب هذا القول في الضعف رأي الذين حصروا هذه الأحرف في بعض اللهجات أو اللغات، مع ما بين المفهومين من تغاير دقيق. فأما اللهجات فليست عند بعض العلماء6 من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى، لأن الإظهار والإدغام، والروم والإشمام، والتخفيف والتسهيل، والنقل، والإبدال، صفات متنوعة في أداء اللفظ الواحد، وتنوعها لا يخرجه عن أن يكون لفظا واحدا، ولكننا -مع ذلك- لا نضعف هذا القول بهذا السبب، فإن تنوع صفات الأداء في اللفظ الواحد يوشك أن
1 الإتقان 1/ 78 وانظر محاسن التأويل للقاسمي 1/ 287 والمستشرقون يحلو لهم الضرب على هذا الوتر كثيرا، فعدد "السبعة" له فعل سحري في نفوس الساميين. انظر:
Buhl، Encyclopedie de l'Islam. II، 1135 b. Noldede، Geschichte des Qorans، p.50.
2 الإتقان 1/ 87 والقاضي عياض هو عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي، صاحب كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" توفي سنة 544هـ "الأعلام 2/ 749".
3 الإتقان 1/ 78.
4 هو الحافظ محمد بن حبان البسي ويكنى أبا حاتم، من كبار المحدثين، توفي سنة 354 "شذارت الذهب 3/ 16".
5 البرهان 1/ 212.
6 هو ابن الجزري كما في الإتقان 1/ 80.
بجعله أكثر من لفظ، وإنما نضعفه بسبب الاقتصادر عليه، إذ حفظت لنا أوجه أخرى من الاختلاف ليست من اللهجات في شيء، كما سنرى بوضوح.
وإذا كنا في الاختلاف في اللهجات لا نجد إلا تنوعا في صفات الأداء في اللفظ الواحد، ففي اختلاف اللغات نجد أحيانا تباينا بين لفظ وآخر في موضوع واحد، ولو أمكننا حصر اللغات العربية المختلفة هذا النوع من الاختلاف في سبع لا تزيد ولا تنقص، وقبل منا هذا الحصر في غير تردد، ومن غير شعور بتعسفنا فيه، لكانت هذه اللغات السبع هي الأحرف السبعة من غير ما حاجة إلى الجدل العقيم، ولكن التعسف في الموضوع أوضح من أن يخفى على ذي بصر سواء أكانت لغات العرب هذه هي لغات قريش وهذيل، وتميم، وأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر1، أو كانت لغات قبائل مضر خاصة، وهي هذيل وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وقريش2، لأن في القرآن الكريم ألفاظا من لغات قبائل أخرى غير التي ذكرت على كلا الرأيين، تمثلت كلها في لغة قريش، وبلغ أبو بكر الواسطي3 بتعدادها أربعين لغة في كتابه "الإرشاد في القراءات العشر"، فكلمة "اخسئوا" بمعنى اخزوا بلغة عذرة، وكلمة "بئيس" بمعنى شديد بلغة غسان، وكلمة "لا تغلوا" بمعنى لا تزيدوا بلغة لخم، وكلمة "حصرت" بمعنى ضاقت بلغة اليمامة، وكلمة "هلوعا" بمعنى ضجرًا بلغة
1 وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن يحيى ثعلب "البرهان 1/ 217". وقال الأزهري في "التهذيب": إنه المختار، واحتج بقول عثمان حين أمرهم بترتيب المصاحف:"وما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنه أكثر ما نزل بلسانهم": "البرهان 1/ 218" وقد نبهنا على أن الاختلاف هنا -كما يفهم البعض- يدور حول الكتابة والرسم لا أي شيء آخر "راجع ص80".
2 الإتقان 1/ 80 والزركشي في "البرهان 1/ 219" يورد اعتراضًا على هذا التخصيص على لسان أبي عمر بن عبد البر الذي يقول: "وأنكر آخرون كون كل لغات مضر في القرآن لأنه فيهما شواذ لا يقرأ بها، مثل كشكشة قيسن وعنعنة تميم
…
وهذه لغات يرغب بالقرآن عنها".
3 أبو بكر الواسطي هو محمد بن محمد بن سليمان، الحافظ المعمر.
