الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: لمحة خاطفة عن فواتح السور
من خصائص السور المكية -كما رأينا- حروف التهجي يفتتح الله بها مواضع من كتابه. وأهمية هذه الفواتح تحملنا على دراستها في بحث خاص نحاول أن نصل فيه إلى الحكمة من وجودها.
إن في القرآن صيغا مختلفة من هذه الفواتح، فمنها البسيط المؤلف من حرف واحد، وذلك في سور ثلاث: صاد وقاف والقلم "س 38، 50، 68" إذ تفتتح الأولى بحرف ص، والثانية بحرف ق، والثالثة بحرف ن، ومن هذه الفواتح عشر مؤلفة من حرفين سبع منها متماثلة تسمى "الحواميم" لأن أوائل السور المفتتحة بها هي {حم} وذلك ابتداء من سورة "40" حتى "46"1 والسورة الثانية والأربعون منها خاصة مضموم إلى حم فيها {عسق} وتتمة العشر {طه} في السورة العشرين، {طس} ، في السورة السابعة والعشرين {يس} في السورة الثامنة والثلاثين. أما الفواتح المؤلفة من ثلاثة أحراف فيجدها القارئ في ثلاث عشرة سورة، ست منها على هذا التركيب {الم} وهي في السور "2، 3، 29، 30، 31، 32"2.وخمس منها بلفظ {الر} في مستهل كل من سور يونس وهود ويوسف وإبراهيم
1 سورة فاطر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
2 البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة.
والحجر "س10، 11، 12، 14، 15" واثنتان منها تأليفهما هكذا {طسم} في السورتين السادسة والعشرين والثامنة والعشرين1. بقي أن ثمة سورتين مفتتحتين بأربعة أحرف، إحداهما سورة الأعراف التي أولها {المص} والأخرى سورة الرعد التي في مستهلها {المر} . وتكون سورة مريم أخيرا السورة الوحيدة المفتتحة بخمسة حروف مقطعة {كهيعص} .
يتضح من هذا العرض المفصل أن مجموعة الفواتح القرآنية تسع وعشرون، وأنها على ثلاثة عشر شكلا، وأن أكثر الأحرف ورودا فيها الألف واللام، ثم الميم ثم الحاء، ثم الراء ثم السين، ثم الطاء، ثم الصاد، ثم الهاء والياء، والعين والقاف، وأخيرًا الكاف والنون، وجميع هذه الحروف الواردة في الفواتح من غير تكرار يساوي أربعة عشر، وهي نصف الحروف الهجائية، وبذلك يستأنس المفسرون القائلون: إن فواتح السور إنما ذكرت في القرآن لتدل على أن هذا الكتاب الكريم مؤلف من حروف التهجي المعروفة فجاء بعضها مقطعا منفردا، وجاء تمامها مؤلفا مجتمعا، ليتبين للعرب أن القرآن نزل بالحروف التي يعرفونها فيكون ذلك تقريعا لهم ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله2. وقد أسهب في بيان هذا الرأي من المفسرين الزمخشري، وتبعه اليضاوي3، كما انتصر لذلك ابن تيمية4، وتلميذه الحافظ المزي5.
1 الشعراء. القصص.
2 الكشاف 1/ 16.
3 هو الإمام المفسر ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي صاحب التفسير المشهور المتوفى سنة 685هـ. وسيرد ذكره في مبحث التفسير.
4 هو الإمام المجدد تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي، صاحب التآليف الكثيرة المفيدة. توفي سنة 728. وقد وضع المستشرق الفرنسي هنري لاوست كتابا قيما في سيرة ابن تيمية وعقائده الاجتماعية
والسياسية.
Henri Laoust، Essai sur les doctrines socilales et politiques d' Ibn Taimiya، le caire 1939.
