الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: ظاهرة الوحي
لم يكن محمد بدعا من المرسلين ولا كان أول نبي خاطب الناس باسم الوحي، وحدثهم بحديث السماء، فمن لدن نوح تتابع أفراد مصطفون أخيار ينطقون عن الله ولا ينطقون عن الهوى، ولم يكن الوحي الذي أيدهم به الله مخالفا الوحي الذي أيد به محمدًا، بل كانت ظاهرة الوحي متماثلة عند الجميع، لأن مصدرها واحد، وغايتها واحدة1، كما قال الله:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 2. وواضح أن الأنبياء الذين صرحت الآية بأسمائهم إنما خصوا لأنهم كانوا أشهر أنبياء بني إسرائيل، وكانت أخبارهم مشهورة بين أهل الكتاب المجاورين لرسول الله عليه الصلاة والسلام في الحجاز وما حوله3.
لذلك حرص القرآن على تسمية ما نزل على قلب محمد وحيا، ليشابه مدلول الوحي بين جميع النبيين تشابه اللفظ الدال عليه، فقال:
1 تفسير الطبري 6/ 20.
2 النساء 63، 164.
3 الوحي المحمدي 31.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1 وقال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 2، وقال:{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} 3؛ ثم أنكر على العقلاء توهمهم، أن في الوحي عجبا عجابا فقال:{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} 4.هل كان للمنطق أن يقضي بأن اشتراك الناس في البشرية يمنع اختصاص الله واحدا منهم بما شاء من العلم والحكمة والإيمان؟ وهل كان للمنطق أن يعد هذا الاختصاص أعجوبة حتى تفكه الناس باستغراب ما فيه من نكر، ورأى فيه أهل الكفر ما يشبه عمل السحر؟
إن الوحي الذي لا ينبيغ أن يتعجب منه لا بد أن يكون إدراكه سهلا ميسرا خاليا من التعقيد، فما حقيقة هذا الوحي في نظر الدين؟ وما مدى التشابه بين ظاهرته عند محمد وعند سائر النبيين؟
حين سمى الدين هذا الضرب من الإعلام الخفي السريع "وحيا" لم يبتعد عن المعنى اللغوي الأصلي لمادة الوحي والإيحاء: فمنه الإلهام الفطري للإنسان، كقوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 5 وقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} 6 ومنه الإلهام الغريزي للحيوان كالذي في قوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} 7،
1 أوائل سورة النجم.
2 يونس، الآية 10.
3 الأعراف 7.
4 يونس 2. وقارن بتفسير المنار 11/ 143.
5 القصص 7.
6 المائدة 111.
7 النحل 68. وقارن بأساس البلاغة 2/ 496.
سومنه الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء، كما في قوله عن زكرياء:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 1، والمعروف في تفسيرها أن زكريا أشار إليهم إشارة وحية سريعة ولم يتكلم.
ومنه الإيماء بالجوارح، وعليه قال الشاعر:
نظرت إليها نظرة فتحيرت
…
دقائق فكري في بديع صفاتها
فأوحى إليها الطرف أني أحبها
…
فأثر ذاك الوحي في وجناتها2
وعبر القرآن بالوحي عن وسواس الشيطان وتزيينه خواطر الشر للإنسان، فقال:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 3، وقال:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 4، مثلما عبر بالوحي أيضا عما يلقيه الله إلى الملائكة من أمره ليفعلوه من فورهم، كقوله:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 5.
أما تعبيره بالوحي عما يكلف الله الملك حمله إلى النبي من آيات كتبه المنزلة فهو شديد الصلة بتعبيره بالوحي إلى النبي نفسه، وما بين مدلولي التعبير من اختلاف لا يعدو الوظيفة التي يتحملها ملك الوحي بالنقل الأمين، ويتحملها النبي بالوعي والحفظ والتبليغ. من ذلك قوله تعالى:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 6: إذ المراد أن الله أوحى إلى عبده جبريل ملك الوحي الأمين، ما أوحاه جبريل إلى محمد خاتم النبيين، ومدلول الوحي إذن في هذه الآية كمدلول التنزيل الصريح في الآية الأخرى في قوله:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 7.
1 مريم 11.
2 قارن بمفردات الراغب الأصفهاني.
3 الأنعام 112.
4 الأنعام 121.
5 الأنفال 12.
6 النجم 10.
7 الشعراء 192- 195.
بيد أن القرآن -لدى مراعاته المعنى اللغوي الأصلي لمادة الإيحاء حين سمى وسيلته في الإعلام الخفي السريع "وحيا"- لم يقصر ظاهرة هذا الاتصال الغيبي الحفي بين الله وأصفايئه على تنزيل الكتب السماوية بواسطة ملك الوحين بل أشار في آية واحدة إلى صورة ثلاث من صور الوحي:
إحداها إلقاء المعنى في قلب النبي أو نفثه في روعه، والثانية تكليم النبي من وراء حجاب كما نادى الله موسى من وراء الشجرة وسمع نداءه؛ والثالثة هي التي متى أطلقت انصرفت إلى ما يفهمه المتدين عادة من لفظة "الإيحاء" حين يلقي ملك الوحي المرسل من الله إلى نبي من الأنبياء ما كلف إلقاءه إليه سواء أنزل عليه في صورة رجل أم في صورته الملكية؛ فبهذا نطقت الآية الكريمة:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 1.
كانت إذن لهذا الإعلام الخفي السريع المسمى "بالوحي" صورة خاصة تختلف في نظر القرآن عما قد يشبهها من مظاهر الخفاء والسرعة في ألفاظ الإعلام المستعملة قديما وحديثا. وقد يكون مؤسفا لنا -بعد أن استهوتنا الفكرة القرآنية التي تؤكد اتحاد مفهوم الوحي عند الأنبياء جميعا- أن نقع في قاموس الكتاب المقدس2 على تفسير للوحي يختلف اختلافا جوهريا عن تفسيره الجامع الموحد، إذ الوحي في هذا القاموس "هو حلول روح الله في روح الكتاب الملهمين لإطلاعهم على الحقائق الروحية والأخبار الغيبية، من غير أن يفقد هؤلاء الكتاب الوحي شيئا من شخصياتهم، فلكل منهم نمطه في التأليف وأسلوبه في التعبير" وإنما أسفنا لاختلاف وجهتي النظر ههنا، لأن الوحي -بتعريفه القاموسي هذا- أضحى أبعد ما يكون عن الصعيد الديني المتصل بالله، الآخذ عن الله، وأقرب ما يكون إلى مدلول الكشف الذي
1 الشورى 51.
