المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء - مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح

[صبحي الصالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌مقدمة المؤلف في الطبعة الجديدة:

- ‌مقدمة الكتاب:

- ‌الباب الأول: القرآن والوحي

- ‌الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها

- ‌الفصل الثاني: ظاهرة الوحي

- ‌الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره

- ‌الباب الثاني: تاريخ القرآن

- ‌الفصل الأول: جمع القرآن وكتابته

- ‌مدخل

- ‌جمع القرآن كتابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

- ‌ جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه:

- ‌الفصل الثاني: المصاحف العثمانية في طور التجويد والتحسين

- ‌الفصل الثالث: الأحرف السبعة

- ‌الباب الثالث: علوم القرآن

- ‌الفصل الأول: لمحة تاريخية عن علوم القرآن

- ‌الفصل الثاني: علم أسباب النزول

- ‌الفصل الثالث: علم المكي والمدني

- ‌الفصل الرابع: لمحة خاطفة عن فواتح السور

- ‌الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء

- ‌الفصل السادس: علم الناسح والمنسوخ

- ‌الفصل السابع: علم الرسم القرآني

- ‌الفصل الثامن: علم المحكم والمتشابه

- ‌الباب الرابع: التفسير والإعجاز

- ‌الفصل الأول: التفسير "نشأته وتطوره

- ‌الفصل الثاني: القرآن يفسر بعضه بعضا

- ‌منطوق القرآن ومفهومه:

- ‌عام القرآن وخاصه:

- ‌المجمل والمبين:

- ‌النص والظاهر:

- ‌الفصل الثالث: إعجاز القرآن

- ‌مدخل

- ‌تشبيه القرآن واستعارته:

- ‌المجاز والكناية:

- ‌الفصل الرابع: الإعجاز في نغم القرآن

- ‌خاتمة:

- ‌جريدة المراجع على حروف المعجم:

- ‌ باللغة العربية:

- ‌ باللغات الأجنبية:

- ‌مسرد الأعلام:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء

‌الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء

نبهنا في بحث سابق على أن الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن لا يمكن أن يراد بها القراءات السبع المشهورة، وعللنا ذلك في موضعه، ودعانا إلى هذا التنبيه ما نعلمه من توهم الكثيرين من القدامى والمحدثين أن هذه القراءات هي هاتيك الأحرف. قال أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز":"ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث: هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل"1.

ويقع أكبر قسط من اللوم في هذا الإيهام على عاتق الإمام الكبير أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس المشهور "بابن مجاهد"2، الذي قام على رأس الثلاثمائة للهجرة في بغداد بجمع سبع3 قراءات لسبع من أئمة الحرمين والعراقين والشام اشتهروا بالثقة والأمانة والضبط وملازمة القراءة، وجاء جمعه لها محض مصادفة واتفاق، إذ كان في أئمة القراء من هم أجل منهم قدرًا،

1 الإتقان 1/ 138 "التنبيه الثالث من النوع الثاني والعشرين" وانظر الزرقاني على موطأ مالك 1/ 134.

2 كان شيخ القراء في بغدد في زمانه، توفي سنة 324 "انظر طبقات القراء 1/ 39؛ تاريخ بغداد 5/ 144".

3 البرهان 1/ 327.

ص: 247

وكان عددهم لا يستهان به1، فإذا أبو العباس بن عمار يلوم ابن مجاهد ويقسو عليه في تعبيره فيقول:"لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر، وليته إذ اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة! "2.

