الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تشبيه القرآن واستعارته:
يذكر السيوطي في هذا الباب تعريف التشبيه وأدواته وأقسامه باعتبار طرفيه وباعتبار وجهه، حتى إذا قسمه باعتبار وجهه إلى مفرد ومركب قال:"والمركب أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض، كقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 1 فالتشبيه مركب من أحوال الحمار، وهو حرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، وقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} إلى قوله: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} 2: فإن فيه عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة تقضيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب، وزين بزخرفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجاءة، فكأنها لم تكن بالأمس"3.
وإنه ليعنينا أن نقف قليلا عند تشبيه الحياة الدنيا، فلقد أصاب السيوطي في استخلاص وجه الشبه، وتقسيمه هذا التركيب القرآني إلى عشر جمل،
1 سورة الجمعة 5.
2 سورة يونس 24.
3 الإتقان 2/ 70، 71 وفي "تلخيص البيان في مجازات القرآن للشريف الرضي ص155":{أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} أي: لبست زينتها بألوان الأزهار، وأصابيغ الرياض كما يقال أخذت المرأة قناعها.
أما موضع الجمال الحقيقي في هذا المشهد -مشهد الحياة القصيرة التي يوشك أن تزول- فلم يتتبعه السيوطي في تنسيق الجمل العشر، والصور التي تطويها كل جملة منها في أوقات يتفاوت عرضها الخيالي طولا وقصرا، لأن هذا التفاوت في العرض الخيالي تبعا لمراحل المشهد المصور لم يكن جزءا من التشبيه المركب، فما على السيوطي إلا أن يذكر المعنى العام للآية، وقد وفق فيه وأجاد، وإن علينا نحن أن نشير إلى المراحل التي أبطأ فيها التصوير وتمهل، أو التي اندفع فيها وأسرع، حتى تم لهذا المشهد القرآني من الإعجاز بالألفاظ الجامدة ما لا يتم من الإبداع بالريشة والألوان.
لقد استخدمت في هذا المشهد الوسائل المقصرة لعرض مراحل النبات: فالفاء التعقيبية تطوي المشاهد بسرعة عظيمة: ما كاد الماء ينزل من السماء حتى اختلط به نبات الأرض مباشرة، وأصبح فجاءة في متناول الناس يأكلونه والأنعام تتمتع به، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} ولكن أهل هذه الأرض المتمتعين بنباتها البهيج يمتد بهم الغرور، وليجون في اللهو كأنهم يعيشون أبدا، وكأنهم يقدرون على إخلاد الأرض وإخلاد أنفسهم فيها، غارقين في متعها، متقلبين في نعمائها، مسحورين بزخرفها، فاستخدمت "حتى" الدالة على امتداد الصور امتدادا يعرف أوله ويجهل منتهاه، وتتابعت أوصاف الغرور الإنساني تترى، لكل وصف منها تعبير متمهل متبطئ، فأما الأرض فشخصت مرتين، وقامت بحركتين، إذا أخذت بنفسها زخرفها كما تفعل العروس في يوم جلوتها، وتطلبت الزينة تطلبا وسعت إليها سعيا فلم تزين ولكنها ازينت، وأما أهل الأرض فانتفخت أوداجهم زهوا واختيالا، وصعروا خدودهم عجبا وكبرا، وأيقنوا -وإن كان يقينهم ظنا وخيالا- أنهم في الأرض على كل شيء قادرون، ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا، وهذه الآماد الطوال كلها ليست إلا ومضات خيالية تزول كما تزول الأطياف، ففي لحظة من ليل أو نهار يأتي تلك الأرض أمر الله فيطوي تلك الأخيلة
الكواذب في وقت كلمح البصر بل هو أقرب، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وانظر فما من زخرف، وانظر فما من زينة، ثم انظر فالناس المغرورون أعجز من أن يتصوروا ولو بالخيال ربوعهم ومغانيهم في تلك الأرض التي أصبح نباتها حصيدًا هشيما تذروه الرياح {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
ويذكر السيوطي بعد ذلك في الباب نفسه ما يتعلق بالاستعارة، ويقسمها باعتبار أركانها إلى خمسة أقسام، ويستشهد بوفرة من الأمثلة على كل قسم منها، فإذا مر بقوله تعالى:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1 جعل ذلك من باب استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس، وأوضح ذلك بقوله:"استعير خروج النفس شيئا فشيئا لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلا قليلا، يجامع التتابع على طريق التدريج، وكل ذلك محسوس"2. وقد فاته أن ينبه هنا على ظاهرة التشخيص، وسمتها في القرآن واضحة كل
الوضوح، فالحياة تخلع في هذه الآية على الصبح، حتى لقد صار كائنا حيا يتنفس، بل إنسانا ذا عواطف وخلجات نفسية تشرق الحياة بإشراقة من ثغره المنفرج عن ابتسامة وديعة وهو يتنفس بهدوء، وإذا تلا قوله تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 3 لم ير في ذلك إلا ضربا من استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي "فالقذف والدمغ مستعاران وهما محسوسان، والحق والباطل مستعار لهما وهما معقولان"4: فما في التعبير بالقذف من إيحاء، وبالدفع من
1 سورة التكوير 18.
2 الإتقان 2/ 74 وأجمل من هذا قول الشريف الرضي "في مجازات القرآن 360": "والتنفس هنا عبارة عن خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل، فكأنه متنفس من كرب، أو متروح من هم".
3 سورة الأنبياء 18.
4 الإتقان 2/ 74.
إشعاع، يظل غامضا بهذا التفسير، ولكن جمال النص يكاد ينطق بالإفصاح عن نفسه حين نتخيل في الآية الحق -وهو معنى مجرد- أشبه بالجسم القوي العنيف الذي ينفذ في جسم الباطل الضعيف الخفيف، فيرزح الباطل تحت وطأة الحق الشديدة التي تدمغه وتكاد تلصقه بالتراب، وتزهق روحه. وهكذا يجتمع في هذا المثل التجسيم والتشخيص والتخييل، وأما التجسيم ففي تصوير الحق بالقذيفة الثقيلة، وأما التشخيص ففي دمغ الحق الباطل وإزهاقه إياه، وأما التخييل ففي تصور نوع الثقل الذي تحدثه حركة القذف ثم الدمغ ثم الإزهاق، فإنها أصوات شداد توشك أن تكون صدى لعظام الباطل، وهي تتحطم وتقعقع1. وإذا قرأ السيوطي قوله تعالى في وصف جهنم:{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} 2 لم يجد في هذا المشهد المروع إلا استعارة معقول لمحسوس والجامع عقلي، مع أن تشخيص جهنم في هذه الآية هو الذي يجعل المشهد حافلا بالحياة والحركة، فهي مغيظة محنقة تحاول أن تكظم غيظها حين أالقي إليها المجرمون، ولكأن منظرهم البشع كان أشد من أن تتحمله وتصبر عليه، فتلقتهم بألسنة لهبها وهي تئز وتشهق، وبمهلها وقطرانها وهي تغلي وتفور، حتى كاد صدرها ينفجر حقدا عليهم، ومقتا لوجوههم السود. فليس في الصورة استعارة معقول لمحسوس فقط، وإنما استعيرت لجهنم شخصية آدمية، لها انفعالات وجدانية، وخلجات عاطفية، فهي تشهق شهيق الباكين، وهي تغضب وتثور، وهي ذات نفس حادة الشعور3.
لسنا ندعي أن تحليلات الأقدمين لمشاهد القرآن الفنية لم تكن تتيح لهم أن
1 ولقد أصاب الشريف الرضي حين لاحظ أن "الدمغ إنما يكون عن وقوع الأشياء الثقال وعلى طريق الغلبة والاستعلاء، فكأن الحق أصاب دماغ الباطل فأهلكه" مجازات القرآن 228.
2 سورة الملك 7-8.
3 ولقد تملى الشريف الرضي جمال هذه الصورة حين رأى أن الله سبحانه "وصف النار بصفة المغيظ الغضبان، الذي من شأنه أن يبالغ في الانتقام، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام" مجازات القرآن ص339.
يستشعروا جمال هذا الكتاب الكريم، وإنما نريد أن نقول: إن استشعارهم ذلك الجمال كان بطبيعة الحال متأثرا بمنهجهم الذي يجعل للقاعدة البلاغية المكان الأول، ولكن للتقعيد مساوئ كثيرة أهمها أن جفاف العاطفة يفقد المشهد المرسوم قيمته التصويرية الفنية. ولذلك نجد لزاما علينا أن نشيد ببعض التحليلات الموفقة التي تبرز جمال الصورة القرآنية عند علمائنا السالفين، فالسيوطي لدى تفسير قوله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} 1 ينقل خلاصة آراء البلاغيين في الاستعاضة عن "بلغ" بـ"اصدع"، ويكاد تعقيبه يشعرك بأنه أدرك أن الاستعارة هنا ضرب من التجسيم مع التخييل لشيء معنوي مجرد، فهو يقول:"استعير الصدع -وهو كسر الزجاجة، وهو محسوس- للتبليغ وهو معقول، والجامع التأثير، وهو أبلغ من "بلغ" وإن كان بمعناه لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ، فقد لا يؤثر التبليغ، والصدع يؤثر جزمًا"2، وكأن السيوطي يقول بتعبير آخر: إن ما أمر به عليه الصلاة والسلام جسم فأصبح مادة سريعة العطب قابلة للشق والكسر، فليصدعها بقوة وليخيل إلى قارئ هذه العبارة أنه يسمع حركة هذه المادة المصدوعة، فذلك أدل على نفاذ تبليغه إلى القلوب من أية صغية أخرى. ولك أن تستحسن أيضا تذوقه جمال هذه الاستعارة في قوله تعالى:{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} 3 فإنه يقول: "شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي، فأثبت له الإرادة التي هي من خواص العقلاء"4. ومن ذلك قوله في {وَاعْتَصِمُوا
1 سورة الحج 94.
2 الإتقان 2/ 75 "وقارن بمجازات القرآن للشريف الرضي ص189" وينقل السيوطي في تفسير هذه الآية عن ابن أبي الأصبع أن معناها صرح بجميع ما أوحي إليك، وبلغ كل ما أمرت ببيانه وإن شق ذلك على بعض القلوب فانصدعت، والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصريح في القلوب فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط، ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار، كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة" الإتقان ج2 ص92.
3 سورة الكهف 77.
4 الإتقان 2/ 76 وقارن بالبرهان 2/ 291، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 10.