الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: علم المكي والمدني
لبث النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة عمرا ما كان يدري فيه ما الكتاب وما الإيمان، ثم اختاره الله لتبليغ رسالته، فأوحى إليه روحا من أمره، وجعل مبعثه كمبعث الرسل الذين خلوا من قبله في سن الأربعين ليكون أنضج فكرا، وأصدق عزمًا، وأمضى إرادة، وأقوى بأسا، وأوسع تجربة، وأثبت جنانا.
ولقد بادر بعض المفسرين إلى القرآن نفسه يستخرجون من نصوصه عمر النبي قبيل البعثة، فلما لم يظفروا إلا بقوله تعالى على لسان نبيه:{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} 1 انطلقوا به يجزمون بأن لفظة "العمر" ترادف سن الأربعين على وجه اليقين2. وكم خلطوا بمثل هذا التفسير العجول بين مدلول اللغة وواقع التاريخ!.
إن لفظة "العمر" لا تعين وحدها شيئا مما قطعوا به، وليس في مدلولها اللغوي إيماءة إلى مفهوم عددي صريح، ولكنها -بوحي من سياق التركيب في الجملة أو من سياق الواقع في التاريخ -قد ترمي إلى فكرة العدد بضرب من التلويح: فمن قطع من أولئك المفسرين بأن سن الأربعين ترادف في الآية {عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} ، فقد استلهم واقع السيرة المطهرة ثم نزل السياق القرآني على أحكام هذا الواقع تنزيلا..
1 سورة يونس 17.
2 قارن بتفسير الطبري 1/ 671-680 والرواية عن قتادة.
أما ما أثاره المستشرقون من شبهات حول تفسير الآية فمغالطة عليم أو سفه جهول: فإنهم زعموا أن لا قبل لباحث بتحديد عمر النبي في بدء الوحي1، وعلل بعضهم تعذر هذا التحديد باضطراب الروايات وتناقضها2 بينما فسره بعضهم الآخر بما درج عليه العرب وأكثر الساميين من إضفاء صفة سحرية على رقم الأربعين الذي ينطوي على أعمق الأسرار3.
ومغالطتهم -على علم- تتمثل في معرفتهم كذب دعواهم فيما زعموه من اضطراب الروايات، فإن تعدد الروايات لا يستلزم الاضطراب حتما، وإنما يقع التناقض والتضارب إذا تعادلت الروايات وتساوت وتعذر الترجيح بينها كما ذكر نقاد الحديث في مصطلحهم العلمي الدقيق4، فأما إذا رجحت رواية على أخرى فما من فرصة بعد للقول بالتناقض، ولينقل المؤرخون عشرات الروايات في عمر النبي5 فسيظل الرأي الأشهر هو الرأي الأصح كما رجحه المحققون من أهل التفسير6.
وجهل المسشرقين أو تجاهلهم يتمثل في حيرتهم الحقيقية أو المصطنعة لدى تحديد الرقم السحري المليء بالأسرار عند العرب والساميين، فهو الأربعون
1 ذهب إليه بلاشير في مستهل ترجمته للقرآن. انظر:
Blachere، traduction، t. II، p.1.
2 انظرمقالة الأدب لامنس في الجريدة الأسيوية:
Lammens، l'Age de Mahomet et la chronologie de la Sira "Journal asiatique 1911".
3 استند بلاشير -للقول بهذا- إلى مقالتين نشرتا في مجلة ألمانية تصدر في ليبزيغ تدعي:
Zeitschrift der Deutschen Morgenl Adischen Gesellschaft.
أولهاما في المجلد 61 وكتبه كونيج Konig والأخرى في المجلد 65 وكتبه ريشر Rescher.
4 انظر تدريب الراوي "للسيوطي" 93 وتوضيح الأفكار "للصنعاني" 2/ 47، وقارن بكتابنا "علوم الحديث" ص193.
5 راجع أهم هذه الروايات في "الطبقات الكبرى" لابن سعد 2ق 2/ 82.
6 انظر على سبيل المثال تفسير ابن كثير 2/ 410، وقد بدأ ابن كثير هنا بالرأي المشهور القائل بأن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة أربعون سنة، ثم عقبه برأي لسعيد بن المسيب: أنها ثلاث وثلاثون، ثم قال: والصحيح المشهور الأول.
تارة، والسبعة أو السبعون تارة أخرى1، وقد فاتهم أن المبالغة في بعض الأرقام -وإن تك في ذاتها حقيقة واقعة- لا تلغي المفهوم العددي في الأحوال كافة، ولا تلازم بين الأمرين حين تنتصر لمفهوم عددي معين أوثق الروايات، أصدق وقائع التاريخ.
لا مفر إذن من مجابهة أولئك المستشرقين، مغالطيهم ومتجاهليهم، بأن الله بعث نبيه حقا على رأس الأربعين، من غير استناد إلى تفسير "العمر" في الآية، ومن غير تأثر بعقائد الساميين في هذا الرقم العجيب، بل اعتمادا على ما نطقت به الروايات الصحيحة المشهورة التي كادت تبلغ حد التواتر، إذ استفاضت بين الخاصة والعامة، وتناقلتها الألسنة القديمة والحديثة.
وما من ريب في أن إثارة الشبهات حول عمر النبي في بدء الوحي محاولة أولية للتشكيك في منطلق الدعوة الإسلامية بمكة تتلوها محاولات أخرى للغض من قيمة المعلومات المأثورة المتعلقة بمراحل الوحي المتعاقبة في مكة ثم في المدينة، فأنى للباحث أن يتصور كيف كانت تتتابع نوازل القرآن إذا كانت صورة بدء الوحي قد انطبعت في ذهنه غامضة لا تحكي الأصل في شيء؟
وإن في وسعنا الآن -وقد أزحنا عن الظروف الأولى لبدء الوحي كل لبس أو غموض، وفصلنا القول في سن الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل البعثة- أن نتدرج مع التنزيل القرآني مرحلة مرحلة، مطمئنين إلى ما وافانا به أئمتنا المحققون في وصف تلك المراحل ابتداء ووسطا وختاما، مثلما اطمأننا -فيما سبق من فصول هذا الكتاب- إلى ما وافونا به في تحليل ظاهرة الوحي نفسها، وفي تقصي النوازل القرآنية المنجمة على حسب المناسبات الفردية أو الاجتماعية، وفي تحري جمع القرآن وحفظه واستنساخه في المصاحف وتحسين رسمه، وفي الاستيثاق من متواتر أحرفه السبعة، وفي تتبع أسباب نزوله وما صح من وجوه الترابط بين آياته، بما عرف عنهم من ورع بالغ يتناول الأشخاص والمتون والأسانيد، وحاسة نقدية مرهفة تعنى بالتناسق الفني ولا تهمل حقائق التاريخ.
1 ارجع إلى ما فصلناه سابقا حول الأحرف السبعة.
ولعنا لا نرتاب -إذا وضعنا العلوم القرآنية موضع الموازنة- في أن العلم بالمكي والمدني أحوجها إلى تمحيص الروايات، وتحقيق النصوص، والتحاكم إلى التاريخ الصحيح، وهو -على كل حال- أحوج إلى هذا كله من "أسباب النزول"، لأن العلم بتلك الأسباب يتناول ضروبا معينة من الجزئيات المتعلقة بالمناسبات الفردية والاجتماعية، ولا يتناول شيئا من التفصيلات القرآنية الأخرى التي نزلت ابتداء غير مبنية على أسباب1، أما العلم المكي والمدني فلا غنى له عن تناول القرآن كله سورا وآيات: فكل سورة فيه إما مكية أو مدنية، وقد تستثنى من السورة المكية آيات مدنية، ومن السورة المدنية آيات مكية، كما أن كل آية في القرآن معروفة "الهوية" واضحة السيرة، فإذا اختلطت بغير زمرتها أخضعها العلماء الثقات لمقاييسهم النقدية الدقيقة حتى قطعوا أو كادوا يقطعون بأنها تنتمي إلى النوازل المكية أو المدنية.
كان العلم بالمكي والمدني إذن خليقا بالعناية البالغة التي أحيط بها، وجديرًا أن يعد بحق منطلق العلماء لاستيفاء البحث في مراحل الدعوة الإسلامية، والتعرف على خطواتها الحكمية المتدرجة مع الأحداث والظروف والتطلع إلى مدى تجاوبها مع البيئة العربية في مكة والمدينة، وفي البادية والحاضرة، والوقوف على أساليبها المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب.
ووفاء هذا العلم بتلك المعارف الواسعة جعل بحوثه أشتاتا وألوانا: فهو في آن واحد ترتيب زماني، وتحديد مكاني وتبويب موضوعي، وتعيين شخصي.
ويخيل إلينا أن هذه الألوان المتباينة جميعا قد طافت بأذهان العلماء حين ترددوا في تقسيم المكي والمدني على أساس من المكان أو الزمان أو الأشخاص. فمن قال: "المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة" لاحظ المكان، ومن قال:"المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة" راعى أشخاص المخاطبين، ومن آثر الأخذ بالاصطلاح
1 انظر ما أوضحناه في الصفحات الأولى من الفصل السابق.
المشهور: "المكي ما نزل قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدني ما نزل بعد هذه الهجرة وإن كان نزوله بمكة"، عني بالترتيب الزمني في مراحل الدعوة الإسلامية. ونحن إذا نأخذ بهذا التعريف الأخير لا نكتم القارئ ما نلمحه من تحقق عناصر الزمان والمكان والأشخاص في الاصطلاحات الثلاثة على السواء1، بل نلمح فيها أيضا عنصرًا رابعًا لا يخفى على ذي بصر: وهو عنصر الموضوع.
هذه سورة الممتحنة من مطلعها إلى ختامها2 نزلت بالمدينة إذا لاحظنا المكان، وكان نزولها بعد الهجرة إذا اعتبرنا الزمان، ووقعت خطابا لأهل مكة إذا أردنا الأشخاص، واشتملت على توجيه اجتماعي محص قلوب المؤمنين إذا رغبنا بمعرفة موضوعها، لذلك أدرجها العلماء في باب "ما نزل بالمدينة وحكمه مكي"3.
وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 4 نزل بمكة إذا التمسنا المكان، ويوم الفتح بعد الهجرة إن تحرينا الزمان، والغاية منه الدعوة إلى التعارف وتذكير الإنسانية بوحدة أصلها إن عينا الموضوع، وهو -إن راعينا الأشخاص- خطاب لأهل مكة والمدينة على السواء، فما سماه العلماء مكيا على الإطلاق، ولا مدنيا على التعيين، بل أدرجوه في باب "ما نزل بمكة وحكمه مدني"5.
على أننا لم نتردد في تفضيل التقسيم الزمني للمكي والمدني؛ لأننا نواجه موضوعا وثيق الصلة بالتاريخ، فليس لنا أن نختار في مثله التبويب المكاني
1 انظر هذه الاصطلاحات الثلاثة في البرهان 1/ 187 والإتقان 1/ 13-14.
2 انظر تفصيل قصتها في سيرة الرسول لابن هشام ص16-17. وقد نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين دفع كتابه إلى قريش يخبرها بمسير النبي إلى مكة.
3 البرهان 1/ 195.
4 سورة الحجرات 13.
5 البرهان 1/ 195.
ما دمنا نرمي إلى تحديد ما نزل بمكة أو بالمدينة ابتداء ووسطا وختاما، فإن هذه الأطوار المتعاقبة تفرض أن يكون اختيار الترتيب الزمني أمرا بديهيا لا مجال للتردد فيه، أما تعيين الأشخاص واستخراج الموضوعات فأمران ثانويان يقعان موقعهما المناسب من الترتيب الزمني المترادف ترادف الوقائع والأحداث.
وبهذا المنهج التاريخي الزمني، الذي لا يتغاضى عن الآفاق النفسية والأطوار الاجتماعية، ولا يتجاهل أثر البيئة في الحياة والأحياء، أخذ المحققون من علمائنا وشددوا في مأخذهم به حتى منعوا الجاهل بمراحل الدعوة الإسلامية أن يتصدى لكتاب الله مفسرًا لآياته أو خائضا فيه، قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري1:"من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي"2.
ويعنينا من قول أبي القاسم النيسابوري هنا أنه التفت التفاتة صريحة إلى تقسيم القرآن كله إلى ست مراحل زمنية: ثلاث في مكة بداية وتوسطا وختاما، وثلاث بعدها في المدينة بداية وتوسطا وختاما. فما جنح إليه بعض المستشرقين من ترتيب القرآن على أسباب النزول، وتقسيمه إلى مراحل ست أو أربع3 -كما سنرى بعد قليل- لا ضرر فيه لذاته، إذا أباح الخوض في مثله علماؤنا الأعلام، وإنما يتجسد الضرر فيه حين يتجافى هذا الترتيب على الروايات الصحيحة ويأخذ بالرأي المرتجل الفطير.
ولو أتممنا عبارة أبي القاسم النيسابوري لألفيناه فيها -بعد التزامه المنهج التاريخي الزمني- لا يلبث أن يلحق بهذا المنهج نفسه جزئيات تبدو في نظرنا
1 هو النحوي المفسر، إمام عصره في القراءات، توفي سنة 406 "بغية الوعاة 227".
2 البرهان 1/ 192، ونقله السيوطي في "الإتقان 1/ 12-13".
3 نشير بهذا إلى محاولة موير ترتيب القرآن إلى ست مراحل: خمس في مكة والسادسة في المدينة، ومحاولة ويل التي قسم بها القرآن إلى أربع مراحل: ثلاث في مكة والرابعة في المدينة، وأخذ بها كل من نولدكه وشفالي وبل ورودويل وبلاشير، وسنفصل أمر هذه المراحل في هذا البحث نفسه.
صغيرة يسيرة، ولكنها في نظره هامة جليلة، إذ يجعل العلم بها فريضة على كل من يعنى بتفسير كتاب الله المجيد: فعلى المفسر المحقق أن يعرف كذلك "ما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة1، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا، وما نزل نهارًا، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكية في السور المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرًا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مكي، وبعضهم مدني: هذه خمسة وعشرون وجها من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل له أن يتكلم في كتاب الله تعالى2".
ونحن نعترف بأنه ليس في وسعنا أن نعرض هنا تفصيلا لتلك الملابسات كافة، فإن بحث كل منهما على حدة يستغرق مجلدا بأكمله، وهيهات له أن يكون وافيا بالمقصود، شافيا للغليل، فحسبنا -للدالالة على ما عاناه العلماء في تتبع مراحل الوحي- أن نشير إجمالا إلى بعض الروايات التي لم يكتف أصحابها بوصف ما نزل في مكة أو في المدينة، قبل الهجرة أو بعدها، بل بلغت عنايتهم بهذا الكتاب الكريم أقصى ما يبلغه الباحثون من التحري والتدقيق، فلم يفتهم ذكر أبسط التفصيلات وأصغر الجزئيات.