وعبارة "القراءات السبع" لم تكن قد عرفت في الأمصار الإسلامية حين بدأ العلماء يؤلفون في القراءات، والسابقون منهم كأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي جعفر الطبري، وأبي حاتم السجستاني، ذكروا في مصنفاتهم أضعاف تلك القراءات، وإنما بدأت هذه العبارة تشتهر على رأس المائتين بإقبال الناس في الأمصار الإسلامية على قراءة بعض الأئمة دون بعض، فاشتهرت في مكة قراءة عبد الله بن كثير الداري3 "المتوفى سنة 120" وقد لقي من الصحابة أنس بن مالك وعبد الله بن الزبير وأبا أيوب الأنصاري، وفي المدينة قراءة نافع4 بن عبد الرحمن بن أبي نعيم "المتوفى سنة 169هـ" الذي تلقى القراءة عن سبعين من التابعين أخذوا عن أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وفي الشام قراءة عبد الله اليحصبي المشهور بابن عامر5 "المتوفى سنة 118هـ" أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي عن عثمان بن عفان، ولقي من الصحابة النعمان بن بشير وواثلة بن الأسقع، ويقول بعضهم: إنه لقي عثمان نفسه وأخذ عنه، وفي البصرة قراءة كل من أبي عمرو ويعقوب، فأما أبو عمرو6 فهو زبان بن العلاء بن عمار

1 انظر في "البرهان 1/ 329" كيف يفسر مكي سبب اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم.

2 الإتقان 1/ 138. وأبو العباس بن عمار هو الإمام المقرئ المفسر أحمد بن عمار المهدوي، وتوفي فيما قاله الحافظ الذهبي بعد الثلاثين وأربعمائة "انظر النشر 1/ 68".

3 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 443".

4 انظر ترجمته في "طبقات القراء 2/ 330-334".

5 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 423-425".

6 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 288-292".

ص: 248

"والمتوفى سنة 154هـ"، وقد روى عن مجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس عن أبي بن كعب، وأما يعقوب1 فهو ابن إسحاق الحضرمي "المتوفى سنة 205هـ" وقد قرأ على سلام بن سليمان الطويل، عن عاصم وأبي عمرو، وفي الكوفة قراءة كل من حمزة وعاصم، فأما حمزة2، فهو ابن حبيب الزيات مولى عكرمة بن ربيع التيمي "المتوفى سنة 188هـ" وقد قرأ على سليمان بن مهران الأعمش على يحيى بن وثاب، على زر بن حبيش، على عثمان وعلي وابن مسعود، وأما عاصم3 فهو ابن أبي النجود الأسدي "المتوفى سنة 127هـ" وقد قرأ على زر بن حبيش على عبد الله بن مسعود. ويلاحظ قلة القراء العرب وكثرة الموالي، ولا سيما الذين كانوا من أصل فارسي، "فليس في هؤلاء السبعة من العرب إلا ابن عامر وأبو عمرو4".

وحين جمع ابن مجاهد قراءات هؤلاء الأئمة السبعة حذف اسم يعقوب وأثبت مكانه الكسائي5"علي بن حمزة المتوفى سنة 189هـ" ونحن نعلم أن الكسائي، كان كوفيا ويعقوب كان بصريا، فكأن ابن مجاهد اكتفى بذكر مقرئ واحد للبصرة هو أبو عمرو، بينما أثبت من أسماء المقرئين الكوفيين حمزة وعاصما والكسائي.

وقد حظيت قراءات هؤلاء السبعة -من لدن ابن مجاهد- بشهرة واسعة، وتوهم الكثيرون -كما قلنا- أنها هي المراد من الأحرف السبعة التي ذكرت في الحديث النبوي. والحق أن ثمة ضابطا إذا توفر في قراءة ما وجب قبولها وبتوفر هذا الضابط وجد ما يسمى بالقراءات العشر، والقراءات الأربع

1 انظر ترجمته في "طبقات القراء 2/ 386-389".

2 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 261- 263".

3 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 346-349".

4 البرهان 1/ 329 وقارن بـ Blachere، Intro،Cor، 117

5 البرهان 1/ 329 وانظر ترجمة الكسائي في "طبقات القراء 1/ 535-540" وفيما يتعلق بأسانيد هؤلاء القراء السبعة انظر "التيسير في القراءات السبع للداني ص8 وما بعدها".