خثعم، وكلمة "الودق" بمعنى المطر بلغة جرهم1. وقد استبعد ابن عبد البر2، أن يكون معنى سبعة أحرف سبع لغات، "لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض في أول الأمر، لأن ذلك من لغته التي طبع عليها.
وأيضا فإن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي، وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته3" وقد يدافع عن ذلك بإرادة الكثرة في عدد السبعة، ولكننا بينا ضعف هذا الرأي في مقام كهذا لا بد أن يكون فيه للعدد مفهوم.
وهذه الآراء السابقة كلها -على ضعفها- لا نستغرب ذكر العلماء لها بين تلك المجموعة من الأقوال الشارحة للأحرف السبعة، ولكننا لا نستغرب وحسب بل نستنكر استنكارًا شديدًا جنوح بعض العلماء إلى مفهومات سقيمة ما أنزل الله بها من سلطان، يظنون أنهم يفسرون بها الحديث تفسيرا باطنيا عميقا، ويرون في الأحرف السبعة ما لا يراه الناس. من ذلك أن المراد بهذه الأحرف سبعة علوم: علم الإنشاء والإيجاد، وعلم التوحيد والتنزيه، وعلم صفات الذات وعلم صفات الفعل، وعلم صفات العفو والعذاب، وعلم الحشر والحساب، وعلم النبوات4". ومن ذلك أن المراد سبعة أشياء:"المطلق والمقيد، والعام والخاص، والنص والمؤول، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، والاستثناء وأقسامه"5.
وقد بلغت الجراءة ببعضهم حد الاستشهاد بحديث ضعيف على رأيهم الباطل في هذه الأحرف السبعة، فرفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديثا رواه ابن مسعود قال:
1 الإتقان 1/ 230 ومن أراد أمثلة أخرى فلينظر الإتقان 1/ 227-231 "النوع لسابع والثلاثون فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز".
2 هو يوسف بن عبد الله بن عبد الصمد بن عبد البر النمري القرطبي، صاحب كتاب الاستيعاب توفي سنة 463 "شذرات الذهب 3/ 314".
3 البرهان 1/ 219 وانظر فيما يتعلق بالاستدلال بقرشية عمر وهشام "الإتقان 1/ 82".
4 الإتقان 1/ 83. والزركشي في "البرهان1/ 224-225" يذكر هذه العلوم السبعة مع الشواهد القرآنية عليها، لكننا اكتفينا بعبارة الإتقان طلبا للاختصار.
5 البرهان 1/ 225.
"كان الكتاب الأول نزل من باب واحد على وجه واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعتبروا بأمثاله، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1. قال ابن عبد البر: "وهو حديث عند أهل العلم لا يثبت، وهو مجمع على ضعفه"2.
وكل هذا يهون أمام تلك المشكلة الخطيرة التي أثارها بعض أئمة المفسرين عن حسن نية، ففتحوا بها الباب على مصراعيه لشبهات المستشرقين وضعاف الإيمان من المؤمنين، وتتمثل هذه المشكلة في حصر هذا الفريق من العلماء المراد من الأحرف السبعة في "سبعة أوجه من المعاني المتفقة، بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل وهلم وتعال، وعجل وأسرع، وأنظر وأخر وأمهل، ونحوه"3. وظاهر لفظ الطبري في تفسيره ربما أفاد هذا، فهو يستشهد بقوله عليه الصلاة والسلام لابن الخطاب: "يا عمر، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابا أو عذابا رحمة" 4، فكان لا بد أن يتثبت المستشرقون بهذا ليؤكدوا "أن نظرية القراءة بالمعنى كانت بلا ريب أخطر نظرية في الحياة الإسلامية لأنها أسلمت النص القرآني إلى هوى كل شخص، يثبته على ما يهواه"5.
وفي هذا حمل للنصوص على غير وجهها الحقيقي، فليست النظرية هنا مما يصح حقا أن يسمى "القراءة بالمعنى"6 كما نفهمه مثلا في رواية
1 البرهان 1/ 216.
2 البرهان 1/ 216.
3 البرهان 1/ 220.
4 الطبري، تفسيره: 1/ 10.
5 Blachere، Intro. cor، 69.
وانظر أيضا: Geschichte des Qorans، III، 105.