5 هو يوسف بن عبد الرحمن، أبو الحجاج، وهو مشهور بالمزي "بكسر الميم وتشديد الزاي المكسورة" نسبة إلى المزة قرية بدمشق، توفي سنة 742 بداء الحديث الأشرفية من دمشق "الرسالة المستطرفة، ص126". وفيما يتعلق بانتصار ابن تيمية والمزي لهذا الرأي انظر تفسير ابن كثير 1/ 38.
ولاحظ أصحاب هذا الرأي -وهم في أوج حماستهم لفكرتهم هذه- أن تحدي القرآن للعرب أن يأتوا بمثله يزداد وضوحا، ويكتسب قوة، بظاهرة غريبة حقا نعجب لدراستهم لها والتفاتهم إليها. لم يكتف القرآن باشتماله على فواتح مختلفة يبلغ تعدادها تمام حروف الهجاء، ولا بتأليفه تلك الفواتح من نصف الحروف الهجائية، بل حوى فوق ذلك من كل جنس من الحروف نصفه، فمن حروف الحلق1، الحاء والعين والهاء، ومن المهموسة2 السين والحاء والكاف والصاد والهاء، ومن المجهورة الهمزة والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون، ومن الحرفين الشفهيين الميم، ومن القلقلة القاف والطاء.. إلخ3، ثم إن هذه الحروف ذكرت تارة مفردة، وتارة حرفين حرفين، وطورا ثلاثة ثلاثة، وأحيانا أربعة وخمسة، لأن تراكيب الكلام على هذا النمط ولا زيادة على الخمسة.
وإذا كنا اليوم -بعقلية القرن العشرين- لا نرى في هذا الأمر أكثر من مصادفة فما كان ليخطر على بال السلف الصالح إلا أن الفواتح نظمت في القرآن على هذا النمط منذ الأزل، لتحتوي على كل ما من شأنه إعجاز البشر عن الإيتان بمثل هذا الكتاب العزيز ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وإن الاعتقاد بأزلية هذه الأحرف قد أحاطها بجو من التورع عن تفسيرها والتخوف من إبداء رأي صريح فيها، فهي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلى الله، وهي -كما قال الشعبي:"سر هذا القرآن4". وفي هذا المعنى قول علي بن أبي طالب: "إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي" وقول أبي بكر الصديق: "في كل كتاب سر، وسره في القرآن أوائل السور"، ونقل أهل الأثر عن ابن مسعود والخلفاء الراشدين
1 أحرف الحلق ستة: الهمزة ولهاء والعين والحاء والغين والخاء.
2 المهموسة عشرة يجمعها قولك: "فحثه شخص سكت" والباقية مجهورة.
3 وقد أطال الزمخشري في بيان ذلك "الكشاف 1/ 17" وانظر البرهان 1/ 165-166.
4 الإتقان 2/ 13.
"أن هذه الحروف علم مستور وسر محجوب استأثر الله به"1. حتى الذين خاضوا في معنى هذه الفواتح لم يدلوا فيها برأي قاطع، بل شرحوا وجهة نظرهم فيها مفوضين تأويلها الحقيقي إلى الله. وأزلية هذه الأحرف ما انفكت -على سائر الأقوال- تحيطها بالسرية، وسريتها تحيطها بالتفسيرات الباطنية، وتفسيراتها الباطنية تخلع عليها ثوبا من الغموض لا داعي إليه، ولا معول عليه.
وأدخل تلك الآراء في معنى الغموض قول من عد هذه الحروف على حساب "الجمل" ليستنبط منها مدة بقاء الأمة الإسلامية، أو التنبيه على كرامة شخص أو شيعة معينة.
فها هو ذا السهيلي يقول: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى بقاء هذه الأمة، وها هو ذا الخويبي2 يروي أن بعض الأئمة استخرج من قوله تعالى:{الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} أن بيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاثة وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قال3. ويروي العز بن عبد السلام أن عليا رضي الله عنه استخرج واقعة معاوية من {حم عسق} 4 ورأى بعض الشيعة في مجموعة هذه الفواتح إذا حذف المكرر فيها ما يفيد أن "صراط علي حق نمسكه" فيرد عليهم بعض السنين الظرفاء بخطاب مستنبط من الفواتح نفسها بحروفها ذاتها غير المكررة "صح طريقك مع السنة"5. وهذا النوع من الاستخراج الحسابي يعرف باسم "عد أبي جاد" وقد شدد العلماء في إنكاره والزجر عنه، وابن حجر العسقلاني6
1 انطر تفسير المنار 8/ 302.
