المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: التفسير "نشأته وتطوره - مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح

[صبحي الصالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌مقدمة المؤلف في الطبعة الجديدة:

- ‌مقدمة الكتاب:

- ‌الباب الأول: القرآن والوحي

- ‌الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها

- ‌الفصل الثاني: ظاهرة الوحي

- ‌الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره

- ‌الباب الثاني: تاريخ القرآن

- ‌الفصل الأول: جمع القرآن وكتابته

- ‌مدخل

- ‌جمع القرآن كتابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

- ‌ جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه:

- ‌الفصل الثاني: المصاحف العثمانية في طور التجويد والتحسين

- ‌الفصل الثالث: الأحرف السبعة

- ‌الباب الثالث: علوم القرآن

- ‌الفصل الأول: لمحة تاريخية عن علوم القرآن

- ‌الفصل الثاني: علم أسباب النزول

- ‌الفصل الثالث: علم المكي والمدني

- ‌الفصل الرابع: لمحة خاطفة عن فواتح السور

- ‌الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء

- ‌الفصل السادس: علم الناسح والمنسوخ

- ‌الفصل السابع: علم الرسم القرآني

- ‌الفصل الثامن: علم المحكم والمتشابه

- ‌الباب الرابع: التفسير والإعجاز

- ‌الفصل الأول: التفسير "نشأته وتطوره

- ‌الفصل الثاني: القرآن يفسر بعضه بعضا

- ‌منطوق القرآن ومفهومه:

- ‌عام القرآن وخاصه:

- ‌المجمل والمبين:

- ‌النص والظاهر:

- ‌الفصل الثالث: إعجاز القرآن

- ‌مدخل

- ‌تشبيه القرآن واستعارته:

- ‌المجاز والكناية:

- ‌الفصل الرابع: الإعجاز في نغم القرآن

- ‌خاتمة:

- ‌جريدة المراجع على حروف المعجم:

- ‌ باللغة العربية:

- ‌ باللغات الأجنبية:

- ‌مسرد الأعلام:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الأول: التفسير "نشأته وتطوره

‌الباب الرابع: التفسير والإعجاز

‌الفصل الأول: التفسير "نشأته وتطوره

"

لا ريب أن التفسير مر بأطوار كثيرة حتى اتخذ هذه الصورة التي نجده عليها الآن في بطون المؤلفات والتصانيف، بين مطبوع ومخطوط. ولقد نشأ التفسير مبكرا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول شارح لكتاب الله، بين للناس ما نزل على قبله. أما صحابته الكرام فما كانوا يجرءون على تفسير القرآن وهو عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، يتحمل هذا العبء العظيم، ويؤديه حق الأداء، حتى إذا

لحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى لم يكن بد للصحابة العلماء بكتاب الله، الواقفين على أسراره، المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقوموا بقسطهم في بيان ما علموه، وتوضيح ما فهموه.

والمفسرون من الصحابة كثيرون، إلا أن مشاهيرهم عشرة:"الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، والرواية عن الثلاثة نزرة جدا، وكأن السبب في ذلك تقدم وفاتهم"1.

وأجدر هؤلاء العشرة جميعا بلقب المفسر هو عبد الله بن عباس الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم، ودعا له بقوله: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه

1 الإتقان 2/ 318.

ص: 289

التأويل" 1 وسماه ترجمان القرآن2. ولكن الناس تزيدوا في الرواية عن ابن عباس، وتجرأ بعضهم على الوضع عليه، والدس في كلامه، حتى قال الإمام الشافعي "لم ثيبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث"3.

ومن الذين ورد عنهم شيء من التفسير من الصحابة، غير أولئك العشرة، أبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، والسيدة عائشة أم المؤمنين، إلا أن ما روي عنهم قليل بالنسبة إلى العشرة السابقين.

وتلقى أقوال الصحابة نفر من كرام التابعين في الأمصار الإسلامية المختلفة، فنشأت في مكة طبقة للمفسرين، وفي المدينة طبقة ثانية، وفي العراق ثالثة، قال ابن تيمية:"أعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم، وكذلك أهل الكوفة أصحاب ابن مسعود، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس"4.