لاحظوا مثلا بصورة عامة أن أكثر القرآن نزل نهارا3، ثم استرعى انتباههم أن هذه القاعدة لم تتبع في بعض الحالات الجزئية، فسورة مريم
1 الجحفة: قرية على طريق المدينة، من مكة على أربع مراحل.
2 البرهان 1/ 192.
3 وينسب القول بهذا إلى السيدة عائشة أم المؤمنين "انظر البرهان 1/ 198". أما السيوطي في "الإتقان 1/ 34" فيقول: "أمثلة النهاري كثيرة، قال ابن حبيب: نزل أكثر القرآن نهارًا" فهو ينسب هذا القول إلى ابن حبيب، وهو أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري الذي سبقت الإشارة إليه.
أنزلت ليلا. روى الطبراني1 عن أبي مريم الغساني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ولدت لي الليلة جارية، فقال:"والليلة أنزلت علي سورة مريم، سمها مريم"2. وأول سورة الفتح نزلت ليلاً، ففي البخاري من حديث عمر: "لقد نزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس"، فقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} 3. وأول سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} نزل ليلا في غزوة بني المصطلق، وهم حي من خزاعة، والناس يسيرون4.
ويوشك أحدنا -إذا جعل الروايات الصحيحة عمدته- أن يستحضر النازل القرآني في أي جزء من الليل كان؛ في وسطه أم أوله أم آخره، وإني لأتمثل هذه اللحظة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح حين نزل عليه -كما في الصحيح- قوله تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 5، ثم أتمثله صلوات الله عليه في خيمة من أدم وقد بات نفر من أصحابه على باب الخيمة يحرسونه، فلما أن كان بعد هزيع من الليل أنزل الله عليه:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 6. وأتمثله أخيرا عند السيدة أم سلمة أم المؤمنين وقد بقي من الليل ثلثه7 حين نزلت عليه آية الثلاثة الذين خلفوا8.
ولقد تكون الليلة شاتية، ويكون البرد فيها شديدا، فلا يفوت الراوي أن يصفها لنا إرهاصا لذكر الآيات التي نزلت في هذا الجو المكفهر، فما من
1 الطبراني هو الحافظ المكثر صاحب التصانيف المفيدة، وأشهرها المعاجم الثلاثة، الكبير والصغير والأوسط، توفي سنة 360هـ عن مائة سنة وعشرة أشهر "انظر الرسالة المستطرفة لمحمد بن جعفر الكتاني ص30".
2 الإتقان 1/ 35.
3 صحيح البخاري 6/ 135.
4 البرهان 1/ 198.
5 سورة آل عمران 128 "وانظر الإتقان 1/ 36".
6 سورة المائدة 67.
7 كما في صحيح مسلم عن أنس "الإتقان 1/ 38".
8 سورة التوبة 118.
جزئية مهما تكن تافهة في نظرنا الآن إلا وهي على لسان الراوي شيء له قيمته الدينية والاجتماعية، فليصورها تصويرا واقعيا أمينا، ولا ينقصن منها ولا يزيدن عليها: أولئك هم الناس يتفرقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب إلا اثني عشر رجلا فيخاطب عليه الصلاة والسلام الصحابي الجليل حذيفة قائلا: "قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب" فيجيبه حذيفة: والذي بعثك بالحق ما قمت لك إلا حياء.. من البردّ. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 1.
ونجد في المقابل أن الآيات النازلة في غزوة تبوك إنما كانت في شدة الحر، وأن رجلا من المنافقين قال يومئذ: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله:{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} 2.
وإذا كان أكثر القرآن نزل في الحضر فإن تنقل الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة جعله يتلقى الوحي أحيانا في بعض أسفاره، تثبيتا لفؤاده، وتأييدا لجهاده، وكثيرا ما يعبر الرواة عن هذا بمثل قولهم: نزلت الآية أو الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم في "مسير" له. ويغلب عليهم تعيين هذا المسير، وتحديد السفر ومكانه وزمانه: وفي الصحيح عن عمر أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 3 نزل عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وفي "دلائل" البيهقي أن خاتمة سورة النحل نزلت بأحد والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على حمزة حين استشهد4.
1 سورة الأحزاب 9؛ والحديث أخرجه البيهقي في دلائل النبوة "انظر الإتقان 1/ 37". والإمام البيهقي منسوب إلى بيهق، وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخا منها، وللبيهقي كتب كثيرة قيل إنها نحو الألف، وأشهرها السنن الكبرى، ودلائل النبوة، وقد توفي هذا الإمام الكبير سنة 458 "انظر الرسالة المستطرفة ص25-26".
2 سورة التوبة 81 "وانظر الإتقان 1/ 31".
3 سورة المائدة 3 "وانظر الإتقان 1/ 31".
4 الإتقان 1/ 32.
ولقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم سلسلة من الجهاد المتواصل، فكثر نزول الوحي عليه في مغازيه: ففي بدر عقب الواقعة نزل أول الأنفال1، وفي عمرة الحديبية نزل قوله تعالى:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 2، وفي تبوك نزل قوله تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} 3. وقد تتبع السيوطي عددا من الأمثلة الأخرى تراجع في موضعها من "الإتقان"4.
وليلة الإسراء والمعراج ليست إلا ليلة في حساب الزمان، ولكنها جزء من الأزل البعيد العميق في علم الله، فمن القرآن آيات نزلت في تلك الليلة القدسية، ولئن صح أن قوله تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 5 نزل ببيت المقدس عندما أسرى الله بعبده ليلا6، فإن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا -كما يقول ابن العربي:"في الفضاء بين السماء والأرض"7 حين رأى محمد من آيات ربه الكبرى ساعة المعراج.
وهذا الاستقصاء في تحري ما عسى أن يبدو لبعضهم غير ذي بال لم يكن له في نفوس الرواة والعلماء إلا تفسير واحد: إنه صدق الرواية وإمكان الثقة بها إلى أبعد حد فيما يتعلق بتحديد المكي والمدني في كتاب الله.
وعلى هذا الأساس من الدقة والاستقصاء فرق العلماء بين ما يشبه تنزيل
1 الإتقان 1/ 32.
2 سورة البقرة 189 "وانظر الإتقان 1/ 30" ويرى بعضهم أنها نزلت في غزوة الفتح أو في حجة الوداع.
3 سورة الإسراء 76 "وانظر الإتقان 1/ 32".
4 الإتقان 30-34 "النوع الثاني معرفة الحضري والسفري".
5 سورة الزخرف 45.
6 البرهان 1/ 197.
7 الإتقان 1/ 38.
المدينة في السور المكية وما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية1، وغرضهم من التعبير، "بالتشبيه" واضح، فإنهم يلاحظون الطابع العام لكل سورة ثم ما يشبه هذا الطابع شبها قريبا يكاد يلحقه به، فإذا وجدت في سورة هود المكية مثل قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}
…
2 فليس من الضروري أن تعتبرها مدنية وإن أشبهت التنزيل المدني. وإذا تلوت في سورة الأنفال المدنية مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 3 فليس لك أن تحكم بأنها مكية ولو كان فيها من التنزيل المكي ظلال وسمات.
وكثيرا ما يصرف وجه الشبه القريب بين المكي والمدني الباحثين المتسرعين عن تتبع مرحلة دقيقة خطيرة في تاريخ الدعوة الإسلامية، حين تستدعي ظروف معينة حمل النازل القرآني من مكان إلى مكان، ولكن العلماء الثقات وافونا بذلك كله، فلكل آية في القرآن تاريخها، بل لكل لفظة فيه سيرتها وترجمتها: فمن شيخ المفسرين الطبري علمنا أن قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 4 حمل من المدينة إلى مكة5، ومن القرطبي6 علمنا أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا
1 انظر البرهان 1/ 196.
2 في تفسير القرطبي 9/ 110-111 أنها نزلت في رجل من الأنصار يسمى أبا اليسر بن عمرو. وفي "البرهان 1/ 196" أنها نزلت في أبي مقبل الحسين بن عمر بن قيس والمرأة التي اشترت منه التمر، فراودها. والآية في سورة هود 114.
3 سورة الأنفال 32 "وانظر البرهان 1/ 197" ومن ذلك أن بعض العلماء استثنى من سورة الأنفال المدنية أيضا قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} الآية 30 فقالوا: إنها مكية، ولكن السيوطي في "الإتقان 1/ 24" لا يصوب ذلك ويقول: "يرده ما صح عن ابن عباس أن
هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة كما أخرجناه في أسباب النزول".
4 سورة البقرة 217.
5 تفسير الطبري 2/ 201-206 وانظر البرهان 1/ 203-204.
6 هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي المشهور بالقرطبي. صاحب "الجامع لأحكام القرآن" توفي سنة 671هـ.
بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1 حمل مع الآيات من أول سورة براءة من المدينة إلى مكة، ثم قرأها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم النحر على الناس2.
وحين نجد علماءنا يبذلون هذا الجهد المشكور في تحري الروايات وضبطها ليرتبوا السور القرآنية تبعا لتطورات الدعوة وأدق جزئياتها، لا نملك أنفسنا من الدهشة والذهول إذ نسمع المستشرقين يدعون بالويل والثبور على الرواة والروايات، ويرتابون في إمكان ترتيب القرآن اعتمادا على سيرة الرسول3.
ومن الغريب حقا أن يظن المسشرقون أن في وسعهم ترتيب القرآن زمنيا وهم يجحدون كل أثر للرواية الصحيحة في هذا الترتيب، ولو كانوا يتشددون في الروايات فلا يقبلون منها إلا المسندة الصحيحة لهان الأمر، فإن علماء الإسلام أنفسهم كانوا -ولا يزالون- يرفضون الأخذ بالروايات الضعيفة في المكي والمدني وغيرهما من الموضوعات التي تلقي الضياء ساطعا على تتبع مراحل الوحي القرآني، وترتيب سوره وآياته، وتدرج تعاليمه، وإرشاداته، على أن بين المستشرقين من حاول أن يبحث هذا الموضوع على صعيد لا يختلف كثيرا عن صعيدنا، كالأستاذ غريم H. Grimme الذي اعتمد على الروايات والأسانيد الإسلامية في ترتيب سور القرآن4. ويؤخذ عليه مع ذلك أمران: أما أحدهما فعدم تمحيصه صحيح تلك الروايات وسقيمها وعجزه كسائر المستشرقين عن هذا التمحيص، ولذلك لم يبال بترتيب القرآن على أساس واه من الأسانيد الضعيفة أحيانا والباطلة أحيانا أخرى. وأما الآخر فهو تخليه عن المنهج الذي اشترطه على نفسه من احترام الروايات ليصدر في نهاية المطاف
1 سورة البقرة 278.
2 تفسير القرطبي 3/ 363-364.
3 انظر على سبيل المثال: Blachere، Intro. Cor.، 252
4 انظر منهجه في الاعتماد على الروايات في كتابه:
H. Grimme، Mohammed، 2e partie "munster، 1895"; cf. ;Blachere، Intro.، 250.
- في مواطن مختلفة- عن رأي المستشرق نولدكه في وصف المراحل المتعاقبة على الوحي القرآني1.
والواقع أن المستشرق نولدكه Noldeke كان مقتنعا بضرورة ترتيب القرآن زمنيا على غير الطريقة الإسلامية، وقد رسم لنفسه منهجا جديدا تأثر به كثيرون، فأصبح موضوع هذا الترتيب يشغل أذهان المستشرقين جميعا، ويعلقون عليه أخطر النتائج في عالم الدراسات القرآنية.
وقد ظهرت في أروبة في منتصف القرن التاسع عشر محاولات لترتيب سور القرآن ودراسة مراحله التاريخية، منها محاولة وليم موير William Muir الذي قسم المراحل القرآنية إلى ست، خمس في مكة وسادستها في المدينة2.
واعتمد فيها -إلى حد غير قليل- على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسانيدها بعد دراستها دراسة نقدية حشد لها الكثير من معلوماته التاريخية3، ولكنه وقع -مع ذلك- في أخطاء عديدة وأخذ بروايات واهية، والمقارنة في هذا المجال بينه وبين غريم Grimme ستظل ممكنة ميسورة.
ومنها محاولة ويل Weil التي بدأها سنة 1844 ولم تتخذ صورتها النهائية إلا سنة 1872، ولا يقيم فيها وزنا للروايات والأسانيد الإسلامية4، لذلك كانت في نظر بلاشير "الطريقة الوحيدة المثمرة حقا"5، وكان من قبله
1 انظر بعض مواطن تلاقيه مع نولدكه في Geschichte des Qorans ،73.
2 ويمكن دراسة هذه المحاولة في كتابين من تأليف موير أحدهما:
Life of Mahomet "London، 1858- 61"".
وقد طبع هذا الكتاب طبعة مزيدة منقحة سنة 1923 في ادنبورغ Edinburgh بإشراف T. H. Weir.
والثاني: The Coran، its composition and teaching "London، 1878"
3 Cf، Blach.، Intor، cor ، 248.
4 وذلك في كتابه: G. weil، Historisch - Kritische
Einleitung in der Koran "Bielefeld، 1844" 2e ed، Leipzig، 1872".
5 انظر Blach.، Intro، cor.، 251
في نظر نولدكه نقطة الانطلاق في أجرأ محاولة لترتيب القرآن فبها أخذ، وعلى كثير من أسسها بنى دراسته.
وكان ويل Weil قد قسم المراحل القرآنية إلى أربع: ثلاث في مكة ورابعة في المدينة، فتابعه على ذلك نولدكه سنة 1860 عندما ظهر كتابه عن "تاريخ القرآن"1 للمرة الأولى، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة في محتويات كل مرحلة على حدة، ثم تابعه مرة ثانية مع نظائر هذه التعديلات عندما شاركه شفالي Schwally في نشر الكتاب منقحا مزيدًا.
وقد تأثر بهذه الطريقة كل من بل2 R.Bell ورودويل Rodwell3 وبلاشير Blachere4 وتظل ترجمته بلاشير للقرآن في نظرنا أدق الترجمات، للروح العلمي الذي يسودها، لا يغض من قيمتها إلا الترتيب الزمني للسور القرآنية بطريقة يعترف بلاشير نفسه بأنها لا تخلو من تعسف في إطلاق الأحكام5 دعا إليه ما يعتقده من أن القرآن وحده نقطة الانطلاق في تعاقب المراحل الإسلامية، وترتيب السور، وتدرج التعاليم، وأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والأخبار التي يرويها الصحابة عنه لا يمكن أن تستقل وحدها بإيضاح شيء سكت عنه القرآن، وإنما تكمل تكميلا ثانويا ما جاء في نص القرآن6.
