الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: علم أسباب النزول
قد جعل الله لكل شيء سببا كما جعل لكي شيء قدرًا، فما يبصر مولود نور الحياة إلا بعد أسباب وأطوار، ولا يقع حدث في الوجود إلا إثر مقدمات وإرهاصات، ولا تتغير الأنفس والآفاق إلا عقب سلسلة من التمهيد والإعداد:"سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا! ".
ولا شيء كالتاريخ يشهد بصدق هذه السنة وانطباقها على وقائع الحياة: فما يسع مؤرخا ثاقب النظر دقيق الاستنتاج أن يجهل أسباب الحوادث ودوافعها إن أراد الوصول إلى الحقائق التاريخية الثابتة من خلال الوثائق والنصوص.
لكن التاريخ لا ينفرد وحده بالحاجة إلى استنباط النتائج من خلال المقدمات، واستبطان الحقائق من مضمون الأسباب، بل العلوم الطبيعية والدراسات الاجتماعية والفنون الأدبية تشارك التاريخ كذلك في تطلعها إلى معرفة الأسباب والمسببات، واستشرافها إلى العلم بالمبادئ والغايات.
ولسنا بسبيل الموازنة بين ضروب المعرفة هذه لنكتشف مقدار احتياج كل منها إلى دراسة أسباب الأشياء، وإنما يعنينا منها التنبيه إلى أمسها صلة ببحثنا الديني، وأقربها شبها به ورحما: وهو الفن الأدبي الذي يعول فيه على النص الجميل متلوا مسموعا، أو مقروءا منظورا، فعلى صعيد هذا الفن الأدبي ما نكاد نفهم نصا ما فهما سديدا، أو نتذوقه تذوقا سليما، إلا إذا مهدنا بين يدي دراسته بإزاحة النقاب عن الظروف النفسية والاجتماعية التي دفعت الأديب إلى التفكير فيه، ثم حملته على اختيار ألفاظه وابتداع معانيه.
ولقد يعتز دارس الأدب بثروته اللغوية وحفظه الشواهد الكثيرة من لسان العرب، ويفتخر بتمرسه بالدراسة الأدبية وتذوقه أساليب البلغاء، حتى إذا عرضت عليه قصيدة من عيون الشعر ليحدد الغرض الذي قيلت فيه، والجو الذي نظمت خلاله، تلعثم وتردد، ثم كبا وتعثر، فزعم أن القصيدة مديح وهي هجاء، أو غزل وهي عتاب، أو دعوة إلى السلم مع أنها تحريض على القتال، أو بها نفس ملحمي وإن أبياتها لتبشر بالسلام.
يقرأ الدارس المتذوق مثلا قول سعد بن مالك:
يا بؤس للحرب التي
…
وضعت أراهط فاستراحوا
والحرب لا يبقى لجا
…
حمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصبار في الـ
…
ـنجدات والفرس الوقاح1
فيؤنس في ألفاظ المقطعة يسرا وسهولة، فليس فيها ما يحفزه إلى استفتاء معجم، وإنه ليكاد يستعجل شرح الأبيات وتحليلها إذ يلفت نظره في أولها لفظ "أراهط" فيراه محتملا الرفع على الفاعلية، أو النصب على المفعولية، فهل الأراهط وضعوا الحرب واعتزلوها وآثروا السلامة بعيدا عن ساحات القتال؟ أم الحرب وضعت أولائك الأراهط، وحطتهم، وأذلتهم، حتى استسلموا للعدو وركنوا إلى الدعة والسكون؟ وهل في مطلع المقطعة إذن تأريث لنار الحرب وتهكم بالذين قعدوا عنها وجانبوها؟ فيا بؤس لها، ويا حسرة فيها على القاعدين؟! أفي مطلعها تقبيح للحرب التي تذل الكبرياء، وتخفض الهام؟ فيا بؤسها ما أشده! ويا لسعيرها ما أنكاه! وما أجدرها أن يستبدل بها السلام!.
إن حيرة الدارس لا تطول إذا استطاع أن يتقصى الظروف التي نظم فيها سعد بن مالك "حماسيته" هذه، فلسوف يرى في غضون الروايات والأخبار أن سعدا "يعرض هنا بالحارث بن عباد الذي عرف باعتزال الحرب
1 حماسة أبي تمام "شروح المرزوقي" 2/ 500 رقم الحماسية 167.
ومجانبتها"1، كأنه يدعو خلالها إلى إشعال الحرب وتأريث نارها حتى لا يقيم أحد من الفرسان على الخسف2 والهوان.
ولئن كانت معرفة جو القصيدة والظروف التي نظمت خلالها تعين على الفهم السديد، وتسعف بالذوق السليم، وتواكب الشرح الأدبي جنبا إلى جنب، لتكونن معرفة قصة الآية والأسباب التي اقتضت نزولها أعون على دقة الفهم، وأدنى إلى استلهام أرجح التأويل وأصح التفسير.
ذلك بأننا من القرآن -إذا أردنا تدبره حقا- تلقاء شيء أسمى من "علم التفسير": فما تحل أقوال المفسرين كل عقدة، وما تزيح كل شبهة، ولا تفصل كل إجمال.
ونحن من القرآن أيضا إزاء شيء فوق اللغة وقواعدها وآدابها، فإن ظلال التعبير في القرآن، وإيحاءات المفردات في آياته، وألوان التصاوير في قصصه ولوحاته، لترتبط أوثق الارتباط بالوقائع الحية، والأحداث النواطق، والمشاهد الشواخص، كأن أبطالها ما انفكوا على مسرح الحياة يغدون ويروحون، فأنى للشروح اللغوية الجامدة والاصطلاحات البلاغية الجافة أن تستطلع في الوقائع يقين أخبارها، أو تستبطن من الأحداث خفي أسرارها، وهي أعيا من أن ترجع في الآذان أصداءها الحلوة العذاب؟
ونحن من القرآن -آخر الأمر- أمام شيء فوق التاريخ نفسه، فإن وقفنا على سبب النزول التاريخي لم نكن قد تقصينا كل شيء، فما أكذب التاريخ وما أكذب المؤرخين على لسانه! وكأي في التاريخ من فجوات ينبغي أن تملأ وثغرات لا بد أن تسد أما أسباب النزول -من وجهة النظر الدينية- فليس لنا فيها إلا أن نستوحي الواقع لا صورته، والإنسان لا شبيهه، والحق لا صداه، فهل من عجب إذا حرم العلماء المحققون الإقدام على تفسير الكتاب
1 العقد "لابن عبد ربه" 5/ 220.
2 الخسف: الذل والدنية.
الله لمن جهل أسباب النزول؟ 1 وهل بالغ الواحدي2 حين قال: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها! "3.
وإن التعبير عن سبب النزول بـ"القصة" لينم عن ذوق رفيع، ويكاد يشي هنا بالغاية الفنية إلى جانب الغرض الديني النبيل: فما سبب النزول إلا قصة تستمد من الواقع عرضها وحلها، وعقدتها وحبكتها، وأشخاصها وأحداثها، وتجعل آيات القرآن تتلى في كل زمان ومكان بشغف وولوع، وتطرد السآمة عن جميع القارئين بما توالي عرضه من حكايات أمثالهم وأقاصيص أسلافهم، كأنها حكاياتهم هم إذ يرتلون آيات الله، أو أقاصيصهم هم ساعة يطربون لألحان السماء!.
ومن أجل هذا كان جهل الناس بأسباب النزول كثيرًا ما يوقعهم في اللبس والإبهام، فيفهمون الآيات على غير وجهها، ولا يصيبون الحكمة الإلهية من تنزيلها، كما حدث لمروان بن الحكم حين توهم أن قوله تعالى:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} 4 وعيد للمؤمنين، فقال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فتكموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه
1 أسباب النزول "للسيوطي" ص2.
2 الواحدي هو علي بن أحمد، ويكنى أبا الحسين، نحوي ومفسر، توفي سنة 427هـ. "إنباه الرواة 1/ 19".
3 أسباب النزول "للواحدي" ص3. وقال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب". وقال ابن دقيق العيد: "معرفة سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن" انظر الإتقان 1/ 48.
ويقارب العبارة الأخيرة قول أبي الفتح القشيري: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز، وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا". انظر البرهان 1/ 22.
4 سورة آل عمران 188.
بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} 1 فلم يزل الإشكال إلا بمعرفة سبب النزول.
ولولا بيان سبب النزول لظل الناس إلى يومنا هذا يبيحون تناول المسكرات وشرب الخمور أخذا بظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 2 فقد حكي عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معديكرب أنهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بهذه الآية، وخفي عليهما سبب نزولها، فإنه يمنع من ذلك، وهو ما قاله الحسن وغيره: لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم، وقد أخبرنا الله أنها رجس! فأنزل الله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 3.