6 وقد أنكر ابن الجزري في "النشر" القراءة بالمعنى فقال: "أما من يقول بأن بعض الصحابة، كابن مسعودن كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، إنما قال: نظرت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم" انظر محاسن التأويل للقاسمي 1/ 290.
الحديث بالمعنى، إذ "القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف أو تثقيل أو غيرهما1. فإذا صح أنه عليه الصلاة والسلام وسع على المسلمين في أول الأمر، وراعى التخفيف على العجوز والشيخ الكبير2، وأذن لكل منهم أن يقرأ على حرفه، أي على طريقته في اللغة، لما يجده من المشقة في النطق بغير لغته، فليس معنى هذا أنه كان يأذن لهم بإثبات هذه القراءات وكتابتها على أنها حروف نزل عليها القرآن. وإذن، فما كانت توسعته عليه الصلاة والسلام في هذا النوع من القراءة إلا تخفيفا على بعض الأفراد في حالات خاصة، وأما ما أذن فيه من هذه الحالات بإثباته وأقر كتبة الوحي عليه فهو محفوظ بطريق التواتر في أحرف قليلة معدودة يرفض ما عداها ولو جاء من طريق صحيح آحادي، لأن التواتر شرط في إثبات القرآنية3. فتعميم هذه الحالات الفردية على جميع الأحرف السبعة، كأنها ضرب من القراءة بالمعنى، لا يمكن أن يقتصر عليه في فهم الحديث.
وإذا لم يصح الاقتصار على أحد تلك الآراء السابقة فقد بدا لنا أن استقصاء الممكن منها، وهو الذي لا يعارض النقل والعقل، ربما كان أصوب الآراء وأبعدها عن الإفراط والتفريط: فالمراد من هذه الأحرف السبعة -والله أعلم- الأوجه السبعة التي وسع بها على الأمة، فبأي وجه قرأ القارئ منها أصاب. ولقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم يصرح بهذا كل التصريح حين قال: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته فلم أزل أستعيده حتى انتهى إلى
1 البرهان 1/ 318 وانظر الإتقان 1/ 138.
2 ويشهد لذلك -كما يقول الزركشي- "ما رواه الترمذي عن أبي بن كعب أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: "يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط" فقال:"يا محمد: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف" وقال: حسن صحيح "انظر البرهان 1/ 227".
3 انظر البرهان 2/ 125 معرفة وجوب تواتره.
سبعة أحرف" 1 فاللفظ القرآني الواحد مهما يتعدد أداؤه، وتتنوع قراءته لا يخرج التغاير فيه عن الوجوه السبعة الآتية:
الأول: الاختلاف في وجوه الإعراب، سواء أتغير المعنى أم لم يتغير. فمما تغير فيه المعنى مثل قوله تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 2 فقد قرئ: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ"، ومما لم يتغير فيه المعنى مثل قوله:{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} فقد قرئ: "وَلا يُضَارُّ"3.
الثاني: الاختلاف في الحروف إما بتغير المعنى دون الصورة، وهو ما يعبر عنه أحيانًا بالاختلاف في النقط، مثل "يعلمون وتعلمون"4 وإما بتغير الصورة دون المعنى، مثل "الصراط والسراط" و"المصيطرون والمسيطرون"5. وقد رسم في المصاحف بالصاد المبدلة من السين التي هي الأصل، فوافقت قراءة الصاد رسم المصحف تحقيقا، وقراءة السين رسم المصحف تقديرًا.
والثالث: اختلاف الأسماء في إفرادها وتثنيتها وجمعها وتذكيرها وتأنيثها6، مثل:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} 7، فقد
1 صحيح البخاري 6/ 185.
2 سورة البقرة 37 "وانظر الإتقان 1/ 79" ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قرئ: "رَبَّنَا بَاعِدْ" سورة سبأ 19، إحداهما بصيغة الطلب، والأخرى بصيغة الخبر، والثانية قراءة يعقوب، فقد تغير المعنى بالإعراب، والصورة واحدة "انظر إتحاف فضلاء البشر لأحمد الدمياطي ص359".
3 سورة البقرة 282 "وانظر الإتقان 1/ 79" ومنه قوله تعالى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} قرئ: "ويضيق""بفتح القاف" سورة الشعراء 13. والثانية قراءة يعقوب. "انظر، إتحاف فضلاء البشر ص331".