أما نحن فلا نرتاب قط -بعد الذي عرضناه من تشدد علمائنا في استقصاء كل ما يتعلق بالمكي والمدني- في أن الرواية الصحيحة هي الطريقة الوحيدة إلى
1 وهو كتابه المشهور الذي كثيرا ما رجعنا إليه في مباحثنا هذه:
Geschichte des Qorans.
2 R. Bell، the Qur'an. Translated with A critical re، Arrangement of the Surahs "Edinburgh، 1937 sq."
3 A. Rodwell، the koran، Translation with the Suras arranged in choronological order ، London 1861.
4 Blachere، le corrn، Traduction selon un essai de reclassement des sourates، Paris 1949 -51.
5 انظر Blach.، Intro، cor.، 254.
6 Id.، ibid.،253.
ترتيب القرآن أمثل ترتيب زمني وأصلحه وأدقه، والروايات في هذا المجال لم ترد إلا عن الصحابة الذين شاهدوا مكان الوحي وعرفوا زمانه، أو التابعين الذين سمعوا وصف ذلك وتفصيله من الصحابة. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه شيء من هذا القبيل، لأنه عليه الصلاة والسلام -كما يقول القاضي أبو بكر1 في "الانتصار":"لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة"2.
ولا ريب أن كثيرا من الصحابة كانوا على علم كامل بالمكي والمدني به استطاعوا أن يستقصوا تلك الجزئيات الدقيقة التي حفلت بها كتب التفسير بالمأثور والمؤلفات الكثيرة في علوم القرآن، وقد أشرنا إلى جملة صالحة منها على سبيل التمثيل والاستشهاد، وفي وسعنا أن نكون فكرة عن غزارة علم الصحابة في هذه الموضوعات من خلال قول ابن مسعود:"والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت"3 ولكن ابن مسعود -مهما نصف من سعة علمه- ليس الرجل الوحيد الذي أقسم هذا القسم منفردا به من بين سائر الصحابة، فقد أقسم نحوا من قسمه علي أيضًا، وقد كان بين الصحابة بلا ريب من أتيح له أن يشهد ما شهد هذان الصحابيان الجليلان، وربما رأى بعضهم أكثر مما رأياه، بل نحن لا نستبعد أن يكون بين مجاهيل الصحابة من يكمل برواية تحملها شيئا فات علماء الصحابة ومشاهيرهم4.
لذلك لم يكن الاعتماد على الرواية الصحيحة متنافيا مع إعمال الفكر والاجتهاد، ولا سيما في الموضوعات التي لا تكون فيها الرواية نصا صريحا، ولهذا الاجتهاد صور وأشكال متنوعة في مبحث المكي والمدني فقد يقع الاختلاف في مكية بعض السور أو مدنيتها، وفي استثناء آيات مكية من سورة
1 هو القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني.
2 البرهان 1/ 191 "وانظر الإتقان 1/ 14".
3 الإتقان 1/ 14 والحديث أخرجه البخاري. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" عن أيوب أنه قال: سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع.
4 راجع ما ذكرناه في فصل "علم أسباب النزول" عن علم الصحابة بهذه القضايا.
مدنية أو آيات مدنية من سورة مكية، وفي ترتيب ما نزل بمكة أو المدينة، وفي الخصائص الأسلوبية أو الموضوعية لكل من المكيي والمدني، ثم لا يفصل في الاختلاف إلا بضروب من الاجتهاد.
فإذا زعم النحاس1 أن سورة النساء مكية مستندا إلى أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 2 نزل بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة، تصدى له السيوطي يضعف رأيه قائلا:"وذلك مستند واه، لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية، خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني. ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه. ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت: "ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"، ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقًا"3.
وإذا كان في كل من المكي والمدني آيات مستثناة، فمن العلماء من اعتمد في استثنائها على الاجتهاد دون النقل4. ولا يعارض هذا ما ورد عن ابن عباس:"كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما شاء"، لأن إلحاق المكي بالمدني أو المدني بالمكي يعرف وجه الحكمة فيه حينئذ عن طريق الاجتهاد: مثاله سورة الإسراء فهي مكية؛ إلا أنهم استثنوا منها {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} 5 فرجحوا أنها آية مدنية "نزلت في وفد ثقيف، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه شططا، وقالوا: متعنا بآلهتنا حتى نأخذ ما يهدى لها. فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا، وحرمنا
1 هو أبو جعفر النحاس، أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس المرادي، من أئمة العلم واللغة بمصر، توفي سنة 338. له كتاب قيم في "الناسخ والمنسوخ" "انظر إنباه الرواة 1/ 101" وكتابه المذكور طبع في القاهرة بمطبعة السعادة 1323.
2 سورة النساء 58.
3 الإتقان 1/ 19 وقد عقد السيوطي في الإتقان فصلا لتحرير السور المختلف في مكيتها أو مدنيتها عالج فيه الاختلاف بضرب من الاجتهاد "انظر الإتقان 1/ 18-23".
4 الإتقان 1/ 23.
5 الإسراء 73.
وادينا كما حرمت مكة، حتى تعرف العرب فضلنا عليهم"1.
ويعين العلماء -تبعا للروايات والأسانيد- السور المكية والسور المدنية2 ثم يرتبونها حسب تعاقبها في النزول، وإذا هم يترددون في أول ما نزل وآخره3، ويصل بهم الأمر إلى الاختلاف في سورة الفاتحة التي يرتلها المسلمون في كل ركعة من ركعات الصلاة، فيرى بعضهم أنها مكية وآخرون أنها مدنية4، ويؤثر فريق ثالث القول بنزولها مرتين5، ثم يرجح بعضهم أنها أول ما نزل بمكة، فهي إذن أول ما نزل على الإطلاق6، ويرجح آخرون أن عددا من السور كان أسبق منها في النزول، ففي مثل هذه المواطن يتنافس العلماء في إيراد الحجج والبراهين، وهي حجج إلى الاجتهاد أقرب منها إلى النقل، فهذا عالم كالواحدي يستبعد مثلا أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم خلال بضع عشرة سنة بمكة يؤدي الصلاة من غير الفاتحة7! والواحدي -كما نعلم- لم يقم بدراسته "لأسباب النزول" في كتابه المشهور إلا على الروايات والأسانيد، لكن باب الاجتهاد والاستنباط مفتوح دائما على
1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 9/ 299.
2 وقد نظم الحسن بن الحصار في كتابه "الناسخ والمنسوخ" أبياتا في ذلك يفهم منها أن العلماء اتفقوا على مدنية عشرين سورة هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، والتوبة، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والجمعة، والمنافقون، والطلاق، والتحريم، والنصر. وواختلفوا في اثنتي عشرة سورة تعددت فيها الروايات وهي: الفاتحة، والرعد، والرحمن، والصف، والتغابن، والتطفيف، والقدر، ولم يكن، وإذا زلزلت، والإخلاص، والفلق، والناس. وما سوى ذلك فهو مكي باتفاق "انظر الإتقان 1/ 17-18 وقد أثبت السيوطي هنا الأبيات التي نظمها ابن الحصار" وعلى ذلك يكون عدد السور المكية اثنتين وثمانين سورة، لأن تعداد القرآن كله مائة وأربع عشرة سورة.
3 انظر على سبيل المثال البرهان 1/ 193-194 والزركشي يرد إلى القسم المدني أكثر السور المختلف فيها، فيكون عدد السور المكية عنده خمسا وثمانين، بينما تكون الصور المدنية تسعا وعشرين.
4 قال ابن عباس والضحاك ومقاتل وعطاء: إنها مكية. وقال مجاهد: مدنية "البرهان 1/ 194".
5 البرهان 1/ 29 "فصل فيما نزل مكررًا".
6 الإتقان 1/ 18 وقارن بالبرهان 1/ 207.
7 الواحدي: أسباب النزول ص13.
مصراعيه حتى عند أصحاب النقل والنص!
والمستشرق بلاشير بدلا من أن يرى في تفكير الواحدي هنا محاولة للاجتهاد والاستنباط، يستشعر فيه ضربا من استسلام اليائس الذي انقطع كل رجاء عنده في معالجة الموضوع، فاعترف بجهله ووجد السلامة في هذا الاعتراف! 1.. ولا نرى بلاشير في هذا إلا مغاليا، فليس من شأن العلماء أن يقطعوا جازمين في أمر خطير كالذي يتعلق بترتيب الوحي القرآني، وإنما حسبهم أن يحاولوا -كما صنع الواحدي- ترجيح شيء على شيء، والجهل لا يعالج دائما بالقطعي من الأمور، فالترجيح وحده كاف لتحصيل العلم والمعرفة. وليست غايتنا هنا الدفاع عن الواحدي، بل التنبيه على أن كثيرا من جزئيات المكي والمدني انتهى به العلم إلينا عن طريق الاجتهاد، وأن العقل كالنقل، والقياس كالسماع، في ثبوت العلم بالشيء، وقد لاحظ الجعبري هذا حين قال:"لمعرفة المكي والمدني طريقان: سماعي وقياسي2"، وعرف السماعي بأنه "ما وصل إلينا نزوله بأحدهما"، ثم أنشأ يذكر أمثلة وشواهد على القياسي. وإذا قرأنا أمثلته بأمثلة العلماء الذين مارسوا القرآن وتذوقوا فنونه وأساليبه استنبطنا من مجموعها ضابطا قياسيا نستطيع به أن نميز السور المكية والمدنية، ونتعرف إلى طابع كل منها وخصائصه، وسنرى أن هذا الضابط قلما يتخلف عند التطبيق، فمن خصائص السور المكية تبعا لهذا الضابط:
1-
أن كل سورة فيها سجدة فهي مكية3.
1 انظر Blachere، Intro. cor.، 263.
2 البرهان 1/ 189 والإتقان 1/ 29.
3 الإتقان 1/ 29 وقد لاحظ المستشرق بهل Buhl أن اسم الله "الرحمن" ليس له ذكر في السور المدنية، فهو من خصائص القسم المكي، وما أهون الرد عليه بسورة الرحمن عند من ذهب إلى مدنيتها، ولكن الجمهور على أنها مكية "الإتقان 1/ 20".
وانظر Encycl، de i islam، II، 1137 b
وأوضح من هذا في الرد عليه قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الآية 163 من سورة البقرة. وهي مدنية بلا خلاف.
2-
أن كل سورة فيها لفظ "كلا" فهي مكية. ولم ترد إلا في النصف الأخير من القرآن1.
3-
كل سورة فيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وليس فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهي مكية إلا سورة الحج ففي أواخرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 2 مع أن كثيرا من العلماء يرون أنها مكية.
4-
كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة فهي مكية سوى البقرة3.
5-
كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة أيضًا4.
6-
كل سورة تفتتح بحروف التهجي: {الم} و {الر} ونحو ذلك فهي مكية سوى الزهراوين وهما البقرة
وآل عمران، وفي سورة الرعد خلاف، فبعضهم يرى أنها مدنية لا مكية5.
1 قال الديريني:
وما نزلت "كلا" بيثرب فاعلمن
ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى
ويعلل العماني ذلك بقوله: "وحكمة ذلك أن نصفه الأخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة، فتكررت على وجه التهديد والتعنيف لهم، والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول. وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلهم وضعفهم". انظر الإتقان 1/ 29 وقارن بالبرهان 1/ 369. والعماني هو أبو الحسن علي بن سعيد العماني المقرئ، صاحب كتاب "المرشد" في الوقف عند تلاوة القرآن، وقد اختصره زكريا الأنصاري في كتاب سماه: "المقصد لتلخيص ما في المرشد" وطبع في القاهرة سنة 1934م.
2 سورة الحج 77 ويقابل هذا -بطبيعة الحال- أن كل سورة فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهي مدنية "انظر البرهان 1/ 189". ولكن الزركشي يعلق على هذا الضابط بقوله: "وهذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر، فإن سورة البقرة مدنية، وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} -الآية 21- وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} -الآية 168- وسورة النساء مدنية وفيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} - الآية 1- وفيها {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} - الآية 133- وسورة الحج مكية وفيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} -الآية 177- فإن أراد المفسرون أن الغالب ذلك فهو صحيح"، البرهان 1/ 190.
ونحن لا نرى داعيا لأن تكون هذه الأمارات غالبة فقط، فهي -إذا حفظ استثني منها جانبا وهو لا يزيد عما ذكره الزركشي- أمارات قطعية لا تتخلف.
3 الإتقان 1/ 29.
4 البرهان 1/ 189.
5 البرهان 1/ 188. والأرجح أنها مكية فكرة وأسلوبا.
وهذه الخصائص الست -إذا حفظ ما استثني منها جانبا- أمارات قطعية لا تتخلف. وهناك أمارات غالبة رجح امتياز القسم المكي بها. فمما يكثر في السور المكية ويشيع:
1-
قصر الآيات والصور وإيجازها وحرارة تعبيرها وتجانسها الصوتي.
2-
الدعوة إلى أصول الإيمان بالله واليوم الآخر، وتصوير الجنة والنار.
3-
الدعوة إلى التمسك بالأخلاق الكريمة والاستقامة على الخير.
4-
مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم.
5-
كثرة القسم جريا على أساليب العرب1.
وأما السور المدنية فمن خصائصها القطعية:
1-
أن كل سورة فيها إذن بالجهاد أو ذكر له وبيان لأحكامه فهي مدنية.
2-
أن كل سورة فيها تفاصيل لأحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين المدنية والاجتماعية والدولية فهي مدنية2.
3-
أن كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ما عدا سورة العنكبوت فإنها مكية3، إلا أن الآيات الإحدى عشرة الأولى منها مدنية، وفيها ذكر المنافقين.
4-
مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى الغلو في دينهم4.
ومن الأمارات الغالبة5 التي يرجح امتياز القسم المدني بها:
1 ولبروكلمان Brockelmann في دائرة المعارف الإسلامية آراء طريفة حول هذه الأمارات الغالبة أكثرها صحيح من ناحية الدراسة الأسلوبية.
انظر: Encyclopedie de l'Islam، art Arabie، 411 a.
2 الإتقان 1/ 29.
3 البرهان 1/ 188.
4 كما في سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والتوبة.
5 وآراء بلاشير -في هذا الموضوع- لا تخلو من طرافة لولا أنه يرمي من ورائها إلى غاية لا تتفق وروح الدعوة الإسلامية. انظر:
"Blacherel، coran، traduction، 2e vol، 722-28"
1-
طول أكثر سوره وبعض آياته وإطنابها وأسلوبها التشريعي الهادي.