2 كذا في الإتقان 2/ 16 ولعله أن يكون "الخويي" بضم الخاء وفتح الواو وتشديد الياء، وهو الفقيه المناظر أحمد بن خليل بن سعادة، صاحب الإمام فخر الدين الرازي، توفي سنة 637 "شذرات الذهب 5/ 183".
3 الإتقان 2/ 16.
4 الإتقان 2/ 16.
5 انظر تفسير الألوسي 1/ 104.
6 ابن حجر العسقلاني هو أحمد بن علي بن محمد بن علي، شهاب الدين أبو الفضل، من أئمة الحديث وحفاظه، وقد سبقت ترجمته.
يعتبره "باطلا لا يجوز الاعتماد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه الزجر عن عد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة"1.
ولا ريب أن للصوفية في مجال هذه التفسيرات الباطنية آراء أبعد شطحا، وأغرب لفظا، وأغمض معنى. ولا نرى أدل على ذلك من قول الشيخ محي الدين بن عربي "في الفتوحات المكية" ما خلاصته2 "اعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة، فجعلها الله تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة، وهو كمال الصورة، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ، والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك، وهو علة وجوده وهو سورة آل عمران {الم، اللَّهُ} ولولا ذلك لما ثبتت الثمانية والعشرون، وجملتها -على تكرار الحروف- ثمانية وسبعون حرفا، فالثمانية حقيقة البضع، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون" ، وهذه الحروف ثمانية وسبعون، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها
…
إلخ"، إلى أن يقول في موضع آخر: "ثم جعل سبحانه وتعالى هذه
الحروف على مراتب، منها موصول ومنها مقطوع، ومنها منفرد ومثنى ومجموع، ثم نبه أن في كل وصل قطعا، وليس في كل قطع وصل، فكل وصل يدل على فصل، وليس كل فصل يدل على وصل، والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع، والفصل وحده في عين الفرق، فما أفرده من هذا فإشارة إلى فناء رسم العبد أزلا، وما أثبته فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا، وما جمعه فإشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى، والإفراد للبحر الأزلي، والجمع للبحر الأبدي، والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني، والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيدي، والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد، واللام بينهما واسطة ليكون
1 الإتقان 2/ 16.
2 نقلا عن تفسير الألوسي 1/ 101. وابن عربي هو محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي أبو بكر، الملقب بالشيخ الأكبر له نحو أربعمائة كتاب أشهرها "الفتوحات المكية" توفي سنة 638 "انظر فوات الوفيات 2/ 241".
بينهما رابطة
…
إلخ"1.
هذه الشطحات الصوفية تنبئ عن رأي أصحابها خاصة، لأنها تعتمد على أذواقهم ومواجيدهم، وتستمد سريتها من مصطلحاتهم وأسرارهم، فلا يمكن إذن إن تعطي صورة صادقة عن التفسير الإسلامي المعتمد لفواتح السور.
وفي دائرة هذا اللبس والغموض قال قوم لا يستخدمون اصطلاحات المتصوفين، ولا يدينون بعد أبي جاد ولا سواه من الحاسبين: إن هذه الفواتح حروف مقطعة، كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى، أو يكتفي به عن كلمة تؤلف مع سواها جملا يتصل معناها بما بعدها أو يشير إلى الغرض من السورة المفتتحة بها. من ذلك قول ابن عباس في {كهيعص} : الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق2، وقوله في {الر} : أنا الله أرى3، وفي {المص} : أنا الله أفصل4، ورأى من ذهب إلى أن {طسم} تعني طور سيناء وموسى، لأن السورتين اللتين تفتتحان بهذه الحروف تقصان خبر صاحب التوراة عليه السلام في طور سيناء5.