ص: 249

عشرة: فأما العشر فإنها تلك السبع المشهورة مضافا إليها قراءة يعقوب الذي سبقت الإشارة إليه، وقراءة خلف بن هشام1، "المتوفى سنة 229هـ" الذي قرأ على سليم بن عيسى بن حمزة بن حبيب الزيات، وقراءة يزيد بن القعقاع2 المشهور بأبي جعفر "المتوفى سنة 130هـ" الذي أخذ عنه عبد الله بن عباس وأبي هريرة، وعن أبي بن كعب. وأما الأربع عشرة فبزيادة أربع قراءات على هاتيك العشر، وهي قراءة الحسن البصري المشهور3 "المتوفى سنة 110هـ" ومحمد بن عبد الرحمن المعروف بابن محيصن4 "المتوفى سنة 123هـ" ويحيى بن المبارك اليزيدي5 "المتوفى سنة 202هـ" وأبي الفرج محمد بن أحمد الشنبوذي6 "المتوفى سنة 388هـ".

ولأسانيد المحدثين أثر واضح في تسلسل القراءات، فكما استنبط العلماء أحكام الشرع وأصول التفسير من الروايات التي صح سندها، لم تقبل قراءة أحد من القراء إلا إذا ثبت أخذه عمن فوقه بطريق المشافهة والسماع حتى يتصل الإسناد بالصحابي الذي أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك تتكرر في أوائل تلك الأسانيد أسماء الصحابة الذين لهم روايات في الحلال والحرام، أو أسباب النزول، أو بيان الآيات7. وهذا التسلسل في أسانيد القراء سوغ للعلماء أن يصفوا القراءات بأنها توقيفية8، فمنعوا القراءة بالقياس

1 انظر ترجمته في "طبقات القراء 1/ 272".

2 انظر ترجمته في "طبقات القراء 2/ 382".

3 هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، مولى الأنصار، أحد كبار التابعين، وعلمائهم المشهورين بالزهد.

4 وقد أخذ ابن محيصن عن مجاهد ودرباس، وكان شيخ أبي عمرو.

5 نحوي من بغداد، أخذ عن أبي عمرو وحمزة. وكان شيخا للدوري والسوسي.

6 هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن يوسف بن العباس بن ميمون البغدادي، المعروف بالشنبوذي نسبة إلى أستاذه ابن شنبوذ "لأنه حمل عنه وضبط حتى نسب إليه" كما في النشر 1/ 122".

7 وفي التيسير لأبي عمر الداني ص8 وما بعدها وصف دقيق لأسانيد القراء السبعة يظهر إلى أي حد كان العلماء يتشددون في صحة الروايات وثبوت التلقي بالمشافهة والسماع.

8 البرهان 1/ 321.

ص: 250

المطلق1 واستنكروا موقف جماعة منهم الزمخشري ظنوا أن "القراءات اختيارية، تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد البلغاء"2، فما وافق العربية والرسم ولم ينقل بإسناد صحيح كإسناد المحدثين الثقات فهو مردود، وكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم كإسكان "بَارِئْكُم" و"يَأْمُرْكُم" وخفض "وَالْأَرْحَامِ" ونصب "لِيَجْزِي قَوْمًا" والفصل بين المضافين في "قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائَهُمْ" وغير ذلك3، فلا غرابة إذا وقف القراء موقفا شديدا من أبي بكر بن مقسم4 الذي كان يختار من القراءات ما بدا له أصح في العربية ولو خالف النقل أو رسم المصاحف فعقدوا له مجلسا، وأجمعوا على منعه5، وعقدوا مجلسا آخر لابن شنبوذ6 لاستتابته مما كان آخذا فيه من كتابة القرآن على ما يعلمه من قراءتي أبي وأبو مسعود7.

وقد انعقد المجلسان بأمر شيخ القراء ابن مجاهد الذي عرفنا أنه أول من

1 الإتقان 1/ 132.

2 البرهان 1/ 321.

3 الإتقان 1/ 130 وانظر في "إتحاف فضلاء البشر ص185" كيف يوجه الدمياطي قراءة حمزة "وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" سورة النساء1، فقد جرت الميم عطفا على الضمير المجرور في "به" على مذهب الكوفيين، وانظر في "الإتحاف أيضا ص217" توجيه قراءة ابن عامر "وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائَهُمْ" فقد رفع "قتل" على أنه نائب فاعل لزين، ونصب "أولادهم" على أنه مفعول به للمصدر، وجر "شركائهم" على إضافة المصدر إليه فاعلا.