وعن التابعين أخذ تابعو التابعين، فجمعوا أقوال من تقدمهم وصنفوا التفاسير، كما فعل سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون، وعبد بن حميد5، فكانوا بذلك إرهاصا لابن جرير الطبري6 الذي يوشك المفسرون جميعا من بعده أن يكونوا عالة عليه. وبعد ذلك اتجه العلماء في تفاسيرهم اتجاهات متباينة، فكان ما يسمى "بالتفسير

1 البرهان 2/ 161.

2 الإتقان 2/ 319.

3 الإتقان 2/ 322.

4 نقل هذه العبارة السيوطي في الإتقان 2/ 323.

5 انظر البرهان 2/ 159.

6 انظر طبقات المفسرين للسيوطي 30-31 وشذرات الذهب 2/ 260-261 وتاريخ بغداد 2/ 162.

ص: 290

بالمأثور"، وهو امتداد للتفاسير السابقة المسندة إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكان ما يسمى "بالتفسير بالرأي" وفيه تعددت المناهج وتضاربت الأفكار فحمد بعضه وذم بعضه، تبعا لقربه من هداية القرآن أو بعده عنها.

أ- وأجل التفاسير بالمأثور هو تفسير ابن جرير الطبري، ويسمى كتابه "جامع البيان، في تفسير القرآن" ومن خصائصه أنه عرض فيه لأقوال الصحابة والتابعين مع تحرير أسانيدها، وترجيح بعضها على بعض، واستنباط الكثير من الأحكام وذكر بعض وجوه الإعراب التي تزيد المعنى وضوحا. غير أنه -اعمادا منه على معرفة الناس حال الأسانيد- كان أحيانا يغفل بعضها، ويذكر منها غير الصحيح دون أن ينبه عليه.

ويقرب من تفسير الطبري، وربما يفوقه في بعض الأمور، تفسير ابن كثير "عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي المتوفى سنة 744"، ومن مزاياه الدقة في الإسناد، وبساطة العبارة، والوضوح في الفكرة. وتبعا لهذا المنهج ألف السيوطي "ت911" كتابه القيم "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" وقد اعتمد فيه -كما يفهم عن عنوانه- على الأخبار الصحيحة المأثورة التي تجعله أقرب إلى الفكرة الإسلامية منه إلى الشروح الإنسانية.

لكن التفسير بالمأثور معرض غالبا للنقد الشديد، لأن الصحيح من الروايات قد اختلط بغير الصحيح، ولزنادقة اليهود والفرس نشاط لا يجهله أحد في الدس على الإسلام وتشويه تعاليمه، ولأصحاب المذاهب والشيع ولوع غريب بجمع معاني القرآن وتنزيلها وفق هواهم، فكان على المفسر بالمأثور أن يدقق في تعبيره، ويحترس في روايته، ويحتاط كثيرا في ذكر الأسانيد.

ب- أما التفسير بالرأي فقد اختلف العلماء حوله، فمن محرم له، ومن مجوز، لكن اختلافهم يؤول في الحقيقة إلى أن المحرم منه هو الجزم بأن مراد الله كذا من غير برهان، أو محاولة تفسير الكتاب الكريم مع جهل المفسر

ص: 291

بقواعد اللغة وأصول الشرع، أو تأييد بعض الأهواء بآيات من القرآن زورا وبهتانا، أما إذا كانت الشروط المطلوبة متوافرة في المفسر فلا مانع من محاولته التفسير بالرأي، بل لعلنا لا نبعد إن قلنا: إن القرآن نفسه يدعو إلى هذا الاجتهاد في تدبر آياته وفقه تعاليه، قال تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1 وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 2.

وقد نقل السيوطي عن الزركشي "في البرهان" خلاصة الشروط التي لا بد منها لإباحة التفسير بالرأي3، فرآها تندرج تحت أربعة:

الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف والموضوع.

الثاني: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.

الثالث: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.

الرابع: الأخذ بما يقتضيه الكلام، ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".

وأشهر التفاسير التي تتوافر فيها هذه الشروط تفسير الرازي4 المسمى "مفاتيح الغيب" وتفسير البيضاوي المسمى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" وتفسير أبي السعود5 المسمى "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" وتفسير النسفي6 المسمى "مدارك التنزيل، وحقائق التأويل" وتفسير

1 سورة محمد 22.

2 سورة ص29.

3 انظر الإتقان 2/ 304 والبرهان 2/ 156-161.

4 هو الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي، توفي سنة 606 "انظر وفيات الأعيان 1/ 474".

5 هو محمد بن محمد بن مصطفى بن أحمد بن الطحاوي. توفي سة 982هـ.

6 هو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي سنة 710.

ص: 292

الخازن1 المسمى "لباب التأويل في معاني التنزيل".

والرازي في تفسيره يسلك مسلك الحكماء الإلهيين في الاستدلالات الكلامية المنطقية، ويعنى ببحث الكونيات عناية خاصة ويقسم الآية أو الآيات التي يكون بصدد تفسيرها إلى عدد من المسائل، ثم يسترسل في تأويلها مدافعا عن عقيدة أهل السنة والجماعة.

والبيضاوي في تفسيره يعنى بتقرير الأدلة على أصول أهل السنة، ولا يفوته التنبيه على قواعد اللغة، إلا أنه ليس بالثبت فيما يرويه من الأحاديث في ختام كل سورة لبيان فضلها، فأكثر مروياته فيها غير صحيح. وله حواش كثيرة أفضلها حاشية الشهاب الخفاجي وهي المتداولة.

أما أبو السعود فمع تقريره الأدلة على عقائد أهل السنة، يعنى بتبيان المباحث المتعلقة بإعجاز القرآن، وأسلوبه في ذلك مشرق، وتذوقه للبلاغة القرآنية سليم.

وأما النسفي فيعنيه بالدرجة الأولى الدفاع عن وجهة نظر أهل السنة والجماعة، والرد على أهل البدع والأهواء، وتفسيره جامع لوجوه الإعراب والقراءات، وفيه إشارات دائمة إلى روائع البلاغة القرآنية، في عبارة موجزة، بل شديدة الإيجاز.

والخازن أخيرا على عنايته بالمأثور، لا يذكر أسانيده، ويعجب العامة كثيرا بتفسيره لما فيه من القصص والإسرائيليات.

والتفسير بالرأي حتى مع استيفائه جميع الشروط التي تجعله محمودا لا مسوغ له إذا عارضه التفسير بالمأثور الذي ثبت لنا بالنص القطعي، لأن الرأي اجتهاد، ولا مجال للاجتهاد في مورد النص، أما إذا لم يكن تعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور فكل منهم يؤيد الآخر ويثبته، وذلك أكثر ما نجده في كتب التفسير، كالأقوال الكثيرة في تفسير قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ

1 الخازن هو علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المتوفى سنة 741.

ص: 293

ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1. فالسابق من رجحت حسناته والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم المرتكب لبعض المحرمات، على رأي، والسابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم كافر النعمة غير الجاحد لها على رأي ثان، والسابق هو الذي تمحض للخير، والمقتصد هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، والظالم هو المرجأ إلى امر الله، على رأي ثالث، وهكذا2، وهي أقوال كما ترى ليس بينها تناف ولا تعارض.

جـ- وتفاسير الفرق الإسلامية المختلفة ترجع -في الحقيقة- إلى التفسير بالرأي، غير أنها تدخل في النوع المذموم منه، لأن أصحابها لم يؤلفوها إلا لتأييد أهوائهم، أو الانتصار لمذاويقهم ومواجيدهم، من ذلك تفاسير المعتزلة والمتصوفة والباطنية.

