الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: المصاحف العثمانية في طور التجويد والتحسين
نسخت المصاحف العثمانية خالية من الشكل والنقط، فاحتملت -بكتابتها على هذا النحو- عددا من الوجوه والقراءات التي كان الناس في الأمصار يميزون بينها بالسليقة، فلا يحتاجون لقراءتها سليمة إلى الشكل بالحركات ولا الإعجام بالنقط. وقد ظل الناس -كما يقول أبو أحمد العسكري "ت382"- يقرءون القرآن في مصحف عثمان بضعا وأربعين سنة، حتى خلافة عبد الملك، وحينئذ كثرت التصحيفات وانتشرت في العراق1.
وأكبر الظن أنه لا يراد "بالتصحيفات" في هذه العبارة إلا ما كان يقع فيه الناس من اللبس في قراءة بعض كلمات القرآن وحروفه بعد أن اختلطوا بغير العرب، وبدأت العجمة تمس سلامة لغتهم2. وفي خلافة عبد الملك سنة 65 للهجرة خاف بعض رجال الحكم أن يتطرق التحريف إلى النص القرآني إذا ظلت المصاحف غير مشكولة، ولا منقوطة3، ففكروا بإحداث أشكال معينة تساعد على القراءة الصحيحة، وفي هذا المجال يذكر كل من عبيد
1 وفيات الأعيان 1/ 125 "ط. سنة.131 القاهرة" وفيما يتعلق بأبي أحمد العسكري هذا انظر "بغية الوعاة للسيوطي" ص221. وقد خلط بروكلمان بين أبي أحمد العسكري وأبي هلال العسكري "في تاريخ آداب العرب" 1/ 27، ثم انتبه إلى ذلك وصححه في الملحق.
2 المحكم "للداني" 18-19.
3 في المحكم 23 عن أبي بكر بن مجاهد: "أن الشكل والنقط شيء واحد، غير أن فهم القارئ يسرع إلى الشكل أقرب مما يسرع إلى النقط".
الله بن زياد "ت67" والحجاج بن يوسف الثقفي "ت95" فأما ابن زياد فينسب إليه أنه أمر رجلا فارسي الأصل بإضافة الألف إلى ألفي كلمة حذفت منها، فكان هذا الكتاب ينسخ "قالت" بدلا من "قلت" وكانت" بدلا من "كنت"1، وأما الحجاج فيقال: إنه أصلح الرسم القرآن في أحد عشر موضعا، فكانت -بعد إصلاحه- أوضح قراءة وأيسر على الفهم2.
وإلى مثل هذه التحسينات الإملائية كان يشير عثمان بقوله إن صح: "أجد فيه ملاحن ستصلحها العرب"3، فالملاحن والتصحيفات -في هذا المقام- كلها من هذا القبيل، إنما تتعلق بطريقة الرسم التي لا بد أن ينالها التغيير على اختلاف البيئات والعصور، أما النص القرآني نفسه فلا يتغير فيه شيء لأنه مجموع من صدور العلماء، يأخذه بعضهم عن بعض بالتلقي والمشافهة وطرق التواتر اليقيني.
وتحسين الرسم القرآني لم يتم دفعة واحدة، بل ظل يتدرج في التحسن جيلا فجيلا حتى بلغ ذروة الجمال في نهاية القرن الثالث الهجري، ولا يعقل أن يكون أبو الأسود الدؤلي هو وحده واضع أصول نقط القرآن وشكله. وقد اختلف العلماء قديما في أول من نقط القرآن4، وترددت في هذا الموضوع أسماء رجال ثلاثة5: أبو الأسود الدؤلي -وهو الأشهر- ويحيى بن
1 ابن أبي داود، كتاب المصاحف 117 وانظر أيضا:
Geschichte des Qorantexsts، 255
2 ابن أبي داود، كتاب المصاحف 117، وفي هذه الصفحة تذكر المواضع الأحد عشر.
3 ابن أبي داود، كتاب المصاحف، ص32.
4 حتى لم يستبعد أبو عمرو الداني أن يكون الصحابة هم الذين ابتدءوا بالنقط ورسم الخموس والشعور: "المحكم2".