4 وفي البرهان "1/ 222" أن الإمام مالكا حين سئل عن "يعلمون وتعلمون" قال: "لا أرى باختلافهم بأسا، وقد كان الناس ولهم مصاحف".
ومن هذا قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} بالزاي، وقرئ "ننشرها" بالراء، سورة البقرة 259. والأولى قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف "انظر إتحاف فضلاء البشر 162".
5 من قوله تعالى: {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} من سورة الطور 37.
6 الإتقان 1/ 79.
7 سورة المؤمنون 8.
قرئ "لأمانتهم" بالإفراد. ومن الواضح أنها رسمت في المصاحف العثمانية "لامنتهم" لخلوها من الألف الساكنة، ومؤدى الوجهين واحد، لأن في الإفراد قصدًا للجنس وفي الجنس معنى الكثرة، ولأن في الجمع استغراقًا للأفراد، وفي الاستغراق معنى الجنسية: فرعاية "الأمانة" كرعاية "الأمانات" تشمل الكل والجزئيات. ولأمر ما جاءت لفظة "العهد" في الآية نفسها مفردة على كلتا القراءتين، وبكلا الحرفين، فما قرئ:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَتِهِمْ وَعَهُودِهِمْ رَاعُونَ} ، ولا قرئ {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهُودِهِمْ رَاعُونَ} .
ومن ذلك أن "البقر" في قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ذكر في حرف قصدا للجنس، فبني فعله للماضي، وذكّر فقرئ:{تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ، وأنث في حرف قصدًا للجماعة، فصيغ صياغة المضارع وأنث:{تَشَابَهَ} بعد حذف إحدى التائين تخفيفا، إذ أصله:"تتشابه"1.
الرابع: الاختلاف بإبدال كلمة بكلمة يغلب أن تكون إحداهما مرادفة للأخرى، وإنما تتفاوتان بجريان اللسان بإحداهما لدى قبيلة دون أخرى، كقوله تعالى:{كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوش} فقد قرئ: "كالصوف المنفوش"2، أو يكون بين الكلمتين المبدلتين تقارب في المخارج يسمح بالتناوب بينهما، ويكاد يشعر بتصاقبهما معنى لتصاقبهما لفظا، كقوله:{طَلْحٍ مَنْضُودٍ} 3 فقد قرئ: "طلع"، ويلاحظ أن مخرج العين والحاء واحد هو الحلق، فهما أختان تتعاقبان. وأما قراءة ابن مسعود "فاقطعوا أيمانهما"4 بدلا من {أَيْدِيَهُمَا} فشاذ، لأنها وردت من طريق آحادي. ومن المؤكد أن
1 البقرة 70. وقارن بالمذكر والمؤنث للمبرد 132/ 1. وراجع كتابنا "دراسات في فقه اللغة 87".
2 سورة القارعة 5 "وانظر البرهان 1/ 215".
3 سورة الواقعة 29 "وانظر البرهان 1/ 251". وكان الإمام مالك يجيز قراءة "فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" بدلا من {فَاسَعَوْا} سورة الجمعة 9 "البرهان 1/ 222" مع أن هذه القراءة لم تبلغ درجة التواتر، فقد انفرد بها عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وقرأها الباقون {فَاسَعَوْا} البرهان 1/ 215 حاشية 9.
4 سورة المائدة 38 "وانظر البرهان 1/ 336".
قراءة هذا الصحابي بها إنما كانت إدراجا على سبيل التفسير.
الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير فيما يعرف وجه تقديمه أو تأخيره في لسان العرب العام، أو في نسق التعبير الخاص، كقوله تعالى في شأن المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله:{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُون} قرئ: "فَيُقْتَلُونَ وَيَقْتُلُون"1 ففي الحرف الأول يسرع المؤمنون إلى قتل الأعداء، وفي الحرف الثاني كأنما يتلهفون إلى ساحة المعركة تلهفا لعل الله يتخذهم شهداء، فإذا اختلفت صياغة التعبير بالتقديم والتأخير فإن مؤدى الحرفين ما انفك واحدا لم ينله شيء من التغيير. أما قراءة أبي بكر "وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ" بدلا من قوله تعالى:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} 2 فقراءة آحادية لم تبلغ درجة التواتر، بل شاذة3 خالف بها إجماع الصحابة إن صح أنه قرأ به: ذلك بأن العرب تعرف للموت سكرة وسكرات، ولكنها لا تعرف الحق إلا يقظا صاحيا واعيا. وإنما يسهو الإنسان، أو يزل منه اللسان، فيضع كلمة مكان كلمة وهو لا يدري كما صنع أبو بكر أو كما رووا عنه ونسبوا إليه.