2 هو القاموس الذي وضعه بالعربية الدكتور جورج بوست. وطبع في المطبعة الأمريكية ببيروت سنة 1894.
عرفت البشرية ألوانا صافية منه لدى الشعراء الملهمين والمتصوفين العارفين: وألوانا عكرة كدرة لدى الكهان والعرافين، وأكثرهم من الدجاجلة الكذابين1.
نرى لزاما علينا -خشية أن نقع في اللبس من أثر استعمال الكلمات في غير مواضعها- أن نقصي عن ظاهرة الوحي لفظ الكشف الذي كنا فيه، وما يشبهه من ألفاظ الإلهام والحدس الباطني والشعور الداخلي أو "اللاشعور" التي يتغنى بها شبابنا المثقفون محاكاة للأعاجم والمستعجمين، ويحاولون بها أو ببعضها أن يفسروا بسذاجة عجيبة ظاهرة الوحي عند النبيين وعند محمد خاتم النبيين.
ما أيسر أن نثبت مدلول الكشف لكل من يدعيه، ثم ننكر عليه مدلول الوحي ولو ظل يدعيه.
إنه يخلو من الدلالة النفسية الواضحة المحددة؛ لأنه غالبا ما يكون ثمرة من ثمار الكد والجهد أو أثرا من آثار الرياضة الروحية أو نتيجة للتفكير الطويل، فلا ينشئ في النفس يقينا كاملا ولا شبه كامل، بل يظل أمرا شخصيا ذاتيا لا يتلقى الحقيقة من مصدر أعلى وأسمى.
إن كشف العارفين كإلهام الواصلين وجدان تعرفه النفس معرفة دون اليقين1، وتنساق إليه من غير شعور بمصدره الحقيقي، فيدخل فيه ذوق المتذوقين ووجد المتواجدين، بل تدخل فيه أيضا أسطورة آلهة الشعر عند اليونان وأسطورة شياطين الشعر عند العرب الجاهليين!.
ولا غرو، فإن الكشف كالإلهام من ألفاظ علم النفس المحدثة التي ما تبرح حتى عند القائلين بها موغلة في الإبهام، لاحتلالها "حاشية اللاشعور"2، وهي حاشية -كما يوحي اسمها- أبعد ما تكون عن حالات الحس والشعور:
1 لذلك لا نتفق مع الإمام محمد عبده حين جعل الإلهام وجدانا تستيقنه النفس في "رسالة التوحيد، ص108 حول إمكان الوحي".
2 الظاهرة القرآنية 161.
فإذا قيل في إنسان: إنه من أولي الكشف والإلهام لم يسم به ذلك إلى درجة النبوة والوحي، لأن في كل وحي وعيا1، وفي كل نبوة شعورا بمعناها وإدراكا لمغزاها، وإنما يرمى "باللاوعي" من فقد الوعي، ويوصم "باللاشعور" من حرم الشعور!
وطبيعة الحقائق الدينية والأخبار الغيبية في ظاهرة الوحي تأبى الخضوع لهذه الأساليب "اللاشعورية" التي تستشف حجاب المجهول بالفراسة الذكية الخفية والحدس الباطني السريع. مثلما تأبى الخضوع لمقاييس الحس الظاهرة التي تخترق حرمات المجهول بالأدلة المنطقية والاستنباط المتروي البطيء2، وإنما تخضع لتصور حوار علوي بين ذاتين: ذات متكلمة آمرة معطية، وذات مخاطبة مأمورة متلقية.
وعلى هذا النمط رسم النبي الكريم فيما صح من حديثه طريقة نزول الوحي على قلبه، فقال:"أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني 3 وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" 4، فكشف النقاب صراحة عن صورتين من الوحي: إحداهما عن طريق إلقاء القول الثقيل على قلبه، ولديه يسمع صوتا متعاقبا متداركا كصوت الجرس المصلصل المجلجل5؛ والثانية عن طريق تمثل جبريل له بصورة إنسان يشاكله في المظهر ولا ينافره، ويطمئنه بالقول ولا يرعبه، وما من شك في أن الصورة الأولى أشد وطأ وأثقل قولا، كما قال الله:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 6 حتى كان يصحب الوحي فيها رشح الجبين عرقا، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين: "ولقد رأيته
1 نفسه 139.
2 قارن بالنبأ العظيم 34.
3 يفصم: ينكشف وينجلي.
4 صحيح البخاري، بدء الوحي 1/ 6 والحديث من رواية الحارث بن هشام.
5 انظر في هذا رأي الخطابي الذي ذكره السيوطي في الإتقان 1/ 71.
6 المزمل 4.
ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا"1، بل كان وطأة الوحي في هذ الصورة تبلغ أحيانا من الشدة والثقل حدا يجعل "راحلته تبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها"2.
أما الصورة الثانية فهي أخف وطأ وألطف وقعا، فلا أصوات تجلجل، ولا جبين يرشح، بل تشابه شكلي بين الملقي والمتلقي، ييسر الأمر في الوقت نفسه على ناقل الوحي الأميل وعلى النبي المصطفى الكريم.
وفي كلتا الصورتين يحرص النبي صلوات الله عليه على وعي ما أوحي إليه، إذ قال في الأولى:"فيفصم عني وقد وعيت ما قال"، وفي الثانية "فيكلمني فأعي ما يقول"، فأثبت لنفسه الوعي الكامل لحالته قبل الوحي، وحالته بعد الوحي، وحالته أثناء الوحي، سواء أخفت أم اشتدت وطأة النازل القرآني عليه.