2-
تفصيل البراهين والأدلة على الحقائق الدينية.
وهذه الخصائص الموضوعية والأسلوبية، سواء أكانت قطعية أم أغلبية، تصور الخطى الحكيمة المتدرجة التي كان يخطوها الإسلام في تشريعه: فخطاب أهل المدينة لا يمكن أن يكون مماثلا لخطاب أهل مكة، لأن البيئة الجديدة في المدينة أصبحت تستدعي التفصيل في التشريع، وفي بناء المجتمع الجديد. فكان لا بد أن يطنب القرآن بعد الإيجاز، ويفصل بعد الإجمال، ويراعي حال المخاطبين في كل آياته وسوره.
كان في مكة قوم طغاة معاندون، يضطهدون رسول الله والمؤمنين، فناسب أن ينزل على الرسول في مكة مثل قوله تعالى:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} 2، وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} 3. وهكذا كثر في مكة نزول الآيات التي تقرع المشركين، وتشتد في تسفيه أحلامهم، وتسلي الرسول والمؤمنين وتعلمهم السماحة والصفح الجميل. أما المدينة فكان فيها بعد الهجرة ثلاثة أصناف من الناس: المؤمنون من مهاجرين وأنصار، ثم المنافقون، ثم اليهود. أما اليهود فجادلهم القرآن ودعاهم إلى كلمة سواء، وأما المنافقون ففضحهم وكشف مساوئهم، وأما المؤمنون فشجعهم -من ناحية- على المضي في الصراط المستقيم، وشرع لهم -من ناحية ثانية- ما يتعلق بالسلم والحرب، وبحياة الفرد والمجموع، وبالسياسة والاقتصاد. هذه الزكاة مثلا لا معنى لفرضها في مكة والقوم فقراء مضطهدون. وتلك صلاة الخوف التي لا تكون إلا في الحرب لا يمكن أن تشرع في مكة، لأن المؤمنين لم يؤذن لهم بالقتال إلا
1 سورة الأنعام 33.
2 سورة الأنعام 34.
3 سورة الحجر 14-15.
في المدينة، وقد خلت السورة المكية خلوا تاما من ذكر الجهاد وكل ما يتعلق بالحرب.
ولو أخذنا برأي أبي القاسم النيسابوري الذي التزم المنهج التاريخي الزمني في ترتيب المكي والمدني لكان علينا -تطبيقا له وتأثرا به- أن نقسم كلا من السور المكية والسور المدنية إلى ثلاث مراحل: ابتدائية، ومتوسطة، وختامية، ولا نتجشم كبير عناء في تعيين هاتيك المراحل إذا عولنا على أصح الأسانيد وأخذنا بمقاييس النقاد المحدثين. وترددنا في القسم المدني سوف يكون يسيرا بل لا يكاد يكون شيئا مذكورا، إذ انتشر في المدينة الإسلام، وحفظ القرآن، وكثر القراء الكاتبون، وتيسرت وسائل النسخ والنقل والرواية والتفقه في الدين. أما القسم المكي فقد كان منطق الأحداث نفسه يقتضي وقوع التردد في تصوير مراحله، ولا سميا في أوائله، لأن الإسلام بدأ بمكة غريبا، ولم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في أعوام الوحي الأولى إلا نفر قليل، فلم يتيسر لغير السابقين الأولين منهم تقصي أطوار التنزيل، وتحري أوائلها على وجه التحديد.
بيد أننا إن ندع جانبا ما اختلف العلماء المحققون في ترتيبه الزمني وعجزوا فيه عن تعيين السابق والمسبوق، لا يتعذر علينا أن نضع أيدنا على زمر متشابهة، وفصائل متماثلة، تبرز فيها ملامح صريحة نجزم معها بأنها مرحلة أولى أو متوسطة أو نهائية في مكة أو في المدينة.
فمن السور التي اتفق المؤرخون والمفسرون على أنها من أوائل الوحي، أو أنها بعبارتنا الحديثة من المرحلة المكية الأولى: العلق، والمدثر، والتكوير، والأعلى، والليل، والشرح، والعاديات، والتكاثر، والنجم.
ومن المرحلة المتوسطة في مكة: عبس، والتين، والقارعة، والقيامة، والمرسلات، والبلد، والحجر.
ومن المرحلة الختامية في مكة: الصافات، والزخرف، والدخان، والذاريات، والكهف، وإبراهيم، والسجدة.
وهذه الزمر الثلاث -وإن بدت سمات المكي واضحة عليها- تتفاوت تفاوتا يسيرا فكرة وأسلوبا حتى لتبدو كل زمرة منها، بل كل سورة منها، وحدة فكرية إيقاعية قائمة بذاتها. وما سنلمحه في تحليلنا الخاطف لها لا يعدو الإيماء إلى أبرز ما يتمثل في ألفاظها وفواصلها والعقائد التي انطوت عليها آياتها المعجزات.
ففي سورة العلق -التي رأينا في فصل ظاهرة الوحي أنها أول ما نزل من القرآن1- تصوير حي لأضخم حدث في تاريخ البشر شهدت به الإنسانية نفسها تولد ميلادا جديدًا يصلها بالسماء وأسرارها ولا يلصقها بالأرض وأوحالها، فيوجه المقطع الأول من هذه السورة محمد رسول الله إلى الاتصال بالملأ الأعلى والقراءة باسم الله2، فمنه المنشأ وإليه المصير، وهو الذي كرم الإنسان بتعليمه أسرار الوجود، وتمكينه من استعمال "القلم" رمز العلم والتعليم، مع أنه خلقه من شيء مهين، "من علق" دم جامد عالق بالرحم في قرار مكين3.
وفي مطلع سورة المدثر -وقد نزل كما رأينا بعد فترة الوحي4- ينادي الله نبيه إلى قيام لا نوم فيه، ونشاط لا يعرف الكسل، فليثب من فراشه وثبا، وليترك الدثار الدافئ فإن أمامه كفاحا طويلا ثقيلا: إن الخطر القريب يترصد الضالين الغافلين، فعلى رسول الهدى أن يوقظ الهجع الرقود، مكبرا ربه العظيم، مستصغرا كل كيد في هذا الوجود، مطهرا ثيابه أمارة على طهارة قصده، هاجرا كل شرك ودنس، محاربا بلا هوادة كل موجبات
1 راجع ذلك الفصل وقارن بصحيح البخاري 1/ 7 بدء الوحي.
2 يراد بالقراءة هنا تلاوة النبي ما نزل من الوحي بإلهام من الله، لا القراءة من شيء مكتوب لأن النبي كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. ولذلك قال لجبريل:"ما أنا بقارئ". ونتفق في هذا مع بهل في مقالته بدائرة المعارف الإسلامية.
انظر Buhl، Encyclopedie de l'Islam، II، 1124 b
3 قارن بتفسير الطبري 30/ 161.
4 راجع فصل "ظاهرة الوحي". وقارن بصحيح البخاري 6/ 101.
العذاب، باذلا أقصى ما يبلغه المجاهدون من التضحية دون من ولا استكثار1.
وتعالج سورة "التكوير" ثلاث حقائق لا تنقطع صلتها بالعقيدة والإيمان: حقيقة الانقلاب الكوني يوم القيامة، وحقيقة الوحي الخالد والدعوة العالمية، وحقيقة الإرادة الإنسانية المرتبطة بمشيئة الله العليم الحكيم2.
أما الانقلاب الكوني فيبدو في مطلع السورة هائلا مروعا، يشتمل الشمس التي بردت وانطفأت شعلتها، والنجوم التي انتثرت وانطمس ضياؤها، والجبال التي نسفت وذريت هباء في الهواء وسيرت كالسراب، ومرت مر السحاب، والنوق الحبالى في شهرها العاشر وقد أهملت من الفزع في كل مكان، مع أنها لدى العربي أجود النياق، والوحوش الشاردة في الشعاب وقد تجمعت من الهول وتلاصقت منها الجنوب، والبحار التي التهبت مياههن حتى تفجرت بالنيران، وفاضت بالحمم والمحرقات، والأرواح المتجانسة وقد انضم بعضها إلى بعض في زمر وأزواج، والأنثى التي وئدت في غلظة يطرح عليها وحدها سؤال، وتخص وحدها بالاستجواب: ما سر وأدها؟ وكيف يكون إنسانا من أقدم على وأدها وهي على قيد الحياة؟
ويشمل هذا الانقلاب الكوني أيضا نشر صحف الأعمال حتى لا تخفى يومئذ خافية، وإزاحة السقف المرفوع في القبة الزرقاء، وتسعير الجحيم وإذكاء حرها بوقودها من الناس والحجارة، وتقريب الجنة من السعداء حتى لتبدو كالعروس في زينتها تغري خطيبها بالدنو منها والالتصاق بها واستنشاق عبيرها، فيومئذ تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت، وما أحضرت معها من زاد يخفف عنها شيئا من العذاب!.
وتمهيدًا لذكر الحقيقة الثانية المتعلقة بالوحي وطبيعته، ينتقل السياق إلى
1 قارن بتفسير الطبري 29/ 90.
2 انظر تفسير الرازي 8/ 337.
قسم رشيق أنيق بمشاهد من الكون خلعت عليها الحياة، وقذفت فيها الروح: فبالكواكب التي تجري في السماء ثم تعود للتوارى في أفلاكها كأنها الظباء تعدو رشيقة ثم ترجع إلى كنسها فتختبئ فيها وتلتمس الراحة بعد العدو الشديد، وبالليل الذي لف الكون بسواده حتى بات لا يرى نفسه ولا يبصر دربه، فهو يتخبط في سراه تخبط الأعشى، ويجس بيده كل شيء في الظلام مجسة الأعمى، وبالصبح الذي ولد بعد ذهاب الليل، فأبصر النور وتحرك، وتفتح قلبه للحياة فخفق وتنفس، بهذه المشاهد الكونية الحية أقسم الله: أن لا دخل لمحمد في الوحي، فإنما يلقنه إياه -بأمر ذي العرش- ملك كريم، له من القوة ما يمكنه من حمل أمانة السماء إلى أهل الأرض، وله من المكانة ما يجعله مطاعا من الملائكة جميعا في الملأ الأعلى.
وبهذه المشاهد الحية أيضا أقسم الله: إن محمدا أمين على الوحي، راجح العقل، وقد صاحبه أهل مكة أربعين عاما قبل البعثة فعرفوه وسموه الصادق الأمين، وها هو ذا الآن يخبرهم بأنه رأى ملك الوحي بعينيه في الأفق الواضح المبين الذي لا يزيغ عنده البصر ولا يطغى1، فكيف يظنون به الظنون؟ وكيف يزعمون أنه مجنون تتنزل عليه الشياطين؟
1 رغم هذه الدقة التامة في إبراز صفات ملك الوحي، وإيضاح التقاء النبي بهذا الملك التقاء لا ريب فيه، تطغى على بعض المستشرقين سطحية عجيبة في التفكير يثيرون بها شبهة حول سكوت القرآن في مكة عن ذكر اسم هذا الملك، ثم ذكره في المدينة مرتين باسمه الصريح "جبريل"، ملوحين بذلك إلى أثر يهود المدينة في التعريف بهذه الحقيقة الدينية، كأن العبرة بالأسماء لا بالمسميات، وكأن كل الأوصاف القرآنية المبكرة لملك الوحي في هذه الفترة المكية الأولى لم تشف غليلهم، أو كأنها تباين الأوصاف التي خلعت في الكتاب المقدس على ملك الوحي ولو أنصفوا لقدموا المسميات على الأسماء، والحقائق على الأشكال، واعترفوا بأن هذه الصفات الواضحة الصريحة لا تصدق إلا على جبريل، ولم يرتابوا في أن سر هذه الصفات أبلغ بيانا من تحديد الذات، وأدعى إلى تعريف الأميين بشيء من حقائق الوحي بالتدريج، أما يهود المدينة فلم يفاجأوا باسم جبريل في السورتين المدنيتين؛ لأن هذه الحقائق كلها معروفة لديهم، فلم يزد القرآن على أن صدقها وأقرها لأن ما ثبت لديهم منها فالقرآن لا يكذبه بل يهيمن عليه، ويصدقه بين يديه، وقارن بمقالة لودز
Lods، Recherches sur le Prophetisme israelite، dans la Revue de l'Histiore des Religions، Publiee a paris 1922.
وفي هذا المقطع نفسه يذكر الله أهل مكة بأن هذا الوحي لم يوجه إليهم وحدهم، وما كان ليوجه إليهم وحدهم، بل هو دعوة عالمية1 لا بد أن تنتصر مهما يقاوموها الآن ويطاردوا المؤمنين بها. وباب هذه الدعوة مفتوح على مصراعيه لكل من أراد أن يستقيم على الحق والهدى.
أما الحقيقة الثالثة فقد ختمت بها سورة "التكوير" بآية واحدة حاسمة جازمة قررت بأن الإرادة الحقيقية الفاعلة هي إرادة الله، فما لأحد إرادة منفصلة عن إرادة العليم الخبير، بل هو الذي قدر فهدى، وألهم الإنسان إرادة بها يختار لولاها لما شرف بالتكليف.
وفي سورة "الأعلى"2 تمجيد لاسم الخالق الذي أتقن كل شيء، ورسم له طريقه، وهداه إلى غاية وجوده، وعرض لبعض آثاره في خلقه حين قدر لكل دابة في الأرض رزقها من مرعى أخضر، أو غثاء ذاو ضارب إلى السواد، وكفالة ربانية بتحفيظ النبي القرآن ونقشه في لوح قلبه من غير أن يبذل شيئا من الجهد في حفظه، ومن غير أن يحتمل نسيان حرف واحد منه لأن الحفظ كالنسيان أمران متعلقان بالمشيئة الإلهية الطليقة من كل قيد، لا بالإنسان الذي يظل -مهما يسم- عرضة للسهو والنسيان، وبشري للنبي والمؤمنين بتيسيرهم لحمل هذه الدعوة اليسرى، والنهوض بأماناتها الكبرى، وتصوير لاختلاف وجهات الناس إزاء هذه الدعوة المباركة: فمنهم الذي يؤمن
1 لقد صرحت الآية في تلك الفترة المبكرة، من أول مرحلة في مكة، بأن هذه الدعوة الإسلامية عامة عالمية: فلا مجال لتفسير قوله تعالى هنا: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} بغير الذي ذكرناه من عالمية هذه الدعوة، ولا مجال أيضا للظن بأن ليهود المدينة أثرا في مثل هذه القضية، لأن العلماء جميعا متفقون على أن هذه السورة كلها مكية، بل من سور المرحلة الأولى في مكة قطعا. والمستشرقون أنفسهم لم يجدوا هنا فرصة للغمز كعادتهم، فقد رتبوا هذه السورة جميعا في أولى المراحل المكية، إلا أن بعضهم تساءل: هل يمكن أن تفيد لفظة "العالمين" هنا معنى العموم المحلي لا معنى العالمية؟ وهل تساوي مثلا لفظة "monde" في اللغة الفرنسية؟ واعترفوا رغم تساؤلهم بأن هذه الآية ذات شأن عظيم في توضيح سعة الآفاق الإسلامية.