السادس: الاختلاف بشيء يسير من الزيادة والنقصان جريا على عادة العرب في حذف أدوات الجر والعطف تارة وإثباتها تارة أخرى. ولذلك لم تحفظ هذه الضروب من الزيادة والنقص إلا في أحرف قليلة محدودة مع التنبيه على شذوذ كل ما لم يحفظه الأئمة الثقات منها: فمن الزيادة قوله تعالى في سورة التوبة: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} قرئ: "مِنْ تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ"، وهما قراءتان متواترتان، وقد وافق كل منهم رسم مصحف الإمام4، فإن زيادتها وافقت رسم المصحف المكي، وحذفها وافق غيره5. ومن
1 سورة التوبة 111 "وانظر الإتقان 1/ 80".
2 سورة ق 19 "وانظر البرهان 1/ 335".
3 ومثلها في الشذوذ: "إِذَا جَاءَ فَتْحُ اللهِ وَالنَّصْرُ" بدلا من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} سورة النصر 1. فليس في مثل هذا حرف من حروف القرآن السبعة.
4 سورة التوبة 100 "وانظر البرهان 1/ 336".
5 الإتقان 1/ 130.
النقصان قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} من سورة البقرة بغير واو، وقد وافقت رسم المصحف الشامي1. وأما قراءة "وَالذَّكَر والأُنْثَى" بدلا من قوله تعالى:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 2 بنقص لفظتي "ما خلق" وقراءة ابن عباس "وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا" بزيادة "صالحة" وإبدال كلمة "أمام" من كلمة "وراء" فقراءتان آحاديتان لا يثبت. بمثلهما قرآن3.
ويشبههما في الآحادية زيادة لفظ "أنثى" في قوله تعالى: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} 4 أنثى، وزيادة عبارة "وَكَانَ كَافِرًا" في قوله:{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} 5 "وَكَانَ كَافِرًا"، وزيادة عبارة "وَصَلَاةِ الْعَصْرِ" في قوله:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 6 وصلاة العصر، فهذه الزيادات جميعا أدرجت على سبيل التفسير والإيضاح، ولا سبيل إلى عدها حرفا من الأحرف السبعة ولو أثبتها ابن مسعود في مصحفه الخاص7.
السابع: اختلاف اللهجات في الفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والهمز والتسهيل، وكسر حروف المضارعة، وقلب بعض الحروف وإشباع ميم الذكور، وإشمام بعض الحركات. من ذلك قوله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} 8، وقوله:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 9 قرئ بإمالة "أتى" و"موسى" و"بلى" نحو الكسر، وقوله تعالى:{خَبِيرًا بَصِيرًا} بترقيق الراءين، و"الصلاة" و"الطلاق"، بتفخيم اللامين.
1 سورة البقرة 116 "وانظر الإتقان 1/ 130".
2 سورة الليل 3 "وانظر أحكام القرآن لابن العربي 2/ 309.
3 سورة الكهف 79 "الإتقان 1/ 132".
4 سورة ص 23.
5 سورة الكهف: 80.
6 سورة البقرة 238.
7 البرهان 1/ 215.
8 سورة طه 9.
9 سورة القيامة 4.
وقوله تعالى: "قَدَ افْلَحَ"1 بترك الهمزة ونقل حركتها من أول الكلمة الثانية إلى آخر الكلمة الأولى. وهو ما يسمى تسهيل الهمزة.
وقوله تعالى: "لِقَوْمٍ يِعْلَمُون"، "نَحْنُ نِعْلَم"، "تِسْوَدُّ وُجُوه"، "أَلَمْ إِعْهَد"، بكسر حرف المضارعة في جميع هذه الأفعال.
وقوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ} فالهذليون يقرءون: "عتى عين" بقلب حاء حتى وحين عينا.
وقوله تعالى: "عَلَيْهِمُو دَائِرَةُ السَّوْءِ""وَمِنْهُمُو مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَات" بإشباع ميم جمع الذكور في كلتا الآيتين.
وقوله تعالى: {وَغِيضَ الْمَاءُ} بإشمام ضمة الغين مع الكسر.
والحق أن هذا الوجه الأخير أهم الأوجه السبعة؛ لأنه يبرز الحكمة الكبرى من إنزال القرآن على سبعة أحرف، ففيه تخفيف وتيسير على هذه الأمة التي تعددت قبائلها فاختلفت بذلك لهجاتها، وتباين أداؤها لبعض الألفاظ، فكان لا بد أن تراعي لهجاتها، وطريقة نطقها، أما لغاتها نفسها فلا موجب لمراعاتها؛ لأن القرآن اصطفى ما شاء بعد أن صهره في لغة قريش التي تمثلت فيها لغات العرب قاطبة2 لا لغات قبائل معينة ينتصر لها بعض العلماء بتعسف لا يؤيده دليل عقلي ولا نقلي.
ذلك بأن العرب حين استصفوا لهجة قريش وجعلوها لغتهم الأدبية المشتركة أثروا فيها مثلما تأثروا بها، فصدق على لهجة قريش ما يصدق على اللغات جميعا من قوانين التأثر والتأثير، وهي قوانين لا تكاد تتخلف إذا درسنا اللغة على أنها ظاهرة إنسانية3.
1 سورة المؤمنون1 "وانظر البرهان 1/ 320" ومثله "قُلُ اوحِي" سورة الجن1: "وَإِذَا خَلَوِ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ" سورة البقرة 14.
2 ولذلك عقد البخاري في صحيحه بابا لنزول القرآن بلسان قريش والعرب قرآنا عربيا بلسان عربي مبين. فضائل القرآن 6/ 182.
3 انظر كتابنا "دراسات في فقه اللغة" 109، الطبعة الأولى.
لكن القرشية -باعتراف من جميع القبائل وبطواعية واختيار من مختلف لهجاتها- كانت أغزرها مادة، وأرقها أسلوبا، وأغناها ثروة، وأقدرها على التعبير الجميل الدقيق الأنيق في أفانين القول المختلفة1، فاصطنعت وحدها في الكتابة والتأليف والشعر والخطابة، حتى كان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته ويتجنب صفاتها الخاصة في بناء الكلمة وتركيب الجملة والنطق بالأحرف، ليتحدث إلى الناس بلغة ألفوها، وتواضعوا عليها بعد أن أسهمت عوامل كثيرة في صقلها وتهذيبها2.
لقد صادف الإسلام إذن -حين ظهوره- لغة مثالية مصطفاة جديرة أن تكون أداة التعبير عند خاصة العرب لا عامتهم، فزاد من شمول تلك الوحدة وقوى من أثرها بنزول قرآنه بلسان عربي مبين هو ذلك اللسان المثالي المصطفى.
بيد أن هذه الوحدة اللغوية التي صادفها الإسلام حين ظهوره، وقواها قرآنه بعد نزوله، لا تنفي ظاهرة تعدد اللهجات قبل الإسلام وبقاءها بعده، بل من المؤكد أن عامة العرب لم يكونوا إذا عادوا إلى أقاليمهم يتحدثون بتلك اللغة المثالية الموحدة، وإنما يعبرون بلهجاتهم الخاصة، وتظهر على تعابيرهم صفات لهجاتهم، وخصائص ألحانهم3. قال ابن هشام:"كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"4.
وبإزاء هذه الظاهرة التي لا يمكن دفعها، اكتفى القرآن بتحدي خاصة العرب وبلغائهم أن يأتوا بمثله أو بآية من مثله تثبيتا للوحدة اللغوية، بينما لجأ إلى التوسعة في القراءات، ومراعاة اللهجات، في أحرفه القرآنية السبعة التي خفف بها على العامة، ولم يكلفهم النطق بغير اللهجة التي تجري
1 نفسه 59-60.
2 نفسه 60.
3 نفسه 50-51.
4 المزهر 1/ 261/ 3.
بها ألسنتهم في يسر وسهولة"1: وذلك ما لاحظه ابن الجوزي حين قال: "وأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها شرفا لها، وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق". ويفسر ذلك بقوله:"وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين والنبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم، عربيهم وعجميهم، وكان العرب الذين نزل القرآن بلغتهم: لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر. بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج2".