ولولا بيان أسباب النزول لأباح الناس لأنفسهم التوجه في الصلاة إلى الناحية التي يرغبون، عملا بالمتبادر من قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 4. ولكن الذي يطلع على سبب نزول الآية يستنتج أنها عالجت حال نفر من المؤمنين صلوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة مظلمة فلم يدروا كيف القبلة، فصلى كل رجل منهم على حاله"5 تبعا لاجتهاده، فلم يضع الله لأحد منهم عمله، وأثابه الرضى عن صلاته ولو لم يتجه إلى الكعبة، لأنه لم يكن له إلى معرفة القبلة سبيل في ظلام الليل البهيم!.
1 صحيح البخاري، كتاب التفسير 6/ 40، تفسير ابن كثير 1/ 436. الإتقان 1/ 48 البرهان 1/ 27.
2 سورة المائدة 93.
3 البرهان 1/ 28 "وقارن بأسباب النزول للواحدي 196، وتفسير ابن كثير 1/ 97، والإتقان 1/ 53".
3 سورة البقرة 115.
5 أسباب النزول "للواحدي" ص25.
وإذ كان بحثنا عن أسباب النزول خاصة، فإننا لن نعرض لما أنزله الله ابتداء غير مبني على سبب من سؤال أو حادثة، كأكثر الآيات المشتملة على قصص الأمم الغابرة مع أنبيائها، أو وصف بعض الوقائع الماضية أو الأخبارية الغيبية المستقبلة، أو تصوير قيام الساعة أو مشاهد القيامة أو أحوال النعيم والعذاب، وهي في القرآن كثيرة أنزلها الله لهداية الخلق إلى الصراط المستقيم، وجعلها مرتبطة بالسياق القرآني سابقة ولاحقة، من غير أن تكون إجابة عن سؤال أو بيانا لحكم شيء وقع. قال السيوطي:"والذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك، وكذلك ذكره في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} سبب اتخاذه خليلا، فليس ذلك من أسباب النزول كما لا يخفى"1.
فبحثنا إذن ينحصر في معرفة "ما نزلت الآية أو الآيات بسببه متضمنة له أو مجيبة عنه أو مبينة لحكمه زمن وقوعه"، وهو ما عبرنا عنه بـ"سبب النزول".
وهذا التعريف الذي اصطلحنا عليه يستلزم قسمة ثنائية لآيات القرآن، لبعضها علاقة بأسباب النزول، وليس لبعضها الآخر أية علاقة بهذه الأسباب، فما نقل عن علي وابن مسعود وغيرهما من علماء الصحابة من أنه "لم تنزل آية إلا علم أحدهم فيما نزلت، وفيمن نزلت، وأين نزلت"2 ينبغي ألا تؤخذ بمعناه الحرفي حتى ولو أقسم أحدهم على هذا3، فإما أنهم يريدون به -على
1 الإتقان 1/ 53.
2 الإتقان 1/ 222.
3 وذلك ما نقلوه عنهم حقا، فعلي كرم الله وجهه يقسم -كما رووا عنه- قائلا:"والله ما نزلت آية إلا وأنا أعلم فيم نزلت". ومثله قسم عبد الله بن مسعود، وإن كان ابن مسعود: يقول: "فيمن نزلت"، فاجتمع من قسميهما كليهما العلم بنزول الآيات في الأشخاص.
طريقة العرب في المبالغة- تأكيد عنايتهم بهذا الكتاب الكريم، وتتبعهم كل أمر يتصل به، وإما أنهم يحسنون الظن بما سمعوه وشهدوه في عهد الرسول الكريم، ويودون لو أخذ الناس عنهم كل ما يعرفون حتى لا يذهب العلم بذهابهم وإن كان محتملا عقلا أن يكون أحدهم فاته أن يعرف بنفسه معرفة شخصية سبب نزول آية ما، ولم يتيسر له أن يعرفها إلا من صحابي آخر، لكنه عد معرفته لها -ولو بالواسطة- علما بها كعلمه بكل ما سمعه بأذنه مباشرة من غير وسيط، وإما أن الرواة تزيدوا في نقل هذا عنهم وعزوه إليهم، فإن في عبارتهم نفسها ضربا من التفاخر بالعلم يصعب علينا تصديق صدوره عنهم وهم الذين ضربت الأمثال بتواضعهم الجم وأدبهم الرفيع في الورع والإحجام عن التفيا في الدين.
هذا، وقد عرفنا الصحابة منصرفين إلى تلقي القرآن، مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جل أوقاتهم، كما يملك عليهم كل مشاعرهم، وكان الوحي ينزل على نبيهم في كل لحظة أو يمكن على الأقل أن ينزل في أي لحظة بالآية والآيات بعد الواقعة أو الواقعات، فأنى لأولئك الصحابة الوقت لمتابعة سبب كل آية! وكيف يتيسر للواحد منهم أن يشهد بنفسه نزول كل آية، وأن يكون دائما في المكان أو الزمان اللذين نزلت في نطاقهما الآيات! وإذا اندفع بعضهم إلى حفظ كل ما سمعه أو تقييده، فهل يجب أن يكون كل ما حفظه وعلمه متناولا كل ما يجب أن يحفظ أو يعلم من أسباب النزول؟ 1.
إن المنطق السليم ليحكم بأن أحدهم إنما كان يتكلم على معرفته الدقيقة بما تيسر له سماعه بنفسه، ولكننا لا نستبعد أن يكون هو نفسه جاهلا بعض هاتيك الأسباب، مثلما لا نستبعد أن يكون العلماء بالقرآن قد جهلوا الكثير
1 قارن بما ذكرناه في كتابنا "علوم الحديث ومصطلحه ص7" عن صعوبة تقييد الصحابة كل ما حدث به النبي من أحاديث، فإن الموضوعين متشابهان، بل يكادان يرتدان إلى موضوع واحد.
من هذه الأسباب، وأنه كلما امتد بالناس الزمان ازداد جهلهم بها لبعدهم عن الينبوع الصافي النمير، لذلك كان علماء السلف الصالح يتشددون كثيرا في الروايات المتعلقة بأسباب النزول، وكان تشددهم يتناول أشخاص رواتها وأسانيدها ومتونها. فأما الأشخاص فما كان أشد ورعهم إذ يستفتون في أسباب النزول! هذا محمد بن سرين1 يقول: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: "اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن"2. ولكن هذا الورع لم يكن ليمنعهم من قبول أخبار الصحابة في مثل هذه الموضوعات، وحجتهم في هذا لا تقبل الجدل، فهم يرون "أن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، بل عمدته لنقل والسماع، محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يبعد جدا أن يقول ذلك من تلقاء نفسه"3. ولذلك قرر ابن الصلاح والحاكم وغيرهما في علوم الحديث أن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل إذا أخبر عن آية أنها أنزلت في كذا فإنه حديث مسند، له حكم المرفوع4.
وليس من الرواية الصحيحة في هذا المجال قول التابعي إلا إذا اعتضد بمرسل آخر رواه أحد أئمة التفسير الذين ثبت أخذهم عن الصحابة كعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب والضحاك5.
1 هو محمد بن سرين البصري، ويكنى أبا بكر. اشتهر بالحديث وتعبير الرؤيا، وكان إمام عصره في علوم الدين بالبصرة. توفي سنة 110 "تهذيب التهذيب 9/ 214".
2 الإتقان 1/ 52.
3 منهج العرفان، لمحمد علي سلامة، ص39. "انظر الإتقان 1/ ص52".
4 معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا، وربما لم يجزم بعضهم فقال:"أحسب هذه الآية نزلت في كذا" كما أخرجه الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجهه، الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} "الإتقان 1/ 52". وانظر أيضا "الإتقان 1/ 229". والشراج جمع شرج، وهو مسيل ماء من الحرة إلى السهل.
5 الإتقان 1/ 553.
وبقبول خبر الصحابي الذي شهد التنزيل، والتابعي الذي أخذ عنه الصحابي، فهم أن الغرض من اشتراط صحة الرواية التحقق من وقوع المشاهدة أو السماع للحادثة أو السؤال الذي كان سبب نزول شيء من القرآن.
ولعل التحقق من هذه الوقائع جميعا هو الذي حمل العلماء على أن يحصروا الوسيلة لمعرفة سبب النزول في الرواية الصحيحة، مستبعدين فيها كل محاولة شخصية لإبداء الرأي أو الاجتهاد في مثل هذا الموضوع. وإلى هذا أشار الواحدي بقوله:"ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب"1. ثم عرض الواحدي بعد ذلك صورة من تحرج السلف الصالح في القول بأسباب النزول مخافة الكذب على القرآن بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثم أخذ على العلماء في زمانه تساهلهم في رواية هذه الأسباب، كأنهم لا يلقون بالا إلى الوعيد الذي أنذر الله به كل من افترى على الله كذبا، فقال مستاء متألما: "وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيًا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية"2!