4 هو محمد بن الحسن بن يعقوب المشهور بابن مقسم، أحد نحاة بغداد وقرائها، توفي سنة 354 "انظر طبقات القراء 2/ 123".

5 الإتقان 1/ 132. وانظر طبقات القراء 2/ 54.

6 هو محمد بن أحمد بن أيوب بن شنبوذ، أحد قراء بغداد ونحاتها توفي سنة 328 "انظر ترجمته في طبقات القراء 2/ 52".

7 قارن بما يقوله المستشرق ماسينيون:

Massignon "L."، Al- Hallaj. Martyr mystique de l'Islam، p.243، note 4.

ولهذا السبب نفسه لم تقبل قراءة الأعمش، فإنه كان يتبع قراءتي أبي وابن مسعود، وانظر في "كتاب المصاحف ص91" بعض أوجه قراءته.

ص: 251

جمع القراءت السبع، وكان ابن مجاهد قد أخذ القراءة عن شاذان الرازي الذي عنه أخذ أيضا كل من ابن مقسم وابن شنبوذ، ولكن اشتراك الثلاثة في التلقي عن شيخ واحد لم يمنع ابن مجاهد من التشدد مع زميليه1 لإجماع القراء في عهده على الأخذ بالأثبت في الأثر والأصح في النقل، وليس الأفشى في اللغة والأقيس في العربية2، ومع ذلك عني بعض اللغويين والنحاة بتتبع القراءات الشاذة فألف ابن خالويه "ت سنة 370هـ" كتابا في هذه القراءات سماه "المختصر في شواذ القراءات"3 وصنف ابن جني4 كتابه "المحتسب في توجيه القراءات الشاذة"، ووضع أبو البقاء العكبري5 كتابا أوسع وأشمل سماه "إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن"، ولم يتردد بعض العلماء في إطلاق القول بأن "توجيه القراءة الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة6"، ووجدوا في توجيه الشاذ عونا على معرفة صحة التأويل، فقراءة ابن مسعود "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا" بدلا من "أَيْدِيَهُمَا" ساعدت على فهم

1 وقد أشار المستشرق بلاشير إلى ذلك من غير أن يجد له تعليلا منطقيا. انظر:

Blachere، Intro.cor.، p.128، note 169.

والتعليل الطبيعي لهذا كله ما ذكرناه من ضرورة الاعتماد على النقل الصحيح في أمثال هذه الموضوعات.

2 الإتقان 1/ 130.

3 وقد نشر المستشرق برجشتراسر Bergstrasser هذا الكتاب في القاهرة سنة 1934 وهو المجلد السابع من "مجموعة المكتبة الإسلامية".

T. Vll، Bibliotheca Islamica وابن خالويه هو الحسين بن أحمد، أبو عبد الله الهمذاني، إمام في العربية، له كتب كثيرة أشهرها الاشتقاق وكتاب ليس، وكتابه عن شواذ القراءات. توفي في حلب سنة 370 "بغية الوعاة ص 232".

4 هو أبو الفتح عثمان بن جني، من أئمة اللغة والنحو، له كتاب الخصائص، وسر الصناعة والتصريف، توفي سنة 392 انظر "نزهة الألباء ص 406". أما كتابه "توجيه القراءات الشاذة" فمنه نسخ مخطوطة في دار الكتب بالقاهرة.

5 هو عبد الله بن الحسين المشهور بأبي البقاء العكبري، توفي سنة 616 "انظر ترجمته في بغية الوعاة 281" وكتابة "إملاء ما من به الرحمن" طبع في المطبعة الميمنية بالقاهرة سنة 1321.

6 البرهان 1/ 341.