وأهمية هذا الوجه الآخير -أعني اختلاف اللهجات- جعلت بعض العلماء يحصرون الأحرف السبعة في أنواع اللهجات، بينما أغفل آخرون ذكر هذا الوجه إغفالا تامًا، لأنه -على حد قول ابن قتيبة:"ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى، لأنه هذه الصفات المتنوعة في أدائه، لا تخرجه عن أن يكون واحدًا"3. وفي كلا الرأيين مغالاة، فالأوجه الستة السابقة على جانب من الأهمية لا يسمح بإسقاطها والاكتفاء بالوجه السابع. كما أن اختلاف اللهجات في أداء بعض الأصوات أمر واقع بين الصحابة، بل لعله كان أشد أنواع الاختلاف دورانًا على الألسنة. فلا يجوز إغفاله والاكتفاء بأوجه أخرى لا تستقرى بها مختلف ضروب الأداء. وهذا النقص في استقراء الأقدمين للأوجه السبعة قد حملنا على أن نسلك في طريقة استقرائنا لها سبيلا مخالفة لهم جميعا، فلم نختر مذهب أبي الفضل الرازي4 الذي فضله الزرقاني في "مناهله" على مذهب ابن قتيبة وأبي الخير بن الجزري والقاضي أبي بكر بن الطيب
1 دراسات في الفقه واللغة 50.
2 مناهل العرفان للزرقاني 1/ 139 ومن الغريب أن يدافع ابن الجزري عن هذه الفكرة مع أنه لا يذكر اختلاف اللهجات بين الحروف السبعة.
مناهل العرفان للرزقاني 1/ 154 وقد رأينا عبارة كهذه منسوبة إلى ابن الجزري في مكان آخر.
راجع ص109.
4 هو الإمام الكبير ابن شاذان الرازي المتوفى في حدود سنة 290هـ "النشر 1/ 179".
الباقلاني1، كما لم تختر مذهب واحد من هؤلاء. أما الرازي فلأنه لم يعرض قط في كتابه "اللوائح" إلى وجه الاختلاف في الحروف، نحو "يعلمون وتعلمون" مع أنه لا يندرج تحت واحد من الأوجه الستة الباقية التي ذكرها، ثم إنه جعل اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر وجها خاصا قائما برأسه، مع أنه يندرج تحت وجه الاختلاف في الإعراب. وأما الثلاثة الآخرون فحسبنا لكيلا نسلم بمذاهبهم أنهم جميعا أغفلوا وجه الاختلاف في اللهجات عمليا، وإن دافع عنه بعضهم نظريا.
ونحن حين نقول: إن الأوجه السبعة التي استقرأناها، تستقصي كل اختلاف في أداء القرآن، لا نعني وجوب التزام هذه الأوجه السبعة في الكلمة الواحدة، فقد يكون في كل كلمة على حدة وجهان أو أكثر، وقد يكون فيها وجه واحد فقط، وإنما نقصد أن هذه الأوجه السبعة ترد الاختلافات إلى أحد وجوهها المناسبة حين يتحقق وجود الاختلاف2.
وإذا كنا نحن قد استطعنا حصر أوجه الاختلاف في سبعة، فقد وقع لنا ذلك اتفاقًا، بعد أن جمعنا آراء الأقدمين ووفقنا بينها، وأما الصحابة الكرام الذين نزل القرآن بأحرفه السبعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يقرؤهم بها، وينبههم إليها، فكان أكثرهم يومئذ أميين لا يقرءون ولا يكتبون، وما كان يتاح لهم أن يحددوا المراد من الأحرف السبعة، وإنما كانوا يعرفون أن أوجه الخلاف لا تخرج عن سبعة في جميع مفردات القرآن، وقد اجتمعت عمليا من مختلف قراءاتهم التي أقرهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهى العلم بها إلينا أحرف القرآن السبعة التي لم نعرفها نحن إلا بطريق الاستنباط والاستقراء.
1 انظر مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني، ج1 ص148-160 ففيه يعرض لآراء هؤلاء العلماء الكبار الثلاثة، ثم يقارنها برأي أبي الفضل الرازي ويرجحه ويختاره. وابن الجزري في "النشر والقراءات 1/ 26-28" يفضل رأيه ثم رأى أبي الفضل الرازي وابن قتيبة. وعنه أخذ الزرقاني من غير عزو إليه.
2 انظر البرهان 1/ 223.