5 ويرى السيوطي في الإتقان 2/ 290 أنهم أربعة، بإضافة اسم الحسن البصري إليهم، مع أن الحسن لم يعرف له نشط إيجابي في نقط المصحف، غير أنه كان لا يرى كراهة النقط ولا يتشدد فيه كعلماء الصدر الأول، فقد "أخرج ابن أبي داود عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا بأس بنقط المصاحف" الإتقان 2/ 290 فلعل تساهل الحسن في النقط وعدم كراهته له أن يكونا عمدة الباحث في ذكر الحسن بين أوائل الذين نقطوا المصاحف.
يعمر1، ونصر بن عاصم الليثي2.
أما أبو الأسود الدؤلي فقد اشتهر بأنه سبق إلى وضع مسائل في العربية3 بأمرعلي بن أبي طالب، ويبدو أن نقطة القرآن لم يكن إلا امتدادًا لما يظن من سبقه هذا4. ويتناقلون قصة في هذا الموضوع تومئ إلى شدة غيرته على لغة القرآن، فقد سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 5، فقرأها بجر اللام من كلمة "رسوله"، فأفزع هذا اللحن أبا الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله! ثم ذهب إلى زياد وإلي البصرة وقال له: قد أجبتك إلى ما سألت. وكان زياد قد سأله أن يجعل للناس علامات يعرفون بها كتاب الله6، فتباطأ في الجواب حتى راعه هذا الحادث. وهنا جد جده، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسر نقطة أسفله، وجعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين7"، ويرى بعض العلماء أن أبا الأسود إنما نقط القرآن بأمر عبد الملك بن مروان8. وعسير علينا أن
1 ولد يحيى بن يعمر في البصرة في حدود سنة 45، وقضى شطرًا من حياته في العراق، ثم هاجر إلى خراسان، كان هواه مع علي وشيعته "انظر وفيات الأعيان 2/ 227، ط. سنة 1310" ولعل الحجاج نفاه إلى خراسان بهذ السبب. يقال: إنه روى في حداثته عن ابن عباس وابن عمر، وروى عنه قتادة "ت سنة 188" وقد أصبح ابن يعمر قاضي مرو وفي تلك المدينة توفي سنة 129 "انظر وفيات الأعيان 2/ 226، ط. سنة 1310؛ غاية النهاية في طبقات القراء ص381، بغية الوعاة ص417". وفي سير النبلاء 4/ 251 أن وفاته قبل التسعين.
2 نصر بن عاصم الليثي هو أحد قراء البصرة، أخذ عن أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء، توفي سنة 89هـ "انظر بغية الوعاة 403. طبقات القراء 336".
3 البرهان 1/ 378.
4 ولذلك ينقل الزركشي في "البرهان 1/ 250" عن المبرد قوله: "أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي". ومثله في المحكم؟.
5 سورة التوبة 3.
6 في البرهان 1/ 250-251 "وذكر أبو الفرج: أن زياد بن أبي سفيان أمر أبا الأسود أن ينقط المصحف".
7 الزرقاني، مناهل العرفان 1/ 401. وقارن بالإيضاح لابن الأنباري 16/ 1-17/ 1.
8 الإتقان 2/ 290.
يحدد -عن طريق هذه الروايات المختلفة- البواعث التي حملت أبا الأسود على نقط القرآن، فلا نعرف هل اندفع من تلقاء نفسه أم استجاب لأمر لم يفكر فيه من قبل، ولا نعرف كنه العمل الذي قام به، ولكننا لا نرتاب قط في أنه قد اضطلع أول الجميع بعبء جسيم، فهذا هو الحد الأدنى مما نطقت به تلك الأخبار والروايات. أما أنه انفرد وحده بوضع أصول نقط القرآن وشكله فليس منطقيا ولا معقولا، فما ينهض بمثل هذا فرد بل أفراد، ولا يبلغ تمامه جيل بل أجيال، وبحسب أبي الأسود أنه كان حلقة أولى في سلسلة نقط القرآن وتجويد رسمه1.
