الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: علم الناسح والمنسوخ
…
الفصل السادس: علم الناسخ والمنسوخ
في فصل "تنجيم القرآن وأسراره" رأينا أن الوحي لم يفاجئ المؤمنين بالتشريع، بل نزل نجوما على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، يتدرج مع الأحداث والوقائع، وأن هذا التدرج تناول العادات الشعورية والتقاليد الاجتماعية التي آثر الإسلام أن يقف منها موقف المتمهل المتريث مؤمنا بأن البطء مع التنظيم خير من العجلة مع الفوضى.
ولدى تقصينا المراحل المتعاقبة في مكي القرآن ومدنيه، كانت حاجتنا ماسة إلى علم قرآني يلقي الضوء ساطعا على هذه الخطوات، ويعين على تتبعها ورسمها بدقة بالغة: وهو علم الناسخ والمنسوخ الذي يمكننا أن نعده ضربا من ضروب التدرج في نزول الوحي، فمعرفتنا بما صح من وجوهه تيسر علينا تعيين السابق والمسبوق من النوازل القرآنية، وتظهرنا على جانب من حكمة الله في تربية الخلق، وتقفنا على مصدر القرآن الحقيقي: وهو الله رب العالمين، لأنه يمحو ما يشاء ويثبت، ويرفع حكما ويبدل آخر، من غير أن يكون لأحد من خلقه عمل في ذلك ولا شأن، حتى ولا خاتم النبيين نفسه.
ولقد طال جدل العلماء في تعريف النسخ اصطلاحا، لما توحي به هذه اللفظة من اشتراك لغوي في معانيها، فالنسخ يأتي بمعنى الإزالة، ومنه قوله
تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} 1، ويأتي بمعنى التبديل كقوله:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} 2، وبمعنى التحويل كتناسخ المورايث3، ويأتي أخيرا بمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه:"نسخت الكتاب" إذا نقلت ما فيه حاكيا للفظه وخطه4. وقد أنكر بعض العلماء هذا الوجه الأخير، محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ، وإنما يأتي بلفظ آخر5. لكن السعدي6 احتج لمن أخذ به بقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 7 مع قوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} 8، وما أم الكتاب -في نظر السعدي- إلا اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون الذي {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} 9، فقد أتى ناسخ القرآن فيه بلفظ المنسوخ فيما نزل من الوحي نجوما من أم الكتاب10.
ومنشأ الجدل في تعريف النسخ يرتد إلى ما بين تحديد الكلمة لغة وتحديدها اصطلاحا من ارتباط لا بد أن يلحظ، لئلا يكون استخدام القرآن مثل هذه اللفظة في قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 11 جاريا على غير أسلوب العرب في التعبير عن قضية لها في الإسلام خطر كبير.
1 سورة الحج 52. ومنه قولهم: نسخت الشمس الظل، ونسخ الشيب الشباب. "انظر أساس البلاغة 454". وقارن بالبرهان 2/ 29.
2 سورة النحل 101، وقارن بالإتقان 2/ 32.
3 لأن تناسخ المواريث هو تحويل الميراث من واحد إلى وحد. وقارن بالبرهان 2/ 29. وعلى هذا يقال: إن أصل النسخ تحويل ما في الخلية من النحل والعسل إلى أخرى.
4 قارن الإتقان 2/ 34 بالبرهان 2/ 29.
5 انظر الإتقان 2/ 34.
6 هو الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات السعدي، له كتاب:"الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ"، ألفه للأفضل ابن أمير الجيوش. ومنه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم 1085 تفسير، وتاريخ نسخها 653هـ.
7 انظر البرهان 2/ 29 وقارن بأساس البلاغة 454.
8 سورة الجاثية 29.
9 سورة الزخرف 4.
10 قارن بالإتقان 2/ 34.
11 سورة البقرة 106.
شوما نحسب القرآن مستخدما هذا اللفظ في كل موضع ذكره فيه إلا على معناه الأصلي الحقيقي الذي ما كان يطوف في خلد أحد سواه لولا الرغبة في الجدل، والاحتفال بالخلاف اللفظي والترف العقلي في جميع العصور. لذلك كان تعريف النسخ بقوله:"رقع الحكم الشرعي بدليل شرعي" أدق تحديد اصطلاحي لهذه الفظة، يتناسق في آن واحد مع لسان العرب الذي يرى النسخ إزالة ورفعا، ونصوص الشرع التي لا مدافعة في رفع بعض أحكامها بأدلة قوية صريحة في وقائع معروفة محفوظة، لأسرار وحكم لا يعرفها إلا الراسخون في العلم.
واختلاف العلماء في تعريف النسخ ينبئ كذلك عن ضروب أخرى من الاختلاف في هذا الموضوع الخطير: فقد حصر بعضهم النسخ في القرآن نفسه، فلا ضير في نسخ الكتاب بالكتاب لتضافر الأدلة العقلية والنقلية على جوازه. ومال الأكثرون إلى جواز نسخ السنة بالقرآن، كنسخ الصيام يوم عاشوراء، الثابت بالسنة، بما كتبه الله في القرآن من صوم رمضان1.
أما نسخ القرآن بالسنة فقد أنكره الشافعي، كما يوحي بذلك لفظ متبادر ذكره في "رسالته"2. ولكن الذين تكلموا على هذه المسألة لم يفهموا مراد الشافعي: فإنه رمى إلى تعظيم الكتاب والسنة وتعاضدهما وتوافقهما، فما يختلفان في شيء إلا مع أحدهما مثله ناسخا له3. وأما نسخ السنة بالسنة فأكثر العلماء لا يرى فيه بأسا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر فيما يشرعه لأمته ابتداء أو نسخا إلا عن إلهام من الله4، فهو في أمور الشرع {وَمَا يَنْطِقُ
1 البرهان 2/ 32.
2 الرسالة ص 137-146.
3 قارن بالبرهان 2/ 32. وما ذكرناه هنا خلاصة لرد الزركشي على ابن عطية الذي لم يفهم مراد الشافعي، واحتج عليه بنسخ آية الوصية بحديث: "لا وصية لوارث"، مع أن الجمهور على أن ناسخها آيات المواريث، ويرى بعض المحققين أنها ليست من النسخ في شيء وأن حكم الوصية ما يزال باقيا ولا تعارضه آيات المواريث.
4 وقيل: بل السنة لا تنسخ السنة. وقيل: السنة إذا كانت بأمر الله من طريق الوحي نسخت، وإن كانت باجتهاد فلا تنسخه، حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره. البرهان 2/ 31.
عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وقد مثلوا لذلك بنسخ الوضوء مما مست النار بأكله صلى الله عليه وسلم من الشاة ولم يتوضأ.
على أننا في هذه البحوث القرآنية لن نعرض إلا لنسخ القرآن بالقرآن، خشية أن نستطرد في إثارة بعض القضايا الأصولية التي تلقي على كتابنا طابعا خاصا جديرا بنا هنا أن نتحاشاه، وكنا نود لو سكتنا حتى عن الخلاف اللفظي في نسخ القرآن بالقرآن، لئلا نضطر إلى ذكر حجج الفريقين وتصوير وجهتي نظرهما في ردهما كلتيهما إلى إثبات حقيقة النسخ في كتاب الله، ولكننا لا نستطيع إغفال مثل هذا الأمر الذي كان له في التشريع الإسلامي وفي البحث القرآني أصداء عميقة، فلا مفر من الإشارة إلى رءوس المسائل في هذا النزاع.
لقد كان الجمهور -قبل أبي مسلم الأصفهاني-1 آخذا بلا تردد بجواز النسخ في كتاب الله، بل كان العلماء لا يتجشمون عناء كبيرًا للاستشهاد بكثير من الآيات المنسوخة وإن كان بعضهم غلا في ذلك غلوا شديدا، ولكن أبا مسلم حين جاء برأيه في النسخ لم يبطله جملة وتفصيلا، فإنه عالم محقق قرأ الآيات المصرحة بالنسخ، وإنما أبطل منه ضروبا ظنها تتعارض مع قوله تعالى:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 2، فآثر أن يسمي النسخ باسم التخصيص تجنبا لإبطال حكم قرآني أنزله الله.
