الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة:
هذا هو القرآن: ليس فيه شيء من افتراء المختلق أو تخرصات الكذوب، ولا فيه شيء من أخيلة الشاعر أو سبحات الأديب، ولا يشبه شيء من كلام الفصحاء أسلوبه الفذ العجيب: إنه وحي يوحى، وتنزيل يتنزل، وهدي رباني يلقى على النبي ذكرا، ويأمره أمرا، لم يختلط مرة واحدة بشخص هذا النبي العربي الذي كان بشرا مثل سائر البشر، ولم يكن بدعا من حديث السماء الذي أوحاه الله -من لدن نوح- إلى عباده المصطفين الأخيار!
هذا هو القرآن الذي نزل نجوما، يتدرج -خلال ثلاثة وعشرين عاما- مع الأحداث والوقائع الفردية والاجتماعية، وكان في تدرجه ذاك هدى وبشرى وموعظة للمؤمنين.
ولقد حفظ الله هذا القرآن بكتابته في السطور، ونقشه في ألواح الصدور، فلم يحط كتاب سواه بمثل العناية التي أحيط بها، ولم يصل كتاب -كما وصل- بتواتر سوره وآياته، وألفاظه وحروفه، وقراءاته ووجوهه، ونقطه ورسمه، وتعشيره وتحزيبه، ومصاحفه وصحفه، وتجويد خطه وتزيين طباعته.
أقبل العلماء على هذا الكتاب المجيد مشغوفين بكل ما يتعلق به: حتى أحصوا عدد آياته وحروفه، وعدد ألفاظه المعجمة والمهملة، وأطول كلمة فيه وأقصرها، وأكثر ما اجتمع فيه من الحروف المتحركة، واشتغلوا منه بأبحاث دون تلك وزنا معتقدين أن لهم في هذا كله ثوابا عند الله وأجرا، إذ حققوا إرادته الأزلية في حفظ كلامه المبين من عبث السنين.
أما العلوم القرآنية الصميمة الدقيقة التي دارت حول هذا الذكر الحكيم،
وخدمت أغراضه وغاياته، وعبرت عن كلياته وجزئياته، وصورت آفاق فلسفته الروحية الأصيلة في الكون والحياة والإنسان، فقد رأينا أئمة الإسلام يبذلون في تأصيل أصولها ووضع قواعدها جهدا ضخما، ورأيناهم ينشئون من أجلها المدارس الفكرية، ويصنفون فيها الكتب العلمية، ويقيمون على أسسها المذاهب الفلسفية والفقهية والروحية.
وما من ريب في أن ما بسطناه من علوم القرآن -في غضون مباحثنا هذه- قد ملأ قلب القارئ، وراع خياله، وأثار انتباهه، حين عرضنا في "أسباب النزول" لما للآيات من قصة تعين على الفهم السديد وتلهم أرجح التأويل وأصح التفسير، وحين وصفنا مقاييس المفسرين المحققين في ترجيح الروايات المنبئة عن تلك الأسباب بمصطلحها الدقيق وتخريجها الذكي ونقدها الحصيف، وجمعها بين السبب التاريخي والسياق الأدبي في الآيات التي وضعت في السطور على حسب الحكمة ترتيبا وحفظت في الصدور على حسب الوقائع تنزيلا، وحين تحدثنا عن ألوان من التناسق الفني يعوض بها القرآن أسباب النزول إذا لم تعرف، أو يؤكد مدلولاتها "بالنماذج" الحية إذا عرفت ولم تحفظ، أو حفظت ولم تشتهر.
وفي المكي والمدني جابهنا المستشرقين -أول الأمر- بتعيين منطلق الدعوة الإسلامية بمكة، ليرى كل باحث صورة بدء الوحي جلية واضحة خالية من كل لبس أو غموض، فبهذا الوضوح في تفسير واقع السيرة النبوية يتيسر لكل من المؤرخ والمفسر والأديب أن يتقصى مراحل الوحي المتعاقبة في مكة ثم في المدينة.