وفي هذه السلسلة حلقة أخرى يميل بعض العلماء إلى عدها كذلك حلقة أولى، حين يرون أن "أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر"2، ولا بد أن يكون ليحيى عمل في نقط القرآن، ولكن لا برهان بين أيدينا على أنه كان حقا أول من نقطه إلا أن يكون المراد أنه أول من نقط المصاحف بمرو. وتبلغ قصة أوليته هذه ذروتها من الإحكام والحبك حين يزعم ابن خلكان أنه كان لابن سرين مصحف منقوط، نقطه يحيى بن يعمر3، ومن المعلوم أن ابن سيرين توفي سنة 110هـ، فقد عرف إذن قبل هذا التاريخ مصحف كامل النقط، تام الشكل، بتلك النقط المعوضة للحركات: وهو أمر خطير جدًا ليس من السهل التسليم به4.
وأما نصر بن عاصم الليثي فلا يستبعد أن يكون عمله في نقط القرآن امتدادًا لعمل أستاذيه أبي الأسود وابن يعمر، فإنه أخذ عنهما كما أسلفنا، بيد أن أبا أحمد العسكري -في إحدى رواياته الغريبة- يؤكد أن نصر بن عاصم اضطلع
1 انظر "Geschichte des Qorantexts،261 "ef، Blach، Intr.،p. 80، not 103"
2 المصاحف ص141 وقال بذلك أيضا هارون بن موسى كما في "المحكم5" والبخاري كما في "غاية النهاية 2/ 381".
3 وفيات الأعيان ط. سنة 1310ج2 ص227 "وانظر البرهان 1/ 250".
4 قارن بما يقوله المسشرق بلاشير "Blachere، Intr. cor.، 80"
بنقط القرآن حين خاطب الحجاج كتابه وسألهم أن يضعوا علامات على الحروف المتشابهة1. وتكاد هذه الرواية تنطق بأن نصرا كان أول من نقط المصاحف2، ولكنها تظل -مع ذلك- أضعف من أن تفصل في هذا الخلاف برأي يقيني قاطع.
ولئن تعذر إطلاق الحكم بأن أبا الأسود أو ابن يعمر أو نصرا كان أول من نقط المصاحف، فلا يتعذر القول بأنهم أسهموا جميعا في تحسين الرسم من وتيسير قراءة القرآن على الناس. ولا ريب بعد هذا أن للحجاج -مهما تختلف آراء الناس فيه، ومهما تك نياته الشخصية- عملا عظيما لا سبيل إلى إنكاره في الإشراف على نقط القرآن، والحرص عليه.
وكلما امتد الزمان بالناس ازدادت عنايتهم بتيسير الرسم القرآني، وقد اتخذ هذا التيسير أشكالا مختلفة، فكان الخليل3 أول من صنف النقط، ورسمه في كتاب، وذكر علله4، وأول من وضع الهمزة والتشديد والروم والإشمام5. ولا يكاد أبو حاتم السجستاني6 يؤلف كتابه عن نقط القرآن وشكله حتى يكون رسم المصاحف قد قارب الكمال. حتى إذا كان نهاية القرن الهجري الثالث بلغ الرسم ذروته من الجودة والحسن، وأصبح الناس يتنافسون في اختيار الخطوط الجميلة، وابتكار العلامات المميزة
1 هذه الرواية من كتاب "التصحيف" لأبي أحمد العسكري، وقد نقلها ابن خلكان ج1 ص125 ط. سنة 1310.
2 ويظهر أن هذا هو رأي الجاحظ، ففي البرهان 1/ 251:"وذكر الجاحظ في كتاب "الأمصار" أن نصر بن عاصم أول من نقط المصاحف" وقارن بالمحكم6.
3 هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، ويكنى أبا عبد الرحمن. إمام العربية في زمانه، ومستنبط العروض. توفي سنة 175هـ.
4 المحكم 9.
5 كتاب النقط لأبي عمر الداني ص133 "وانظر الإتقان 2/ 290" وقارن بـ"Geschichte des Qorantexts، 262 "cf، Blach.،Intr. cor،97"
6 هو سهل بن محمد، المعروف بأبي حاتم السجستاني، من كبار اللغويين في عصره. توفي سنة 248، وقد ذكر ابن أبي داود في "كتاب المصاحف" مقتطفات من أقوال أبي حاتم في رسم القرآن، ص144.
"حتى جعلوا للحرف المشدد علامة كالقوس، ولألف الوصل جرة فوقها أو تحتها أو وسطها، على حسب ما قبلها من فتحة أو كسرة أو ضمة"1.