ولا يخفى على أحد ما في هذه الآراء كلها من التخرصات والظنون: فقد قيل في كل مما ذكرنا أقوال مختلفة يذهب فيها الباحثون مذاهب شتى. روي عن ابن عباس نفسه في {كهعيص} : كاف هاد أمين عالم صادق، وروي
1 عن تفسير الألوسي 1/ 102.
2 الإتقان 2/ 13.
3 البرهان 1/ 174.
4 انظر تفسير الطبري 4/ 177.
5 وقد أخذ بهذا الاحتمال المستشرق بوير. انظر:
Bauer، uber die Amordung der Suren und uber di geheimnisvollen Buchstaben in Qoran، in "Zeitschrift der Deutschen Morgenlandischen gesellschaft". LXXV، Leipzig، 1921p. 19.
ومن ذلك أن بوير يرى أيضا: "ibid.، p. 20" أن {حم} تعني: جهنم، لأن الحاء تلتبس مع الجيم في الرسم العربي! وهم إذ يورد هذه الاحتمالات يعترف بأنها تخرصات وظنون.
عنه: الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور، وروي عنه فيها أيضا: كبير هاد أمين عزيز صادق1. وقال سواه في هذه الفاتحة ذاتها أقولا تشبه أقواله المتعددة تارة، وتخالفها في زيادة ونقص تارة أخرى. وحكى الكرماني2 "في عجائبه" أن الضحاك يرى أن معنى {الر} : أنا الله أعلم وأرفع3، على حين يضم إليها ابن عباس حم ون فتصير في رأيه حروف {الرحمن} مفرقة على سور مختلفة4. أما {المص} فتارة يروي أن معناها: أنا الله الصادق، وتارة تدل على اسم الله "المصور"، وأحيانا تومئ إلى ثلاثة أسماء مختلفة، فالألف من الله، والميم من الرحمن، والصاد من الصمد5. وغرب من هذا كله أن مستشرقا كبيرا كشبرنجر "Sprenger" اقترح حين لم يشف غليله ما قيل في {طسم} أن يعكس هذه الصيغة ويرى فيها الأحرف البارزة الغالبة في قوله تعالى:{لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون} فالطاء هي الحرف البارز في {الْمُطَهَّرُون} والسين والميم أقوى ما في {يَمَسُّهُ} . ويذكر المستشرق بلاشير في كتابه "المدخل إلى دراسة القرآن" أن المستشرق لوث Loth على حذره قد تابع شبرنجر على رأيه العقيم6.
ومن المؤكد أن مثل هذه التخرصات في تفسير أوائل السور لا تتناهى ولا تقف عند حد، وما هي إلا تأويلات شخصية مردها هوى كل مفسر وميله.
1 انظر هذه الأقوال المختلفة في "الإتقان 2/ 14" وتعقيب المستشرق شفالي عليها في Geschichte des Qorans، II، 71.
2 هو أبو القاسم برهان الدين محمود بن حمزة بن نصر الكرماني الشافعي، ويلقب تاج القراء، توفي بعد سنة 500هـ "انظر ترجمته في بغية الوعاة ص113".
3 الإتقان 2/ 13.
4 تفسير الطبري 11/ 57 "وانظر الإتقان 2/ 13".
5 انظر هذه الأقوال في الإتقان 2/ 14.
6 انظر: Loth "O"، Tabari's Korans commentar، in "Zeitschrift der Deutschen
…
etc" XXXV، p. 609"cf، Balch Intro، Cro،.p 148، note 200".