وإذ كنا في المكي والمدني نواجه موضوعا وثيق الصلة بالتاريخ لم نتردد في تفضيل التقسيم الزمني على التقسيمات المكانية والموضوعية والشخصية، فما لبثنا أن رأينا -في ضوء هذا التقسيم التاريخي- ما نزل بمكة أو بالمدينة، ابتداء ووسطا وختاما، كأن نزوله يجري الآن تحت سمعنا وبصرنا!
رأينا الوحي ينزل في الليل والنهار، وفي الحر والبرد، وفي السفر
والحضر، وفي الحرب والسلم، وتابعنا الجزئيات التي كان ينزل فيها، بل أومأنا في تحليلنا الخاطف للمراحل المكية الثلاث، إلى أبرز ما تمثل في ألفاظها وفواصلها، وإيقاعها وتناسقها، وعقائدها وأحكامها، فإذا المرحلة المكية الأولى قصيرة الآيات شديدة الإيجاز، وإذا فواصلها الموزونة المقفاة، بإيقاعها العجيب، تناسب أحيانا وتتموج، وتلهث أحيانا وتتهدج، وتقصف أحيانا وتدمر، وتصرخ أحيانا وتزمجر.
وفي المرحلة المكية الثانية لاحظنا أن الإضافات التي زيدت على حقائق المرحلة الأولى قد صيرت موضوعاتها كالمستقلة بنفسها، فقد بدأت الدعوة الإسلامية تثير مخاوف المشركين وتقذف الرعب حقا في قلوبهم، أما أسلوب هذه المرحلة فقد ظل -كأسلوب المرحلة الأولى- متجانس المقاطع والفواصل، كثير الأصباغ والألوان، فإذا لوازم الإيقاع تبرز أحيانا، وإذا الأنغام في السورة الواحدة تتنوع ساحرا خلابا.
وفي المرحلة المكية الثالثة استشعرنا جوا جديدا أوشك أن يجعل هذه المرحلة انتقالية تتوسط بسورها الطوال وحي مكة الذي تم نزوله ووحي المدينة الذي سوف يتعاقب على حسب الوقائع: فوقعنا في هذه المرحلة على كثير من السور الطوال، وعلى طائفة منها مفتتحة ببعض الحروف المقطعة، وعلى عرض مفصل لقصص أئمة الأنبياء.
وفي ضوء ما حللناه من "نماذج" هذه المراحل الثلاث بدا لنا أن من اليسير -إن تركنا جانبا ما اختلف المحققون في ترتيبه الزمني- أن نعين السابق من التنزيل والمسبوق، وأن نضع أيدينا على فصائل متماثلة تبرز فيها ملامح صريحة نجزم معها بأنها مرحلة مكية أولى أو متوسطة أو ختامية.
ولما انتقلنا إلى النوازل المدنية كان تعيين مراحلها حتى آخر ما نزل من الوحي أيسر علينا- بعد انتشار الإسلام- فلم نؤنس حاجة إلى الإسهاب في تقصي الأطوار المدنية، واكتفينا، مخافة غلبة الأسلوب الفقهي على بحثنا الأدبي -بالإيماء إلى رءوس المسائل فقط في سورة واحدة "نموذجية" من
المرحلة المدنية الأولى: هي سورة الأنفال، واستنتجنا -من خلال هذه السورة- ما يسود السور المدنية من تفصيل الحقائق الشرعية في العبادات والمعاملات، والحلال والحرام، والأحوال الشخصية والقوانين الدولية. وشئون السياسة والاقتصاد، وأحوال السلم والحرب، ووقائع المعارك والغزوات، ومواطن التقييد والإطلاق، والتعميم والتخصيص، والناسخ والمنسوخ.