وما أكثر العقبات التي كانت تعترض اتجاه الناس نحو تحسين الرسم القرآني! فما برح العلماء حتى أواخر القرن الثالث يختلفون في نقط القرآن.
وقد بدأت فكرة كراهة النقط مبكرة جدًّا منذ قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: "جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء"2 ثم كان بين التابعين من كره حتى تطييب المصاحف بالطيب أو وضع أوراق الورد بين صحائفها3، وإذا الإمام مالك رضي الله عنه4 في عصر أتباع التابعين يؤثر التفصيل في هذه المسألة، فيبيح النقط "في المصاحف التي تتعلم فيها العلماء، أما الأمهات فلا"5. وتظل الأوساط المحافظة -مع ذلك- تكره نقط المصاحف، فكان يظهر بين الحين والحين قوم معتدلون يفرقون بين النقط والتعشير، وينبهون الناس إلى أن النقط لا ينافي تجريد القرآن. قال الحليمي6: "تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه، لقوله: "جردوا القرآن". وأما النقط فيجوز، لأنه ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا، وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها"7.
على أن هذه التفرقة الواضحة بين النقط والتعشير8 لم تكن لتمنع الأوساط
1 الزرقاني، مناهل العرفان 1/ 401.
2 أخرجه أبو عبيد "انظر الإتقان 2/ 290"، وقارن بالمحكم 10.
3 كما رووا عن مجاهد: "انظر المحكم 15".
4 هو إمام أهل المدينة، وأمير المؤمنين في الحديث، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ويكنى أبا عبد الله. استغرق تأليفه "الموطأ" أربعين سنة عرضه خلالها على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة. توفي سنة 179هـ.
5 أبو عمرو الداني، النقط، 134؛ الإتقان 2/ 291.
6 هو أبو عبد الله حسين بن الحسن الحليمي الجرجاني. أجل كتبه "المنهاج" توفي سنة 403.
7 الإتقان 2/ 291.
8 التعشير: هو وضع علامة بعد كل عشر آيات.
المحافظة حتى في مستهل القرن الخامس الهجري من الإصرار على قراءة القرآن في المصاحف المجردة من الشكل، فلم يكن إحداث تلك العلامات في نظر هؤلاء المتشددين إلا بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ومن الغريب أن بعضهم كانوا -كما يلاحظ الداني- يتساهلون في استعمال بعض النقط عوضا عن الحركات، ولكنهم يأبون إباء شديدًا أن يشكلوا القرآن بالحركات نفسها وإن كان أكثر الناس في عصرهم لا يجدون في ذلك بأسًا1.
والداني نفسه كان يعترف بوجود التمييز بين النص القرآني المجرد والحركات التي تزاد عليه للتوضيح، "فلا يستجيز النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصورة الرسم، ولا يستجيز جمع قراءات شتى في مصحف واحد بألوان مختلفة لأنه من أعظم التخليط والتغيير للرسوم، ويرى أن تكون الحركات والتنوين والتشديد والسكون والمد بالحمرة والهمزات بالصفرة"2.
ثم يأتي على الناس زمان يستحبون فيه نقط المصحف بعد أن كرهوه، وشكله بالحركات بعد أن عارضوه، وكما خافوا أن يصيبه التغيير بالنقط والشكل أصبحوا يخافون أن يلحن الجهال فيه إن لم ينقط ويشكل، فالحرص على نص القرآن كان السبب الأساسي في كراهة النقط تارة واستحبابه أخرى.
قال النووي3: "نقط المصحف وشكله مستحب، لأنه صيانة له من اللحن والتحريف"4.
1 الداني، النقط، 134-135.
2 الإتقان 2/ 291 "وانظر الداني، النقط ص133".
3 هو الإمام الحافظ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، من كبار المحدثين. له في علوم الحديث تصانيف كثيرة مشهورة. ومن أشهر كتبه "شرح صحيح مسلم" توفي سنة 676هـ.
4 الإتقان 2/ 291. والزرقاني في "مناهل العرفان 1/ 402" ينقل عبارة النووي هذه بأطول مما ذكرنا، ونحن نثبتها هنا إتماما للفائدة، قال النووي في كتابه "التبيان" ما نصه: "قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه وتصفية. وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفا من التغيير فيه. وقد أمن ذلك لكونه محدثًا، فإنه من المحدثات الحسنة، فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك، والله أعلم".