وبهذا الوعي الكامل لم يخلط عليه السلام مرة واحدة -طلية العصر القرآني الذي يضم كل مراحل التنزيل -بين شخصيته الإنسانية المأمورة المتلقية وشخصية الوحي الآمرة المتعالية، فهو واع أنه إنسان ضعيف بين يدي الله، يخشى أن يحول الله بينه وبين قلبه، ويبتهل إلى ربه في دعائه المأثور:"اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"؛ بل كان أول عهده بنزول الوحي -مخافة ضياع بعض الآيات من صدره- يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه، ويحرك به لسانه وشفتيه ليستذكره ولا ينساه، ويحرص على متابعة جبريل في كل حرف يدارسه إياه3، حتى يسر الله عليه حفظه بتفريقه وتنجيمه4، وأمره بالاطمئنان إلى وعده فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا
1 صحيح البخاري 1/ 71.
2 زاد المعاد "لابن القيم" 1/ 25.
3 قارن بصحيح البخاري 6/ 163 كتاب التفسير و 9/ 153 كتاب التوحيد.
4 النبأ العظيم 25- 26.
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1، ونهاه عن هذه العجلة التي لا مسوغ لها فقال:{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 2.
ومن يتل الآيات القرآنية التي تصور رسول الله إنسانا ضعيفا بين يدي الله، يستمد منه العون، ويستهديه ويستغفره، ويصدع بما يأمره به وأحيانا يتلقى العتاب الشديد، يجد في أعماق قلبه من الفيض الوجداني ما يحمله على الاقتناع بالفرق الذي لا يتناهى بين صفة الخالق وصفة المخلوق، وبين ذات الخالق وذات المخلوق، وبين أسلوب الخالق وأسلوب المخلوق.
إن صورة محمد صلى الله عليه وسلم، في القرآن هي صورة العبد المطيع، الذي يخاف عذاب ربه إن عصاه، فيلتزم حدوده، ويرجو رحمته، ويعترف بعجزه المطلق عن تبديل حرف من كتاب الله:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3.
وفي معنى هذه الآيات المفرقة بين صفة الخالق وصفة المخلوق، ما يتكرر في القرآن كثيرا من التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم، بشر مثل سائر البشر، ليس عليه إلا البلاغ، ولا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب، ولا يزعم لنفسه صفة ملكية تغاير صفة الإنسان وخلقه:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 4، {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} 5،
1 القيامة 16-19.
2 طه 114.
3 يونس 15-16.
4 الكهف 110.
5 الأعراف 118.
ولتصدير الآيات السابقة بعبارة "قل" مغزى لطيف يفهمه العربي بالسليقة، وهو توجيه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليمه ما ينبغي أن يقول، فهو لا ينطق عن هواه، بل يتبع ما يوحى إليه. ولذلك تكررت عبارة "قل" أكثر من ثلاثمائة مرة في القرآن، ليكون القارئ على ذكر من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، لا دخل له في الوحي، فلا يصوغه بلفظه، ولا يلقيه بكلامه، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء، فهو مخاطب لا متكلم، حاك ما يسمعه، لا معبر عن شي يجول في نفسه.
ويزداد الفرق وضوحا بين صفة الله المتكلم منزل الوحي وبين صفة رسوله المخاطب متلقي الوحي، في الآيات التي يعتب الله فيها على نبيه عتابا خفيفا أو شديدا، أو يعلمه فيها بعفوه عنه وغفرانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر: فمن العتاب الخفيف الذي يشوبه عفو الله عن رسوله خطابه له في شأن من أذن لهم بالقعود عن القتال في غزوة تبوك: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 2. ومن المعلوم أن العفو لا يكون إلا عن ذنب، كما أن المغفرة لا تكون إلا بعد ذنب، وقد صرحت الآية بهذا في سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 3. فمن العجيب -بعد هذا القول القرآني الصريح- أن يحاول بعض المفسرين -كالرازي- أن يثبتوا أن لفظ العفو لا يوحي بالذنب، وأن الذي عاتب الله به نبيه إنما كان ارتكابه خلاف الأولى، "وهو -كما يقول السيد رشيد رضا- جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية، وما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته
1 الأنعام 50.
2 التوبة 43.
3 الفتح 1-2.
الله تعالى في كتابه تمسكا باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له ولمدلول اللغة أيضا"1.
وأما العتاب الشديد فقد نطقت به آيات الفداء في سورة الأنفال، ووجهته عنيفا صادعا، منذرا متوعدا، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور صحابته الذين أشاروا عليه بأخذ الفداء من أسرى بدر، ومؤثرين عرض الحياة الفاني على نصرة الدين، في أول معركة في الإسلام لم يثخنوا قبلها في الأرض، ولم يعظم بعد شأنهم فيها. ولذلك صيغ العتاب صياغة عامة تشعر بتقرير مبدأ في صفات الأنبياء والرسل، فلم يوجه الله خطابه إلى رسوله رأسا، بل استهل الآية بكون منفي تلته عبارة تستعظم هذا الفداء يصدر عن نبي من الأنبياء:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.
ويقرب من هذا العتاب الذي لم يوجهه الله -على شدته- رأسا إلى نبيه، وإنما افتتحه بضمير الغيبة يحكي به المشهد ويصور به الواقع، ما أدب الله به محمدا في قصة الأعمى عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه "عندما جاءه وهو يدعو أكابر رجال قريش إلى الإسلام وقد لاح له بارقة رجاء في إيمانهم يتحدثون معه، فإنه صلى الله عليه وسلم علم أن إقباله عليهم ينفرهم ويقطع عليه طريق دعوتهم، وكان يرجو بإيمانهم انتشار الإسلام في جميع العرب، فتولى عنه وتلهى بهذ الفكرة، ولم يكن يعلم قبل إعلام الله تعالى أن سنته في البشر أن يكون أول من يتبع الأنبياء والمصلحين فقراء الأمم وأوساطها، دون أكابر مجرميها المترفين ورؤسائها"3. ففي هذا أنزل الله هذه الآيات من سورة الأعمى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى
1 تفسير المنار 10/ 465.