ولكيلا نسلك في عداد أولئك المخترعين في الدين، الخائضين في الإفك المبين، نعترف -كما ندعو علماء عصرنا- إلى الاعتراف بأننا جميعا مهما نجد في طلاب الروايات الصحيحة التي توصلنا إلى أسباب نزول الكتاب، لن يكون في وسعنا أن نجمع الآيات كافة التي وقع نزولها بعد أسئلة أو أسباب، فذلك يلجئنا إلى وضع تصانيف كثيرة تحيط بهذه المعلومات الدقيقة الواسعة بعد تمحيص كل ما ورد فيها من متون وأسانيد.
ولقد تعرضت تصانيف القدامى أنفسهم في أسباب النزول للنقد الشديد، رغم ما اتسم به مؤلفوها من الورع البالغ والحذر العلمي الأمين، فلن يكون نقد ما نقوله اليوم إلا أشد وأقسى، ولن يكون المأخذ علينا إلا أمرَّ وأنكى!
1 أسباب النزول "للواحدي" ص3-4.
2 نفسه ص4.
وحسبك أن السيوطي-بعد أن ذكر الذين أفردوا هذا العلم بالتصنيف1- ما لبث أن عرض بما في كتاب "الواحدي" من "إعواز"2، ثم عرض باختصار الجعبري3 لهذا الكتاب و"حذفه أسانيده من غير أن يزيد عليه شيئا"، وأخبر بعد ذلك بأن شيخ الإسلام أبا الفضل بن حجر4 ألف في أسباب النزول "كتابا مات عنه مسودة، فلم يتيسر للسيوطي أن يقف عليه كاملا" ومع أن عبارته تشي بأنه وقف على شيء منه أو على المسودة كلها التي مات أبو الفضل عنها لم يشر قط إلى إعجابه بصنيعه ورضاه عنه، بل أوشك أن يكون إلى نقده أقرب حين جعل صنيعه وصنائع السابقين كلهم في كفة، وصنيعه هو -أعني السيوطي- في كفة أخرى في "كتابه الحافل الموجز المحرر الذي لم يؤلف مثله في هذا النوع"، وهو المسمى "لباب النقول، في أسباب النزول! "5.
وربما لم يكن لافتخار السيوطي بكتابه كبير قيمة في نظرنا، فقد ألفنا في الأعصر المتأخرة هذه النغمة المزهوة الفخور تتردد في مواطن شتى من كتب أولئك العلماء الجماعين، وألفنا بصورة خاصة هذه النغمة غير المحببة في كتب
1 وقد عد السيوطي أقدمهم في هذا الباب علي ابن المديني شيخ البخاري. الإتقان 1/ 48.
2 الإتقان 1/ 48.
3 هو إبراهيم بن عمر بن إبراهيم المشهور بالجعبري، ويلقب ببرهان الدين. له تصانيف قيمة منها "روضة الطرائف، في رسم المصاحف" و"عقود الجمان" وشرح للشاطبية في علوم القراءات يسمى "كنز المعاني" توفي سنة 732 "الدرر الكامنة 1/ 50".
4 هو الإمام الحافظ المؤرخ شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، واسمه أحمد بن علي، أبو الفضل شهاب الدين. ينسب إلى عسقلان "بفلسطين" وفيها كان مولده. أقبل على حفظ الحديث وألف فيه حتى انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك، من كتبه القيمة المطبوعة "لسان الميزان" و"تهذيب التهذيب" و"الإصابة في تمييز أسماء الصحابة"، و"الدرر الكامنة في أدلة المائة الثامنة"، و"تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة"، و"بلوغ المرام في أدلة الأحكام"، و"طبقات المدلسين" الذي سماه "أهل التقديس" ومن كتبه المخطوطة الجديرة بالنشر "الإحكام لبيان ما في القرآن من أحكام"، و"نزهة الألباب في الألقاب"، و"تحفة أهل الحديث عن شيوخ الحديث"، و"المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس". وتوفي ابن حجر سنة 852هـ. "الأعلام 1/ 173".
5 الإتقان 1/ 48. وقد طبع "لباب النقول" ببولاق سنة 1280هـ، بهامش "تفسير الجلالين".
السيوطي نفسه رحمه الله وغفر له، ولكن يعنينا من لهجة الفخر هذه ما توحي به من إعواز الكتب القديمة حقا، فلولا نقص فيها حال دون وفائها بهذا العلم العظيم لما آنس السيوطي وغيره جراءة على رميها بالضعف والإعواز.
وليت ذلك الإعواز كان موطن الضعف الوحيد في هاتيك التصانيف: إنها لتعج حتى بالأخطاء التاريخية، والمغالطات المنطقية، والمبالغات العجيبة، والغرائب النادرة!
يقرأ الواحدي مثلا قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1، فلا يستنتج منه أنه وعيد عام مطلق للذين يستهينون بالمعابد، ويعطلون الشعائر، وينتهكون الحرمات، ويسعون في خراب بيوت الله، بل يقع في خطأ تاريخي فاحش لو كان متعلقا بشخصه هو لهان أمره، ولكنه يحمله حملا على نص في كتاب الله، وما كان له ولا لغيره أن يحملوا على القرآن خطأ من أخطائهم: فمن عجب أن الواحدي لم يتحرج هنا من أن يذكر رأي قتادة الذي قال: إن الآية نزلت في بختنصر البابلي وأصحابه، فقد غزوا اليهود، وخربوا بيت المقدس، وأعانتهم على ذلك النصارى من الروم2، فيذكر اتحاد النصارى مع بختنصر على تخريب بيت المقدس مع أن حادثة بختنصر هذا وقعت قبل ميلاد المسيح بستمائة وثلاث وثلاثين سنة3.
ويغتفر للواحدي هذا الخطأ لأمرين: أما أحدهما فهو أنه لم يكن معدودًا بين المؤرخين، وأما الآخر فهو أنه لم يختر رأي قتادة بل اكتفى بذكره من غير تعليق عليه كأنه لا يرى فيه بأسًا، وإن كان قد ذكر قبله تأويلا وبعده
1 سورة البقرة 114.
2 أسباب النزول للواحدي 24.
3 قارن بتفسير المنار 1/ 431.
تفسيرا، وجاء كلا الأمرين الآخرين محتملا، ففي التأويل الأول قول ابن عباس من رواية الكلبي:"نزلت الآية في طيطوس1 الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرقوا التوارة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف" ولا مانع من هذا التأويل في نظر المؤرخين لأن دخول طيطوس بيت المقدس وتخريبها وقع بعد المسيح بسبعين سنة. وفي التفسير الآخير قول ابن عباس أيضا ولكن من رواية عطاء2: "نزلت في مشركي أهل مكة، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام"، وابن عباس يشير بهذا إلى قصة عمرة الحديبية، وربما بدا هذا التأويل للوهلة الأولى أقرب إلى السياق القرآني والتاريخي، أو ربما بدا على الأقل أكثر احتمالا من حادثة طيطوس، إذ طال على هذه الأمد فلا مناسبة لأن تكون هي المقصودة بالآية، ولكن يعترض على هذا التأويل بأن مشركي العرب عمروا المسجد الحرام في جاهليتهم، وعدوه مناط عزهم وفخرهم، وما سعوا في خرابه قط، فلا تقصدهم الآية إلا في ناحية واحدة: وهي منعهم النبي وأصحابه من دخول مكة في عمرة الحديبية3.
وحتى الخطأ الفاحش الذي ارتكبه الواحدي -جهلا بحوادث التاريخ- يمكن التماس العذر له فيه بحمل قوله على أدرينال الروماني الذي سماه اليهود "بختنصر الثاني" وقد جاء بعد المسيح بمائة وثلاثين سنة، وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزينها وجعل فيها الحمامات، وبنى هيكلا للمشتري على أطلال هيكل سليمان، وحرم على اليهود دخول المدينة، وجعل جزاء من
1 وردت في مطبوعة "أسباب النزول ص24" ططلوس، صوابها ما أثبتناه، ومنهم من يسميه "تيتوس" بتاءين بدلا من الطاءين.
2 لا بد أن يلاحظ هنا كيف تضاربت روايتان كلتاهما عن ابن عباس، إلا أن أحداهما من طريق الكلبي والأخرى من طريق عطاء! ومن عجب أن ابن عباس نفسه يرى الآية نازلة تارة في الرومان وتارة في العرب!.
3 ومن هنا رأى الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير المنار 1/ 431 أنه يصح أن تكون الآية في الأمرين على التوزيع، فالذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم مشركو مكة والذين سعوا في خرابها هم مشركو الرومانيين، وفي قرن العملين إشارة إلى تساويهما في القبح!.
يدخلها القتل1.
وإن التمسنا للواحدي مثل هذا العذر، فأي عذر لابن جرير الطبري المفسر المؤرخ الذي لم يكتف بذكر حادثة بختنصر كما فعل الواحدي، بل اختارها من بين طائفة من الأقوال كعادته، فصرح قائلا:"وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} النصارى، وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر على ذلك، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده"؟! 2.