ولعل القارئ قد تنبه إلى إطالتنا في فصل المكي والمدني، وتناولنا كثيرا من جزئياته بالتفصيل، ونظنه عرف السر في هذا الإسهاب، فإن بعض المستشرقين ومن تأثر بمناهجهم من مفكرينا وقادة الرأي فينا لم يذروا في موطن من بذور الشك مثلما ذروا في بحث المكي والمدني: أثاروا الشبهات حول عمر النبي في بدء الوحي، وحول تغاير الأسلوب القرآني بين مكة والمدينة تبعا لشخصية النبي وظروفه الخاصة، وحول ترتيب ما نزل بمكة أو المدينة، وحول ما ألحق بالمدني من وحي مكة، أو ما ألحق بالمكي من وحي المدينة، وكادوا يرتبون لنا قرآننا على هواهم رغم جهلهم تاريخنا، وفساد تذوقهم نصوصنا الأدبية البليغة. لذلك كررنا على شبهاتهم جميعا ننقضها نقضا، ونردها إلى صدورهم سهاما قاتلات.
وفي الفصول المتتابعة بعد ذلك حاولنا أن نصل إلى الحكمة من افتتاح بعض السور بالحروف المقطعة، وأن نتعرف إلى مشاهير القراء ونوضح الفروق بين أنواع القراءات المتواترة والآحادية والشاذة، ونصف ما لأسانيد المحدثين من أثر في تسلسل القراءات، وأن نتقصى أصح ما روي من وجوه الناسخ والمنسوخ، ونتصدى للخالطين بين النسخ والتخصيص، وبين النسخ والبداء، وبين النسخ والإنساء، وبين نسخ الأحكام ونسخ الأخبار، مؤكدين أن الأصل في آيات القرآن كلها الإحكام لا النسخ إلا أن يقوم على النسخ دليل صريح. وحين عرضنا لعلم الرسم القرآني فرقنا بين التزام الرسم العثماني وبين القول بالتوقيف فيه. ولم نغل في تقديس هذا الرسم، ولم نصدق ما زعموه في بعضه من الدلالة على معنى خفي دقيق، بل انتصرنا لمذهب القائلين بكتابة القرآن
بالاصطلاح الشائع لمن يعجز عن قراءته برسمه القديم، ورأينا علماء اللغة والقراء المختصين أجدر وحدهم بأن يحافظوا على تدارس القرآن برسمه العثماني وكل ما دار حوله من بحوث. وفي علم المحكم والمتشابه فصلنا مذهبي السلف والخلف، واستشعرنا ما في الكناية عن ذات الله وصفاته من الحسن والجمال.
وكان علينا -في الباب الأخير الذي عقدناه للتفسير والإعجاز -أن نتقصى الخطوات التي مر بها التفسير حتى اتخذ الصورة التي نجده عليها في بطون المؤلفات، وأن نفرق بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، وأن نتبين كيف يفسر القرآن بالقرآن لما في دلالته من الإحاطة والشمول، في منطوقه ومفهومه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومجمله ومفصله، ونصه وظاهره.
وننتهي إلى إعجاز القرآن، فإذا نحن نرد سحره إلى نسقه الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعا، بموسيقاه الداخلية، وفواصله المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، وتقفيته التي تغني عن القوافي، ورأينا كيف تم للقرآن من الإعجاز بالألفاظ الجامدة ما لا يتم للفنان من الإبداع بالريشة والألوان، وحاولنا في تصور التشبيه والاستعارة والكناية وأنواع المجاز أن نبث الحياة في اصطلاحات القدامى، فكان القرآن -في هذا كله- نسيجا واحدا في بلاغته وسحر بيانه، إلا أنه متنوع تنوع موسيقى الوجود في أنغامه وألحانه!!
فذلك هو القرآن: إن نطق لم ينطق إلا بالحق، وإن علم لم يعلم إلا الهدى والرشاد، وإن صور لم يصور إلا أجمل لوحات الحياة، وإن رتل ترتيلا لم يسمع بعده لحن في الوجود!.
ذلك كتاب الله المجيد {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .