المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره - مباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح

[صبحي الصالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات:

- ‌مقدمة المؤلف في الطبعة الجديدة:

- ‌مقدمة الكتاب:

- ‌الباب الأول: القرآن والوحي

- ‌الفصل الأول: أسماء القرآن وموارد اشتقاقها

- ‌الفصل الثاني: ظاهرة الوحي

- ‌الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره

- ‌الباب الثاني: تاريخ القرآن

- ‌الفصل الأول: جمع القرآن وكتابته

- ‌مدخل

- ‌جمع القرآن كتابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

- ‌ جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه:

- ‌الفصل الثاني: المصاحف العثمانية في طور التجويد والتحسين

- ‌الفصل الثالث: الأحرف السبعة

- ‌الباب الثالث: علوم القرآن

- ‌الفصل الأول: لمحة تاريخية عن علوم القرآن

- ‌الفصل الثاني: علم أسباب النزول

- ‌الفصل الثالث: علم المكي والمدني

- ‌الفصل الرابع: لمحة خاطفة عن فواتح السور

- ‌الفصل الخامس: علم القراءات ولمحة عن القراء

- ‌الفصل السادس: علم الناسح والمنسوخ

- ‌الفصل السابع: علم الرسم القرآني

- ‌الفصل الثامن: علم المحكم والمتشابه

- ‌الباب الرابع: التفسير والإعجاز

- ‌الفصل الأول: التفسير "نشأته وتطوره

- ‌الفصل الثاني: القرآن يفسر بعضه بعضا

- ‌منطوق القرآن ومفهومه:

- ‌عام القرآن وخاصه:

- ‌المجمل والمبين:

- ‌النص والظاهر:

- ‌الفصل الثالث: إعجاز القرآن

- ‌مدخل

- ‌تشبيه القرآن واستعارته:

- ‌المجاز والكناية:

- ‌الفصل الرابع: الإعجاز في نغم القرآن

- ‌خاتمة:

- ‌جريدة المراجع على حروف المعجم:

- ‌ باللغة العربية:

- ‌ باللغات الأجنبية:

- ‌مسرد الأعلام:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره

‌الفصل الثالث: تنجيم القرآن وأسراره

لقد شاءت الحكمة الإلهية أن يظل الوحي متجاوبا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه كل يوم شيئا جديدًا، ويرشده ويهديه، ويثبته ويزيده اطمئنانا، ومتجاوبا مع الصحابة يربيهم ويصلح عاداتهم، ويجيب

عن وقائعهم، ولا يفاجئهم بتعاليمه وتشريعاته، فكان مظهر هذا التجاوب، نزوله منجما "بحسب الحاجة: خمس آيات، وعشر آيات وأكثر وأقل1. وقد صح نزول عشر آيات في قصة "الإفك"2 جملة، وصح نزول عشر آيات من أول "المؤمنين"3 جملة، وصح نزول {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 4 وحدها -وهي بعض آية- وكذا قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَ ةً} 5 إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أول

1 ويقتصر بعضهم -كما يفهم من روايات شتى- على نزول القرآن نجوما خمس آيات خمس آيات، لتيسير حفظه على المؤمنين في كل جيل: أخرج البيهقي عن خالد بن دينار: قال: قال لنا أبو العالية: "تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل خمسا خمسا". ويقرب من هذا ما أخرجه ابن عساكر من طريق أبي نضرة. بل ينسب إلى علي كرم الله وجهه أنه كان يقول: "أنزل القرآن خمسا خمسا إلا سورة الأنعام، ومن حفظ خمسا خمسا لم ينسه". لكن السيوطي يصف القول الأخير بضعف طريقه، ويرى "أن معناه -إن صح- إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر حتى يحفظه ثم يلقى إليه الباقين، لا إنزاله بهذا القدر خاصة" الإتقان 1/ 73.

2 هذه الآيات العشر في سورة النور 11، 12 وفيها يبرئ الله السيدة عائشة أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق من الإفك المبين والبهتان العظيم. وقصة الإفك مشهورة في كتب السيرة والتفسير.

3 من أول قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} إلى قوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1-11] .

4 سورة النساء 95 وأول الآية: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

5 سورة التوبة 28 وأول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .

ص: 49

الآية"1.

على هذا المنوال ظل القرآن ينزل نجوما، ليقرأه النبي صلى الله عليه وسلم على مكث ويقرأه الصحابة شيئا بعد شيء، يتدرج مع الأحداث والوقائع والمناسبات الفردية والاجتماعية التي تعاقبت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة وعشرين عاما على الأصح، تبعا للقول بأن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام، في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة. أما إقامته بالمدينة فهي عشر سنين اتفاقًا: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين2، وقدر بعضهم مدة نزول القرآن بعشرين سنة، وبعضهم بخمس وعشرين، وبنوا هذا على أن إقامته عليه الصلاة والسلام، بمكة بعد البعثة كانت عشر سنين أو خمس عشرة سنة3.

وقد بدأ نزول القرآن -كما قال الشعبي4- "في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات"5. والشعبي يجمع في هذا الرأي بين قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 6 وقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} 7، وهو فهم سديد لا يتضارب مع إخبار الله بإنزال كتابه في ليلة مباركة، وفي شهر رمضان، إذ يكون المراد

1 الإتقات 1/ 73.

2 صحيح البخاري 4/ 57.

3 قارن بين "البرهان 1/ 232" و"الإتقان1/ 68".

4 الشعبي هو عامر بن شراحيل، ويكنى أبا عمرو، أكبر شيوخ أبي حنيفة، وأحد المشهود لهم بالإمامة في الحديث والفقه. روى عن علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وغيرهم. وقال: إنه أدرك خمسمائة من الصحابة. وروى عنه الأعمش، وقتادة، وأبو الزناد، وغيرهم. توفي سنة 109.

5 البرهان 1/ 228.

6 سورة القدر 1.

7 سورة الإسراء 106.

ص: 50

أنه تعالى ابتدأ إنزاله في {لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 1، ووصف هذه الليلة بأنها {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وهي إحدى ليالي رمضان، كما في قوله:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 2، ثم استمر نزوله نجوما بعد ذلك، متدرجا مع الوقائع والأحداث.

ولسنا نميل إلى الرأي القائل: إن للقرآن تنزلات ثلاثة: الأولى إلى اللوح المحفوظ، والثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والثالث تفريقه منجما بحسب الحوادث، وإن كانت أسانيد هذا الرأي كلها صحيحة3، لأن هذه التنزلات المذكورة من عالم الغيب الذي لا يؤخذ فيه إلا بما تواتر يقينا في الكتاب والسنة، فصحة الأسانيد في هذا القول لا تكفي وحدها لوجوب اعتقاده، فكيف وقد نطق القرآن بخلافه؟! إن كتاب الله لم يصرح إلا بتفريق الوحي وتنجيمه، ومنه يفهم بوضوح أن هذا التدرج كان مثار اعتراض المشركين الذين ألفوا أن تلقى القصيدة جملة واحدة، وسمع بعضهم من اليهود أن التوراة نزلت جملة واحدة، فأخذوا يتساءلون عن نزول القرآن نجوما، وودوا لو ينزل كله مرة واحدة، وقد ذكر الله اعتراضهم في سورة الفرقان ورد عليه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 4.

على أن القائلين بتنزيلات القرآن الثلاثة لا يفوتهم -بعد بيان حكمه هذا

1 سورة الدخان 3.

2 سورة البقرة 185.

3 انظر الإتقان 1/ 68. ويظهر أن الجمهور كان يجنح إلى هذا الرأي، فالزركشي في "البرهان 1/ 229"

يقول في هذا الرأي: إنه أشهر وأصح، وإليه ذهب الأكثرون" وابن حجر في "فتح الباري" يصفه بالرأي "الصحيح المعتمد" ونحن مع ذلك لم نأخذ به لمخالفته صريح القرآن كما أوضحناه أعلاه.

4 سورة الفرقان 32، 33.

ص: 51

التعدد في أماكن النزول1- أن يشيروا إلى أسرار تنزله الثالث الأخير منجما بحسب الوقائع، وهذه الأسرار قد بلغت من الوضوح حدا لا تخفى معه على أحد، "ولولا أن الحكمة الإلهية -كما يقولون- اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الواقع لأهبطه إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا، تشريفا للمنزل عليه"2.

ويعنينا من أقوالهم تطلعهم إلى أسرار التدرج في نزول القرآن، فقد أوشكوا عند بلوغ هذه الناحية من البحث ألا يتركوا مجالا لقائل بعدهم، إذ لاحظوا في التدرج الحكمتين اللتين أشرنا إليهما، وهما تجاوب الوحي مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجاوبه مع المؤمنين، وإن كان تعبيرهم عن ذلك يختلف قليلا عن تعبيرنا.

ولتجاوب الوحي مع الرسول صلى الله عليه وسلم صورتان: إحداهما تثبيت فؤاده بما يتجدد نزوله من القرآن بعد كل حادثة، والثانية تيسير حفظ القرآن عليه.

وقد أشار إلى الصورة الأولى أبو شامة3 في قوله:" فإن قيل: ما السر في نزوله منجما؟ وهلا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولى الله

1 وخلاصة هذه الحكمة "أن في تعدد النزول وأماكنه مبالغة في نفي الشك عن القرآن، وزيادة للإيمان به وباعثا على الثقة فيه، لأن الكلام إذا سجل في سجلات متعددة، وصحت له وجودات كثيرة، كان ذلك أنفى للريب عنه وأدعى إلى تسليم ثبوته، وأدنى إلى وفرة الإيمان به مما لو سجل في سجل واحد أو كان له وجود واحد""الزرقاني: مناهل العرفان 1/ 39-40".

ويذهب أبو شامة في "المرشد الوجيز" مذهبا آخر، في بيان حكمة نزول القرآن جملة إلى السماء، فهو يقول:"فيه تفخيم لأمره وأمر من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، ولقد صرفناه إليهم لينزله عليهم""الإتقان 1/ 469 البرهان 1/ 230".

2 الإتقان 1/ 69، 70، السيوطي يعزو هذا القول إلى أبي شامة، وهو تتمة رأيه المذكور في الحاشية السابقة، ويذكر الزركشي قسما منه في "البرهان 1/ 230" ولكن من غير عزو.

3 أبو شامة هو الفقيه الشافعي عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المقدسي، له "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز"، وشرح على الشاطبية المشهورة في القراءات. توفي سنة 665هـ " شذرات الذهب 5/ 318".

ص: 52

جوابه فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} يعنون: كما أنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله:{كَذَلِكَ} أي: أنزلناه مفرقا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، أشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجدد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان1 لكثرة لقياه جبريل"2.

ولقد راع القرآن خيال العرب وأخذ أسماعهم بما فيه من أنباء الرسل مع أقوامهم، تتكرر بصورة مختلفة، وأساليب متنوعة، فتزداد حلاوة كلما تكررت، ولا غرض لها في أكثر المواطن التي ذكرت فيها إلا تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين. ونطق القرآن بذلك فقال:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} 3: ففي ذكر قصص الرسل، وتفريقه، وتنوعيه، تقوية لقلب الرسول

صلى الله عليه وسلم وعزاء له على ما يلقاه من أذى قومه، وما كان محمد بدعا من الرسل، فهم جميعا عذبوا وكذبوا واضطهدوا:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} 4.

وهكذا ما انفك القرآن يتجدد نزوله مهونا على الرسول صلى الله عليه وسلم الشدائد، مسليا له مرة بعد مرة، محببا إليه التأسي بمن قبله من الرسل، يأمره تارة بالصبر أمرًا صريحا فيقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا

1 يشير إلى حديث متفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة" انظر "رياض الصالحين للنووي باب الجود

في شهر رمضان، ص454".

2 الإتقان 1/ 17 والزركشي لا يعزو هذه العبارة إلى أبي شامة كما فعل في العبارة السابقة "البرهان 1/ 231، وراجع الحاشية 2ص 42" وفي عبارة البرهان اختلاف يسير جدا عما في الإتقان.

3 سورة هود 120.

4 سورة البقرة 214.

ص: 53

جَمِيلًا} 1، ويقول:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 2 وينهاه تارة أخرى عن الحزن نهيا صريحا، كما في قوله:{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} 3، وقوله:{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 4. ويعلمه أحيانا أن الكافرين لا يجرحون شخصه في نفسه، ولا يتهمونه بالكذب لذاته، وإنما يعاندون الحق بغيا من عند أنفسهم، لأنهم شرذمة من الجاحدين تتكرر في كل عصر وجيل، كما في قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 5. وفي تفسير هذه الآية يقول الحافظ ابن كثير: "يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أي: قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك علهيم كقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} كما قال تعالى في الآية الأخرى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر، و {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم"6.

وتكرار نزول هذه الآيات المسلية، المعزية، المرشدة إلى الصبر الجميل والأسوة الحسنة، هو الحكمة المقصودة من إيراد أنباء الرسل وقص قصصهم.

ولو استمر اضطهاد المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع عنه الوحي المثبت لقلبه، فلم يتجدد نزول الآيات المسلية له، لشعر عليه الصلاة والسلام بما يشعر به

1 سورة المزمل 10.

2 سورة الأحقاف 35.

3 سورة يس 75.

4 سورة يونس 65. وقد ينهى الله رسوله عن الحزن على الكافرين لجحودهم وعدم إيمانهم، فيقول له: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} كما في سورة الحجر 88 والنحل 126 والنمل 72.

5 الأنعام 33.

6 ابن كثير 2/ 129.ونقل هذه العبارة السيد رشيد رضا في تفسير المنار 7/ 372.

ص: 54

البشر في هذه الحالات من استيلاء الحزن على قلبه، واستبداد اليأس بنفسه، والله لم ينهه عن الحزن والحسرات وبخع النفس وضيق الصدر -كما رأينا- إلا لأنه بشر مثل سائر البشر، في طبيعته استعداد لجميع هذه الانفعالات النفسية، وقد انتبه إلى هذا المعنى السيد رشيد رضا في تفسير قوله تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} 1 فقال: "والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بعد تسلية، وإرشاد إلى سنته تعالى في الرسل والأمم، أو هي تذكير بهذه السنة وما تتضمنه من حسن الأسوة إذ لم تكن هذه الآية أول ما نزل في هذا المعنى" ثم زاد هذه الفكرة وضوحا بقوله: "ولولا أن دفع الأسى بالأسى من مقتضى الطبع البشري لما ظهرت حكمة تكرار التسلية بأمثال هذه الآية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الليل، فربما يقرأ السورة ولا يعود إليها إلا بعد أيام يفرغ فيها من قراءة ما نزل من سائر السور، فاحتيج إلى تكرار تسليته وأمره بالصبر المرة بعد المرة، لأن الحزن والأسف اللذين كانا يعرضان له صلى الله عليه وسلم، من شأنهما أن يتكررا بتكرر سببهما وبتذكره عند تلاوة الآيات الواردة في بيان حال الكفار ومحاجتهم وإنذارهم"2.

والصورة الثانية لتجاوب الوحي مع الرسول صلى الله عليه وسلم هي -كما ذكرنا- تيسير حفظ القرآن عليه. ومن العلماء من يرى أن "تثبيت فؤاده" المذكور في آية الفرقان السابقة لا يراد منه إلا جمع القرآن حفظا في قلبه "فإنه عليه الصلاة والسلام كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ففرق عليه لييسر عليه حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظه الجميع إذا نزل جملة"3. وقد أراد ابن فورك4 أن يزيد هذا الأمر تفصيلا وبيانًا

1 سورة الأنعام 34.

2 تفسير المنار 7/ 377-378.

3 البرهان 1/ 231.

4 ابن فورك "بالفاء المضمومة والواو الساكنة والراء المفتوحة والكاف" هو محمد بن الحسن بن فورك، ويكنى أبا بكر. من المتكلمين والأصوليين المشهورين، له في معاني القرآن وأصول الفقه أكثر من مائة كتاب. توفي سنة 604 انظر إنباه الرواة 3/ 110 وشذرات الذهب 3/ 181-182 وابن خلكان 1/ 482.

ص: 55

فقال: "قيل: أنزلت التوراة جملة، لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب -وهو موسى- وأنزل القرآن مفرقا لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أمي"1.

وأما تجاوب الوحي مع المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي القرآن منه صور متنوعة، وألوان متباينة تلتقي كلها عند غاية واحدة: وهي رعاية حال المخاطبين، وتلبية حاجاتهم في مجتمعهم الجديد الآخذ في الازدهار، وعدم مفاجأتهم بتشريعات وعادات وأخلاق لا عهد لهم بمثلها. وقد أشار إلى هذا مكي2 في "الناسخ والمنسوخ" حين لاحظ أن نزول القرآن "أدعى إلى قبول إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من الناس لكثرة ما فيه من الفرائض والمناهي، ويوضح ذلك ما أخرجه البخاري3 عن عائشة قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء، "لا تشربو الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو انزل "لا تزنوا" لقالوا: "لا ندع الزنى أبدًا"4.

وظاهر كلام السيدة عائشة في قولها هذا أنها جمعت بين تحريم الخمر وتحريم الزنا بالتدريج، فيخيل إلى السامع أن تحريم الزنى لم يتم إلا على مراحل كالخمر، وليس ذلك بصحيح ولا هو مراد بنت الصديق، فإنها رضي الله عنها كانت تعلم أن الزنى حرم دفعة واحدة، في خطوة واحدة

1 الإتقان 1/ 71 نقلا عن البرهان 1/ 231.

2 هو مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار القيسي المقرئ. يكنى أبا محمد، وأصله من القيروان، كثير التأليف في علوم القرآن والعربية، سكن قرطبة ورحل إلى مصر مرتين. وتوفي سنة 437. ينسب إليه السيوطي كتابا في "الناسخ والمنسوخ" منه اقتبس هذه العبارة المذكورة أعلاه، ويذكر له القفطي عددا من المؤلفات منها "انتخاب كتاب الجرجاني في نظم القرآن" انظر إنباه الرواة 3/ 313-319 وشذرات الذهب 3/ 260-261 ووفيات الأعيان 2/ 120-121.

3 صحيح البخاري 6/ 185.

4 الإتقان 1/ 73.

ص: 56

جازمة، بمثل قوله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 1، وإنما أرادت الصديقة بيان أوائل ما نزل من القرآن، وأن تلك الأوائل ما كانت بمقتضى حكمة الله لتتناول الحلال والحرام، بل تناولت أصول الإيمان بالله واليوم الآخر. فعدم تحريم الزنى في أول ما نزل من الوحي لا يعني أن هذا التحريم تأخر كثيرا: إذ وقع تحريمه في مكة على كل حال، وهو لا يعني تدرج هذا التحريم على مراحل، إذ لم نعلم في كتاب الله ولا سنة رسوله إثبات منفعة للزنى إلى جانب إثمه الكبير كما علمناه في تحريم الخمر والميسر، ولم نر لونا من ألوان الزنى والسفاح يقر في الإسلام بأية صورة، وإنما الذي عرفناه أن الإسلام أمضى أمره بتحريم الزنى بأسلوب صارم ولهجة قاطعة، كما حرم سائر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق.

وما من ريب في أن الإسلام فرق بين الأعماق والسطحيات في أنفس الأفراد والمجتمعات، فكل قضية عميقة الجذور في نفس الفرد اتخذت شكل عادة شعورية وكل قضية عميقة الجذور في نفس المجتمع اتخذت شكل تقليد اجتماعي أو عرف دولي، فللإسلام فيها موقف المتمهل المتريث الذي يؤمن بأن البطء مع التنظيم خير من العجلة مع الفوضى!

وكل قضية سطحية تنزلق إلى نفس الفرد أو إلى نفس الجماعة فتفسد علها فطرتها الزكية النقية، فهي جريمة في الحياة الإنسانية لا يجوز السكوت عنها، فليقطع الإسلام فيها برأيه، ولتكن حدوده فيها غير قابلة للنقاش، فما يناقش في أمر هذه الحدود إلا الخارج على مقتضى الفطرة، المنسلخ من الكرامة الإنسانية2.

وفي ضوء هذه التفرقة بين الأعماق والسطحيات في الأنفس والآفاق، وفي الأفراد والمجتمعات، نظر الإسلام إلى القتل والسرقة والغصب وأكل

1 الإسراء 32.

2 قارن بظلال القرآن 2/ 60-61.

ص: 57

أموال الناس بالباطل ومختلف ضروب الغش في المعاملات نظرته إلى الزنى، فحرمها مرة واحدة تحريما قاطعا لا تساهل فيه.

وإذ صح أن التعبير عن التحريم أكثر هذه الأشياء إنما ورد في الكتاب متأخرا، وأن أكثرها وقع تحريمه في المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إليها، فلا يصح القول -على وجه الإطلاق والتعميم- بتدرج التحريم على مراحل في هذه الشئون: فكما حرم الله الزنى في لهجة قاطعة فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} حرم القتل في خطوة جازمة فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1، وحرم السرقة يوم قضت حكمته أن يعبر عن تحريمها في أسلوب صارم فقال:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} 2.

وبمثل هذه الصرامة حرم اغتصاب أموال الناس بغير حق فقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3، وكل لون من ألوان الغش في المعاملات إنما جاء تحريمه في الكتاب بهذه الصيغ الجازمة، فإن لم يكن في الكتاب ففي السنة المطهرة.

والإسلام مهما يبد حريصا على تدرج التشريع وتنجيم النوازل القرآنية لا يسمح قط بالخلط بين تأخير البيان لوقت الحاجة وبين تدرج التشريع، فلقد أخر الله بيان أحكام كثيرة من حلال وحرام، ومن أوامر ونواه، ولكنه حين أراد بيانها أمضى أمره فيها مرة واحدة، ولم يدع فيها للتدريج مجالًا، وعلم المؤمنين بهذا سرعة الاستجابة للأوامر الدينية وأعدهم به لتحمل التكاليف الشرعية: ففي أول أمرهم كلفهم بالصلاة والصدقة والصيام،

1 النساء 92.

2 المائدة 41.

3 البقرة 188.

ص: 58

إلا أن الصلاة كانت في البداية صلاة مطلقة بالغدوة والعشي، فما فرضت عليهم بعددها في اليوم والليلة وركعاتها وأشكالها إلا قبل الهجرة بسنة. وعرف المسلمون في أول أمرهم أنواعا من الصدقة والصيام ولكن مقادير الزكاة وشروط الصيام لم تفرض إلا بعد الهجرة بسنة، فهذا كله من مرانة الإسلام ويسره وسماحته: إذ قال الله: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2، فما يريد الله أن يشق على عباده وإنما يأخذهم بالرفق، وينهاهم عن كثرة السؤال لئلا يبدو لهم ما يكرهون من جديد التكاليف:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} 3.

وإذا سلك هذا كله في باب "تأخير البيان لوقت الحاجة" ولم يكن من التدريج في شيء، فإن انطباق هذا الحكم على السطحيات المنزلقة إلى أنفس الأفراد أو إلى أنفس المجتمعات أولى وأجدر، ومن هنا لم يدع داع إلى التدرج في تحريم الزنى ولا القتل ولا السرقة ولا أكل أموال الناس بالباطل.

إنما يكون التدرج في النوازل القرآنية إذن في مثل الخمر والميسر من العادات الشعورية أو الأمراض النفسية، وفي مثل استرقاق الأسرى من التقاليد الاجتماعية والأعراف الدولية.

وحسبنا -على سبيل المثال- أن نمر مرورًا خاطفا بالتحريم القرآني المتدرج للعادة الشعورية الخطيرة المسماة "بإدمان المسكرات": فقد نزل في أمرها أول ما نزل قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 4 فوجه أنظار السكارى إلى أن الحرمة إنما تقوم على غلبة الشر، فمهما يكن في الخمر من منافع

1 الحج 78.

2 البقرة 185.

3 المائدة 104.وقارن بأسباب النزول للواحدي 157.

4 البقرة، وانظر في تفسير المنار 2/ 219 و7/ 49 الحكمة في تحريم الخمر على مراحل.

ص: 59

اقتصادية في المتاجرة بها، ومن منافع ظاهرية في حمرة الخد التي توهم الصحة الحسنة، ومن منافع اجتماعية فيما تدفع إليه من السخاء والجود في حالة السكر والعربدة، أو من الشجاعة التي تبلغ أحيانا حد التهور في ساحة الحرب، فإن إثمها أكبر من نفعها، فتلك علة كافية لتحريمها. فكانت الخطوة الأولى تحريكا للمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، ثم تبعتها الخطوة الثانية بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 1 فضيق عليهم الفرصة لمزاولة السكر، لأن الصلوات الخمس كانت قد شرعت في أوقات متقاربة لا يكفي ما بينها للإفاقة من نشوة الخمر، حتى إذا أصبحت فرص السكر نادرة بطبيعة الحال حرم الله عليهم الخمر في لهجة قاطعة جازمة فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 2، فقالوا: انتهينا، وانتهوا حقيقة، وأصبحوا ينتظرون حدود الله في شارب الخمر، ويخجلون أن يصل الأمر بأحد المسلمين إلى أن تقام عليه هذه الحدود.