2 الأنفال، 68 وانظر في هذا على سبيل المثال تفسير سورة الأنفال لمصطفى زيد ص155-159 وتفسير المنار 10/ 83-100.
3 تفسير المنار 10/ 473-474 "وانظر رأي الدكتور محمد عبد الله دراز في جميع هذه التقريعات المؤلمة السابقة في كتابه "النبأ العظيم" ص17-19.
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} 1.
وأشد من هذا كله ما يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، من الإنذار والتهديد، في مثل قوله تعالى:{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} 2.
وهذا الإنذار يبلغ القمة، فيستصغر بعده كل تهديد وكل وعيد، حين يقول الله:{لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ 3، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 4. وفي تفسير هذه الآيات يقول الزمخشري: "والمعنى: لو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام. فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول. وهو أن يؤخذ بيده وتضرب عنقه"5.
من خلال هذه الآيات المتوعدة المنذرة، وتلك العاتبة المؤدبة، يبدو لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلوقا ضعيفا، بين يدي ربه ذي القدرة القاهرة، والقوة الكبرى، والإرادة التي لا معقب لها، ويبدو لنا أيضا كامل الوعي للفرق بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة؛ وبوعيه الكامل هذا كان عليه السلام يفرق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصة التي كانت يعبر عنها بإلهام من الله: فما يجول في نفسه من خواطر وأفكار كان ذا صفة إنسانية محضة لا يمكن أن تختلط بالكلام الرباني.
لذلك نهى عليه السلام أول العهد
1 سورة الأعمى 1-11.
2 الإسراء 74-75.
3 الوتين: نياط القلب، وهو حبل الوريد، إذا قطع مات صاحبه.
4 الحاقة 44-47.
5 الكشاف 4/ 137.
بنزول الوحي عن تدوين شيء سوى القرآن1 لكي يحفظ للقرآن صفته الربانية، ويحول دون اختلاطه بشيء ليست له هذه الصفة القدسية، بينما كان عند نزول الوحي -ولو آية أو بعض آية- يدعو أحد الكتبة فورًا ليدون ما نزل من القرآن2.
ولعل هذا كله لا يبدو في نظر بعض الباحثين شيئا مذكورًا تلقاء ما عرفناه من النهي الصريح عن محاولة النبي تدريب ذاكرته، وأمام ذاك التجاهل القاهر لاختياره وإرادته، إذ لا يسعنا إزاء هذه الحقائق إلا أن نعترف باستقلال ظاهرة الوحي عن ذات النبي استقلالا مطقا، وتفردها عن العوامل النفسية تفردا كاملا، فالنبي لا يملك حتى حق استخدام ذاكرته في حفظ القرآن بل الله يتكفل بتحفيظه إياه، وقانون التذكر نفسه بطل الآن سحره وعفا أثره تجاه إرادة الله3. فكيف لا يعي النبي -بعد هذا كله- الفرق العظيم بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة وهو يرى بنفسه أنه لا يملك من أمر نفسه شيئا؟
ومع أن أقوال النبي أحاديث "توقيفية" تلقى من الوحي مضمونها، جرد الكتبة بأمره كتاب الله منها مهما تبد شديدة الصلة بالآيات التي تفسرها، لأن النبي صاغها بأسلوبه، وبينها بلفظه، وما كان لأسلوبه ولا لأسلوب أحد أن يختلط بأسلوب القرآن المعجز المبين.
حتى الأحاديث القدسية -رغم اعتراف العلماء بأن معناها لله أو بأنه، كما يقول أكثرهم، منزل من عند الله- نحيت وفصلت عن القرآن، لما لوحظ من حرص النبي على عدم خلطها بكتاب الله بما كان يستهل به مطالعها من عبارات نبوية يشعر بها سامعيه أنه يصوغ بأسلوبه البشري معنى
1 في صحيح مسلم 8/ 229 عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وقارن بكتابنا: "علوم الحديث ومصطلحه" ص8.
2 البرهان 1/ 232.
3 قارن بالظاهرة القرآنية 276.
أنزله الله، وشتان بين أسلوب محمد ولو كان أفصح البشر وأسلوب منزل القرآن صاحب القوى والقدر! فكان لزاما على العلماء أن يبالغوا في الحيطة والحذر، ويوجبوا على كل مستشهد بحديث قدسي أن يستهل العبارة بقوله مثلا:"قال رسول الله فيما يرويه عن ربه، أو قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله، أو قال تعالى في "الحديث القدسي"، بهذا التقييد والتحديد.
ولسنا الآن بسبيل الحديث عن إعجاز القرآن، فقد عقدنا له فصلا في أواخر هذا الكتاب، وإنما يعنينا التنبيه على وعي النبي نفسه الفرق الذي لا يتناهى بين حديثه وكلام الله. ولئن كانت هذه التفرقة ملحوظة حتى في الأحاديث التوقيفية، والقدسية ليكونن إداركها في آراء الرسول الدنيوية أولى وأجدر، وأوضح وأيسر.
ولن نذهب في المقارنة بعيدًا، فإن حادثة "تأبير النخل" أو تلقيحه قريب منا، مشهورة لدينا: مر عليه الصلاة والسلام بقوم على رءوس النخل: فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ "، فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأثنى فتلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أظن يغني ذلك شيئا". فلما أخبرا بقول الرسول تركوا تلقيح النخل، فقال النبي:"إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل". ويلاحظ أن النووي سلك هذا الحديث في صحيح مسلم في باب "وجوب امتثال ما قاله عليه الصلاة والسلام شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي"1. ومعه رواية أخرى تنتهي بقوله عليه الصلاة والسلام: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" 2. فميز النبي تمييزا قاطعا بين تجربته الإنسانية الدنيوية الظنية التي يحتملها احتمالا ويرجو ألا يؤاخذه صحابته بها، وبين تجربته النبوية الدينية القطعية التي يأمرهم بالأخذ بها كلما
1 انظر صحيح مسلم، بشرح النووي 13/ 116.
2 صحيح مسلم 13، 188.