انظر: Blachere، Trad.، II.، 39.
2 انظر تفسيرها في البيضاوي 11/ 398 والنسفي 4/ 260.
بالله، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، ومنهم الذي شقي في الدنيا بنفسه المظلمة الكنود، وفي الآخرة بعذابها الأليم الشديد: فلن يموت في جهنم فيستريح ولن يحيا في راحة واطمئنان، وموعظة لكل ذي فطرة سليمة تؤكد أن الفلاح للزكاة والطهر، والخسران للرجس والدنس، وتنذر بفناء الدنيا العاجلة وبقاء الآخرة الخالدة، وفي ختام هذه السورة تذكير بوحدة الدين، فإن الذي ينزله الرب الخالق الأعلى على قلب محمد قد أنزل مثله من قبل على شيخ الأنبياء إبراهيم وعلى كليم الله موسى: فهي عقيدة واحدة، وتعاليم واحدة، ليس لها إلا مصدر واحد هو الله رب العالمين1.
وفي سورة "الليل"2 يقسم الله بتقلب الليل والنهار، وخلق الذكر والأنثى، على أن طرائق الناس في الحياة مختلفة، فلا بد أن تكون مصائرهم مختلفة أيضا: فكما تقابل صورة النهار السافر صورة الليل الغامر، وتعاكس طبيعة الأنثى اللطيفة طبيعة الذكر الخشنة، ينافر سعي المتقين عمل المجرمين، ويضاد ثواب السعداء عقاب الأشقياء. ولن يسكب الله الرضوان إلا في قلب من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى.
وفي سورة "الشرح" مناجاة رقيقة حلوة يضع الله فيها عن نبيه ضائقة حلت به وثقلت على ظهره حتى كادت تحطمه، ويبشره بانفراج كربه، وانشراح صدره، وتيسير أمره، ورفع مكانته في الأرض وفي السماء، وقرن اسمه باسمه في الصباح وفي المساء، ويدعوه إلى التفرغ لعبادته كلما تجرد عن الناس وعن شواغل الحياة في طريق الدعوة الطويل3.
1يلاحظ هنا -من وحي السياق نفسه- أن الدعوة الإسلامية أنبأت عن نفسها منذ أوائل المرحلة المكية بأنها عالمية، وأن أصولها واحدة كأصول الأديان السماوية، وقد أشار إلى هذا في سياقنا نفسه ذكر صحف إبراهيم وموسى، فلم ينتظر القرآن هجرة النبي إلى المدينة والتقاءه بيهودها ليتحدث عن صحف نبيهم موسى، بل عرض لموسى كما عرض لإبراهيم في مكة نفسها تأكيدا لعالمية الدعوة ووحدة أصلها.
وانظر Horovits، Koronische Untersuchengen، 68 sq.
2 انظر تفسيرها في "الطبري 30/ 138".
3 قارن بتفسير الرازي 8/ 428.
وفي سورة "العاديات"1 يقسم الله بخيل الغارة التي تعدو في ساحة المعركة ضابحة صاخبة لاهثة الأنفاس، وتصك الصخر بحوافرها صكا يقدح النار ويوري الشرر، وتقتحم أرض العدو بغارة صباحية مفاجئة تثير
بها الغبار، وتتوسط الجموع وتجوس خلال الديار، ثم تملأ الصفوف ذعرًا وتلجئهم إلى الفرار2
…
يقسم الله بهذه الخيل العاديات الصاخبات الثائرات على أن الإنسان جاحد نعمة ربه يقيم من نفسه شاهدا على جحوده، ولا يحمله على هذا الكفر إلا ما فطر عليه من حب المال والخير ومتاع الحياة، فليطلق الإنسان نفسه من أغلالها، وليطف بخياله مشهد مصيره المحتوم ومصائر إخوانه البشر أجمعين حين يبعثون من مراقدهم، فتبعثر قبورهم، وتحصل أسرار صدورهم ويخبرهم ربهم بكنودهم وجحودهم، ويجزون سؤء العذاب على ما قدمت أيديهم.
وفي سورة "التكاثر" إنذار رهيب للغافلين اللاهين الذين يتكاثرون بالأموال والبنين، حتى ينتهوا إلى زيارة المقابر الضيقة، فلا يجدوا في حفرها المظلمة فرصة للتنافس. إن الهول الأكبر سيحيق بهم فيستيقظون على حقيقته الرهيبة بعد أن طالت سكراتهم، ويرون الجحيم وعذابها بأم أعينهم، ويستصغرون -وهم يعاينون العذاب المقيم- كل ما أصابوه من ألوان النعيم3.
وفي سورة "النجم"4 تصوير دقيق لحقيقة الوحي وطريقة تلقيه،
1 راجع تفسيرها في "الكشاف 4/ 328".
2 هذه الصورة الواضحة التي لا تصدق إلا على الخيل العادية الصاخبة المغيرة جملة وتفصيلا ظلت في نفوس بعض المستشرقين غامضة، فلم ينتبهوا -وأنى لهم الذوق لينتبهوا! - إلى ما رود في الآيات من أصوات صاخبة، وحوافر قادحة، ونقع مثار، وجمع منهزم يولي الأدبار؛ وإذا هم يأخذون -كعادتهم- بأضعف الآراء، فيجعلون العاديات ضبحا الإبل التي يفيض عليها الحجاج من عرفة إلى المزدلفة، أو من المزدلفة إلى منى، ويستأنسون على ذلك بمن أقسم من الشعراء "بالراقصات إلى منى".
انظر: Gaudefroy -Domombynes، Pelerinage، 256.
3 راجع تفسير سورة "التكاثر" في الكشاف 4/ 230.
4 راجع تفسير الرازي 7/ 695 والنسفي 3/ 82 والطبري 27/ 24.
وحقيقة ملك الوحي وأسلوب نزوله، وتهكم بعباد الأوثان وسخرية بأصنامهم وتصحيح لعقائد العرب في الملائكة، وإيماءة إلى حكمة الله من خلق الكون، والتفاتة إلى اتفاق الرسالات جميعا على أصول العقائد، وقواعد المسئولية والجزاء، وإنذار للعابثين الضاحكين بقرب مصرعهم كما لقي مصرعه من قبل كل جبار عنيد.
أقسم الله بالنجم حين يهوي عبد تلألئه، ويتدلى بعد أن كان في كبد السماء قصيا، على أن محمدا مبلغ عن ربه، مهتد لم يضل، رشيد لم يعرف طريق الغواية، بل صاحبه قومه المخاطبون بهذا الوحي عمرا من قبله فما عرفوا عليه من سوء ولا جربوا عليه كذبا، فالوحي الذي ينزل عليه لا مراء فيه، والملك الذي يحمله إليه شديد القوى عظيم الخلق، يسد الأفق بمنظره المهيب1، وقد تيسر لهذا النبي الأمي أن يلتقي به، ويراه على صورته الحقيقية مرتين: إحداهما في بدء الوحي حين التصق به وقرأ عليه القرآن، وكانت رؤية يقينية قريبة استوثق منها القلب والبصر، والأخرى ليلة الإسراء والمعراج حين رحل معه رحلة واقعية رأى خلالها آيات ربه الكبرى وبلغ سدرة المنتهى2 التي ينتهي إليها المطاف، وينتهي إليها علم الأولين والآخرين، فإذا هي أقرب درجة إلى الفردوس جنة المتقين التي تأوي إليها أرواح الصديقين والملائكة
1 وهنا كذلك ذكر جبريل بأبرز صفاته ولم يذكر باسمه الصريح، فأغنى مسماه عن اسمه، وعوضت صورة خلقه كنه ذاته، فكان في ذلك -كما رأينا في سورة "التكوير"- تدرج في إعلام المشركين بشيء من حقائق الغيب، وتهويل في وصف ظاهرة من ظواهره المعجزة الفريدة.
2 إن عجبك لن ينقضي إذا علمت أن الأمير كايتاني يأبى أن يرى في هذه السورة ما يراه المفسرون المسلمون من المعنى الرمزي الديني، ويصر -من غير برهان- على أنها موضع قريب من مكة يدعى "سدرة المنتهى".
وانظر Caetani، Annali dell' Islam، 231.
والمقربين1. فمن ذا الذي يماري محمدا فيما رآه، وما طغى بصره ولا زاغت عيناه؟
ولئن كان الوحي حقيقة مشهودة مرئية فإن عبادة العرب للات والعزى ومناة وسائر أصنامهم الأخرى أوهام وأساطير، وحين زعموا أن هذه الأصنام ملائكة وأن الملائكة بنات الله، لم يركنوا إلا للظن والهوى، ولم يعرفوا سوى الجور في القسمة، فإنهم يكرهون البنات، وقد نسبوا إلى الله ما يكرهون، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الله إناثًا!.
ولكن هذه الأسماء التي يخلعونها على أصنامهم تارة، وعلى الملائكة تارة أخرى، ليس وراءها مدلول، ولا يؤيدها منطق ولا سلطان، فما أجدر النبي أن يعرض عن أولئك الجاهلين ويهمل شأنهم موجها وجهه للذي فطر السموات والأرض ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وإن مفهوم المسئولية والجزاء لقديم راسخ الجذور منذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكلهم متفقون على أصول العقائد، وكلهم يدعون الناس إلى تحمل تبعاتهم بأنفسهم، ثم إلى الله منتهى كل شيء، ومرجع كل نفس لتدافع عن نفسها، ولقد نطقت بهذا كله صحف إبراهيم وموسى، مثلما نطقت بقدرة الله على الجمع بين النقيضين في نشأة الإنسان وحياته وموته وبعثه ونشوره، فقد خلق الله في الإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء، وقد جهزه للموت بعد أن أعده للحياة، وجعل في الإفراز المنوي المراق خصائص الذكر أو خصائص الأنثى، أفليست النشأة الأخرى أهون عليه من النشأة الأولى؟
1 إن لك هنا أيضا أن تأخذك الدهشة إذا علمت أن "جنة المأوى" أصبحت في نظر شبرنجر ومولر دارة أو "فيلا" تحيط بها حديقة غناء في ضواحي مكة!!.
انظر Sprenger، Das Leben und die lehre des Mohammad 307 Muller، der Islam I، 65.
ليعرف المشركون إذن حدود قدرتهم، وليزدجروا عن غيهم، وليذكروا كيف أباد الله المكذبين الجاحدين وأنزل بهم الخسف والدمار، وليعلموا أن الخطر داهم، وأن مصرعهم قريب، وليسجدوا لله قبل أن يقذف بالحق على باطلهم، فتزهق أرواحهم وهم كافرون.
إن هذا لقليل من كثير مما انطوت عليه السور المكية في مرحلتها الأولى، أبينا أن نستخلص ما فيه من أفكار وعقائد وتعاليم إلا مما ثبت لدينا -بعد أن ثبت للعلماء المحققين- أنه حقا من أوائل الوحي. وتحليلنا لتلك لنوازل الأولى -وإن جاء خاطفا- كاف لإلقاء الضوء على الموضوعات المعروضة، والمشاهد المصورة، وكاف أيضا لتمييز هذه الزمرة القرآنية بخصائصها الأسلوبية عن الزمرتين المكيتين التاليتين، وعن الزمر المدنيات الثلاث ابتداء ووسطًا وختامًا.
وكان يسيرًا علينا أن نلاحظ -في سور هذه المرحلة الأولى كلها- أن الحديث عن الوحي والدين، ووصف قدرة الله وآثار رحمته، وتقرير النشأة الأخرى قياسا على النشأة الأولى، وتصوير مشاهد القيامة، وإنذار المشركين بمثل العذاب الدنيوي الذي أصاب المكذبين من قبل، وتأكيد فكرة المسئولية والثواب والعقاب، وتسلية النبي على ما يلقاه من اضطهاد قومه له بوصف ما لقيه إخوانه الرسل من قبل، والتصريح بوحدة الدين في أصول عقائده والتلويح بعالمية الدعوة المباركة وشمولها البشر جميعا، كادت تؤلف الموضوعات البارزة وإن عرضت بأساليب مختلفة، وإيقاعات موسيقية متباينة.
وإنه ليسير علينا كذلك -لو عدنا إلى هاتيك السور نفسها فقرأناها، واحدة واحدة- أن ندرك أن آياتها جميعا قصار، وأنها شديدة الإيجاز، وأن القسم فيها بمشاهد الكون كثير، وأن صيغ الإنشاء فيها من أمر ونهي واستفهام وتمن ورجاء تتخلل مقاطعها وتزيدها حرارة، وأن ألفظاها رشيقة منتقاة يسري التنقيم في أحرفها المهموسة تارة، المجهورة تارة أخرى، وأن فواصلها
الموزونة المقفاة -بإيقاعها العجيب- تنساب أحيانا وتتموج، وتلهث أحيانا وتتهدج، وتقصف أحيانا وتدمر، وتصرخ أحيانا وتزمجر، وأن تجسيم المعنويات، وتشخيص الجوامد، وخلع الحركة والحياة والحوار على الأشياء الصامتة، قد أحالت مشاهدها لوحات فنية غنية بالأصباغ الحية.
وحين ننتقل إلى ما اخترنا تحليله مما صح لدينا أنه من المرحلة المكية المتوسطة، سنجد في زمرته كلها نظائر هذه الخصائص الموضوعية والأسلوبية، ففي كل سورة مثل تلك الأفكار والتعاليم، وفي كل سورة مثل تلك الصور والظلال، وفي كل سورة مثل تلك الأنغام والألحان، بيد أن زيادة بعض العقائد، أو إضافة بعض الحقائق، توشك أن تجعل من كل سورة على حدة -وليس من كل زمرة وحسب- منظومة علوية تملأ القلوب والآذان.
هذه مثلا سورة "عبس" -من المرحلة المكية المتوسطة، ومن أوائلها على وجه اليقين- تعالج حادثة من حوادث السيرة بتوجيه القلوب إلى حقيقة القيم، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الفزع الأكبر يوم القيامة. وتعالج السورة هذه الحقائق الضخمة بإيحاءات شديدة التأثير، ولمسات عميقة النفاذ، وصور وارفة الظلال، وفواصل قوية الإيقاع.