ما بال ابن جرير يرجح هذا القول ويختاره وهو المؤرخ الحجة الحافظ؟ ألنا على الصعيد العلمي أن نحمل قوله على بختنصر الثاني دفاعا عنه وتحيزا إليه أم نسلم بالخطأ التاريخي يقع به أكابر العلماء وأوثق الحافظين؟
ولو استعرضنا نظائر هذه الأخطاء التاريخية التي حملت حملا على أسباب النزول، وأنطقت القرآن بما لم ينطق، لطال بنا الاستعراض، وامتد بنا التجوال، وإنما ننتهزها فرصة لنضع أيدينا على السر الكامن وراء هذه الأخطاء، فهو في نظرنا ظن أكثر العلماء أن لا بد لكل آية من سبب نزول حتى في وقائع الأمم الماضية التي دفنت معها أسبابها ونتائجها، وطويت في رموسها مقدماتها وعواقبها، فإن كان لزاما التماس سبب نزول لها فليكن متعلقا بالأحياء على عهد الرسول الكريم، سواء أكانوا من المؤمنين أم من المشركين أم من أهل الكتاب.
فبدلا من أن يقال في الآية التي نحن فيها: إن سبب نزولها دخول بختنصر أو طيطوس بيت المقدس لتخريبه، تلقى نظرة فاحصة على السياق القرآني قبلها فيلاحظ أنه كان خطابا لأهل الكتاب عامة ومن على شاكلتهم وأنه بالضرورة
1 تفسير المنار 1/ 431.
2 تفسير الطبري 1/ 397. ومن العجيب أن ابن جرير يستدل على صحة ما ذكره بعبارة طويلة لا مجال لنقلها هنا، فيراجعها القارئ إن شاء 1/ 398.
ما يبرح خطابا لهم ولأمثالهم، يستنكر كل حادثة تنتهك فيها حرمات المعابد سواء أوقعت في عهدهم أم في عهد أسلافهم، وسواء أصدرت عنهم أم عن غيرهم، وسواء أوقعت حقا أو سوف تقع أم يمكن أن تقع، فخطابهم بالآية لا يرمي إلى تعيين الأشخاص أو الأمكنة أو الأزمنة، وإنما يتناول وعيدا شديدا لكل من تحدثه نفسه بتخريب المعابد في أي زمان أو مكان!
وإيثار مثل هذا التأويل ينقذ المفسر من الخبط الأعمى في أسباب النزول، ويفرد في القرآن سورا وآيات نزلت ابتداء غير مبنية على سبب، وكان المنطق نفسه يقضي بأن تتنزل هكذا ابتداء من غير أسباب، أو كان المنطق يقضي بأن يكون لها سبب عام لا ينبغي أن يعد سببا حقيقيا: كقصة موسى التي تكررت في مواطن مختلفة من القرآن بصور شتى، فإنها نزلت ابتداء غير مبنية على أسباب، ومن أبي إلا أن يلتمس لها أسبابا ردها جميعا إلى سبب واحد عام هو تسلية النبي وتثبيت فؤاده في غمرة الشدائد التي كان يلقاها من قومه الجفاة العتاة، لكن الآيات التي صورت قصة موسى -وقد نزلت في غير زمن صاحبها- يقال: إنها نزلت لتسلية محمد لنزولها في زمانه، ولا يقال: إنها نزلت في موسى وقومه، لأنها تنزلت بعد إسدال الستار على تلك القصة بقرون وأجيال!.
فلا معنى للاعتراض إذن بمثل قصة يوسف التي ورد فيها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ، إلى قوله:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية1، لأن سبب نزول السورة كلها لا آياتها الأولى وحسب أمر صريح يتعلق بالصحابة السائلين أنفسهم، فقد كانوا متعطشين حقا إلى قصص قرآني يكون لهم فيه موعظة وعبرة، وقد رغبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة لا لبس فيها في الاستماع
1 أسباب النزول "للواحدي" ص203 والحديث من رواية الصحابي سعد بن أبي وقاص.
لأحسن القصص1، وما في ذلك مكان لعجب، كما لم يكن في سؤال اليهود عن ذي القرنين موضع لعجب، حتى قال قتادة: "إن اليهود سألو نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأنزل الله تعالى هذه الآية:{وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} 2.
لذلك لم نتشدد في عبارتنا الموضحة للقسم القرآني الذي نزل ابتداء غير مبني على سبب، فلم نجعل هذا القسم شاملا كل الوقائع الماضية بل أكثرها، ولا شاملا كل القصص القرآني بل أغلبه، ولا شاملا حتى كل مشاهد القيامة وتصوير الجنة والنار بل جل هاتيك المشاهد والصور3: فلا شيء يمنع أن يكون لبعض هذه النوازل أسباب، ولكن لا مفر للباحث من أن يسلم بقلة احتياجها إلى هذه الأسباب حين يوازن بينها وبين غيرها من القضايا التشريعية والتوجيهية في كل من الميدانين الفردي والاجتماعي، فما أقرب ما يفكر القارئ بسبب النزول إذا وقعت عينه على آية في أحكام العبادات، أو المعاملات، أو الحلال والحرام، أو الغزو والجهاد، أو الأحوال الشخصية، أو الحقوق المدنية، أو المعاهدات الدولية، فما يفهم شيء من هذا إلا إذا ارتبط بسبب نزوله التاريخي، وسلك في نطاقه النفسي أو الاجتماعي الذي كان سر مهبط الوحي فيه.
وإذا غضضنا النظر عن بعض هذا الخلط غير المقصود الناشئ من مبالغة المفسرين بإدراج الواقائع الماضية في أسباب النزول، واجهنا عقبات أخرى في صيغ الروايات المتعلقة بهذه الأسباب، فليست عبارة الراوي الصحيحة نصا في
1 يدل على ذلك أيضا أن سعدا يقول في حديثه نفسه بعد ذلك: فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا فأنزل الله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} ثم يعلق سعد على هذا بقوله: "كل ذلك ليؤمنوا بالقرآن" انظر أسباب النزول "للواحدي" ص203.
2 سورة الكهف. وقارن بالواحدي 225.
3 من ذلك مثلا أن أبا عالية والضحاك ذكرا في نزول الآية {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} من سورة الواقعة: إن المسلمين نظروا إلى واد مخصب بالطائف، فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} . أسباب النزول للواحدي 301.
بيان سبب النزول في جميع الأحوال، بل فيها النص الواضح، وفيها ما يحتمل السبب وسواه، فإذا صرح الراوي بلفظ السبب فقال:"سبب نزول هذه الآية كذا"، أو أتى بفاء تعقيبية داخلة على مادة نزول الآية بعد سرده حادثة ما أو ذكره سؤالا طرح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"حدث كذا أو سئل عليه الصلاة والسلام عن كذا فنزلت آية كذا" فذلك نص واضح في السببية. وأما إذا اكتفى بقوله "نزلت هذه الآية في كذا" فإن العبارة تحتمل مع السببية شيئا آخر هو ما تضمنته الآية من الأحكام، قال الزركشي في "البرهان":"قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: "نزلت هذه الآية في كذا" فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزوله. وجماعة من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسند كما في قول ابن عمر في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} . وأما الإمام أحمد فلم يدخله في المسند، وكذلك مسلم وغيره، وجعلوا هذا مما يقال بالاستدلال والتأويل، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع"1، ولذلك لو قال راو: نزلت هذه الآية في كذا وقال آخر: نزلت في غير ذلك، فإن كان اللفظ يحتمل كلا القولين حمل عليهما، ولا تناقض في ذلك، وإلا تعين ما يدل عليه اللفظ ويساعد السياق على فهمه. وأما إذا قال أحد الراويين:"نزلت الآية في كذا" بهذا النص الصريح، فإن المعول عليه ما كان نصا، فهو أولى بالتقديم مما كان محتملا.
وقد تتعدد الروايات في سبب نازل واحد من القرآن، وتؤدي تلك الروايات بألفاظ صريحة في إفادة السببية، فللعلماء في مثل هذه الحال مقياس دقيق يرجحون به إحدى تلك الروايات أو يوفقون بينها توفيقا سائغا مقبولا.
فإن جاءت روايتان كلتاهما صحيحة، ولم نستطع ترجيح إحداهما جمعنا بينهما وحملنا الأمر على وقوع سببين نزلت الآية بعدهما معا. مثال ذلك ما
1 هذه عبارة الرزكشي في "البرهان" 1/ 31-32، وقد اختصرها السيوطي في الإتقان 1/ 53.
أخرجه الشيخان -واللفظ للبخاري- عن سهل بن سعد: أن عويمرا أتى عصام بن عدي، وكان سيد بني عجلان، فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فجاءه عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك"، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها1.
وأخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية2 قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك"! فقال: يا رسول الله، إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة3؟؟! فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} حتى بلغ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 4. فتقارب الزمن بين الحادثين يجعل الجمع بينهما ميسورًا، فقد بدأ أحد هذين الصحابيين سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الموضوع، ثم قفاه الآخر قبل أن يجبيه عليه الصلاة والسلام، ثم أنزل الله آيات الملاعنة في سورة النور إجابة لكلا السائلين، وليس ببعيد -كما يقول الحافظ الخطيب- أن يكون قد "اتفق لهما ذلك في وقت واحد" وحمل الأمر على تعدد السبب هو الظاهر،
1 البخاري 6/ 99.
2 هو هلال بن أمية الخزاعي، أحد الثلاثة الذين خلفوا وضافت عليهم الأرض بما رحبت. ثم تاب الله عليهم. وقارن بالبخاري 6/ 100.
3 وفي رواية أنه قال: "والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد""البخاري 6/ 101".
4 راجع تفصيل القصة في تفسير ابن كثير 3/ 265. وقارن ذلك بالإتقان 1/ 56.
وهو أولى بالاعتبار، ولا مانع من تعدد الأسباب"، على حد تعبير ابن حجر1.
وإن كانت الروايتان صحيحتين، ولم نستطع ترجيح إحداهما ولا الجمع بينهما لتباعد الزمن بين أحداثهما، حملنا الأمر على تعدد نزول الآية.
مثال ذلك: ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: "لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل -والنبي صلى الله عليه وسلم واقف- بخواتم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة، وهن ثلاث آيات2.
وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب قال: "لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة، فمثلوا به، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية3.
لا يمكننا هنا الجمع بين الروايتين، لتباعد الزمن بين الحادثتين، فإحداهما متعلقة بغزوة أحد، والأخرى بفتح مكة، وبينهما بضع سنين، فلا بد لنا من القول بتعدد نزول الآيات، أول الأمر في غزوة أحد، وبعد ذلك عقب فتح مكة. ومن ذلك ما يرويه البخاري -واللفظ له- عن المسيب "لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أي عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال
1 الإتقان 1/ 56.
3 الإتقان 1/ 57.
النبي صلى الله عليه وسلم، "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى
…
} إلى قوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وهذه الآية من سورة التوبة نزلت في المدينة آخر الأمر بالاتفاق، مع أن وفاة أبي طالب كانت في مكة2، ومن ذلك سورة الإخلاص، فقد ورد أنها جواب للمشركين بمكة، وجواب لأهل الكتاب بالمدينة3. ولا مانع من تعدد النزول. قال الزركشي في "البرهان": "وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا عند حدوث سبب خوف نسيانه، كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين: مرة بمكة، وأخرى بالمدينة"4.
وإن كانت الروايتان صحيحتين، ويمكننا ترجيح إحداهما لأنها أصح من الأخرى، أو لأن راويها شهد الحادثة دون راوي الأخرى، فلا ريب أن سبب النزول يؤخذ من الراجحة الأصح.
مثال ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح. فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 5. وما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: "قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل.
1 التوبة 113 "وانظر البخاري كتاب التفسير 6/ 69".
2 البرهان 1/ 31.
3 البرهان 1/ 30.
4 البرهان 1/ 29 "فصل فيما نزل مكررًا".
5 هذه عبارة السيوطي في الإتقان 1/ 55 نقلا عن صحيح البخاري، وللبخاري في هذا الصدد رواية أخرى يختلف لفظها اختلافا يسيرا عن التي أوردها السيوطي، "تراجع في كتاب التفسير 6/ 87" وابن كثير يومئ في تفسيره "1/ 60" إلى هذا الحديث برواية أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود.
فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية1.
هنا روايتان: إحداهما عن البخاري فهي صحيحة، والأخرى عن الترمذي وقد صححها أيضا، إلا أن صحيح البخاري يقدم لدى الجمهور على صحيح الترمذي، فالرواية الأولى أرجح من هذا الوجه، ثم إن ابن مسعود في هذه الرواية الراجحة قد حضر القصة وعاينها وما راء كمن سمع، وهذا وجه ثان في ترجيحها، بل هو الوجه الأقوى في الترجيح2.
وإذا كنا نأخذ في بيان السببية بالرواية الأرجح الأصح، مع أن ثمة رواية أخرى صحيحة كذلك لكنها مرجوحة، فمن الطبيعي بعد ذلك أن ما صحت فيه إحدى الروايتين دون الأخرى لم يعول فيه إلا على الصحيحة. مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنز الله:{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 3. وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة، عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها، كانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن جروا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني! فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترتعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله: {وَالضُّحَى} وإلى قوله: {فَتَرْضَى} . ورائحة الوضع
1 الإتقان 1/ 55.
2 وفي هذا يقول السيوطي: "وقد رجح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره" وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة" الإتقان 1/ 55.
3 البخاري 6/ 182.
ظاهرة في الرواية الثانية، فكل ما فيها من اللفظ والمعنى يدعو إلى الدهشة والاستغراب، بينما الرواية الأولى صحيحة، فلا مسوغ لترددنا وتساؤلنا: أيهما تعمل وأيهما تهمل؟ إذ لا مكان للباطل إلى جانب الصحيح، قال ابن حجر:"قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول لآية غريب، وفي إسناده من لا يعرف، فالمعتمد ما في الصحيح"1.
وقد تكون حادثة واحدة سببا في نازلين أو أكثر من القرآن، وهوم ما يعبرون عنه بقولهم:"تعدد النازل والسبب واحد". مثال الحادثة الواحدة تكون سببا في نازلين، ما أخرجه ابن جرير الطبري والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه". فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"علام تشتمني أنت وأصحابك؟ " ، فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} من سورة التوبة.
وأخرج الحاكم هذا الحديث بهذا اللفظ وقال: فأنزل الله {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} من سورة المجادلة2.
ومثال الحادثة الواحدة تكون سببا في أكثر من نازلين من القرآن ما أخرجه الحاكم والترمذي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر
1 الإتقان 1/ 45 "الروايتان كلتاهما مع تعليق ابن حجر في الصفحة نفسها".
2 الإتقان 1/ 58.
النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} من سورة آل عمران.
وأخرج الحاكم أيضا عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله: تذكر الرجال ولا تذكر النساء، فأنزل الله:{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} من سورة الأحزاب، وأنزلت:{أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} الآيات السابقة من سورة آل عمران1.
تلك أنماط من مقاييس المفسرين المحققين في ترجيح الروايات المنبئة عن أسباب النزول، وقد تفردت هذه المقايسس -كما رأينا- بدقة المصطلح، وحصافة النقد، ولطف التذوق، وبراعة التخريج، وبذلك كله تيسر لهؤلاء الأئمة الثقات أن يضعوا أيديهم على مفاتيح أسباب النزول بنجوة من غلو الغلاة، وعجلة المتسرعين، وخوضهم فيما لا طائل تحته من أوهام المؤرخين، إذ جعلوا درس القرآن فوق روايات التاريخ، مثلما جعلوه فوق علم التفسير وقواعد اللغة والبيان.
1 الإتقان 1/ 57-58.
وفي ضوء هذه الدراسة النقدية الرشيقة رأى أولئك المحققون رأي العين أن نزول الآيات على ما اكتشفوه من الأسباب الفردية الخاصة لا يتعارض مع وضع الآيات في مواضع تناسب سياقها، إذ كان القرآن ينزل على الأسباب منجما تبعا لما تفرق من الوقائع، وكان النبي الكريم يأمر بكتابة الآية أو الآيات مع ما يناسبها من الآي في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها تثبيتا لمفهوم الوحي، ورعاية النظم القرآن وحسن السياق1.
وكان في جمعهم بين السبب التاريخي والسياق الأدبي ما لا تدرك العبارة وصفه من رهافة حسهم النقدي والفني، فما أغفلوا حقائق التاريخ في اشتراط الزمان لمعرفة سبب النزول، ولا أغفلوا التناسق الفني حين أقصوا فكرة الزمان لمراعاة السياق، "لأن الزمان -كما يقول الزركشي- إنما يشترط في سبب النزول، ولا يشترط في المناسبة، إذ المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها"2.
وما أكثر الآيات التي وضعت في السطور على حسب الحكمة ترتيبا، وحفظت في الصدور على حسب الوقائع تنزيلا!.
إن قوله تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 3 قد نزل في رجل من أهل الكتاب يسمى كعب بن الأشرف، كان قدم إلى مكة وشاهد قتلى بدر وحرض الكفار على الأخذ بثأرهم وغزو النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: من أهدى سبيلا؟ المؤمنون أو هم؟ فتملق عواطفهم وقال: بل أنتم أهدى من المؤمنين سبيلا! 4.
1 البرهان 1/ 25-26.
2 البرهان 1/ 26.
3 سورة النساء 51.
4 قارن بتفسير الطبري 5/ 85.