حدثهم عن الله، فهو لا يفتري مثل هذا الحديث من تلقاء نفسه لأنه لا يكذب على الله. وقد أوضح النبي هذه الحقيقة في طائفة من أقواله وأعماله، ففي حديث له يقول:"إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب. ولكن ما قلت لكم "قال الله" فلن أكذب على الله" 1، وأكد في حديث آخر أنه لا يطلع على أفئدة المتخاصمين، ولا يعرف ما يجول في نفس من يحتكم إليه ولو كان يعاصره ويساكنه في بلده أو كان أقرب الناس إليه فقال:"إنا أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار" 2، ومن المعروف أن بني أبيرق عمدوا إلى التضليل في قضية من قضايا السرقة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فدافعوا عن السارق حتى اقتنع الرسول ببراءته ولام قتادة بن النعمان على اتهامه الأبرياء فقال:"يا قتادة، عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير تثبت وبينة"! ثم لم يلبث أن نزل قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 3، فعلم النبي أن بني أبيرق خانوه ولجئوا إلى التضليل، فاستغفر الله مما وجهه إلى قتادة من العتاب والتوبيخ4.
وإذا عددنا رسول الله شاهدنا الوحيد على وعيه ظاهرة الوحي إليه، وعددنا اقتناعه الشخصي وسيلتنا الوحيدة لفصل ذاته عن ظاهرة الوحي، فها هو ذا النبي عليه الصلاة والسلام مقتنعا -من خلال ما سبق- بأن التنزيل القرآني مصحوب بانمحاء إرادته الشخصية، وانسلاخه من الطبيعة البشرية، حتى ما بقي له عليه الصلاة والسلام اختيار فيما ينزل إليه أو ينقطع عنه، فقد يتتابع الوحي
1 رواه ابن ماجه في سننه 2/ 777 رقم 2470.
2 باب بيان أن حكم الحاكم لا يغير الباطن. صحيح مسلم 12/ 4.
3 سورة النساء 112، 113.
4 الحديث في سنن الترمذي. وقارن بأسباب النزول للسيوطي 48.
ويحمى حتى يكثر عليه، وقد يفتر عنه أحوج ما يكون إليه!
إن الوحي ينزل على قلبه صلوات الله عليه في كل لحظة: إنه ليأوي إلى فراشه فما يكاد يغفو إغفاءة حتى ينهض ويرفع رأسه مبتسما فقد أوحيت إليه سورة الكوثر الخير الكثير1. وإنه ليكون وادعا في بيته وقد بقي من الليل ثلثه، فتنزل عليه آية التوبة في الثلاثة الذين خلفوا {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 2.
إذا الوحي ينزل على قلب النبي في الليل الدامس والنهار الأضحيان، وفي البرد القارس أو لظى الهجير، وفي استجمام الحضر أو أثناء السفر، وفي هدأة السوق أو وطيس الحرب، وحتى في الإسراء إلى المسجد الأقصى، والعروج إلى السموات العلى3.
ثم ها هو ذا الوحي ينقطع عن النبي وهو أشد ما يكون إليه شوقا، وله طلبا: فبعد أن نزل عليه جبريل بأوائل سورة العلق {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فتر الوحي ثلاث سنين، فحزن النبي -كما قالت السيدة عائشة- حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال:"يا محمد أنت رسول الله حقا"، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه4. وبينا هو ماش ذات يوم إذ سمع صوتا من السماء فرفع بصره، فإذا الملك الذي جاءه بحراء، فرعب منه فرجع إلى زوجته الوفية خديجة يقول: "زملوني"، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ،
1 الإتقان 1/ 38 والرواية في صحيح مسلم عن أنس.
2 التوبة 118.
3 البرهان 1/ 198.
4 البخاري 9/ 30 كتاب التعبير.
فحمي الوحي وتتابع1. واستبشر النبي وتبدل انتظاره الحزين فرحة غامرة، وأيقن أن هذا الوحي الذي استعصى عليه ولم يوافه طوع إرادته مستقل عن ذاته خارج عن فكره، فاستقر في ضميره الواعي أن مصدر هذا الوحي هو الله علام الغيوب.
ومن ذا الذي ينسى كيف أبطأ الوحي شهرًا كاملا بعد "حديث الإفك"2 الذي رمى به المنافقون بنت الصديق بالفاحشة، وأثاروا به حولها الفضيحة، حتى عصفت بقلب الرسول الريبة فقال لزوجه أم المؤمنين:"يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله" ، من هذا الذي لا يدرك أن هذا الشهر الذي تصرم على الحادثة من غير أن يتلقى النبي خلاله وحيا كان أثقل عليه من سنين طويلة، بعد أن خاض المنافقون في الصديقة المطهرة خوضا باطلا؟ فما بال النبي الذي كان فريسة للشك والقلق يظل شهرًا كاملًا صامتا ينتظر، واجما يتربص، حتى نزلت آيات النور تبرئ أم المؤمنين؟ وما له لا يسرع إلى التدخل في أمر السماء، فيرتدي مسوح الرهبان، ويهيئ الأسجاع، ويطلق البخور، ويبرئ الصديقة من قذف القاذفين؟.
ولقد كان النبي يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا3 لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة قبل البيت، ولكن رب القرآن لم ينزل في هذا التحويل.
1 البخاري 65/ 162. ومن الناس من يظن أن سورة الضحى هي التي نزلت بعد فترة الوحي، وهو خطأ ظاهر. أما سبب نزول "الضحى" كما ورد في الصحيحين فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثا لتهجده، فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت الضحى. وقارن بأسباب النزول السيوطي 140.
2 انظر صحيح البخاري 6/ 101.
3 البخاري 6/ 21 كتاب التفسير.
قرآنا رغم تلهف رسوله الكريم إلا بعد قرابة عام ونصف العام1، فلماذا لم يسعف النبي نفسه بوحي عاجل يحقق ما يصبو إليه ويتمناه؟
إنه الوحي ينزل على محمد حين يشاء رب محمد، ويفتر إذ شاء له رب محمد الانقطاع، فما تنفع التعاويذ والأسجاع، ولا تقدم عواطف محمد ولا تؤخر في أمر السماء!
أما وإنه لم يك لهذه المفارقة الواضحة بين شخصية النبي وظاهرة الوحي إلا حل "نفساني" واحد على طريقة الماديين من قدامى ومحدثين: فليفترضوا تزود النبي الأمين بشخصيتين إحداهما واعية شاعرة، والأخرى لا واعية ولا شاعرة، أو بعبارة أخرى: ليفترضوا في نفس محمد ازداوج الشعور و"اللاشعور"! فهل لباحث منصف أن يعترف لأصحاب هذا الافتراض بمسكة من عقل أو ذرة من شعور؟
ولقد تحير العرب من قبل في الربط بين الذات الملقية والذات المتلقية، فتخبطوا تخبط شهود الزور، وتبلبلت أذهانهم، وتضاربت آراؤهم، ولم يطمئنوا إلى تفسير يرضي عقولهم السقيمة، وصور الله حيرتهم هذه الصورة المضحكة الساخرة:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} 2 فردوا مصدر القرآن إلى رؤى النائم أو شطحات المجنون، وإلى افتراءات المختلق أو تخرصات الكذوب، وإلى أخيلة الشاعر أو سبحات الأديب. وفي توالي حرف الإضراب "بل" ثلاث مرات تهكم لاذع باضطرابهم وتضاربهم، ألا ساء ما يحكمون.
فأما رؤى النائم فتردها بداهة مشاعر النبي المرهفة الواعية، وشخصيته اليقظة الساهرة حتى في ساعات الراحة والرقاد. ولقد رافق هذا الوعي رسول الله منذ اللحظة الأولى التي خاطبه الله فيها بقوله:{اقْرَأْ} حتى نزلت الآية
1وحينئذ نزلت الآية الكريمة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وقارن بأسباب النزول للسيوطي 12، 13.
2 الأنبياء 21. وقارن بالنبأ العظيم 69.
الأخيرة من القرآن فلحق بالرقيق الأعلى. وعلينا هنا أن نقدر جسامة الخطأ الذي يقع فيه بعض المفسرين وبعض الكتاب المعاصرين عن حسن نية حين يذهبون وراء خيالهم الخصيب فيصورون النبي نائما في غار حراء أول نزول الوحي عليه، مع أن رواية الصحيحين قاطعة في أن الوحي فاجأه وهو يقظ يلتمس الحقيقة ويبحث عن الله، ولذلك رعب وجاء خديجة يرجف فؤاده.
ولو وقع له هذا في المنام لزال خوفه ورعبه بعد اليقظة، فلأمر ما قال القرآن:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} ؟! 1.
بهذه الحساسية الواعية المرهفة صورت السيدة عائشة بدء الوحي فقالت: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وفي رواية "فَجَأَهُ الحق"، وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: فأخذني فغطني -أي: ضمني وعصرني- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: "زملوني زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي" ، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"2.
1 سورة النجم 11، 12.
2 صحيح البخاري، بدء الوحي 1/ 7.
وجدير بالذكر هنا أن رجفة فؤاده عليه الصلاة والسلام تشير إلى الرعب الذي اعتراه لأن الوحي نزل عليه فجاءة ولم يكن يتوقعه، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} 1 وكما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} 2. وليس في رجفة فؤاده أي إيماءة إلى تبرد أطرافه الذي يتبعه عادة شحوب في الوجه واصطكاك في الأسنان، فلقد كان على العكس ترتفع درجة حرارته، فيحمر وجهه وتأخذه البرحاء حتى يتفصد جبينه عرقا ويثقل جسمه -كما رأينا- فيكاد يرض فخذه فخذ الجالس إلى جنبه، والتماسه الدثار من خديجة بقوله: "زملوني" لا يعني أكثر من لجوئه إلى الفراش؛ ليستجم تحت الدثار ويستريح من أثر المشهد الغيبي المخيف، والقول الثقيل العنيف، ولذلك أمره الله بعد رجعة الوحي إثر انقطاعه بالوثوب والنهوض لحمل أعباء الدعوة إلى الله فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} ثم قال بعدها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} .
أما حاله عند تلقي الوحي أول مرة فكانت -كحاله بعد ذلك في كل مرة- خير ما يرام كمال وعي، ووفرة نشاط، وقوة أعصاب، فلا مجال قط لاحتمال وسائل تحضيرية يستجمع بها شتات ذهنه، ولا نوبات عصبية تلم به، ولا أعراض مرضية تعتريه3.
وربما لم تكن أضعاث الأحلام في نظر العرب سوى شطحات الجنون.
فلذلك قالوا: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} 4، وقالوا:{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ، ورد الله افتراءهم مسليا نبيه، فقال:{نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .
1 سورة القصص 86.
2 الشورى 52.
3 قارن بالبنأ العظيم 71، 72.
4 الدخان 14.
أما افتراءات المختلق أو تخرصات الكذوب فتردها شهادة العرب أنفسهم لمحمد بالصدق والأمانة، والكذب المفترى لا يلبث أن ينكشف، ففي أي شيء كذب النبي؟ في أخبار الغيب أم أخبار الماضي أم أخبار المستقبل المحجوب، وهل كانت ثقافة العرب المحدودة تسمح لهم بأن يكونوا في هذا الصعيد حكما على الكاذبين أو الصادقين.
لقد وصف القرآن نشأة الخلق الأولى ومصيره المحتوم، وفصل نعيم الآخرة وعذابها الأليم، وأحصى عدة أبواب جهنم وعدة الملائكة الموكلين بكل باب، وعرض هذا كله على العرب تحت سمع أهل الذكر وبصرهم ممن أوتوا الكتاب، وقال:{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} 1: فمن أين لمحمد تلك المعارف الغيبية الواسعة في مثل بيئة قومه الأميين الوثنيين؟ هل هبط بها عليهم من كوكب في السماء، أم جاءهم بها من الشعرى والمريخ؟ ألم يصاحبهم قبل البعثة أربعين عاما فهل ضل الآن وغوى؟ ألم يسموه الصادق الأمين؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 2؟ فهل من عجب إذا علمه الله أن يبكتهم فقال:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3.
وكأي من خبر ماض قص القرآن به أحسن القصص عن أمم خلت، وصحح به أخطاء وردت في الكتب السابقة تتناول عصمة الأنبياء، وفند به بعض المغالطات التاريخية، وصور محمدًا شاهدًا الأحداث كلها، مراقبا إياها، كأنه يعيش في عصرها بين أصحابها، قص على نبيه قصة نوح ثم قال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ
1 سورة المدثر 3.
2 سورة المؤمنون 69.
3 سورة يونس 6.
مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} 1، وفصَّل كثيرًا من أحوال موسى في مدين ثم قال:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} 2، ووصف ولادة السيدة مريم ابنها عيسى عليهما السلام وكفالة زكريا لها ثم قال:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 3، وأسهب في سرد قصة يوسف وإخوته، ثم قال:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 4.
وكم من خبر مستقبل كشف القرآن حجابه فتحقق في حياة المشركين ورأوه بأم أعينهم! ألم يستعص أهل مكة على النبي حتى دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم القحط وأكلوا العظام، وجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد5، مصداقا لقوله تعالى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 6؟.
وانتصار الروم على الفرس من بعد غلبهم ألم يتم في بعض سنين كما قاله الله: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} 7؟ ألم تلحق المشركين الهزيمة في بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة تصديقا لآية سورة القمر المكية {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} 8 مع أن فكرة التقاء الجمعين لم تكن في مكة واردة أصلا؟ وهل أخلف الله المؤمنين ما
1 سورة هود 49.
2 سورة القصص 44، 45.
3 آل عمران 44.
4 سورة يوسف 102.
5 صحيح البخاري عن ابن مسعود 6/ 114.
6 الدخان 10، 11.
7 الروم 1-3.
8 القمر 45. وقارن بصحيح البخاري 6/ 145.
وعدهم عام الحديبية من دخول المسجد الحرام، وتبديلهم بعد خوفهم أمنا، وتحليق رءوسهم وتقصيرها قضاء للشعيرة، كما قال الله:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} 1؟
ولعل من أعجب العجب أن يضمن الله لنبيه حماية شخصه وعصمته من أذى الناس، مع أن الراغبين في قتله كانوا يحيطون به من أمامه وخلفه، وعن يمينه وشماله، ولكنها إرادة السماء جعلت الرسول على يقين بأن الله حاميه.
لقد نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2، فأخرج عليه الصلاة والسلام رأسه من الخيمة وقال لنفر من أصحابه يحرسونه على بابها:"يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله"! 3.
ها هو ذا عليه الصلاة والسلام يوم أحد أقرب ما يكون من العدو بينما كان الموت أقرب إليه من شراك نعله، حتى قال علي كرم الله وجهه: كنا إذا حمي الوطيس احتمينا برسول الله فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه".
وها هو ذا في غزوة حنين يركض بغلته إلى جهة العدو، فلما أقبل المشركون وغشوه لم يفر بل نزل عن بغلته كأنما يعرض نفسه لنبالهم وهو يقول:"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"4.
وها هو ذا في ذات الرقاع ينزل تحت شجرة ويعلق سيفه فيها، فيجيئه رجل من المشركين فيأخذ السيف فيخترطه ويقول للنبي: أتخافني؟ فيقول: "لا". فيقول الرجل: وما يمنعك مني؟ فيجيب: "الله يمنعني منك. ضع السيف" فلا يملك الرجل إلا أن يضع سيفه5، وتزيد بعض الروايات: أن
1 الفتح 22.
2 سورة المائدة 67.
3 البرهان 1/ 198.
4 رواه الشيخان. وقارن بتفسير الطبري 10/ 73.
5 صحيح مسلم عن جابر 15/ 44.
الرجل أعلن من فوره إسلامه.
أما إنه لا يبت في أخبار الغيب إلا مجازف يعبث أو مؤمن ذو يقين، وما عرف الناس في رسول الله مخايل المجازفين، ولا ملامح المفترين، فلا بد أن يكون من الموقنين الصادقين.
بيد أن طائفة من العرب افترضوا أن يكون أحد من البشر قد علم النبي القرآن، فالتمسوا مصدر الوحي خارج الذات المحمدية، ولم يجرءوا -وهم الأميون- على دعوى تعلمه من أحد منهم، فقد أدركوا بالفطرة أن الجاهل لا يعلم الناس شيئا، وإذا هم يهتدون إلى معلم لمحمد، فمن كان ذاك المعلم الكبير، والمرجع العلمي الخطير؟ غلامًا روميًا أعجميا نصرانيًا يشتغل في مكة قينا "حدادا" يصنع السيوف، وكان -على عاميته- ملما بالقراءة والكتابة ولو لم يعلم الكتاب إلا أماني، وربما بدا للنبي أحيانا أن يقف عليه يشاهد صنعته، فما أنسبها فرصة ليقول العرب الأميون: هذا هو معلمه "إنما يعلمه بشر" وما أنسبها فرصة ليرد القرآن على أحلامهم الطائشة هذا الرد البديهي المتوقع، والمؤثر المقنع:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1.
فلما أسقط في أيديهم، ووجدوا أن لا قبل لهم بتعيين معلم محمد، آثروا أن يرفعوا دعواهم ضد مجهول، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2.وبهذا رسم العرب الأميون المنهج لمن بعدهم من ملاحدة المثقفين لينطلقوا من دعواهم هذه إلى محاولة تعيين الذي أملى على محمد حقائق الدين وفلسفة التاريخ: فرأى قوم أنه راهب اسمه بحيرا من أتباع آريوس في التوحيد لقيه النبي في طفولته في سوق بصرى بالشام خلال رحلته مع عمه أبي طالب، ورأى آخرون أنه ورقة بن نوفل من
1 النحل 103.
2 الفرقان 5.
العلماء بالنصرانية ومن أقارب السيدة خديجة لقيه في مكة على أثر نزول الوحي عليه أول مرة.