ولكن العلماء تصدوا لأبي مسلم وأضرابه يفرقون لهم بين النسخ والتخصيص: فتعريف التخصيص هو "قصر العام على بعض أفراده"، وليس في هذا القصر رفع حقيقي للحكم عن بعض الأفراد، لأن تناوله بعض الأفراد فقط إنما يكون سبيله المجاز، فلفظ العام موضوع أصلا لكل الأفراد، ولم يقصر على بعضها إلا بقرينة التخصيص. أما النسخ فيظل النص المنسوخ
1 هو محمد بن بحر، المشهور بأبي مسلم الأصفهاني، معتزلي من كبار المفسرين، توفي سنة 322هـ أهم كتبه "جامع التأويل" في التفسير.
2 سورة فصلت 42.
فيه مستعملا فيما وضع له، ويظل متناولا جميع الأزمان، إلا أن حكمة الشامل يستمر إلى وقت معين ثم لا يبطله إلا الناسخ لحكمة يعلمها الله1.
وتراعى في التخصيص قرينة سابقة أو لاحقة أو مقارنة، أما النسخ فلا يقع إلا بدليل متراخ عن المنسوخ، ويكون التخصيص في الأخبار وغيرها، أم النسخ فلا يقع في الأخبار2. ومن أدلة التخصيص الحس والعقل إلى جانب الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3 خصصه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا في ربع دينار"، أما النسخ فالدليل فيه شرعي مقصور على الكتاب والسنة، فلا يرفع -باسم النسخ- حكم شرعي بدليل عقلي مثلا4. وثمرة هذه الفروق بين التخصيص والنسخ أن ما بقي من أفراد العام بعد تخصيصه يظل معمولا به، فلا يبطل الاحتجاج بالعام بعد التخصيص، أما ما رفع حكمه من أفراد النص المنسوخ فيبطل كل لون من ألوان الاحتجاج به أو العمل به5.
وإذا كان أبو مسلم الأصفهاني وأضرابه، قد خلطوا النسخ بالتخصيص وأساءوا الأدب مع الله في إيثارهم لفظ التخصيص الذي اخترعوه على لفظ النسخ الذي صرح به القرآن، فإن القائلين بالنسخ قد بالغوا فيه، وسلكوا كثيرا من العموم المخصص في عداد المنسوخ، وأساءوا الأدب مع الله أيضا بفتحهم الباب على مصراعيه أمام الخالطين بين النسخ والبداء، وبين النسخ والإنساء، وبين نسخ الأحكام ونسخ الأخبار.
1 قارن بمناهل العرفان 2/ 80.
2 لأن الجمهور على أن النسخ لا يقع إلا في الأمر والنهي. والذين لم يروا بأسا في وقوعه في الأخبار قيدوها بالتي يراد بها الأمر والنهي؛ "البرهان 2/ 33". ولذلك لا يلتفت إلى الرأي القائل بوقوع النسخ في الأخبار "إطلاقا". وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص25.
3 سورة المائدة 38.
4 مناهل العرفان 2/ 81.
5 هذا إذا كان المنسوخ رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام، أما إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض فيبقى على شيء من الاحتجاج به. وقارن بالمناهل 2/ 81.
فمن المبالغات أنهم قطعوا أوصال الآية الواحدة، فزعموا أن أولها منسوخ وآخرها ناسخ، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 1 فإن آخر الآية يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو بذلك ناسخ -في نظر ابن العربي- لأولها الذي صرح الله فيه بقوله:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 2، بل زعم ابن العربي أيضا أن قوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 3 أوله وآخره منسوخان ووسطه محكم4.
ومن المبالغات العجيبة إدراجهم في عداد المنسوخ ما أبطله القرآن من عادات الجاهلية وتقاليدها كتحريم نساء الآباء5، وتشريع الدية6 والقصاص7 وحصر الطلاق في الثلاث8، وما رفعه من شرائع من قبلنا كإباحة بعض المطعومات التي كانت محرمة عليهم، وقد رجح المحققون من العلماء إخراج هذا كله من عداد الناسخ، ووجهوه بأن ذلك لو عد فيه لعد جميع القرآن
1 سورة المائدة 105.
2 أحكام القرآن "لابن العربي" 1/ 205. وقارن بالإتقان 2/ 32. والناسخ والمنسوخ "لابن سلامة"153.
3 سورة الأعراف 199.
4 أحكام القرآن أيضا 1/ 388. وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص170 ومن طريف ما ذكره ابن العربي من هذا القبيل أن قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [سورة التوبة: الآية 5] ناخسة لمائة وأربع عشرة آية، ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهو قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . انظر أحكام القرآن 201.
5 كما في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} من سورة النساء وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة"125.
6 كقوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} من سورة النساء أيضا.
7 كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} من سورة البقرة، وقد صرح ابن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" ص49 بأن هذه الآية نسخت بعض عادات الجاهليين الذين كانوا لا يرضون أن يقتلوا بالعبد منهم إلا الحر، وبالمرأة منهم إلا الرجل، فسوى الله بينهما في أحكام القصاص.
8 في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فمن عجب أمر المفسرين أنهم جعلوا تحديد الطلاق في الثلاث نسخا لعمل الجاهلية التي لم تكن تقف في الطلاق عند عدد.
منه: إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب، وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت حكم آية1.
والولوع باكتشاف النسخ في آيات الكتاب أوقع القوم في أخطاء منهجية كان خليقا بهم أن يتجنبوها لئلا يحملها الجاهلون حملا على كتاب الله: لم يكن يخفى على أحد منهم أن القرآنية لا تثبت إلا بالتواتر، وأن أخبار الآحاد ظنية لا قطعية، وجعلوا النسخ في القرآن -مع ذلك- على ثلاثة أضراب: نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم والتلاوة جميعا، وليكثروا إن شاءوا من شواهد الضرب الأول، فإنهم فيه لا يمسون النص القرآني من قريب ولا بعيد، إذ الآية لم تنسخ تلاوتها بل رفع حكمها لأسرار تربوية وتشريعية يعلمها الله، أما الجراءة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث اللذين نسخت فيهما -بزعمهم- تلاوة آيات معينة إما مع نسخ أحكامها وإما دون نسخ أحكامها.
والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأ مركبًا: فتقسيم المسائل إلى أضرب إنما يصلح إذا كان لكل ضرب شواهد كثيرة أو كافية -على الأقل- ليتيسر استنباط قاعدة منها. وما لعشاق النسخ إلا شاهد أو اثنان على كل من هذين الضربين2، وجميع ما ذكروه منها "أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها"3. وبهذا
1 قارن بالإتقان 2/ 36-37.
2 أما الضرب الذي نسخت تلاوته دون حكمه فشاهده المشهور ما قيل من أنه كان في سورة النور: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله"، انظر تفسير ابن كثير 3/ 261. ومما يدل على اضطراب الرواية أن في صحيح ابن حبان ما يفيد أن هذه الآية التي زعموا نسخ تلاوتها كانت في سورة الأحزاب لا في سورة النور.
وأما الضرب الذي نسخت تلاوته وحكمه معا فشاهده المشهور في كتب الناسخ والمنسوخ: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن"، قارن بالإتقان 2/ 35.
3 هذا ما حكاه القاضي أبو بكر في "الانتصار" عن منكري نسخ التلاوة. وقارن بالبرهان 2/ 40 والإتقان 2/ 42.
الرأي السديد أخذ ابن ظفر1 في كتابه"الينبوع" إذ أنكر عد هذا مما نسخت تلاوته وقال: "لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن"2.
ولم تكف عشاق النسخ تلك الأضرب التي استنبطوها من أخبار الآحاد الظنية، بل ذهب بهم الغلو كل مذهب حتى زعموا أن الناسخ أيضا يجوز نسخه، فيصير الناسخ منسوخا، ومثلوا لذلك بقوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 3 فقد نسخه -بزعمهم- قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} 4 ثم نسخ هذا بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 5. وأطرف ما في هذا الاستشهاد أن آية الجزية تتعلق بأهل الكتاب، فكيف تنسخ آية في المشركين6؟
وكانت مبالغات بعض العلماء في الناسخ والمنسوخ تخالف البداهة، وتعارض منطق الأشياء: فهذا هبة الله بن سلامة7 يتكلم على ما في سورة "الإنسان" من النسخ فيرى أنها محكمة إلا آيتين منها وبعض آية8، ويبدأ ببعض الآية المنسوخ فإذا هو لفظ "وأسيرًا" من قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ
1 هو أبو عبد الله بن ظفر، محمد بن محمد الصقلي المتوفىي سنة 568. ومن كتابه "الينبوع" أجزاء متفرقة من نسخة خطية بدار الكتب بالقاهرة برقم 310 تفسير.
2 قارن بالبرهان 2/ 36. ومن هنا تشدد القوم في نسخ القرآن، فقالوا: لا ينسخ قرآن إلا بقرآن ومرادهم: لا ينسخ القطعي إلا بالقطعي، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرا منه إلا قرآن. قارن بالبرهان 2/ 31.
3 سورة "الكافرون"6.
4 سورة التوبة 5.
5 سورة التوبة 29. وقارن بالبرهان 2/ 31.
6 وقريب من هذا ما رووه من أن قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [سورة البقرة: الآية 109] نسخه قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} ثم نسخ هذا قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} البرهان 2/ 31.
7 هو هبة الله بن سلامة بن أبي القاسم البغدادي المتوفى سنة 410 "انظر شذرات الذهب وفيات سنة 410". وكتابه "الناسخ والمنسوخ" مطبوع في مصر بمطبعة هندية سنة 1315 "بهامش أسباب النزول" للواحدي.
8 ابن سلامة "الناسخ والمنسوخ" ص320.
عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} 1 فالمراد بذلك غير أهل القبلة من أسرى المشركين، وقد نسخ -بزعمه- إطعام أسرى المشركين بآية السيف2.
ثم قرئ على ابن سلامة كتابه في "الناسخ والمنسوخ" وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع هالها أن يحمل أباها شغفه بالنسخ على نسيان مبدأ أخلاقي ثابت في الإسلام، بل مجمع على ثبوته في جميع الأديان، فقال: أخطأت يا أبت في هذا الكتاب! فقال لها: وكيف يا بنية؟ قلت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعًا!! فقال: صدقت3.
ولئن جعل منكرو النسخ المنسوخ مخصوصا فقد عكس أصحاب النسخ الآية فجعلوا المخصوص منسوخا: فكم من آية خصصت باستثناء4 أو غاية أو بآية أخرى فطبعوها بطابع النسخ غير مبالين باتصال السياق وتناسقه، وتعلق آخره بأوله. قال السيوطي5: "وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ، وقد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد: كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ، {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وغير ذلك من الآيات التي خصت
1 سورة الإنسان 8.
2 ابن سلامة "الناسخ والمنسوخ" ص321. ومراده بآية السيف قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة: 5] .
3 قارن بالبرهان 2/ 29 والإتقان 2/ 39.
4 قارن بقول ابن سلامة في "الناسخ والمنسوخ 26": "وقال آخرون: كل جملة استنثى الله منه بـ"إلا" فإن الاستثناء ناسخ لها.
5 الإتقان 2/ 36. وقارن "بالناسخ والمنسوخ لابن سلامة" 85. ومن ذلك أن بعض العلماء ظنوا قوله تعالى في سورة التوبة {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} منسوخا بآيات العذر كقوله في سورة الفرقان: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} وقوله في سورة التوبة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية: "انظر الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ص186". والحق أن الآية منسوخة بالآيات التي ذكرت، فهذا من باب النسخ، وكأنه قال: لينفر منكم من احتيج إليه وهو غير أعمى ولا مريض ولا ضعيف.
باستثناء أو غاية. وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ1. ومنه قوله: {لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} قيل إنه نسخ بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، وإنما هو مخصوص به".
وفيما أورده المكثرون ألوان ليست من النسخ ولا من التخصيص في شيء ولا لها بهما علاقة بوجه من الوجوه2: وذلك مثل قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} 3، وكل آية فيها ذكر ما فضل عن الزكاة نسختها الآية المفروضة4. ولكن المحققين من العلماء يرون أن آية الإنفاق خبر في معرض الثناء على المتقين، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة، وبالإنفاق على الأهل، وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة، وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة5.
ومن ذلك أن بعض عامة المفسرين ظنوا أن قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} 6 مما نسخ بآية السيف -وكم نسخوا بآية السيف7 هذه! - مع أن هذا الكلام لا يقبل النسخ والا التخصيص، فإن الله أحكم الحاكمين أبدًا8.. ولا ريب أن في مرور فكرة النسخ ببال أولئك المفسرين إساءة أدب مع الله وإن حاولوا تلطيف عبارتهم المشعرة هنا بالنسخ حتى قال قائلهم: إن هذه الآية نسخ معناها لا لفظها، فقد نسخ منها المعنى بآية السيف، كأنه تعالى قال: دعهم وخل عنهم9.
1 قارن بقول مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية محكم غير منسوخ لأنه مؤجل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه. الإتقان 2/ 35.
2 الإتقان 2/ 36.
3 سورة البقرة 3.
4 الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 32-33.
5 الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 329-330.
6 سورة التين 8.
7 الإتقان 2/ 36.
8 الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة"320.
9 قارن بالبرهان 2/ 42. وفي هذا إشارة إلى الآية 14من سورة الجاثية، وهي قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} نزلت في عمر بن الخطاب حين كلمه رجل من المشركين بمكة فهاجه وأثاره، فهم به عمر. قارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة"288.
لكن إساءة الأدب حقا مع الله تجسدت في تساهل أصحاب النسخ في الإكثار من القول بالناسخ والمنسوخ رغم علمهم اليقيني بأن ما يواجهونه بالبحث والتأويل هو إلى الإنساء أقرب، وبه ألصق: فقد سلكوا في المنسوخ مأ أمر به لسبب ثم زال سببه، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين
يرجون لقاء الله1 ثم نسخه بآية السيف، وليس هذا من النسخ في شيء، وإنما هو ضرب من النسء وتأخير البيان إلى وقت الحاجة كما قال تعالى:{أَوْ نُنْسِهَا} 2، فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ، أو بيان الحكم المجمل3، فقد أنسئ الأمر بالتقال إلى أن يقوى المسلمون، وأمروا في حال الضعف بالصبر على الأذى4. وما أحكم الزركشي في تعليقه على هذا الموضوع بقوله:"وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال العلة إلى حكم آخر، وليس بسنخ. إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا"5.
ومن ذلك أن الإسلام أمر المسلمين في بدء الدعوة -رأفة بهم ورحمة- بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} 6، ثم كتب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه لما قويت الدعوة الإسلامية، فأنزل الله على نبيه في كل حال ما يناسب الظروف التي تحيط به وبالمؤمنين، ولقد حمل هذا بعض العلماء على الإفتاء بالمسالمة والكف عن قتال أهل المنكر لو فرض وقوع الضعف على ما أخبر به
1 ابن سلامة 278.
2 سورة البقرة 106.
3 قارن بالبرهان 2/ 43.
4 انظر الإتقان 2/ 35.
5 البرهان 2/ 42 ونقله السيوطي في "الإتقان" 2/ 35.
6 سورة المائدة 10.
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ"1.
ومن ذلك اشتباه البيان على بعضهم بالنسخ في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} 2 فقد عدوه ناسخا لآية متأخرة عنه في ترتيب المصحف في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 3، والتحقيق أن ليس ههنا ناسخ ومنسوخ، وإنما بينت الآية الأولى ما لا يعد ظلما من أكل أموال اليتامى4.
ولعل أعجب العجب أن تطوع للمفسرين أنفسهم القول بالتناسخ حتى في الأخبار مع أن العقل لا يكاد يتصور كيف يمكن تبديل الواقعة الثابتة بكل ما حدث فيها من أعمال وما جرى خلالها من أقوال: فها هم أولاء يعدون آية السيف ناسخة أيضا قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} 5 وهو -كما يتضح من سياق الآية- حكاية لما أخذ على بني إسرائيل من الميثاق! 6.
وآخر ما تنافس فيه عشاق النسخ إماطة اللثام عن الآيات المنسوخة التي طالت مدة العمل بها قبل نسخ حكمها، وإذا هم يهتدون -وليتهم لم يهتدوا! -
1 البرهان 2/ 43. قد علق الزركشي هنا بقوله الدقيق السديد: "وهو سحبانه وتعالى حكيم، أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن تبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة؛ فما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة الكفار بالإسلام أو بأداء الجزية -إن كانوا أهل كتاب- أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب. ويعود هذان الحكمان -أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة عند القوة- بعود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله".
2 سورة النساء 6.
3 سورة النساء 10. وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص117.
4 انظر عرض الآراء المختلفة هنا في تفسير ابن كثير 1/ 455.
5 سورة البقرة 83. وانظر الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" 37.
6 وإليك الآية بتمامها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} . وقارن بتفسير ابن كثير 1/ 119-120 والإتقان 2/ 36.
إلى آية في سورة الأحقاف ثبت حكمها بزعمهم ست عشرة سنة قبل أن ينسخها أول سورة الفتح، وهي قوله تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 1، فابن سلامة يرى أن أول هذه الآية محكم، أما المنسوخ منها فهو قوله:"وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" ويقرر أنه عليه الصلاة والسلام عمل بها بمكة عشر سنين وعيره المشركون، فهاجر إلى المدينة، فبقي ست سنين يعيرونه، وكان المشركون يقولون: كيف يجوز لنا اتباع رجل لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه؟ ثم نزل أول سورة الفتح فنسخ هذه الآية، واستنتج منه المشركون أن النبي أمسى يعلم ما يفعل به وبأصحابه! 2.
وإن هذا التساهل في نسخ كلام الله، وفي تحديد مدد زمانية للعمل بمنسوخه قبل نسخه، وفي ترديد الآيات بين مدلولها لدى تنزيلها أول مرة ومدلولها بعد تبديل حكمها بآيات أخرى تنزلت عقبها بزمن يطول أو يقصر، حمل الغير على كتاب الله على أن يستبعدوا ما استطاعوا شبح النسخ المخيف، كأنه في نظرهم يعادل البداء، أو كأنه -على الأقل- معبر طبيعي إلى القول بالبداء، والإذن للجهلة في كل زمان ومكان بالخلط بين النسخ بأسراره الحكيمة والبداء بكل قبحه وفساده ودلالته على الجهل!.
إن البداء يصدر عن الذي يرى الرأي ثم يبدو له3، وقد فر اليهود من
1 الأحقاف 90.
2 ابن سلامة، الناسخ والمنسوخ 279، ولم يكتف ابن سلامة بتعسفه هذا كله، بل أضاف إليه تعسفا من لون جديد، فقد رأى أنه "ليس في كتاب الله تعالى كلمات منسوخة نسختها سبع آيات إلا هذه الآية" رادع ص383 في كتابه. ويشير بهذا إلى الآيات السبع في مطلع سورة الفتح، فالآيات الأربع الأولى حتى قوله:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} نزلت فيه عليه الصلاة والسلام والآية الخامسة نزلت في صحابته، والسادسة والسابعة في كل من المنافقين واليهود. وما أحسبك قد انقضى عجبك من هذا التكلف النادر!.
3-
البرهان 2/ 30. وقد ضبطها أبو الفضل إبراهيم مصحح البرهان مرتين بالضم "البداء" وهو خطأ ظاهر، كما يظهر من مراجعة المادة في جميع القواميس المشهورة، ومعنى البداء الظهور بعد الخفاء ومنه قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} وله معنى آخر هو نشأة رأي جديد لم يك موجودًا. قال في القاموس: "وبدا له في الأمر بدوا" وبداء وبداة، أي: نشأ له فيه رأي" ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} .
قبل من القول بالنسخ لئلا يقودهم بالبداء، فقد حسبوا أن نسخ الشيء بعد نزوله والعمل به يرادف تغيير الله للأحكام بما يبدو له بعد أن لم يك باديا، ولا يجوز نسبة شيء من هذا إلى الله، وتسرع بعض الباحثين المسلمين في القديم والحديث ففروا من النسخ كما فر منه اليهود وعدوه من قبيل البداء -ولا سيما حين رأوا إكثار المفسرين من النسخ من غير دليل- وقد غلا كلا الفريقين، فما كان لأصحاب النسخ أن يكثروا منه ويخلطوه بمفهومات أخرى لا صلة له بها، وما كان لمنكري النسخ أن يبطلوا أمرا صرحت به آيات في كتاب الله ودلت عليه وقائع ثابتة لا قبل للباحث المحقق بردها، ولا كان لهم أن يشبهوا على الناس النسخ بالبداء.
لقد نسي منكروا النسخ أو تناسوا -كما قال الزرقاني1: "أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ما ظهر له أمر كان خافيا عليه، وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل. وإنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده، بل من قبل أن يخلق الخلق، ويبرأ السماء والأرض، إلا أنه -جلت حكمته- علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة ومصلحة أخرى. ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس، وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم، وأن الأحكام وحكمها والعباد مصالحهم، والنواسخ والمنسوخات كانت كلها معلومة لله من قبل ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه. والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده، لا ظهرو ذلك له".
على أن المنهج الذي نعرف به الناسخ والمنسوخ لا يشتبه فيه النسخ بالبداء، ولا بالتخصيص، ولا بالإنساء ولا ببيان المجمل، فإنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من صحابي يقول:"آية كذا نسخت كذا".
1 مناهل العرفان 2/ 78.
وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التاريخ ليعرف المتقدم والمتأخر. ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم واثبات حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم، والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد1.
وقد صرح المحققون من العلماء بأن كثيرا مما ظنه المفسرون نسخا ليس به " وإنما هو نسء وتأخير، أو مجمل أخر بيانه لوقت الحاجة، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره، أو مخصوص من عمومه، أو حكم عام لخاص أو لمداخلة معنى في معنى. وأنواع الخطاب كثيرة، فنظنوا ذلك نسخا وليس به، وإنما هو الكتاب المهيمن على غيره، وهو نفسه متعاضد، وقد تولى الله حفظه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.
وحين قسم المتزيدون في النسخ سور القرآن أقساما بحسب ما دخله النسخ وما لم يدخله عدوا ثلاث وأربعين سورة فقط ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وست سور فيها ناسخ وليس فيها منسوخ، وأربعين سورة فيها منسوخ وليس فيها ناسخ، وإحدى وثلاثين سورة اجتمع فيها الناسخ والمنسوخ3. ولا يعنينا قط أن نسرد أسماء السور في هذه الأقسام فإن سردها نفسه قائم على أساس فاسد من الغلو والتعسف، وحسبك أن السور المحكمات الخاليات من النسخ لم تزد -في هذا التقسيم- على ثلاث وأربعين، كأن القاعدة هي النسخ لا الإحكام، وكأن الأصل في سور القرآن أن يكون فيها ناسخ أو منسوخ!
والحق أن الأصل في آيات القرآن كلها الإحكام لا النسخ، إلا أن يقوم دليل صريح على النسخ فلا مفر من الأخذ به، وما زال العلماء المحققون بالآيات التي قيل إنها منسوخة يبحثونها من وجوهها المختلفة حتى حصروا ما يصلح منها
1 هذا رأي ابن الحصار، وقد عرضه السيوطي في الإتقان 2/ 40.
2 سورة الحجر 9. وقارن بالبرهان 2/ 44.
3 انظر هذه الأقسام في الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص14 وما بعدها، وقارن بالبرهان 2/ 33.
لدعوى النسخ في عدد قليل، وتعقب آخرون هذا القليل نفسه فآثروا في طائفة منه القول بالإحكام على القول بالنسخ: فالسيوطي مثلا حصر دعوى النسخ في إحدى وعشرين آية على خلاف في بعضها1، ثم استثنى منها آيتي الاستئذان والقسمة2 فذكر أن الأصح فيهما أنهما محكمتان، فصارت الآيات المنسوخة في نظره لا تزيد على تسع عشرة آية، ولولا خشية الاستطراد لتعقبناها فوجدنا الصالح منها للنسخ لا يزيد على عشر فقط، بيد أننا نفضل أن نحيل القارئ على ما ذكره السيوطي لعله يكتشف من تلقاء نفسه، -في ضوء حديثنا عن النسخ- ما عسى أن يكون أقرب إلى التخصيص أو تأخير البيان أو الإنساء، وما عسى أن يدخل حقا فيما نسخه الله من آيات فأتى بأحسن منها أو مثلها وهو على كل شيء قدير!.
1 راجع الإتقان 2/ 37-38. وقد ذكر السيوطي هنا جميع هذه الآيات الصالحة للقول بالنسخ.
2 يراد بآية الاستئذان قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} وهي آية لا ريب في إحكامها.
أما آية القسمة فهي قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} فقد قيل: إنها منسوخة بآية المواريث. والصحيح أنها ليست منسوخة، وحكمها باق على الندب والترغيب في فعل الخير.