عبس النبي وأعرض عن ابن أم مكتوم، المؤمن الأعمى الفقير، وقد جاء يسأله أن يعلمه مما علمه الله. فليعقب القرآن على هذا الحادث الفردي، وليعتب على النبي عتابا شديدًا1، وليدعه إلى استبدال قيم السماء بقيم الأرض، وموازين الشريعة العادلة بمواضعات البشر الجائرة، وليجعل الله هذا الحادث درسا بليغا وتذكرة لا تنسى للنبي وللمؤمنين {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} 2.
1 ارجع إلى فصل "ظاهرة الوحي" من هذا الكتاب.
2 قارن بقول الزمخشري في "الكشاف 4/ 185": " {كَلَّا} ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي: موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي: كان حافظا له غير الناس".
ما كان للنبي أن يعرض عن هذا الأعمى ويعبس ويتولى، فإن هذا الاعمى لأكرم عند الله بتقاه من أصحاب النسب والقوة لجاه، وإن كل قيم الحياة لا يقام لها وزن متى تجردت من الإيمان وتعرت من التقوى.
تلك هي حقيقة القيم، أما حقيقة الحياة فقصة ذات مراحل وفصول. تتراءى في فصولها كلها يد حانية لطيفة تدبر للأحياء، في عالم الإنسان والحيوان، طعامهم الذي يقيم أودهم، ويحفظ صحتهم، فتصب عليهم ماء السحاب صبا، وتسلك هذا الماء ينابيع في الأرض، ثم تتركه يتخلل التربة الخصبة وينفذ فيها ويشقها شقا ليعين النبات على النماء والانبثاق من التراب، والامتداد في الهواء، وإذا بالنبات يستحيل حبًّا يقضم، وعنبا يعصر، أو فاكهة تؤكل غضة طرية، أو زيتونا ينبت بالدهن، أو نخلا باسقات، وإذا بالحدائق التي ينبت فيها هذا النبات ملتفة الأشجار، متشابكة الأغصان، فيها من الثمار ما يتفكه به الإنسان، ومن المراعي ما يسد حاجة الحيوان.
وكان ينبغي للإنسان أن يدرك حقيقة الحياة، وحقيقة القيم، لأنه الحي المجهز بكل أسباب الحياة، ولكنه ظلوم جهول، وجحود كفور، فقد نسي أصل نشأته من نطفة من ماء مهين، وتجاهل تكريم الله إياه بتيسير صعابه في درب الحياة، وإيداعه جوف الأرض بعد الممات، فقصر في أداء حق الله وقضاء واجبه نحو الله، واسترسل في جحوده كأنه متروك سدى بلا حساب ولا عقاب. فما أعجب حقيقة الإنسان، وما أعجب كفر الإنسان!.
ولكن حقيقة مذهلة كبرى تنتظر الإنسان يوم الهلع والفزع الأكبر، يوم تقوم الساعة فتصخ الآذان صخا ملحاحا، فما يسمع الإنسان غير أصواتها النافذة العنيفة، ويذهل بكربها عن أقرب الناس إليه، ولا يفكر إلا بنفسه ومصيره، وللناس يومئذ صنفان من الوجوه: إما وجوه السعداء بتهللها ونورها وبشراها، وإما وجوه الأشقياء بانقباضها وسوادها وحزنها، فطوبى للمؤمنين وساءت مصائر الكفرة الفجرة1.
1 راجع تفسير هذه السورة في الطبري 30/ 32 وقارن بالزمخشري 4/ 184.
ويريد القرآن أن يعرض حقيقة الفطرة الإنسانية وهي قويمة سليمة، وحقيقتها حين تنحرف عن الصراط المستقيم، فيجعل سورة "التين" معرضا لهذا، وفي إطار من القسم ببعض الثمار المباركة والأماكن المقدسة1 يكرم الله الإنسان، ويمتنُّ عليه بتكوينه الفطري المقوم، وتصويره الجسمي المعدل، والارتقاء به جسدا وروحا إلى المقام الأسنى، ثم يلوح باستعداده للهبوط النفسي، والانحلال الخلقي، والانحدار إلى أسفل سافلين إلا إذا أضاءت له الفطرة مسالك الحياة، فبصرته بحقيقة الإيمان، ورغبته بصالح الأعمال، وانتهت به إلى الكمال، وأورثته جنات النعيم، فهل للإنسان بعد إدراك الحقيقة أن يطمس نور الفطرة، فيكذب بدين الله، ويتجاهل حكمة الله، وينساق مع غيه وهواه2؟
وفي آيات مدوية رهيبة تقذف الرعب في القلوب يصور القرآن مشهدا سريعا من مشاهد القيامة يقفيه بمشهد الجزاء والحساب. وذلك في سورة "القارعة" التي تقرع بهولها كل شيء، حتى ليغدو الناس في غمراتها حيارى خفافا صغارًا كالفراش المتهافت لا يعرف لم يطير ولا أين المصير، وتمسي الجبال الرواسي هباء تذروه الرياح كالصوف المتطاير المنفوش، فليتوقع الإنسان في ذلك الهول المرهوب عيشة راضية إن أحسن عملا، أو نارا حامية وهلاكا أبديا إن أساء وكان شقيا.
1 الثمار المباركة إشارة إلى التين والزيتون، ولا سيما إذا كان المراد بهما منابتهما التي ترمز إلى جبل التين بجوار دمشق وجبل الزيتون في بيت المقدس، والأماكن المقدسة إشارة إلى طور سيناء ومكة البلد الأمين، والخلاف في التين والزيتون مشهور، بيد أنه يسعنا فيهما ما وسع إمام المفسرين الطبري إذ قال:"والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت، لأن ذلك هو المعروف عند العرب. ولا يعرف جبل يسمى تينا ولا جبل يقال له زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون" تفسير الطبري 30/ 154.
2 راجع في تفسير هذه السورة الدر المنثور للسيوطي 4/ 365 والرازي 8/ 431.
وإن تتطاير الجبال الثقال يوم القارعة تطاير الصوف والهباء، فما أحوج الإنسان إلى الموازين الثقال تعوض خفته لئلا يتهافت كالفراش1.
وفي سورة "القيامة" يرسم القرآن الانقلاب الكوني الشامل الهائل في ومضات سريعة تأكيدا للبعث وردًا على منكريه، ويطمئن النبي إلى نقش الوحي في صدره فلا تدركنه العجلة التي أدركت البشر في حب الحياة الفانية، ويحدد بإيجاز شديد مصير السعداء ومصير الأشقياء، ويصور مشهد الاحتضار الذي كتب على كل حي، ويذكر الإنسان بنشأته الأولى ليقيس عليها نشأته الآخرة.
وتوطئة لتصوير الانقلاب الكوني يلوح الله بالقسم بيوم القيامة وبالنفس التقية اللوامة على أن البعث واقع والساعة آتية لا ريب فيها، وإذا كان الإنسان يستبعد جمع العظام وهي رميم فإن الله يقدر على ما هو أدق وأجل: إذ يسوي له أطراف أصابعه ويعيد تركيبها في مواضعها على اختلاف "بصماتها" وأشكالها، فعلام الفجور؟ ولم يستبعد الإنسان البعث والنشور؟
وتأكيد البعث بهذا الأسلوب القوي الذي يواجه القلب الغافل ويحاصره كان أصلح تمهيد بين يدي الانقلاب الكوني يوم يقوم الناس لرب العالمين: فما أسرع الانقلاب في كل شيء يوم القيامة! إن الإنسان الفزع القلق ليرى الكون كله مختل النظام ببصره الحائر الزائغ المتقلب، فما للقمر نور بعد أن طمس، ولا للشمس مشرق بعد أن اقترنت بالقمر، ولا للإنسان ملجأ يقيه الهول الشديد بعد أن سيق إلى الله ليحاسب على ما قدمت يداه!
والإنسان لم يستبعد البعث والنشور والحساب إلإ اتباعا للهوى، واحتفالا بالشهوات، واستعجالا لملذات الحياة، ولكن الحياة مهما تطل إلى زوال، فلا
1 قارن بقول الزمخشري في "الكشاف 4/ 23": "وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه، لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا السيئات أن يخف! ".
داعي الاستعجال، حتى رسول الله الأمين تعتريه أحيانا سمة من سمات الإنسان العجول، فيحرك لسانه بالوحي عجلان، مخافة أن يفوته حفظ شيء من القرآن، فليستعل بنبوته على الطبيعة الإنسانية العجلى، وليثق بأن منزل الوحي على قلبه قد تكفل بحفظه وصيانته، وجمعه وبيانه1.
وما أسعد الذي فضل حب الله على حب هذه الدنيا العاجلة! إنه مطمئن إلى الله، متطلع إلى رضوان الله، مستشرف إلى النعيم الروحي الأسمى الذي يتمثل في نضرة وجهه حين ينظر إلى جمال الله! أما الذين استحب العاجلة على الآجلة، وآثر اتباع الهوى على طاعة الله، فما أنكى مصيره وما أشقاه! إنه محروم من نور البصيرة المشرق، يترقب بوجهه الكالح العباس كارثة تقصم ظهره، وتحطم فقاره، وتنذره بالعذاب الأليم2.
ولو رجع منكرو البعث مرة واحدة إلى مشهد الاحتضار الذي يتكرر كل يوم تحت أبصارهم، وتذكروا كيف يفارق الأحياء أحبتهم، ويرحلون إلى عالم مجهول، لأيقنوا بأن الله القهار الذي أمات الحي قادر على أن يحيي الميت. فإنهم يعرفون أن الرقى والتعاويذ لا تغني عن المحتضر شيئا متى بلغت روحه الحلقوم، وتلوي من سكرات الموت في كرب شديد. فمن كان مشهد الاحتضار لا يرعبه، وانتزاع الأحبة لا يقلقه، فليذهب في درب الحياة فخورا، وليمط ظهره متعاجبا مزهوا، وليعرض عن الحق أيما إعراض. إن الويل لينتظره، وإن غضب الله قد حل بساحته!.
وما كان على منكري البعث إلا أن يلتفتوا إلى نشأتهم الأولى ليقيسوا عليها
1 ربطنا هنا، وفي فصل علم أسباب النزول، بين قوله تعالى:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} رد قاصم حاسم لكل من توهم الانقطاع في ثنايا هذه السورة، فما يحتاج القارئ الفطن - لإدراك وجه التناسب بين المقطعين- إلا لحس مرهف لطيف يتذوق أساليب العرب في اتساق النظم وارتباط السياق. فأنى لعجمة الأب لامنس أن ترقى إلى فهم هذا البيان الرفيع!.
انظر: Lammens، fatima، 113.
2 راجع هنا تفسر الرازي 8/ 259 وما بعدها.
بمنطق الفطرة نشأتهم الآخرة، ألم يكن الإنسان ماء رقيقا مهينا؟ ألم يتحول هذا الماء دما متجمدا عالقا بجدران الرحم؟ أولم يتطور في هذا القرار المكين حتى أضحى جنينا به خصائص الذكر أو خصائص الأنثى؟ فهل يعجز عن إحيائه من خلقه من العدم؟ وهل يتركه خالقه الحكيم سدى؟ ألا تنطق الفطرة السليمة بوجوب البعث والنشور، وثواب المتقين وعقاب الفاجرين؟ 1.
وفي سورة "المرسلات" نمط خاص فريد في تصوير أجمل مشاهد الدنيا وأعنف مشاهد الآخرة، وأصدق حقائق الكون وأعمق أغوار النفس، في مقاطع شافية الفواصل، متعددة الأنغام، مصحوبة بقوله تعالى:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِين} يتكرر فيها عشر مرات كأنه لازمة الإيقاع، وتجيء هذه المقاطع، بسماتها الحادة العنيفة، متناسقة كل التناسق مع مطلع السورة الرهيب الذي أقسم الله فيه بالملائكة المرسلات على أن وعده بالآخرة واقع لا ريب فيه.
وفي القسم بالمرسلات غموض ملحوظ يتناسق مع عالم الغيب المقسم عليه، فكل ما فيه مغيب مجهول، وقد اخترنا أنهن الملائكة مخافة الخوض -في هذه العجالة- في الخلاف الطويل المشهور، فقد أقسم الله -وهو بقسمه أعلم- بالملائكة اللاتي يرسلهن متتابعات، فيعصفن عصف الرياح وهن بأمره ماضيات، فينشرن في الأرض شرائعه، ويفرقن بإذنه بين الحق والباطل بما يلقين إلى أنبيائه من وحي فيه إعذار إلى الخلق وإنذار2!.
1 راجع في تفسير سورة القيامة الطبري 29/ 108 وقارن بالكشاف 4/ 163 والنسفي 4/ 235.
2 قارن في تفسير هذا المطلع القسمي بين الطبري 29/ 140 والرازي 8/ 288 والزمخشري 4/ 173. وما اخترناه أقرب إلى رأي الزمخشري. ويلاحظ أن هذا الضرب من القسم إطار أدبي جميل لفصول بعض الكتب الدينية الشرقية، لما يوحي به -ولا سميا في المطلع- من رهبة المجهول؛ ولكن جمهور علماء المسيحية يرمون بالوضع والاختلاق كل كتاب ديني شرقي يفتتح شيء من فصوله بمثل هذه الأقسام الأدبية الموحية، كما رموا بالوضع "صلوات جلغوط Gologotha" التي نقرأ فيها:"والملائكة المرسلات في السحب تترى، الماضيات إلى الشمس قدما"، ونقرأ أيضا:"أورشليم، وجبل طابور، وطور صهيون وذرى الزيتون". "انظر ترجمة باسيه لهذه الصلوات باللغة الفرنسية ضمن "الآثار الحبشية الموضوعة": "Apocryphes etiopiens، Fasc، V، 34، trad. fr. R. Basset وقد يكون لعلماء المسيحية الحق في إدراج هذه الصلوات والأقسام في سلك "الموضوعات التي لا أصل لها عندهم"، لأن الأثر القرآني فيها شديد الاحتمال وإن لم يقم عليه برهان قطعي أكيد.
وبعد هذا القسم الغيبي المفعم بالأسرار، تعرض السورة مشهدا جديدا من مشاهد القيامة يخطف البصر بتعاقبه السريع، ويحاصر القلب بكربه الشديد: لقد انفرط عقد هذا الكون المنظور، فكل شيء فيه ينشق وينفجر، وكل شيء من حوله يضمحل ويذوب: أما النجوم فقد طمس ضياؤها، وأما السماء فقد انشق أديمها، وأما الجبال فقد نسفت ذراها سويت بالأرض كأنها الكثيب المهيل، وأما رسل الله فقد أخر الموعد الذي ضرب لهم للمثول بين يدي الله إلى أجل طويل ثقيل يفصل فيه بين خصوم الأنبياء وأتباعهم، ويقضي فيه بالحق ولا يظلمون. فما أشد ويل المكذبين المجرمين!.