ص: 252

ما يقطع في حد السرقة، وقراءة سعد بن أبي وقاص "وله أخ أو أخت من أم فكل"1

صرحت بنوع الأخوة في هذه القضية التشريعية المتعلقة بالميراث، وقراءة عمر بن عبد العزيز التي تحكى أيضا عن الإمام أبي حنيفة "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ"2 برفع اسم الجلالة ونصب العلماء بينت أن الغرض من تخصيص العلماء بالخشية إظهار مكانتهم ودرجتهم عند الله، "وتأويله -كما يقول الزركشي- أن الخشية هنا بمعنى الإجلال والتعظيم، لا خوف"3 ويضيف الزركشي: "فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن، وقد كان يروى مثل هذا عن بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك، فكيف إذا روي عن كبار الصحابة ثم صار في نفس القراءة! فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى، فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف صحة التأويل4، ومن هنا شاع على ألسنة العلماء: "اختلاف القراءات يظهر اختلاف الأحكام"5. على أن توجيه بعض القراءات الشاذة لم يخل من التكلف، وقد يستهجن بادئ الرأي ثم لا يدفع الاستهجان إلا التأويل كقراءة: "هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوَّرَ" بفتح الواو والراء، على أنه اسم مفعول، وتأويله أنه مفعول لاسم الفاعل، الذي هو البارئ فإنه يعمل عمل الفعل كأنه قال: الذي برأ المصوَّر! 6.

وتوجيه القراءات الشاذة لاستنباط غرائب التأويلات من بعض وجوهها كان لونا من الترف العلمي الذي شغف به علماء الإسلام خلال دراساتهم الواسعة المتشعبة لكل ما يتعلق بالقرآن: فكما شغلوا أنفسهم بمعرفة عدد آيات

1 سورة النساء 12 وقراءة حفص ليس فيها "من أم".

2 سورة فاطر 38 "انظر تفسر القرطبي 14/ 344".

3 البرهان 1/ 341.

4 البرهان 1/ 377.

5 الإتقان 1/ 141.

6 البرهان 1/ 341 ولا يخفى ما في هذا التأويل من بعد وتكلف.

ص: 253

القرآن1، وأطول كلمة وأقصرها2، وأكثر ما اجتمع في كتاب الله من الحروف المتحركة3، وما شابه هذه المباحث التي ليس من ورائها فائدة إلا في حالات يسيرة نادرة، آنسوا من أنفسهم ميلا لدراسة القراءات الشاذة توسيع آفاق البحث فقط، وإلا فإنهم يعلمون علم اليقين أن كل قراءة لم تتوافر قرآنيتها لا يجوز لهم ولا لغيرهم تلاوتها في الصلاة ولا سواها، ولا يجب اعتقادها على أحد. قال النووي في "شرح المهذب"4:"لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة لأنها ليست قرآنا، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والقراءة الشاذة ليست متواترة، ومن قال غيره فغالط أو جاهل، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه قراءتها في الصلاة وغيرها، وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ، ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا يجوز القراءة بالشواذ، ولا يصلى خلف من يقرأ بها"5. ولذلك قال الإمام مالك فيمن قرأ في صلاته بقراءة ابن مسعود وغيره من الصحابة مما يخالف المصحف "لم يصل وراءه! "6.

1 انظر ما ينقله الزركشي في "البرهان 1/ 251" عن علي وعطاء وحميد وراشد في تعداد آي القرآن.

2 البرهان 1/ 252 وفي الصفحة نفسها يذكر الزركشي أيضا أطول كلمة في القرآن وأقصرها.

3 البرهان 1/ 254 ويبلغ الغلو بالزركشي أشده حين يستشهد على هذا بقوله تعالى في سورة يوسف: "حَتَّى يَأْذَنَ لِيَ أَبِيَ أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِيَ" على قراءة من حرك الياء في قوله: {لِي} ، و {أَبِي} . ومثل هذا الغلو هو الذي سوغ لنا أن نرى في جميع هذه المباحث ضربا من الترف العلمي.

4 "المهذب" هو كتاب في فروع الفقه الشافعي للفقيه إبراهيم بن محمد الشيرازي المتوفى سنة 476 "كشف الظنون".

5 البرهان 1/ 333.

6 البرهان 1/ 222 والمستشرقون يأبون إلا أن يضخموا فتوى الإمام مالك ويقارنوا بينها وبين فتاوى الحنفية المتساهلين في هذا الموضوع. انظر:

Geschichte des Qorans،lll، 108، 109،:ef، Blachere، Intro، cor.،114، note 152.

والقضية لا تزيد على تشدد العلماء -وفي طليعتهم الإمام مالك- في إثبات القرآنية التي لا تكون إلا بطريق التواتر.

ص: 254

ومن موقف العلماء من قراءة ابن مسعود -على تقواه وورعه وعلمه الغزير- ربما دعا إليه ما شاع عنه من إنكاره المعوذتين والفاتحة من القرآن، وإن كان كثيرون يفسرون تصرفه تفسيرا منطقيا، قال ابن قتيبة في "مشكل القرآن":"ظن ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن، لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين، فأقام على ظنه، ولا نقول: إنه أصاب في ذلك أو أخطأ المهاجرون والأنصار. قال: وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن، -معاذ الله! - ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان، ورأى أن ذلك مأمون في سورة الحمد لقصرها ووجوب تعلمها كل أحد"1.

وقراءة أبي بن كعب تماثل قراءة ابن مسعود في الشذوذ لما ينسب إليه من إثباته دعاء الاستفتاح والقنوت في آخر مصحفه كالسورتين2، "مع أنه لم تقم حجة بأنه قرآن منزل، بل هو ضرب من الدعاء، وأنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن، وحصل العلم بصحته"3.

ولتمييزه القراءات المقبولة من الشاذة وضع العلماء ضابطا للقراءات المقبولة ذا ثلاثة شروط، أحدهما موافقة القراءة لرسم أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا، والثاني موافقتها العربية ولو بوجه، والثالث صحة إسنادها، ولو كان عمن فوق السبعة والعشرة من القراء المشهورين4. وقد آثر ابن الجزري في كتابه "منجد المقرئين" أن يبدل شرط صحة الإسناد في هذا

1 الإتقان 1/ 137-138.

2 البرهان 1/ 251.

3 البرهان 2/ 128 ويرى الباقلاني بصورة عامة "أنه لا يجوز أن يضاف إلى عبد الله أو إلى أبي بن كعب، أو زيد أو عثمان أو علي، أو واحد من ولده أو عترته جحد آية أو حرف من كتاب الله، وتغييره أو قراءته على خلاف الوجه المرسوم في مصحف الجماعة بأخبار الآحاد، أن ذلك لا يحل، ولا يسمع، بل لا تصلح إضافته إلى أدنى المؤمنين في عصرنا، فضلا عن إضافته إلى رجل من الصحابة" انظر البرهان 2/ 127.

4 انظر الإتقان 1/ 129.

ص: 255

الضابط بتواتره، لأن القرآنية لا تثبت إلا بالإسناد المتواتر، فالقراءات الأربع الزائدة على العشر صحيحة الإسناد ولكنها آحادية فليست متواترة، وليست قرآنا يتعبد به ويتلى في الصلاة، وإنما القراءات المتواترة التي تلقتها الأمة بالقبول هي العشر التي أخذها الخلف عن السلف حتى وصلت إلينا، ولا يوجد اليوم قراءة متواترة وراء هذه العشر.

وينقل السيوطي1 عن ابن الجزري أن: أنواع القراءات من حيث السنة ستة:

"الأول المتواتر": وهو ما رواه جمع عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم. مثاله: ما اتفقت الطرق على نقله عن السبعة2. وهذا هو الغالب في القراءات.

"الثاني المشهور": هو ما صح سنده بأن رواه العدل الضابط عن مثله وهكذا، ووافق العربية، ووافق أحد المصاحف العثمانية، سواء أكان عن الأئمة السبعة أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين، واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ، إلا أنه لم يبلغ درجة التواتر، مثاله: ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة، فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض. ومن أشهر ما صنف في هذين النوعين التيسير للداني3، والشاطبية4،

1 عن الإتقان 1/ 132-133 بشيء من التصرف طلبا للاختصار.

2 والجمهور على أن القراءات السبع متواترة "انظر البرهان 1/ 318".

3 كتاب التيسير في القراءات السبع نشره وحققه المستشرق برتزل Pretzel في الآستانة سنة 1930 في المجلد الثاني من "المكتبة الإسلامية" t.ll، Bibliotheca Islamica ويشتمل على مذاهب القراء السبعة بالأمصار؛ وذكر فيه أبو عمرو الداني عن كل واحد من القراء روايتين. وانظر:

Geschichte des Qorans، III، 214، sqq"cf، Blachere، intro،cor.،p.130، note 172".

4 الشاطبية هي المنظومة المنسوبة إلى الإمام أبي محمد القاسم الشاطبي المتوفى سنة 590 نظم فيها كتاب التيسير في 1173 بيتا وسماها "حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع المثاني" انظر كشف الظنون 1/ 646 وانظر:

Krenkow، Encyclopedie de l'Islam. IV، 349 "art ، Schatibi."

ص: 256

وطيبة النشر في القراءات العشر"1.وهذان النوعان هما اللذان يقرأ بهما مع وجوب اعتقادهما ولا يجوز إنكار شيء منهما.

"النوع الثالث": ما صح سنده، وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وهذا النوع لا يقرأ به ولا يجب اعتقاده. من ذلك ما أخرجه الحاكم عن طريق عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ:"مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفَارِفٍ خُضْرٍ وَعَبَاقَرِيٍّ حِسَانٍ"2 ومنه قراءة: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ"3 بفتح الفاء.

"النوع الرابع الشاذ": وهو مالم يصح سنده، كقراءة ابن السميفع:"فَالْيَوْمَ نُنَحِّيكَ بِبَدَنِكَ" بالحاء المهملة "لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَفَكَ آيَةً"4 بفتح اللام من كلمة "خلفك".

"الخامس الموضوع": وهو ما ينسب إلى قائله من غير أصل مثال ذلك القراءات التي جمعها محمد بن جعفر الخزاعي5، ونسبها إلى أبي حنيفة،" كقراءة "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ" برفع اسم الجلالة ونصب العلماء"

"النوع السادس": ما يشبه المدرج من أنواع الحديث: وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير كقراءة سعد ابن أبي وقاص: "وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْت مِنْ أُمٍّ" بزيادة لفظ: "من أم"، وقراءة:"لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ" بزيادة عبارة "في مواسم الحج".

وجدير بالذكر أن قارئ القرآن لا يسمى مقرئا حتى ولو حفظ العشر كلها والأربع عشرة إلا إذا أحكمها بالسماع والمشافهة، فنحن بهذه العجالة تصورنا

1 للإمام الشهير ابن الجزري، و"الطيبة" منظومة طبعت في مجموعة من القراءات مشتملة على سبعة متون في مطبعة شرف سنة 1308، وهي غير كتابه "النشر" الذي طبعه في دمشق محمد أحمد دهمان سنة 1345.

2 سورة الرحمن 76 وقراءة حفص {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} .

3 سورة التوبة 128 وقراءة حفص {مِنْ أَنْفُسِكُم} بضم الفاء.

4 سورة يونس 92 وقراءة حفص {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} .

5 هو الإمام أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي، مؤلف "المنتهى" جمع فيه ما لم يجمعه من قبله، وتوفي سنة 408 "انظر النشر 1/ 34" ويلاحظ أن ابن الجزري يصفه "بالإمام".

ص: 257

حقيقة القراءات وأخذنا فكرة عامة عن القراء ابتغاء الوصول إلى غايتنا الأساسية من فهم النصوص القرآنية التي تقوم دراستنا لها على ما ثبت منها تواتر قرآنيته: فما دام القرآن قد أنزل على سبعة أحرف فنحن ندرسها جميعا في كل قراءة تواترت محتوية على حرف منها، وعمادنا في هذا الأصح في النقل وليس الأقيس في العربية، لأننا نجعل القرآن حكما على قواعد اللغة والنحو، ولا نجعل تلك القواعد حكما على القرآن، فما استمد النحاة قواعدهم إلا من القرآن بالدرجة الأولى، ثم من الحديث وكلام العرب بالدرجة الثانية.

ص: 258