وكل الذي صح في أمر هذين الرجلين أن الرسول لقي أولهما بحيرا وهو ابن تسع سنين، وقيل: ابن اثني عشرة مرة واحدة، وكان معه عمه أبو طالب، وقال هذا الراهب لعمه: سيكون لابن أخيك هذا شأن عظيم؛ وأنه عليه الصلاة والسلام لقي الثاني ورقة عقب إخباره خديجة بما رآه في غار حراء، فقد انطلقت به إلى ورقة، وكان شيخا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يابن عم اسمع من ابن أخيك: فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس -أي: أمين الوحي- الذي نزل الله على موسى. ولم يلبث ورقة أن توفي1.
حسبنا -لتفنيد هذين الزعمين- أن نتذكر أن النبي الكريم لم يلق الرجلين سرا في خفاء، بل كان معه في كل مرة رفيق، فقد شهد أبو طالب لقاءه لبحيرا، وشهدت خديجة لقاءه لورقة، فما عسى أن يكون النبي تعلم في هذين اللقاءين من علوم الغيب والتاريخ؟
ولا حاجة بنا إلى تجشيم أنفسنا عناء الرد على مبالغات بعض المستشرقين حول كثرة اليهود والنصارى بمكة، فقد رد عليهم من بينهم باحثون منصفون أكدوا أن من الحمق التهويل في هذا الشأن ما دام الرسول الكريم لم يلق أحبار اليهود ولا رهبان النصارى، ولم يثبت اتصاله بهم.
وأهون من هذا كله ما يعرض به الشكاكون المرتابون إلى القوافل التجارية في رحلتي الشتاء والصيف، وما كانت تحمله -بزعمهم- من أخبار الأمم الماضية وقصص الملل الخالية: فما عهدنا تجار العرب يعنون بلقاء الأحبار ومجالسة رجال "اللاهوت"2. أما محمد نفسه فلم يذهب إلى الشام إلا مرتين: أولاهما في طفولته مع عمه كما أسلفنا، والأخرى في تجارة
1 البخاري، بدء الوحي 1/ 7.
2 الوحي المحمدي 86.
لخديجة وهو شاب وكان بصحبته ميسرة غلام خديجة، ولم يتجاوز عليه الصلاة والسلام سوى مدينة بصرى في كلتا الرحلتين القصيرتين، فأين يذهب العقلاء بعقولهم؟ وأنى يؤفكون؟
بعد أن وضح النهار لذي عينين، لم يكن بد من أن يسفه القرآن تلك الأحلام الطائشة جميعا، ويقول بلهجة قاطعة حاسمة،:{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.
أما أخيلة الشاعر أو سبحات الأديب فقد نسبها بعض العرب إلى الرسول الأمين حين راع القرآن الأمين خيالهم بصوره الحية، ومشاهده الشاخصة، وألفاظه الموحية وفواصله الشافية، وألحانه العذاب، فقالوا: شاعر نتربص به ريب المنون، ولا شك أن الفصحاء فيهم عرفوا أن ليس في القرآن شيء من الشعر، وأن أسلوبه يعلو ولا يعلى، وما هو بقول بشر حتى قال قائلهم:"إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر، وما هو بقول بشر". إلا أن القرآن ظل يتحداهم بمعارضته، ويطاولهم في المعارضة، حتى اضطرهم إلى الهزيمة أمام تحديه، فلم يجدوا ما يشفون به غليلهم إلا أن يقولوا: شعر أو سحر مبين.
تحداهم أول الأمر أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهو جميعه كلام الله، ومن أصدق من الله قيلًا؟ فقال لهم في سورة الطور:{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .ثم تنازل لهم عن التحدي بجميع القرآن الصادق الذي لا يخالف الواقع في شيء إلى التحدي بعشر سور مثله، ولو كانت مفتريات لا أصل لها ولا سند، فقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
1 يونس 37.
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . فلما عجزوا حتى عن السور العشر المفتريات تنازل إلى تحديهم بسورة واحدة من مثله، فقال في سورة البقرة:{إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . حتى إذا عجزوا عن معارضة سورة واحدة من سوره -وهم أمة الفصاحة والبلاغة- جلجل صوته في الآفاق، وتحدى أمم العالم قائلا في ثقة ويقين:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .
بالأسلوب المعجز الساحر مس القرآن إذن قلوب العرب منذ الفترة المكية قبل أن تنزل آياته التشريعية، ونبوءاته الغيبية، ونظرته الكلية الكبرى إلى الكون والحياة والإنسان، ولو أتيح لمعاصري الوحي القرآني أن يطلعوا منه على الجانب العلمي والجانب الفلسفي اللذين أتيح لبعضنا أن يطلعوا عليهما، وكان لهم من الثقافة ما يمكنهم من الحكم على حقائق التاريخ، لأدركوا مثل جميع المنصفين عجز الزمان عن إبطال شيء منه، ولأيقنوا أن علوم الكون ستظل جميعا في خدمته للكشف عن آيات الله في الآفاق والأنفس، كما قال الله:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} !.
وبعد، فقد آثرنا أن نعالج ظاهرة الوحي المعجز بمثل ما عالجها به القرآن من التأثير المقنع، فلجأنا إلى الزاوية النفسية، ودرسنا من خلالها الفرق العظيم بين ذات الخالق وشخصية المخلوق، وبين صنعة الخالق وصنعة المخلوق، وتجنبنا التعقيد والجدل العقيم، وحاولنا ألا نقرب حقائق الغيب العليا بما يعرفه الناس عن التنويم "المغناطيسي" وتسجيل الأصوات على الأشرطة
وإذاعتها أو نقلها عن طريق الهاتف واللاسلكي، وظننا أن لا جدوى من هذه الأشياء وأنها ليست هي طريق الإيمان، ونحسب أننا قد انتهينا إلى النتيجة التي توخيناها، فأدرك القارئ معنا أن الرسول الكريم تلقى الوحي بحواسه كلها ومشاعره كلها، واعيا كل الواعي أنه عبد الله ورسوله الأمين.