وهكذا تدرج الوحي مع النبي يربيه ويعلمه ويهديه حتى "كان خلقه القرآن" كما تقول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وتدرج في تربية المؤمنين، فلم يزين قلوبهم بحلية الإيمان الصادق، والعبادة الخالصة، والخلق السمح، إلا بعد أن مهد لذلك بتقبيح تقاليدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة شيئا فشيئا، وساعدهم نزوله المنجم على حفظ آياته في الصدور، كما قوي من عزائمهم في الشدائد، فكان دستور حياتهم علما وعملا، وكان المدرسة الصالحة التي جعلت منهم رجالا وأبطالا، ولعل ابن عباس في قوله: "نزله

1 سورة النساء: 42.

2 سورة المائدة 94.

ص: 60

جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم"1 عند تفسيره قوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} 2 إنما كان يومئ إلى هذا النوع من التربية السامية التي أتاحها للمؤمنين نزول كتابهم منجما بحسب الحاجة، متدرجا مع الوقائع والأحداث.

أراد القرآن مثلا -على الصعيد التربوي- أن يحطم العصبية الجاهلية الرعناء، وأن يستبدل التقوى بتفاخرها بالآباء، فمهد لذلك برفع العبيد الأرقاء إلى مقام السادة الأحرار: إن بلالا الحبشي الأسود ليرقى ظهر الكعبة ويؤذن يوم الفتح، فيقول المشركون مستنكرين:"أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟! " فتنزل على قلب النبي آية تضع الموازين القسط للأشخاص والقيم والأشياء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3.

وعلى الصعيد الاجتماعي، أراد الإسلام أن يحفظ على هذه الأمة اعتدالها وتوازنها، وأن يجعلها وسطا في عقائدها وأخلاقها، وعباداتها، ومعاملاتها، فمهد لذلك بتصحيح مقاييسها ودعوتها إلى ما يحييها، فلما اتفقت جماعة من الصحابة على "أن يجبوا أنفسهم، ويعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحمًا ولا دسما، ويلبسوا المسوح، ولا يأكوا من الطعام إلا قوتا، ويسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان" أنزل الله لتقويم هذا الانحراف عن دواعي الفطرة قوله الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4. ومن عجائب الإيحاء التعبيري في القرآن أن انحراف أولئك الصحابة شبه في الآية بالاعتداء والعدوان!.

أما الصعيد النفسي فيكاد القرآن فيه يخاطب كل نفس على حدة، متناولًا

1 أخرجه الطبراني والبزار من وجه، وابن أبي حاتم من وجه آخر "انظر الإتقان 1/ 18 و1/ 71" وستجد في "مبحث أسباب النزول" بيانا مفصلا لهذا كله.

2 سورة الفرقان 33.

3 الحجرات 13.وقارن بأسباب النزول للسيوطي 122.

4 المائدة 87، 88. وقارن بأسباب النزول 57.

ص: 61

بنظرته الشاملة أسرارها، كلها وخفاياها، وإنما نجتزئ هنا بتنزل قرآني واحد على سبيل المثال، لقد كلف الله الصحابة الأولين، ضروب المشقات وألوانها فتحملوها مختارين، ولكنه في آية واحدة حمل عليهم إصرا كبيرا، وحملهم ما لا طاقة لهم به، حتى جثوا على ركبهم دهشة وذهولًا، حين أنزل قوله الكريم:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1، فعجبوا كيف يحاسبهم الله على ما همت به أنفسهم ولم يعملوه، وأتوا رسول الله يقولون: قد أنزل الله عليك هذه الآية ولانطيقها! وإذا الوحي يتنزل بالتخفيف والتيسير، ويعلن مبدأه السمح الصريح:{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ! 2.

وبعد.. لئن كان تصوير الوحي لشخص الرسول دليلا وجدانيا على صدقه عليه الصلاة والسلام، لعمري إنه في تدرج نروله برهان منطقي دامغ على أن هذا الكتاب المجيد كلام الله العليم الحكيم، أنزله على رسوله هدى وموعظة وتبيانا لكل شيء.

1 البقرة 284.

2 البقرة 286. وقارن بأسباب النزول 26.وقد ظن السيوطي هنا أن هذه الآية نسخت الآية السابقة، وأما نعد هذا ضربا من تزيد العلماء في باب النسخ، وسنوضح في فصل "الناسخ والمنسوخ" بعض ما أقحمه المفسرون فيه.

ص: 62