وأعداء النبيين كانوا في جميع الأجيال يلقون مصرعهم، فليس مشركو مكة بدعا من المجرمين، وإنهم منذ الساعة ليتوقعون هلاكهم الدنيوي العاجل فكيف يكون إذن عذابهم الآجل في الجحيم!
ليتهم -قبل الانطلاق إلى يوم الفصل -يفكرون في أنفسهم، وفي الأرض الذلول التي يطئونها بأقدامهم، فلو فكروا في أنفسهم لعجبوا لتقدير البارئ الحكيم الذي خلقهم في بطون أمهاتهم طورا بعد طور حتى أصبحوا بشرا أسوياء بعد أن كانوا أجنة في الأرحام. ولو فكروا في الأرض التي يطئون لرأوها أمهم الحنون، تكفتهم إلى صدرها وتضم أحياءهم وأمواتهم، فمنها خلقوا وفيها يعادون ومنها يخرجون تارة أخرى. ألم يروا إلى جبالها الشم الراسخات ينحدر الغيث عن ذراها، فيفجر الله به العيون، ويسقيهم الماء العذب النمير؟
فإن لم يفكروا في الآفاق وفي أنفسهم فليشقوا طريقهم إلى العذاب مسرعين. إن لدخان جنهم ظلالا ذوات شعب ثلاث تمتد لافحة محرقة أشد حرا من لهب
السعير، فلينطلقوا إلى هذي الظلال، وليجدوا لديها الحرور! وإن يك لدخان جهنم تلك الظلال الخانقة اللاهبة فكيف بشررها ولظاها؟ إن كل شررة منها في حجم القصر الكبير ضخامة وارتفاعا، وتكاد شظاياها التي تتناثر مصفرة من كثرة الوقود تحكي قطيعا من الجمال الصفر تعدو في البيد في هياج شديد! 1.
ما أجدر الأصوات في ذلك اليوم أن تخشع، وما أجدر الألسنة أن تجف صامتة في الحلوق، وما أجدر المجرمين أن يكظموا حناجرهم ويكتبوا أعذارهم في صدورهم، فما لأحد عذر يبديه في ذلك الموقف المهيب. لقد حشر الله الأولين والآخرين ليفصل بينهم بحكمه، فمن كان له مكر فليمكر، ومن أوتي القوة فليحسن التدبير
…
لكن الترهيب في القرآن يعقبه الترغيب، وإن الجنة والنار ليتقابلان في أكثر السور تقابل شطري البيت في القصيد، فالمتقون ينعمون في الفردوس بظلال حقيقية وارفة لا بظلال الحرور اللافح، وتجري من تحتهم العيون النضاخة العذبة ولا يتناثر من فوقهم شرر النار الموقدة، ويكرمون بخطاب الله لهم ودعوته إياهم إلى الهناءة بما يأكلون وما يشربون ولا يفرض عليهم الصمت الكئيب.
فهلا بكت المجرمون أنفسهم، وأدركوا أن متاع الدنيا قليل؟ وهلا خشعت نفوسهم للحق فركعوا مع الراكعين؟ أم كتب عليهم الشقاء فهم لا يؤمنون؟ 2.
وفي سورة "البلد" تلويح بقسم عظيم على أن حياة الإنسان سلسلة من المكابدة والمشقة والكفاح. أما القسم به فهو أمران: أحدهما ببيت الله الحرام3.
1 هذه الصورة يوحي بها قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} وقد اخترنا هذا التأويل من بين طائفة من الأقوال الأخرى. وانظر الكشاف 4/ 174.
2 راجع تفسير سورة "المرسلات" في الطبري 29/ 140 والنسفي 4/ 241. وقارن بالبيضاوي 2/ 377 والزمخشري 4/ 173.
3 أصاب المستشرق موير حين ترجم "البلد" هنا بيت الله الحرام.
انظر الطبري 30/ 123 وقارن بـMuir، trad،. 14.
الذي زاده شرفا أن نبي الله حل فيه مقيم، والآخر كل والد وكل مولود وما يعانيه كلاهما من كبد في جميع مراحل الحياة. ولكن الغرور يستولي على الإنسان، فينخدع بقوته، وينسى أن الله الذي منحه هذه القوة قادر على أن يسلبها منه، وينخدع أيضا بماله، فيكنزه زاعما أنه ينفق منه الكثير في وجوه الخير، وينسى مرة أخرى أن الله محيط به يرى كيف جمع ماله وأين أنفقه، فليعرف هذا الإنسان أنه رهين بما كسبت يداه، وأنه بتصرفه المغرور إنما يجني على نفسه، إذ وهبه الله الخصائص التي تهديه إلى سواء الصراط، من عينين بهما يبصر، ولسان به ينطق، واستعداد نفسي لتمييز الشر من الخير.
إن على الإنسان -وقد أوتي وسائل الهداية كاملة- أن يقتحم عقبة كأداء تعترض طريقه إلى جنات عدن. ولن يذلل هذه العقبة إلا بالإيمان والعمل الصالح، فليحرر في سبيل الله رقاب العبيد1، وليطعم في أيام المجاعة اليتامى من ذوي القربى والمساكين البائسين، وليقم بهذا كله وفاء بحق الإيمان، واستشعارًا لأنبل معاني الصبر على المشاق، وأظهر معاني التراحم في الحياة. فبمثل هذا يكتب في سجل السعداء ويمسي من أصحاب اليمين.
أما الإنسان الذي صده الغرور عن الإيمان، فلجَّ في عتوه ونفوره، فمصيره المشئوم ينتظره في جهنم: تغلق عليه أبوابها ثم لا يموت فيها ولا يحيا2.
وبسورة "الحجر" نختم ما اخترنا تحليله من النوازل القرآنية في المرحلة المكية الثانية أو "المتوسطة". وقد انفردت هذه السورة عن كل ما سبقها من السور التي تحدثنا عنها في المرحلتين المكيتين بطولها النسبي، فهي تسع وتسعون آية، وانفردت آياتها كذلك بطولها النسبي على تفاوت في ذلك بين مقاطعها المتتابعات. ومن خصائص هذه السورة أيضا أنها افتتحت ببعض الحروف
1 يلاحظ هنا أن الدعوة إلى تحرير العبيد من الرق بدأت في الإسلام مبكرة والمسلمون ما يزالون في مكة مستضعفين محاصرين.
2 انظر تفسير سورة "البلد" في الطبري 30/ 123 وقارن بالرازي 8/ 403.
المقطعة {الر} وقد عقدنا فصلا خاصا لها ولأمثالها في هذا الكتاب، فلا داعي للحديث عنها الآن.
وأبرز الحقائق التي عرضتها سورة "الحجر" إنذار الكافرين بسوء المصير، وبيان سنة الله في المكذبين، وتصوير آيات الله في السماء وفي الأرض وما بينهما، وحديث عن خلق آدم وإبليس، وسجود الملائكة لآدم واستكبار إبليس، وتثبيت فؤاد محمد بقصص المرسلين: كبشارة إبراهيم على الكبر بغلام عليم، ونجاة لوط وأهله من الخسف والدمار، ومصرع قوم لوط بزلزال وحجارة من سجيل، وهلاك أصحاب الأيكة قوم شعيب، وأخذ أصحاب الحجر من قوم صالح بالصيحة الطاغية، وتبيان الحق الذي تقوم به السموات والأرض وتقوم عليه الساعة، ودعوة النبي إلى الصفح الجميل، والجهر بدين الله، واللواذ بحمد الله حتى يمضي إلى جواره الكريم1.
ولقد طوي مطلع هذه السورة على إنذار ضمني خفي2 يحث الكافرين على اعتناق الإسلام قبل أن تضيع الفرصة، وينقضي الأجل، لأن الأمل الخادع مهما يشغلهم بالأطماع لن يدفع عنهم مصيرهم المحتوم، فسوف يعلمون أن سنة الله في الأمم لا تتخلف، وأن لكل أمة كتابا معلوما وأجلا مسمى، تحيا ما كتب الله لها الحياة، فإذا انحرفت عن الطريق الواضح المرسوم جاءها أمر الله ليلا أو نهارا فدمرها تدميرًا.
لكن المشركين، إزاء هذا الإنذار الرهيب، لا ينفكون عن باطلهم وغرورهم، بل يسترسلون في لغوهم وعبثهم، ويتهكمون على النبي الكريم، ويرمونه بالجنون، ويطالبونه بنزول الملائكة تصديقا له، وتثبيتا لمدلول الوحي الذي يدعيه.
1 انظر تفسير سورة "الحجر" في الطبري 14/ 1 والرازي 5/ 253.
2 نشير بهذا إلى قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فإن ألفاظ الآيتين مطوية على الإنذار، ملفوفة بالسخرية اللاذعة، ولو لم تكن مدلولاتها صريحة في هذا الباب، وقارن بقول الزمخشري:"وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار" الكشاف 2/ 310.
ونزول الملائكة ليس في ذاته بالمستحيل، بيد أنه أمارة على الهلاك القريب، فهل يستعجل المشركون العذاب لأنفسهم؟ وهل يريدون أن تحق عليهم كلمة الخراب والدمار؟ 1.
إن الكفر ملة واحدة، وإن أساليب التعنت والعناد لدى الكافرين متماثلة، وما صورة مشركي مكة إلا مرآة للمكذبين من كل جيل: لو خرق الله لهم السماء، وفتح لهم فيها بابا، وأعد لهم فيها معراجا، ومكنهم من اختراق حجابها، وصدع بابها، والصعود في معراجها، لكابروا بلا حياء، وأنكروا بعناد عجيب ما رآه بصرهم الحسير، وزعموا أنهم مسحورون، وأن عيونهم مخدرة سكرى لا ترى إلا وهمًا وخيالًا2.
إن القرآن -مع ذلك- لا يسلمهم إلى عنادهم البغيض، بل يوقظهم من سكرتهم، ويستثير كوامن الخير في أنفسهم، ويفتح عيونهم على مشاهد في هذا الكون الجميل تنطق بآثار الخلاق العليم: فهذه نجوم متلألئة في السماء تنتقل من منازلها وهي تدور، فتسر الناظرين، وتلك جبال شامخات ألقيت في الأرض بثقلها وضخامتها، فهي توحي بالرهبة والجلال، وهذا نبات يفترش الأرض أو يستلقي عليها أو يمتد في الهواء، وقد وزنه الله أحكم الوزن في طعمه ولونه وريحه ليكون رزقا للخلق ومعايش للعباد، ينزل من خزائن الرحمن بقدر معلوم، وتلك رياح لواقح تحمل الماء وتنطلق به ثم تسقطه مطرا غزيرًا مدرارًا3 يروي العطاش ويحيي الموات، فالملك كله بيد الله،
1 حين طالب المشركون النبي بنزول الملائكة رد القرآن عليهم بقوله: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} فالملائكة لا تنزل إلا بعذاب المكذبين، ومتى نزلت لا إمهال ولا إنظار. قارن بالطبري 14/ 6.
2 قارن بقول الزمخشري في الكشاف 2/ 312: "المعنى أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له، ولقالوا: قد سحرنا محمد بذلك! "
3 عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . قال: "ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة". وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخغي وقتادة: تفسير ابن كثير 2/ 549.
وارث السموات والأرض، يحيي ويميت وإليه المصير.
وللقرآن أطرف الأساليب في إيقاظ الهجع الرقود: إن قصصه الديني ليفتح القلوب الغلف، ويضيء العيون العمي، ويرهف الآذان الصم، حين يذيع أسرار الوجود. لذلك عرضت سورة "الحجر" هنا حقائق الهدى والضلال من خلال قصة آدم وإبليس: إن هذين المخلوقين يختلفان في المنشأ فلا عجب إذا اختلفا في المصير. أما آدم فمخلوق من طين هذه الأرض، من صلصالها اليابس الذي يصلصل إن نقر، وفيه نفحة من روح الله يستشرف بها إلى الملأ الأعلى، وهو بذلك جدير بأن تقع له الملائكة ساجدين. وأما إبليس فمخلوق من نار سامة1، ولهب خالص، فالشر يكتنفه من كل جانب، والغرور يدفعه إلى الاستعلاء، فيأبى السجود لآدم، ويحصر وظيفته في إغواء ذريته إلا عباد الله المخلصين.
وهكذا انقسم البشر: إلى غاوين من أتباع إبليس، يدخلون جنهم داخرين لكل باب من أبوابها السبعة صنف معلوم2، ومهتدين من عباد الرحمن ينعمون بالجنات والعيون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وحقائق الهدى والضلال حلقات متتابعات في قصص الأنبياء: فليستمع المشركون إلى قصة إبراهيم مع الملائكة المرسلين إلى قوم لوط، وليذكروا كيف خاف منهم ثم اطمأن إليهم حين بشروه على الكبر بغلام عليم، وإلى قصة لوط حين ضاق ذرعا بقومه الفجرة الفاحشين، فأسرى بأهله ليلا قبل أن يداهمهم الصبح القريب بمطر من حجارة من سجيل، وإلى قصة أصحاب الأيكة الذين كذبوا شعيبا فلقوا مصرعهم في وقته المحتوم، وإلى قصة أصحاب
1 قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} : "وهي السموم التي تقتل"، وعن ابن مسعود:"هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان". راجع تفسير ابن كثير 2/ 550.
2 قارن بتفسير الطبري 14/ 24.
الحجر1 الذين كذبوا صالحا وأعرضوا عنه، وألهاهم الأمل الكاذب فيما نحتوه من البيوت المحصنة في صلب الصخور، ثم أتت على حصنهم صيحة طاغية فدمرتها تدميرًا وهم فيها آمنون في سكون الصبح الجميل.
وإذا لم يكن للمشركين في هذا القصص عبرة، فليكن لمحمد فيه أسوة حسنة، وليتسل به عما يلقاه من قومه، وليكتشف من خلاله الحق الذي أقام الله عليه السموات والأرض، وليصفح الصفح الجميل عن أعدائه الجاهلين، وليمض في طريق الدعوة إلى الله ولينذر الغافلين، وليصرف بصره عن متاع الغرور قانعا بما آتاه الله من السبع المثاني2 والقرآن العظيم، وليجهر بالوحي الذي أنزل الله مثله على قلوب النبيين، فإن العاقبة للمتقين.