ومن المحدثات التي كرهها العلماء أول الأمر ثم انتهوا إلى إباحتها أو استحبابها أخيرا بدعة كتابة العناوين في رأس كل سورة، ووضع رموز فاصلة عند رءوس الآي، وتقسيم القرآن إلى أجزاء، والأجزاء إلى أحزاب، والأحزاب إلى أرباع، والإشارة إلى ذلك كله برسوم خاصة.
والرموز المشيرة إلى رءوس الآي سارع الناس إلى تلقيها بالقبول قبل سواها؛ لاحتياجهم إلى معرفة تقسيم الآيات، ولا سيما بعد أن انعقد الاجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي1. وقد تباينت طرائق رمزهم إليها، فقد يذكرون عند رأس كل آية رقم عددها من السورة، وقد يغفلون ذلك. وأحيانا يضعون كلمة عشر أو رأس "العين" حرفها الأول عند نهاية كل عشر آيات من السورة2، أو كلمة خمس أو رأس "الخاء" حرفها الأول عند نهاية كل خمس آيات، ولا يجدون في شيء من ذلك بأسا.
أما العناوين، التي كانوا يكتبونها في فواتح السور منوهين فيها بأسمائها وما فيها من الآيات المكية والمدنية، فكانت لا بد أن تثير معارضة عنيفة في الأوساط المحافظة، لأن كثيرا من العلماء بله عامة الناس، كانوا يعتقدون أن هذه الأمور ليست توقيفية، بل للصحابة فيها نصيب غير قليل من الاجتهاد.
وإذا كنا لم نسلم بأن ترتيب السور اجتهادي، بل رجحنا أنه كترتيب الآيات توقيفي3، فإننا لا نملك دليلا قويا على أن أسماء السور توقيفية أيضا4، وليس في وسعنا أن ندعي الإجماع على مكية بعض السور ومدنية بعضها الآخر
1 ومع ذلك، اختلف العلماء في عدد الآي، وقد بين الزركشي "البرهان 1/ 251-252" أن سبب هذا الاختلاف "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآي للتوقيف؛ فإذا علم محلها وصل للتمام، فيحسب السامع أنها ليست فاصلة".
2 وفي البرهان 1/ 251: "وأما وضع الأعشار فقيل: إن المأمون العباسي أمر بذلك؛ وقيل: إن الحجاج فعل ذلك".
3 راجع ص69 إلى 71.
4 قال الزركشي في البرهان 1/ 270: "وينبغي البحث عن تعداد الأسامي: هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فلن يعدم الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها وهو بعيد". وانظر الإتقان 1/ 90.
بحيث لا يكون في السورة الواحدة إلا قول واحد متفق عليه1: فهذا الاختلاف هو الذي آثار تلك المعارضة العنيفة لكتابة العناوين في فواتح السور.
لكن حدة المعارضة ما لبثت أن خفت2، فلم يقنع الناس بكتابة تلك العناوين بل طفقوا يفتنون في تنميقها وتذهيبها حتى أوشك الجهال أن يعتقدوا أنها جزء لا يتجزأ من الوحي القرآني.
ولما أباح الناس لأنفسهم كتابة الرموز الفاصلة بين الآيات، ثم تجرءوا حتى على كتابة العناوين في رءوس السور، لم يعد ممكنا منعهم من الذهاب في تجويد المصاحف كل مذهب، وقد بدا لهم أن من تجويدها تجزئتها وتحزيبها، وراحوا يلتمسون على ذلك أدلة من الروايات المأثورة، قال الزركشي:"وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين، كما في الربعات بالمدارس وغيرها".
وقد أخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجه عن أوس بن حذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاثة عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى "يختم"3.
وقد أسهم الخطاطون في تجويد المصاحف وتحسين كتابتها، ويقال: إن الخليفة الوليد "من سنة 86 إلى سنة 96هـ" اختار لكتابة المصاحف خالد بن أبي الهياج الذي كان مشهورًا بجمال خطه وهو الذي خط المحراب في المسجد النبوي بالمدينة4. وقد ظل الخطاطون يكتبون المصاحف بالخط
1 وانظر في "الإتقان 1/ 18-23" الاختلاف حول مكية بعض السور ومدنية بعضها. وسنعرض لهذا البحث في مبحث "المكي والمدني".
2 تجد في كتاب المصاحف لابن أبي داود ص158 وما بعدها وصفا لموقف المعارضين والمتساهلين في كتابة هذه العناوين والرموز.
3 البرهان 1/ 250 وهكذا شاعت قسمة القرآن إلى ثلاثين جزءًا، وطبعت أحيانًا هذه الأجزاء مستقلة تيسيرا على صغار التلاميذ في المدارس، ثم شاعت قسمة كل جزء إلى جزئين، وقسمة الحزب إلى أربعة أرباع.
4 انظر الفهرست لابن النديم، ص6 ط. فلوجل سنة 1871.
الكوفي حتى أواخر القرن الرابع الهجري1، ثم حل محله خط النسخ الجميل في أوائل القرن الخامس، وفيه جميع النقط والحركات التي ما نزال نستخدمها في الكتابة إلى يومنا هذا2.
ويشاء الله أن ينتشر كتابه في الآفاق بوساطة الطباعة، وهذه أيضا مرت -ككتابة القرآن خطا- بأطوار التجويد والتحسين. وقد ظهر القرآن مطبوعا للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة 1530م، ولكن السلطات الكنسية أصدرت أمرًا بإعدامه حال ظهوره. ثم قام هنكلمان Hinkelmann بطبع القرآن في مدينة هانبورغ Hanboutg سنة 1694، ثم تلاه مراكي Marracci بطبعه في بادو Padoue سنة 1698، ولم يكن لأي واحدة من هذه الطبعات الثلاث أثر يذكر في العالم الإسلامي3، ثم ظهرت أول طباعة إسلامية خالصة للقرآن في سانت بترسبورغ بروسيا "Saint- Petersbourg" سنة 1787، وهي التي قام بها مولاي عثمان، وظهر مثلها في قازان4، وإذا بإيران تقدم طبعتين حجريتين إحداهما في طهران سنة 1248هـ-1828م، والأخرى في تبريز سنة 1248هـ-1833م.
ويقوم فلوجل Flugel سنة 1834 بطبعته الخاصة للقرآن في ليبزيغ Leipzig فيتلقاها الأوربيون بحماسة منقطعة النظير،
1 فيما يتعلق بأشكال الخطوط التي كتبت بها المصاحف انظر ما كتبه موريتز في دائرة المعارف الإسلامية.
Moritz، Encyclopedia de l'Islam، Article Arabie، 394.
وفيما يتعلق بتفضيل الخط الكوفي انظر:
Geschichte des Qorantexts، 251 sqq، cf. Blach.، Intr. ،8 note 112.
2 انظر Blachere، Intr. cor.،133.
3 Blachere، Id.، 133.
4 اعتمدنا في دراسة هذه الأطوار في طبع القرآن على ما كتبها المستشرق بلاشير "Blachere، Intr.، cor.،133"
واقد اعتمد بلاشير بدوره -فيما يتعلق بالطبعات التي ظهرت قبل سنة 1810 -على ما كتبه كل من شنرر وبفنملر. انظر:
Schnurrer ch. f. Bibliotheca arabica، nos 367-286 pfannmuller، Handbuch der Islam - Literatur، Berlin، 1925
بسب إملائها الحديث السهل، ولكنها لا تصيب نجاحًا في العالم الإسلامي، وتظهر في الهند طبعات للقرآن أيضًا، ثم تعنى الآستانة ابتداء من سنة 1877 بهذا الأمر العظيم.
ثم كان حدث سعيد على جانب عظيم من الأهمية حين ظهرت في القاهرة طبعة أنيقة جميلة دقيقة لكتاب الله سنة 1342هـ-1923م تحت إشراف مشيخة الأزهر، وبإقرار اللجنة المعينة من قبل الملك فؤاد الأول، وقد كتب هذا المصحف وضبط على ما يوافق رواية حفص لقراءة عاصم، وقد تلقى العالم الإسلامي هذا المصحف بالقبول وأصبحت ملايين النسخ التي تطبع منه سنويا هي وحداها المتداولة، أو تكاد تكون وحدها المتداولة، لإجماع العلماء في مشارق الأرض ومغاربها على الدقة الكاملة في رسمه وكتابته.