ويغلب على تفاسير المعتزلة الطابع العقلي، والمذهب الكلامي، تبعا لقاعدتهم المشهورة "الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل"3، ولا ترد النصوص النبوية فيها إلا على أنها شيء ثانوي، نادرا ما يلجئون إليه لشرح معاني الآيات، وخير من يمثل هذه النزعة العقلية في التفسير الزمخشري "محمود بن عمر الملقب بجار الله المتوفى سنة 538هـ" في كتابه "الكشاف" الذي يمتاز بإيراد النكات البلاغية وتحقيق بعض وجوه الإعجاز، بطريق الفنقلة "أي: إن قلت قلت"، وهو إلى ذلك خال من الإسرائيليات التي تكثر في بعض كتب التفسير بالمأثور، وعبارته بليغة موجزة ليس فيها حشو وتطويل.

وإليك نموذجا من تفسيره: قال في بيان قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ

1 سورة فاطر 32.

2 وانظر بقية الأقوال في الإتقان 2/ 306 وفي تفسير ابن كثير 3/ 254-256.

3 في دائرة المعارف الإسلامية بحث لا بأس به عن المعتزلة. انظر:

Encyclop. de l'Islam، art. Mutazila III، 841- 7.

ص: 294

وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 1 فإن قلت: لم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على فعل القبيح.. بدليل {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ، {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} 2 إلخ

ثم أول إسناد الختم إلى الله بأن الكلام استعارة أو مجاز، على معنى أن الشيطان هو الخاتم أو الكافر، وأسند إلى الله تعالى لأنه هو الذي أقدره ومكنه3.

ويغلب على تفاسير المتصوفة الشطحات التي تبعدهم عن النسق القرآني، وتجعل كلامهم غامضًا إلا على المشتغل بالشئون الروحية، الذي تعلم أساليب المتصوفة ومرن عليها.

وأشهر التفاسير التي من هذا النوع التفسير المنسوب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي المتوفى سنة 638، وإن كان كثير من العلماء لا يصححون نسبته إليه.

وإليك نموذجا من هذا التفسير، حول تأويل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} 4 ففيه ما نصه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} أي: حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا، إذ مطلع الآية كونه متجليا بالعلم والحكمة والملك في آل إبراهيم {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ} نار شوق الكمال، لاقتضاء غرائزهم وطبائعهم بحسب استعدادهم ذلك مع رسوخ الحجاب ولزومه، أو نار قهر من تجليات صفات قهره تناسب أحوالهم، أو نار شره نفوسهم وحدة شوقها وطلبها لما ضريت به من كمالات صفاتها وشهواتها مع حرمانها منها {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} رفعت حجبهم الجسمانية

1 سورة البقرة 7.

2 تفسير الكشاف 1/ 26-27.

3 الكشاف 1/ 28. وتفسير محمد بن بحر الأصفهاني "المتوفى سنة 322هـ" المسمى "جامع التأويل لمحكم التنزيل" على مذهب المعتزلة أيضا. وهو يقع -كما يقول ابن النديم- في أربعة عشر مجلدا. إلا أن المطبوع أقواله الموجودة في تفسير الرازي، وقد جمعها سعيد الأنصاري وطبعها في كلكتا سنة 1340هـ.

4 سورة النساء 55.

ص: 295

بانسلاخهم عنه {بَدَّلْنَاهُمْ} حجبا غيرها جديدة {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} نيران الحرمان {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا} قويا يقهرهم ويذلهم بذل صفات نفوسهم، ويحرقهم بنيران توقانها إلى كمالاتهم مع حرمانهم أبدا {حَكِيمًا} يجازيهم بما يناسبهم من العذاب الذي اختاروه لأنفسهم بدواعيهم الغضبية والسهوية وغيرها، وميولهم إلا الملاذ الجسمانية، فلذلك بدلوا حجبا ظلمانية بعد حجب"1.

فالتذوق الجداني القائم على ضرب من الحدس النفسي هو الذي يسود هذه الشروح. ولذلك تكثر فيه العبارات الغامضة التي ليس وراءها طائل. والدين لا يؤخذ من ذوق المتذوقين، ولا وجد المتواجدين.

ويقرب من تفسير المتصوفة ما يسمى بالتفسير الإشاري، وهو الذي تؤول به الآيات على غير ظاهرها مع محاولة الجمع بين الظاهر والخفي. من ذلك تفسير الآلوسي "المتوفى سنة 1270هت" ويسمى "روح المعاني" فبعد أن يورد فيه مؤلفه تفسير الآيات حسب الظاهر، يشير إلى بعض المعاني الخفية التي تستنبط بطريق الرمز والإشارة، كقوله في تفسير الآية:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2: وإذ أخذنا ميثاقكم المأخوذ بدلائل العقل، بتوحيد الأفعال والصفات، ورفعنا فوقكم طور الدماغ، للتمكن من فهم المعاني وقولها. أو أشار سبحانه بالطور إلى موسى القلب، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد، وقلنا:"خذوا" أي: اقبلو "ما آتيناكم" من كتاب العقل الفرقاني بجد، وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق، ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك. فولا حكمة الله بإمهاله، وحكمه بإفضاله، لعاجلكم بالعقوبة، ولحل

1 تفسير الشيخ الأكبر، 1/ 152، وقد طبع هذا الكتاب في مجلدين في بولاق سنة 1283هـ و1865م.

2 سورة البقرة 63.

ص: 296

بكم عظيم المصبية"1.

أما تفاسير الباطنية الذين يقتصرون على الأخذ بباطن القرآن ويهملون ظاهره، مستدلين بقوله تعالى:{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} 2 فيسل فيها إلا التأويلات الفاسدة المخالفة لأصول الشرع وقواعد اللغة، وتفاسير الباطنية أشد بعدا عن النسق القرآني من تفاسير التصوف والتفاسير الإشارية، وإن كانت تشترك جميعا في مخالفة ظاهر القرآن واستلهام معان ما أنزل الله بها من سلطان.

د- هذا وإننا نضطر أحيانا للرجوع إلى نوع معين من التفاسير: فإذا كنا نبحث عن النكات البلاغية رجعنا إلى الزمخشري، وإذا التمسنا المباحث الكلامية رجعنا إلى الرازي، وإذا أردنا إعراب القرآن فعلينا بالبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي "المتوفى سنة 745" ففيه كثير من المباحث النحوية، والمسائل المتعلقة بالقراءات، ولم نجد فيه ما نسلكه به في عداد التفسير بالرأي، كما أنه لا يعنى بالنصوص النبوية إلا قليلا، فليس من باب التفسير بالمأثور.

هـ- وقد ألفت في القرن الأخير تفاسير لبعض العلماء المعاصرين فيها محاولات للتجديد، وأقلها نصيبا من النجاح -بلا ريب- "الجواهر في تفسير القرآن" لطنطاوي جوهري، فإن في تفسيره كل شيء ما عدا التفسير. أما تفسير المنار للسيد محمد رشيد رضا فإنه نمط خاص في تأويل كلام الله، يرجع به مؤلفه غالبا إلى آثار السلف محاولا التوفيق بينها وبين مقتضيات العصر الحاضر، ويحالفه النجاح في أكثر هذه المحاولات، إلا أنه أحيانا يستمسك ببعض الآراء الضعيفة ويدافع عنها بقوة وعناد، والمنهج الذي يصدر عنه يدل -بوجه عام- على تعمقه للأسلوب القرآني، ودراسته له على أنه للهداية والإعجاز. ولسيد قطب في تفسيره "ظلال القرآن" لمحات موفقة في فهم أسلوب القرآن في التعبير والتصوير، إلا أن الغرض الأول منه تبسيط المبادئ

1 روح المعاني 1/ 282.

2 سورة الحديد 13.

ص: 297

القرآنية للنشء، فهو إلى التوجيه أقرب منه إلى التعليم.

والتفسير بالمأثور إذا اجتمع إليه حسن الاستنباط، وسعة الثقافة، والمقدرة على الترجيح هو أولى التفاسير بالاعتبار، ونحن مع ذلك لا ننصح بالاقتصار عليه، فلا بد لنا لتأويل الآية أو الآيات من الرجوع إلى مختلف التفاسير، ثم نحاول أن نختار لأنفسنا أصلح الآراء فيها، إلا أن يثبت لنا على وجه القطع أثر صحيح في الموضوع فنأخذ به ونطرح ما عداه، إذ لا مسوغ للاجتهاد في مورد النص.

ص: 298