وبعد أن تتعاقب الآيات في حق هذا الرجل وحق من شاركه في تلك المقالة من أهل الكتاب، يتجه السياق القرآني إلى آية جديدة في مقطع جديد يدور الحديث فيه حول أداء الأمانات إلى أهلها. فيقول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 1، وإنما نزلت هذه الآية -كما يقول المفسرون- في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري حاجب الكعبة لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه2، وما دامت هذه الآية قد نزلت في الفتح وتلك نزلت في قصة كعب بن الأشرف عقب بدر، فإن بينهما ست سنين، فلم جعلت هذه إلى جنب تلك؟ ولم قفي هذا الموضوع بذلك رغم الفاصل الزمني البعيد؟!.
إن العلماء المحققين ليجدون الرابط المشترك بين هذين المقطعين، فيكادون يستخرجون منهما موضوعا واحدا محكم البناء، متلاحم الأجزاء، آخذا بعضه بأعناق بعض، إذ يرون مثلا أن الذين تملقوا عواطف المشركين وقالوا لهم: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، هم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد أخذت عليهم المواثيق ألا يكتموا تلك الأمانة فخانوها ولم يؤدوها، وكانت حالهم في الخيانة كحال الذين يحملون الأمانات ثم لا يحملونها، وناسب أن يدعوا ويدعى معهم كل إنسان إلى استشعار معنى الأمانة في كل ما كان عنه مسئولا3.
لعل المفسرين إذن لم يبالغوا حين قدموا أحيانًا ذكر المناسبة بين الآيات على معرفة سبب نزولها، كلما رأوا هذه المناسبة هي المصححة لنظم الكلام، ولعلهم بلغوا ذروة التحقيق العلمي حين أوجبوا البداءة بذكر سبب النزول
1 سورة النساء 58.
2 تفسير ابن كثير 1/ 515. وقارن بتفسير الطبري 5/ 91-92.
3 قارن بقول الفقيه المالكي أبي بكر بن العربي في تفسيره: "وجه النظم أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم، فانجر الكلام إلى ذكر الأمانات". ذكره الزركشي في البرهان 1/ 26.
حين يكون وجه المناسبة متوقفا على معرفة الأسباب، كما في آية "أداء الأمانات إلى أهلها" فلولا التحقق من سببها لتعذر على القارئ العادي التماس وجه تناسبها مع السياق القرآني سابقه ولاحقه.
وإن في تساؤل المفسرين -رغم ما جرت به عادتهم من الابتداء بذكر الأسباب- عن الأولى أن يبتدئوا به تقديم المناسبة أم تقديم السبب، لإيحاء أقوى من التصريح بأن ارتباط آي القرآن، وتناسق بعضها مع بعض، واقتران كلماتها وجملها، ومشاهدها وصورها، علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وفسرت في ضوئه أكثر أحكامه وشرائعه. لذلك كان الإمام أبو بكر النيسابوري1 الذي أظهر هذا العلم بغداد يزري على علماء بلده لجهلهم وجوه المناسبة بين الآيات، وكان لا يني يقول إذا قرئت عليه الآية أو السورة، لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه إلى جنب هذه السورة؟ 2.
وفي صنيع أبي بكر النيسابوري هذا اتجاه جديد إلى الكشف عن الترابط بين السور إلى جانب الكشف عن التناسب بين الآيات، والحق أن الذي ينبغي التنقيب عنه والاستيثاق من نتائجه هو بالمقام الأول وجه المناسبة بين الآيات، إذ يبحث أول كل شيء عن الآية: أمكملة لما قبلها أم مستقلة؟ ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ولم سيقت هذا السياق؟
أما التماس أوجه الترابط بين السور -على ما فيه من تعسف وتكلف- فهو مبني على أن ترتيب السور توقيفي، ولهذا انتصرنا وعليه عولنا3، إلا أن ترتيب السور التوقيفي لا يستلزم حتما أن يكون بين كل سورة سابقة
1 هو الفقيه الشافعي الحافظ، أبو بكر عبد الله بن محمد، قرأ على المزني، ثم صار إماما للشافعية بالعراق، توفي سنة 324 "شذرات الذهب 2/ 302".
2 البرهان 1/ 36.
3 ارجع إلى ما فصلناه ص69-71 من هذا الكتاب.
وكل سورة لاحقة أواصر قربى، كما أن ترتيب الآيات التوقيفي لا يقتضي عقلا ارتباط إحداها بالأخرى إذا وقعت كل منها على أسباب مختلفة، وإنا يغلب في السورة الواحدة أن تكون ذات موضوع بارز كلي تأتلف عليه جزئياتها كلها في مقاطعها المتلاحقة المترابطة، لكن الوحدة الموضوعية في كل سورة على حدة لا ينبغي أن تكون هي الوحدة الموضوعية عينها في السور كلها مجتمعة. ولم يبلغ المفسرون هذا المبلغ من التكلف، بل اكتفوا بإظهار العلاقة بين ختام السورة السابقة وفاتحة السورة اللاحقة، كأن الترابط بينهما -لولا فصلهما بالبسملة- وقع عن طريق الآيات موقعا جزئيا، لا عن طريق السورتين موقعا شاملا كليا.
ومعيار الطبع أو التكلف فيما لمح من ضروب التناسب بين الآيات والسور يرتد في نظرنا إلى درجة التماثل أو التشابه بين الموضوعات، فإن وقع في أمور متحدة مرتطبة أوائلها بأواخرها فهذا تناسب معقول مقبول، وإن وقع على أسباب مختلفة وأمور متنافرة فما هذا من التناسب في شيء. وما أصدق قول القائل:"المناسبة أمر معقول، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول"! 1.
وأقل ما يعنيه هذا المعيار الدقيق أن وجه المناسبة بين الآيات أو بين السور يخفى تارة ويظهر أخرى، وأن فرص خفائه تقل بين الآيات وفرص ظهوره تندر بين السور: ذلك بأن الكلام قلما يتم بآية واحدة، فتتعاقب الآيات في الموضوع الواحد تأكيدا وتفسيرا، أو عطفا وبيانا، أو استثناء وحصرًا، أو اعتراضا وتذييلا، حتى تبدو الآيات المتعاقبات كالنظائر والأتراب.
من يقرأ قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 2
1 البرهان 1/ 35 وبهذه الروح ألف برهان الدين البقاعي كتابه القيم "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، ومنه نسخ خطية بدار الكتب بالقاهرة.
2 سورة البقرة 189.
لا بد أن يتساءل: أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت؟ ثم لا بد له من اكتشاف سر الارتباط في تعريض القرآن بأن سؤال السائلين في غير محله1، كأنه قال لهم عند سؤالهم عن الحكمة في تمام الأهلة ونقصانها:"معلوم أن كل ما يفعله الله فيه حكمة ظاهرة، ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه، وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برًا"2.
وواضح أننا في آية الأهلة قد اكتشفنا الارتباط بين تركيبين تتابعا في آية واحدة، وقد اضطررنا إلى اكتشاف هذا الارتباط لئلا يبدو آخر الآية منفصلا عن أولها، أفلا نضطر إلى إظهار التناسب بين آيتين تستقل كل منهما عن الأخرى بوحدتها الإيقاعية المسماة بالفاصلة؟ ومن ذا الذي أوجب أن تكون رءوس الآي أمارات انقطاع أو رموز انفصال؟
أنقرأ قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 3 فنرى رفع السماء مفصولا عن خلق الإبل، ونصب الجبال مستقلا عن رفع السماء، وسطح الأرض منقطعا عن نصب الجبال، ولا نلمح بين هذه الآيات كلها وجها جامعا أو رابطا فكريا؟ أليس الحد الأدنى من الارتباط بينها ضربا من التناسق التصويري لمجموعة من المشاهد الكونية المعروضة لنظر الإنسان حيثما كان، وهي تضم في لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات السماء المرفوعة والأرض المسطوحة، والجبال شامخة القمم والجمال بارزة السنام؟! 4. وهل لنا في استجلاء مواطن ارتباطها واتساقها أن نستعير عبارة الزركشي
1 تفسير المنار 2/ 197.
2 البرهان 1/ 41.
3 سورة الغاشية 17-20.
4 قارن بظلال القرآن 30/ 149.
ونرجع أصداءها متلاقية مع بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن، فنقول كما قال:"جمع بينها على مجرى الإلف والعادة بالنسبة إلى أهل الوبر: فإن كل انتفاعهم في معايشهم من الإبل فتكون عنايتهم مصروفة إليها، ولا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب، وذلك بنزول المطر، وهو سبب تقلب وجوهم في السماء، ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم، وحصن يتحصنون به، ولا شيء في ذلك كالجبال! ثم لا غنى لهم -لتعذر طول مكثهم في منزل- عن التنقل من أرض إلى سواها. فإذا نظر البدوي في خياله وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور"؟! 1.
أم نقرأ قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} 2 وقد اكتنفه من جانبيه قوله: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 3 وقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} 4، ثم لا نلمح بينها جميعا أي ارتباط؟ أليس في تسمية الدنيا بالعاجلة هنا إيحاء مقصود بقصر الحياة يتناسق مع استعجال النبي تلقي الوحي وتلقفه إياه بتحريك لسانه، كأن الله يقول له: تدبر ما يوحى إليك، ولا يأخذنك فيه ما يأخذ البشر، من العجلة في حياتهم القصيرة العابرة5؟
صحيح إذن ما ذكره الزمخشري في وجه المناسبة بين قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ
1 البرهان 1/ 45.
2 سورة القيامة 16.
3 سورة القيامة 14-15.
4 سورةا لقيامة 20-21.
5 من حق الزمخشري علينا أن نرد إلى ذوقه الأدبي الرفيع هذا الفهم السديد، فقد قال في تفسير هذه الآيات في كشافه 4/ 165:"كلا" ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة. وإنكار لها عليه، وحث على الأناة والتؤدة. وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله:{بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم -لأنكم خلقتم من عجل، وطبعتم عليه- تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} .
خَيْر} 1 وبين قوله قبل ذلك: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} فإنه علل ذلك بورود الآية الأولى على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليهما، إظهارًا للمنة فيما خلق الله من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارًا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى2.
وصحيح أيضا أن التنظير -أي إلحاق النظير بالنظير- وجه أدبي مستساغ من أوجه التناسب بين ذكر قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} 3 وقوله قبل ذلك: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 4، فإن الله أمر رسوله أن يمضي لأمره في تنفيل الغزاة على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون، فشبه كراهتهم تنفيله الغزاة بكراهتهم الخروج معه للقتال5.
وما على قارئ القرآن -لتستبين له وجوه التناسب بين الآيات- إلا أن يحتكم إلى ذوقه الأدبي تارة، ومنطقة الفطري تارة أخرى، وحينئذ يقع على ربط عام أو خاص، ذهني أو خارجي، عقلي أو حسي أو خيالي، من غير أن يقوم لهذه الألفاظ في نفسه مدلولات اصطلاحية أو فلسفية، فكثيرا ما يدور التلازم بين الآيات دوران العلة والمعلول، فإن لم تتلاق ويستلزم بعضها بعضا تقابلت تقابل الأضداد، كذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، ووصف الجنة بعد وصف النار، وتوجيه القلوب بعد تحريك العقول، واستخلاص الموعظة بعد سرد الأحكام.
1سورة الأعراف 26.
2 تفسير الكشاف 1/ 59. وقارن بالبرهان 1/ 49.
3 سورة الأنفال 5.
4 سورة الأنفال 4.
5 تفسير الكشاف 1/ 114.
واستنادًا إلى هذا المنطق الفطري الذي يقتنص أوجه التناسب بين الآيات برشاقة وخفة، نحسب أن فرص الغموض في استجلاء هذه الوجوه لا تكثر إلا في الروابط بين السور، ولو وقع إلينا كتاب أبي جعفر بن الزبير "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن" لرأينا أنماطا من هذا الغموض، وصورا من هذا الخفاء، وما نظن احتفال المفسرين قليلا بهذا النوع لدقته وحسب، بل لقلة جدواه وكثرة التكلف فيه، فإنهم يقطعون أنفاسهم من شدة اللهاث وهم يلتمسون بين سورتين لفظين يتشابهان، أو آيتين تتناظران، حيثما كان موضوعهما من السورتين في البداية أو الوسط أو الختام.
فليزعموا أن افتتاح سورة البقرة بقوله: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} إشارة إلى الصراط في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 1 بفاتحة الكتاب، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب2. وليزعموا أن افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب ما قبلها من قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} 3، وأن افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح مناسب افتتاح سورة الكهف بالتحميد "لأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد"4 وأن سورة الكوثر مقابلة لسورة الماعون، فناسب أن تأتي بعدها، لأن في السابقة وصفا للمنافق بأمور أربعة: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر في مقابلة البخل {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة {فَصَلِّ} أي: دم عليها، وفي مقابلة الرياء {لِرَبِّكَ} أي: لرضاه لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون {وَانْحَرْ} وأراد به التصدق بلحم الأضاحي5.
1 سورة الفاتحة 6.
2 قارن بالبرهان 1/ 38.
3 سورة سبأ 54.
4 البرهان 1/ 39.
5 نفسه 1/ 39.
وأعظم -بعد هذا كله- بتعسف الأخفش حين عد ارتباط سورة {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} بسورة الفيل من باب قوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 1 فكما جعل الله عاقبة التقاط موسى حزنا لآل فرعون جعل العاقبة في كيد أصحاب الفيل إيلافا لقريش!! 2.
وأيا ما يكن تكلف المتكلفين في إبراز التناسب بين الآيات والسور، فمما لاريب فيه أن المفسرين المحققين جنوا أطيب الثمر لما ضربوا صفحا عن كل تعسف، ووسعهم أن يقتنعوا ويقنعوا الدارسين بأن هذا القرآن الذي نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب متباينة، قد تناسقت الآيات في كل سورة من سوره أكمل تناسق وأوفاه، حتى أغنى تناسقها في مواطن كثيرة عن التماس أسباب نزولها، وعوض انسجامها الفني واقعها التاريخي.
ثم بدت السور كلها -بآياتها المتناسقات- مائة وأربع عشرة قلادة طوقت جيد الزمان!
ولتجدن القرآن أحرص الكتب على التناسق الفني، ولتجدن علماءنا المحققين أحرص الدارسين على اقتناص أسرار تناسقه: فقد يعوض بوجوه المناسبة بين آياته أسباب نزولها إن لم تعرف، أو عرفت ولم تحفظ، أو حفظت ولم تشتهر، وقد يثبت بهذه الوجوه أسباب نزولها ويزيدها اتصالا، وارتباطا، ويشيع في سياقها كله حركة ونشاطا، وفي هذا كله ألوان من التناسق تتلاقى جميعا في علم المناسبة العظيم.
وللقرآن أيضا ألوان من التناسق -من غير طريق التناسب بين الآيات- يعوض بها أسباب النزول إذا لم تذكر، أو يؤكد مدلولاتها بالصورة الشاخصة.
1 سورة القصص 8.
2 البرهان 1/ 38.
والمشاهد الحية المتكررة، والأنماط المتشابهة المتكاثرة، إذا كان لها في عهد الوحي سبب معروف، أو واقع مشهود.
والعين لا تخطئ هذه الألوان الجديدة المتناسقة في مواضع ثلاثة من القرآن. أما أحدها ففي الآيات التي اتفق العلماء على تعديتها إلى غير أسبابها، وأما الآخر ففي تعميم الصياغة ولو وقعت على سبب خاص، وأما الثالث ففي رسم "نماذج" إنسانية تتخطى الزمان والمكان، وتتجاوز المناسبات والأسباب.
إن آيات الظهار -في أوائل سورة المجادلة- نزلت في أوس بن الصامت، فقد ظاهر من امرأته فحرمها على نفسه كظهر أمه، وصرحت الآيات بأن كفارة الظهار تحرير رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا، ثم وقعت لسلمة بن صخر واقعة مماثلة، فظاهر من امرأته حتى ينسلخ شهر رمضان، فلما سأل النبي عن شأنه أفتاه بما أنزل الله في أوس، ولم يكن حديث سلمة سبب نزول الآيات ولكن حديث أوس كان سبب نزولها، بيد أن العلماء اتفقوا على تعدية هذه الآيات إلى غير سببها، فقالوا في أوائل تفسيرها على سبيل التجوز: نزلت آيات الظهار في سلمة بن صخر1.
وفي حديث الإفك نزل حد القذف في رماة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها،2 وكان رماتها معلومين، ولكن حد القذف تعداهم إلى سواهم، رغم ارتكابهم أقبح قذف وأوقحه لأنهم رموا أم المؤمنين، ومن رمى أم قوم فقد رماهم، حتى جاءت عبارة الآية عامة جمعت في لفظ المحصنات عائشة مع غيرها فقال الله:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} 3 الآية.
والقول بتعدية الآيات إلى غير أسبابها جر الجمهور إلى الأخذ بعموم اللفظ
1 انظر تفسير ابن كثير 4/ 318-322.
2 سورة النور 7-9.
3 سورة النور 4.
بدلا من خصوص السبب، فالنص القرآني العام الذي نزل بسبب خاص معين يشمل بنفسه أفراد السبب وغير أفراد السبب، لأن عمومات القرآن لا يعقل أن توجه إلى شخص معين، قال ابن تيمية:"والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه؟ لم يقل أحد: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرًا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته"1.
هذه مثلا حركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة قد كان لها أثر واضح في توجيه الأحداث التاريخية، فإنها اتخذت مظاهر مختلفة وأشكالا متعددة منذ الهجرة النبوية حتى لحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى، فكان لزاما أن يثير القرآن في كثير من سوره وآياته حملة عنيفة على هذه الحركة وعلى دسائس المنافقين وأراجيفهم، حتى نزلت فيهم سورة تحمل اسمهم الخاص، فدل اسمها على مسماها، وعنوانها على محتواها، وجاء في تلك السورة آيات رسمت للمنافقين أخزى صورة، رمتهم بالبلادة والجمود، ونصبتهم تماثيل صامتة وخشبا مسندة بجوانب الجدران لا تبدي حراكا، وجعلتهم أشد توجسا وجبنا وفزعا من الفئران كلما هجس صوت، أو علت صحية، أو تحرك شيء، رقم ظاهرهم الخداع وأجسامهم الطوال العراض التي تسر الناظرين، وإليك الأصباغ الحية، والملامح الشاخصة، في آية واحدة من تلك الآيات المعجزة الفريدة:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2، فهل يعقل أن يخص القرآن
1 الإتقان 1/ 51.
2 سورة المنافقون 4. وراجع تفسير ابن كثير 4/ 368 وعبارته في تصوير أولئك المنافقين: "وكانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم.
قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي: كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم".
بصياغته العامة هذه نفرا من منافقي الأوس والخزرج كانوا في عصر التنزيل ثم لم يلبثوا أن انقرضوا1؟ وإذا تناول القرآن أولئك النفر تناولا أوليا ووصف أخلاقهم وصفا مطابقا، فهل من مانع عقلي يحجز هذه الآيات ونظائرها عن أن تكون عبرة عامة شاملة، "ونموذجا" خالدا شاخصا لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة في كل طائفة تدعي أنها على دين؟ 2 أولم يوفق بعض المفسرين حين رأوا في تأويل نظائر هذه الآية أنها تعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم، ولو خص نزولها بالأوس والخزرج وحدهم كل من ابن عباس وأبي العالية والحسن وقتادة والسدي؟ 3.
وفي المعارك الإسلامية الأولى في حياة الرسول الكريم كان على المسلمين أن يحذروا عدوهم الداخلي مثل حذرهم من عدوهم الخارجي أو أشد، فقد نطقت آيات في سورة النساء بأن في عداد المؤمنين من قومهم المتشبهين بهم من لا عمل لهم في المعارك إلا تثبيط الهمم، وتوهين العزائم، وإذاعة الأراجيف لبعثرة الصفوف. أولئك هم المبطئون المتثاقلون كلما دعوا إلى خوض المعركة.
أولئك هم الذين يتخلفون ويتلكئون ليعرفوا المصير: أقاتم أسود أم مشرق مضيء! فإذا محص الله المجاهدين المخلصين بمحنة أو بلاء أو درس بليغ فرح القاعدون بقعودهم، وتبجحوا بنعمة الفرار التي أنقذتهم من الهزيمة والقتل والجراح. وإذا أظفر الله المجاهدين بعدوهم، ونصرهم عليهم، سارع أولئك المتخلفون إلى الحسرة والندامة، وودوا لو نفروا مع المجاهدين خفافا وثقالا، ثبات وجميعا، ليكتب لهم من الفوز والغنيمة ما كتب للمرابطين الصابرين، نجد هذا التصوير النفسي الفني كله مكشوفا للأبصار في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ
1 قارن بتفسير المنار 1/ 148-149 في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} الآيات من سورة البقرة.
2 قارن بتفسير ابن كثير 1/ 47 في تأويل الآيات المصورة للمنافقين في سورة البقرة أيضا.
3 تفسير ابن كثير 1/ 48.
إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} 1 لكن القرآن -حين اختار لتصوير هذه الحال النفسية تينك الآيتين الموجزتين- ما كان يخص ضعاف الإيمان بأعينهم في معركة بعينها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال بذلك أهل التأويل كمجاهد وقتادة وسواهما2، وإنما كان يرسم -من خلالهما- بريشته الخلاقة المبدعة لوحة شاخصة لنمط من الناس يتكرر في كل زمان ومكان، ويتخطى القرون والأجيال، وقد فهم ابن جريح هذا حين قال في تفسير الآيتين: إنهما في وصف المنافق يبطئ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، ويقول مقالة الشامت كلما أصاب العدو من المسلمين مقتلا، أو يقول مقالة الحسود كلما حقق المسلمون نصرًا3.
وإن لنا أن نقيس على هذا ألوانا من الوحي وألوانا، كهذه الصورة التي تطلع بها علينا فاتحة سورة الهمزة، وقد ارتسمت فيها ملامح شخص حقير لئيم ما يني يعيب الناس بلسانه السليط، ويزري عليهم بلفتاته المتهكمة وحركاته الساخرة، ويبخسهم أشياءهم، ويستهين بكراماتهم، ولا يقيم في الحياة وزنا إلا لمال جمعه وعدده، وظنه سيخلده إذا فني كل شيء في الوجود، فلتقل الآيات في مثل هذا الحقير الصغير:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} وليحصر بعض المفسرين نطاق هذه الصورة وليقولوا: "المراد بذلك الأخنس بن شريق"4، ثم ليتصد الزمخشري للقائلين بالتخصيص، وليعلن رأيه بصراحة: ويجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح، وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه"5. وذلك ما لاحظه
1 سورة النساء 72-73.
2 تفسير الطبري 5/ 105.
3 وبهذا أخذ إمام المفسرين الطبري أيضا. انظر تفسيره "5/ 105".
4 تفسير ابن كثير 4/ 548. وصرح الزمخشري ببعض الأسماء الأخرى ولو بصيغة التمريض فقال: "وقيل في أمية بن خلف، وقيل: في الوليد بن المغيرة" الكشاف 4/ 232.
5 الكشاف 4/ 232.
الإمام الزركشي حين عقد فصلا لخصوص السبب وعموم الصيغة، ثم قال:"وقد يكون السبب خاصا والصيغة عامة، لينبه على أن العبرة بعموم اللفظ"1. ثم استشهد بقول الزمخشري في "الهمزة" على النحو الذي رأيناه.
على أن هذه "النماذج" الإنسانية المتكررة في كل جيل، المتشابهة في كل بيئة -وإن ظهرت كالمتخطية لكل زمان ومكان - خضعت أول ما خضعت لمناسبات وأسباب بتناولها أشخاصا معينين تناولا أوليا مباشرًا، ولكن في القرآن أنماطا إنسانية أخرى مهما يجهد المفسرون أنفسهم لتعيين المقصودين بها لا يهتدوا إلى تعيينها سبيلا، إذا وردت في القرآن حقا فوق الزمان والمكان والأشخاص، ونزلت ابتداء -من غير أسباب ولا مقدمات ولا نطاق حاصر ولا محصور- كأنها لوحات فنية تصور الجنس الإنساني وحدة كامة متشابهة أو أفرادا من هذا الجنس تفردت بملامح يحكي بعضها بعضا.
ليقل المفسرون ما يحلو لهم في تأويل قول الله تعالى: {إِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} ، فإن أحدا منهم لن يستطيع تعيين شخص مقصود بهذه الصورة الحية الفريدة، وإن أحدا منهم -في نظري- لن يجد فيها أبدع ولا أروع ولا أصدق انطباقا على الواقع النفسي من قولة الكاتب الإسلامي المعاصر المبدع الأستاذ سيد قطب:"الإنسان هكذا حقا: حين يمسه الضر، وتتعطل فيه دفعة الحياة، يتلفت إلى الخلف، ويتذكر القوة الكبرى، ويلجأ عندئذ إليها، فإذا انكشف الضر، وزالت عوائق الحياة انطلقت الحيوية الدافعة في كيانه، وهاجت دواعي الحياة فيه، فلبى دعاءها المستجاب، و"مر" كأن لم يكن بالأمس شيء"! 2.
1 البرهان 1/ 32.
2 التصوير الفني في القرآن 178. الطبعة الثانية. وأنصح القارئ بقراءة فصل "نماذج إنسانية" في هذا الكتاب فإنه يغني عن قراءة مجلدات ضخام في بلاغة العربية والقرآن.
وإن الأنماط الإنسانية المتكررة لتتعدد بتعدد الزوايا النفسية، ففيها الطيب والخبيث، والسامي والحقير، والمؤمن والكفور، والمتأني والعجول، والأمين والخئون، والعدو والصديق، والعالم والجهول. ولا يعدم الباحث في القرآن هذه "النماذج" والأنماط، متناثرة في آياته تناثرها في المجتمعات والبيئات والعصور.
ولو أننا في هذا المقام نسوغ لأنفسنا البحث في الجانب الأدبي من القرآن لأفضنا في تصوير هذه الملامح الإنسانية بريشة مغموسة بأصباغ القرآن، عليها منه نداوة، وله فيها ظلال. ولكننا نتحدث عن علم من علوم القرآن نتقصى به أسباب النزول تقصي العلماء، ولا نستروحها به استرواح الأدباء، فأقنعنا فيما لم نعرف له سبب نزول أن قد كان سبب إيحائه الأحياء في كل زمان ومكان لا وقائع أولئك الأحياء؛ والحياة الخالدة الأبدية لا حكاية هذي الحياة!.