فلماذا تكون القاف مثلا الحرف الأول من اسم الله القاهرة، لا من اسمه القدوس أو القدير أو القوي؟ ولماذ تدل العين على العليم لا على العزيز، والنون على النور لا على الناصر، والصاد على الصادق لا على الصمد؟ ومن أين لنا أن {الم} هي الأحرف البارزة في "الرحمن" لا في "الرحيم" ولا في قولهم المشهور "اللهم"1؟
وقال قوم -من غير أن يلجئوا في الفواتح إلى أخذ كل حرف منها من اسم من أسماء الله: إنها برمتها وعلى اختلاف صيغها اسم الله الأعظم2، عبر عنه تعبيرات مختلفة تباين ما عهدناه في تأليف كلامنا، وقد نقل هذا الرأي ابن عطية3، وقريب من هذا الاتجاه الرأي القائل: إن أوائل السور قسم أقسم الله فيه بنفسه4، لأن كل فاتحة منه اسم من أسماء الله، ولا يبعد عن هذا التأويل اعتبار هذه الحروف أسماء علمية للقرآن بوجه عام، أو لبعض سور القرآن المفتتحة بها بوجه خاص5.
لكن أغرب ما في هذا الباب، وأبعده عن الحق والصواب، ما ذهب إليه المستشرق الألماني نولدكه "Noldeke" في رأيه الأول الذي عدل عنه فيما بعد من الحكم بأن أوائل السور دخيلة على نص القرآن: ففي الطبعة الأولى لكتابه عن تاريخ القرآن بالاشتراك مع شفالي "Schwally" تظهر -لأول مرة في تاريخ الدراسات القرآنية- نظرية لا ترى في أوائل السور إلا حروفا أولى
1 ومثل هذا الاستغراب يبديه القاضي الباقلاني من نظائر هذه التأويلات الشخصية التعسفية "انظر تفسير الرازي 4/ 177" وكيف لا نستغرب -مع القاضي الباقلاني- ما قيل من أن {طه} مثلا معناه "يا بدر" لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة، فذلك أربع عشرة إشارة إلى البدر لأنه يتم فيها "الإتقان 2/ 18"!؟
2 تفسير ابن كثير 1/ 36 "وانظر الإتقان 2/ 15".
3 كما في الإتقان 2/ 152 وابن عطية هو الإمام عبد الحق بن غالب بن عبد الرءوف، وله تفسير يسمى "المحرر الجيز" منه مخطوطة في دار الكتب بالقاهرة برقم 168 تفسير. وقد توفي ابن عطية بمدينة لورقة سنة 546.
4 الإتقان 2/ 15.
5 انظر تفسير الطبري 1/ 67 وتفسير ابن كثير 1/ 36.
أو أخيرة مأخوذة من أسماء بعض الصحابة الذين كانت عندهم نسخ من سور قرآنية معينة، فالسين من سعد بن أبي وقاص، والميم من المغيرة، والنون من عثمان بن عفان، والهاء من أبي هريرة وهكذا1، ويبدو أن نولدكه شعر بخطأ نظريته فرجع عنها، وأن شفالي أهملها وأغفل ذكرها فيما بعد في الطبعة الثانية، لكن المتشرقين بهل Buhl 2 وهرشفيلد Hirschfeld3 وقد تحمسا لهما من جديد وتبنياها، غافلين عن مدى بعدها عن المنطق السليم.
وحسبنا أن المستشرق بلاشير يظهر تفاوت هذه النظرية بما لا يدع مجالا لتقبلها واحترامها. فهو يستبعد مع لوث Loth ومع بوير Bauer من بعده أن يدخل المؤمنون الذين ذكرت أسماؤهم آنفا -وهم من هم ورعا وتقى- عناصر غير قرآنية في الكتاب المنزل الذي لا يزيد عليه ما ليس منه إلا ضعيف الإيمان، قليل اليقين. ويرى بلاشير فوق ذلك:"أنه ليس من المعقول بحال من الأحوال أن يحتفظ أصحاب المصاحف المختلفة في نسخهم ذاتها بالحروف الأولى من أسماء معاصريهم، إن علموا أنه لا يقصد بها إلا ذلك. ويضاف إلى هذه الملاحظة القيمة أننا لا نكاد نجد مسوغا لحرص أبي أو علي أو ابن مسعود على أن يحتفظوا في مصاحفهم بالحروف الأولى من أسماء أشخاض كانوا ينافسونهم في استنساخ القرآن وجمعه"4.
وينتهي الأستاذ بلاشير إلى ضرورة الرجوع إلى النظرية الإسلامية نفسها، باستخراج مختلف الآراء وتمحيصها ومقابلة بعضها ببعض، على أنه تعمد إغفال بعض الأقوال التي لا تزيد في نظره على لغو وعبث، وأعلن بوضوح "أن المسلمين الأتقياء الذين كانوا يرون من العبث كل محاولة لاختراق أسرار هذه
1 Geschichte des qorans، Iere ed،. p. 215.
2 Cf. Blach.، Intro. cor.، p. 148.
Hirschfeld، New Rescearches into the composition and Exegesis of the Qoran، Asiatic Monographs، t، III: London 1902 p. 142.
4 le coran، introduction، p. 148.
الفواتح القرآنية، أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أنهم وحدهم العقلاء الحكماء"1.
وعندي أن ثمة قوما
لا يقلون عن هؤلاء تعقلا وحكمة، قوما أحبوا أن يدخلوا البيوت من أبوابها وأن يكونوا أصرح رأيا وأوضح تفسيرا في بيان الغرض من أوائل السور: وقد مرت فكرتهم بأطوار ثلاثة حتى استحالت رأيا نضيجا عميقا.
لاحظوا أن بعض السور القرآنية تفتتح بهذه الحروف كما تفتتح القصائد بلا وبل فلم يزيدوا في بادئ الأمر على أن يسموا هذه الحروف فواتح، وأن يعتبروها -في الواقع نفسه- مجرد فواتح وضعها الله لقرآنه، وله أن يضع ما يشاء، كما وضع العرب فواتح لقصائدهم، وقد قال بهذا مجاهد من كبار التابعين2. وانتقلت هذه الفكرة إلى مجال أوضح وأوسع حين أصبحت هذه الفواتح في نظر بعضهم تنبيهات أو أدوات تنبيه "لم تستعمل فيها الكلمات المشهورة كألا وأما الاستفتاحيتين لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ في قرع السمع3. والخويبي 4 الذي يقرر هذا المعنى يجعل التنبيه للنبي الذي يجوز "أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كونه صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولا، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله الم والر وحم ليسمع النبي صوت جبريل، فيقبل عليه ويصغي إليه"5.
لكن الإمام السيد رشيد رضا صاحب تفسير المنار المشهور يستبعد جعل التنبيه للنبي لأنه عليه الصلاة والسلام "كانت يتنبه وتغلب الروحانية على طبعه الشريف
1 Id. ibid.، 149
2 الإتقان 2/ 15.
3 الإتقان2/ 17.
4 كذا في الإتقان 2/ 17 وفي تفسير المنار "8/ 302" نقلا عن "شرح الإحياء" أن قائل هذا هو الحربي، وقد سبق أن ذكرنا احتمال كونه "الخويي" والتصحيف في مثل هذا كثير.
5 الإتقان 2/ 17.
بمجرد نزول الروح الأمين عليه ودنوه منه، كما يعلم مما ورد في نزول الوحي من الأحاديث الصحيحة، ولا يظهر فيه وجه تخصيص بعض السور بالتنبيه"1. ويرى السيد رشيد بعد ذلك "أن التنبيه إنما كان أولا وبالذات للمشركين في مكة ثم لأهل الكتاب في المدينة". ولم يكن يعلم بادئ الامر أن له سلفا في هذا التأويل، ثم وجده في القول الثاني عشر من التفسير الكبير للإمام الرازي الذي ينقل عن ابن روق2 وقطرب3، "أن الكفار لما قالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون سببا لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن فأنزل الله عليهم هذه الحروف: فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن، فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم"4، وقد أشار إلى هذا المعنى إشارة عابرة الزركشي في البرهان5 والسيوطي في الإتقان6 وكل من ابن جرير7 وابن كثير8 في تفسيريهما.
ويبقى السيد رشيد رضا في نظرنا خير من أوضح الغرض من افتتاح بعض السور القرآنية بهذه الحروف المقطعة. ونحن لذلك نقول معه مستعيرين عباراته بنصها: "من حسن البيان وبلاغة التعبير، التي غايتها إفهام المراد مع الإقناع والتأثير، أن ينبه المتكلم المخاطب إلى مهمات كلامه والمقاصد الأولى بها،
1 تفسير المنار 8/ 303.
2 هو محمد بن الحسن بن عبد الله بن روق الراسبي الروقي المحدث. توفي سنة 168.
3 قطرب هو محمد بن المستنير، من علماء اللغة المشهورين، كان على مذهب أهل البصرة، توفي سنة 206.
4 تفسير المنار 8/ 302.
5 البرهان 1/ 175.
6 الإتقان 2/ 17.
7 تفسير الطبري 1/ 69.
8 تفسير ابن كثير 1/ 37.
ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها، ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها.
وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح، فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان، ويجب أن يكون الإمام المقتدى، كما أنه هو الإمام في الإصلاح والهدى؟ ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صحية التخويف والزجر، أو غنة الاسترحام والعطف، أو رنة النعي وإثارة الحزن، أو نغمة التشويق والشجو، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع، أو صخب التهويش وقت الجدل. ومنه الاستعانة بالإشارات وتصوير المعاني بالحركات، ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها..إلخ"1.
وإن انطباق هذه الحكمة على الواقع النفسي لمن كان القرآن موجها إليهم حين نزول الوحي، لا يزيدنا إلا استمساكا بهذا الرأي. ولأمر ما افتتحت جميع السور التي في أولها حروف مقطعة بذكر الكتاب أو معان تتعلق بالوحي والنبوة2. ومن المعلوم أن هذه السور كلها مكية إلا البقرة وآل عمران. فأما المكية فلدعوة المشركين إلى إثبات النبوة والوحي، وأما الزهراوان المدنيتان فلمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن3. وكانت تلك الفواتح كفيلة بتنبيه هؤلاء وأولئك إلى ما كان يلقى عليهم حتى لا يفوتهم شيء.
وما تنفك هذه الفواتح من عوامل الاستغراب، ولا يخلق الاستغراب إلا الاهتمام، ولا يثير الاهتمام إلا التنبيه، ولن ينبه الناس ويقرع أسماعهم صوت أحل وقعا من هذه الحروف المقطعة الأزلية التي همستها السماء في أذن الأرض!
1 تفسير المنار 8/ 299.
2 وهذا ينطبق حتى على سور مريم، والعنكبوت، والروم، ون، لأنها -وإن لم تفتتح بذكر الكتاب- قد اشتملت على معان تتعلق بإثبات الوحي والنبوة. وانظر تفصيل ذلك في تفسير المنار 8/ 296-298.
وقد نبه إلى ذلك الإمام الزركشي في "البرهان 1/ 170" فقال: "واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذ الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ} [سورة البقرة: 1، 2] ، وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم، فيسأل عن ذلك".
3 ويزداد هذا الرأي وضوحا إذا سلمنا بأن الزهراوين كانتا من أولائل السور نزولا في المدينة كما هو المشهور، وبنزولهما مفتتحتين بهذه الحروف المقطعة تمت الحكمة الإلهية من تنبيه اليهود إلى الدعوة الجدية وإثارة اهتمامهم بها، فلم يعد في استمرار الافتتاح بتلك الحروف بعد الزهراوين حكمة ظاهرة باهرة، ولذلك نزل لوحي بعدهما خاليا من تلك الفواتح، فلا ضرورة للتسليم بصحة الاعتراض الذي وجهه ابن كثير في تفسير "1/ 37-38" إلى هذا القول بسب مدنية البقرة وآل عمران وكونهما ليستا خطابا للمشركين: لأن الحكمة من تخصيص الزهراوين بهذه الفواتح تكون -على ما بيناه- بالغة دامغة.