وإننا -إذ نختم بسورة "الحجر" تحليلنا السريع لما اخترناه من سور المرحلة المتوسطة- لا يغيب عنا أن انفرادها بميزة الطول النسبي إرهاص لما سنلمحه في المرحلة الأخيرة من طول نسبي أيضا حتى ليصعب التمييز بين سور المرحلتين في هذه الخصيصة ولا سيما إذا لاحظنا أن الفصل بين مختلف الزمر أمر اعتباري ليس له من الواقع نصيب، فكل مرحلة امتداد للتي سبقتها ولا يبدو هذا الامتداد أوضح ما يكون إلا في السور الأولى من المرحلة الجديدة، حين تقابل بسماتها المستقلة وملامحها المتميزة السور الأواخر من المرحلة السابقة.
ولا يغيب عنا أيضا أن افتتاح سورة "الحجر" بالحروف المقطعة إرهاص لكثير من سور المرحلة الثالثة المفتتحة بهذه الحروف. وذلك يؤكد ما كنا
1 أصحاب الحجر هم ثمود، والحجر هي المعروفة اليوم بمدائن صالح، وتقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. وللمستشرق شليفر بحث طريف عن الحجر وأصحابها.
انظر: Schleifer، Encycl. de l'Islam، art. Hidjr، II، 320.
2 انظر في تأويل "السبع المثاني" الطبري 14/ 35-41 وقارن ابن كثير 2/ 557. والأرجح كما قال الطبري: أنها آيات فاتحة الكتاب. وهي سبع تثنى وتعاد في كل ركعة من ركعات الصلاة. ولذلك عقد المستشرق فنسنك مقارنة بين لفظة "مثناة" العربية و"مشنا" العبرية، ففي كلتيهما معنى الإعادة.
وانظر: Encycl. de l'Islam، Wensinck، art. Mathani، III، 464.
أومأنا إليه من اشتراك المراحل المكية كلها في خصائص موضوعية وأسلوبية متماثلة تتفاوت حظوظها في هذا الاشتراك، ولولا أخذنا بالمنهج الزمني في ترتيب المكي والمدني زمرا وفصائل، وتقسيم كل منها إلى مراحل، لضممنا السور المكيات كلها في زمرة واحدة تقابل السور المدنيات بزمرتها كلها مقابلة كاملة.
وإن نرد تفصيل الحديث عما تميزت به المرحلة المكية المتوسطة عن الأولى -قبل أن نمضي إلى تصوير ملامح المرحلة الثالثة التالية- نجد في يسر وسهولة أن بعض الإضافات التي زيدت في هذه على حقائق تلك قد صيرت موضوعاتها كالمستقلة بنفسها، وأن بعض الأصباغ التي وشيت بها هذه زيادة على وشي تلك قد جعلت أسلوبها خاصا فريدا، مع أن الأصول في سور كلتا المرحلتين بقيت بارزة المعالم، واضحة السمات.
إن جميع الحقائق التي عالجتها المرحلة الأولى في الكون والحياة، والإنسان قد عالجتها أيضا هذه المرحلة الثانية، بيد أنها وسعت نطاقها، وفصلت جزئياتها، وألقت الضوء ساطعا على معالمها: فقد بدأت الدعوة الإسلامية تثير مخاوف المشركين وتقذف الرعب حقا في قلوبهم، فما تني تنذرهم سوء المنقلب، وتعرض عليهم صورا من تدمير الله القرى الظالمة، وتقص عليهم قصص الغابرين، وتفصل لهم البراهين1 على توحيد الله، وصدق الوحي، وقيام الساعة، ووقوع البعث والنشور والثواب والعقاب، وتصور لهم الجنة والنار في لوحتين متقابلتين حافلتين بالمشاهد والظلال، وتذكرهم بنعم الله التي لا تحصى في الأرض وفي السماء، وفي الأنفس والآفاق، وتدعوهم إلى الاهتداء بنور الفطرة، وترغبهم في صالح الأعمال، وتوازن بينهم وبين الذين
1 الفارق إذن بين هذه المرحلة المتوسطة وتلك المرحلة الابتدائية هو تفصيل البراهين، فتوحيد الله والوحي والساعة والبعث والجزاء كلها أثيرت في أوائل الوحي ولكن بدون تفصيل، إذ كان المقصود تحريك دواعي النظر ولفت الانتباه إلى عقيدة التوحيد، حتى إذا عرف المشركون عنها أشياء أولية جابههم القرآن بالأدلة والبراهين.
آمنوا وعملو الصالحات، وتضع لهم الموازين القسط للأشخاص والقيم والأخلاق، وتوضح لهم وحدة الدين في أصول الإيمان، وترسم لهم نشأة الكون وخلق آدم وإبليس، وتوضح لهم أسرار الهدى والضلال.
أما أسلوب هذه المرحلة فربما كان -في جل المواطن- امتدادا لأسلوب المرحلة المكية الأولى في الإيجاز وحرارة التعبير، وتجانس المقاطع والفواصل، ووفرة التجسيم والتشخيص والتخييل، وكثرة الأصباغ والألوان واللوحات، إلا أن بعض السور بدأت تجنح إلى الطول، وبعض الآيات بدأت هي الأخرى تطول1، وتعددت في السورة الواحدة الأنغام، وبرزت أحيانا بين مقاطعها لوازم الإيقاع، وذيلت بعض الفواصل باسم أو اسمين متتالين من أسماء الله الحسنى2، وظلت الألفاظ تنتخب انتخابا، رشيقة تارة عنيفة تارة أخرى، وهي في كلتا الحالين تهز المشاعر الراقدة بالبيان الرفيع، والسحر الخلاب!.
الآن نمضي إلى المرحلة المكية الثالثة الختامية، فيفاجئنا فيها -أكثر ما يفاجئنا- طولها بوجه عام آيات وسورًا، وإن كان الأغلب عليها طول السور دون الآيات، وهذا الطول نفسه -حيثما يلاحظ- ليس شيئا ذا بال إذا قيس بعدد الآيات في السور المدنية أو بعدد الألفاظ في الآية المدنية الواحدة، ولكنه بلا ريب يعد طولا بالنسبة إلى ما يتوقعه القارئ في جميع المراحل المكية من تناسق القرآن مع ما يرغبه فصحاء مكة من إيجاز التعبير تعويلا على الإشارة الخفية أو الإيماءة البارعة المحكمة.
وطول هذه السور سيحول دون تحليلنا لجميع ما ذكرناه منها، فبدلا
1 كلما رأينا في سورة "الحجر" وهي "نموذج" لسور أخرى من هذه المرحلة تكاد تساويها في طولها وطول آياتها، وإن كنا قد اجتزأنا بها على سبيل المثال.
2 لعل أطرف ما يطالع في هذه الأسماء الحسنى ما كتبه المستشرق ديمومبين.
انظر: Gaudefroy-Demombynes، Noms d'Allah، 20.
من أن نتناول بالدراسة الخاطفة كل ما سردناه1 سنكتفي بإبراز الملامح الأساسية لسور منها ثلاث هي: الصافات، والكهف، وإبراهيم، ويقاس بعد ذلك سائرها على هذي الثلاث.
أما "الصافات" فتقع في اثنتين وثمانين ومائة آية، متعددة الفواصل، متنوعة الإيقاع في آياتها الإحدى عشرة الأوائل، ثم تلتزم فيها حتى نهايتها فاصلتا الواو والنون، والياء والنون، وأحيانا الياء والميم.
ومن خلال مقاطع السورة المتتابعة تبرز طائفة من الأفكار والمشاهد والمواقف المترابطة المتناسقة التي ترتد كلها إلى بناء العقيدة في النفوس خالصة من الشرك: فمن تثبيت فكرة التوحيد إلى تأكيد فكرة البعث وتصوير بعض المفاجآت يوم القيامة، ومن الملائكة الصافات إلى الشياطين المستمعين إلى الملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة، ومن تكذيب المشركين بالنبي إلى عرض سلسلة من قصص الرسل: نوح وإبراهيم وابنه الذبيح وفي حادثة الفداء بمواقفها المؤثرة الموحية، ومن حملة على أسطورة العرب في الملائكة إلى وعد الله لرسله بالنصر المبين.
أقسم الله بالملائكة الصافات لربها في السماء2 الماثلات بين يديه صفا صفا في ارتقاب أمره، وتنفيذ مشيئته، وزجر المكذبين لرسله، وتلاوة الذكر3 على أصفيائه من خلقه، على أنه واحد لا شريك له في ذاته ولا في ملكه.
1 كنا قد سردنا في موضع آخر من هذا الفصل من سور المرحلة الختامية في مكة: الصافات، والزخرف، والدخان، والذاريات، والكهف، وإبراهيم، والسجدة، وإنما اكتفينا بها هناك لأنها مما اتفق المفسرون والمؤرخون على أنه من أواخر الوحي المكي.
2 هذا اختيار الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} انظر تفسيره 23/ 22.
3 الذكر هنا كلمة عامة يراد بها الكتب السماوية التي تذكر بالله، فتشمل جميع ما أنزله الله على أنبيائه من الوحي، ولا داعي لتخصيص هذا اللفظ بالقرآن وإن كان يتناوله بالمقام الأول، لأن من أسمائه الذكر والذكر الحكيم، وقارن بتفسير ابن كثير 4/ 2.
وإن وحدانيته سبحانه لأبلغ رد على تلك الأسطورة الحمقاء التي افترضت قرابة بين الله -جل وعلا- وبين الجن: فقد زعمت العرب أن الله تعالى تزوج الجنة فولدت من هذا التزاوج الملائكة، فهن بنات الله! وفي سورة الصافات رد على هذه الفرية الجهلاء في أربع مواطن: أولها المطلع الذي رسم -من خلال القسم- صورة الملائكة قائمات بأمر الله، صفوفا بين يديه، نازلات بالوحي على قلوب النبيين، فهن من خلق الله في عالم الغيب المستور.
والموضع الثاني في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 1، فما بين السموات والأرض من مخلوقات دقيقة، وما يعرج بينهما من ملائكة مطهرين وأرواح علوية، خلق من خلقه، وعبيد من عباده، يعترفون له بالألوهية والوحدانية والقدرة.
والموضع الثالث: في رجم الشياطين الذين يحاولون استراق السمع، مع أنهم -بزعم العرب- هم "الجنة" الذين جعلوا بينهم وبين الله نسبا، فما بالهم يطاردون في السماء، ويقذفون بالشهب، رغم قرابتهم المزعومة مع الله الكبير المتعال؟
والموضع الرابع الأخير قبيل خاتمة السورة في تلك الحملة العنيفة الساخرة على هذه الفرية السخيفة المتهافتة، وفي استفتاء القرآن أولئك الحمقى عن منشأ أسطورتهم، وعن أسرار تأنيثهم الملائكة، وعن أسباب نسبتهم ما يكرهون إلى الله. وهكذا كانت وحدانية الله في ذاته أبلغ رد على أسطورة العرب في الملائكة والشياطين!.
على أن الحديث عن رجم الشياطين بالشهب إنما جاء عقب الحديث عن تزيين السماء الدنيا بالكواكب، فقد أودع الله الكواكب خصيصتين تكمل إحداهما الأخرى، أولاهما خصيصة التزيين والتجميل حتى لا تقع العين في
1 قال الطبري في تفسيره 23/ 23: "وقوله: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} يقول: ومدبر مشارق الشمس في الشتاء والصيف ومغاربها، والقيم على ذلك ومصلحه. وترك المغارب لدلالة الكلام عليه".
السماء إلا على البهاء والجمال، والثانية خصيصة الحفظ والرصد حتى لا يستمع شيطان متمرد ما يدور في الملأ الأعلى: فهذه الكواكب حفظة للسماء تطرد العتاة عن بابها برجوم من نار، وتدحرهم دحرا فيولون الأدبار.
وإن قيام الكواكب بوظيفتيها كلتيهما على الوجه الأدق الأكمل لبرهان صادق على تناسق هذا الكون، وجريان كل شيء فيه بقدر، وتحرك كل ما فيه بقدرة الله الخالق البارئ المصور.
ومشركو مكة -بدلا من أن يتدبروا صنعة الخالق الذي أتقن كل شيء- يلجون في عتوهم ونفورهم، ويتمادون في غيهم وغرورهم، كأنهم يحسبون أنفسهم أشد خلقا من الملائكة الصافات، أو أقوى تمردا من الشياطين العتاة1، وإذا هم ينكرون البعث بعد أن يصيروا ترابا وعظاما، ويرمون القرآن بالسحر شكا وارتيابا، فيأمر الله نبيه -في موقفهم العجب- بتذكيرهم بنشأتهم الأولى من طين رخو لزج، وإنذارهم بصيحة البعث تزجرهم زجرة واحدة وتسوقهم وأزواجهم وما كانوا يعبدون إلى أرض المحشر، فيجدون أنفسهم فجاءة في الجحيم أذلة مستسلمين، ثم يتبرأ بعضهم من بعض ويعترفون باستحقاقهم العذاب الأليم.
وسنة القرآن في مقابلة مصير الأشقياء بمصير السعداء لا تتبدل، فهنا تصوير وارف الظلال لمظاهر التكريم التي أعدها الله للمخلصين من عباده: بدأ باستثنائهم من العذاب الأليم، ثم آتاهم ما تشتهيه أنفسهم في جنات النعيم، فهم يتكئون على السرر في راحة واطمئنان، ويتناولون الفواكه من قطوف ذللت تذليلا، ويتساقون خمرا علوية لا تصدع الرءوس ولا تقطع لذة
1 قال ابن كثير هنا في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} : "يقول الله تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث: أيما أشد خلقا: هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ ". تفسير ابن كثير 4/ 3.
الشراب"1، ويضاعف لهم هذا النعيم بأنبل صحبة وأسماها وأحلها مع أزواجهم الحييات المصونات من الحور الحسان الناعمات.
وإنهم لفي نعيمهم هذا إذ يذكر أحدهم قرينا له كان في الدنيا يكذب بالبعث والنشور، فيذهب السعداء لتفقد هذا القرين والتطلع إلى مصيره، فيجدونه في وسط الجحيم، ويوجه السعيد إلى قرينه الشقي كلمات التأنيب، وفي خلالها يحمد الله على أن جعله وإخوانه من الأتقياء المخلصين.
ويطلق القرآن هنا الموازنة إلى أبعد مدى، وهو يبسط أمام المكذبين الجاحدين الفرق الشاسع بين تقلب السعداء في أعطاف النعيم وغصص الأشقياء وهم يأكلون من شجرة الزقوم، وهي شجرة جهنمية خبيثة تناهت في القبح وإثارة الرعب حتى أشبهت رءوس الشياطين التي يتصورها الخيال أقبح ما تكون2، وكلما احترقت حلوقهم من الظمأ واللهيب شربوا ماء حميما غاليا عكرا فقطع أمعاءهم، وكلما التمسوا ملجأ يقيهم هذا الويل الشديد ردوا إلى قعر جهنم، وساءت مستقرا ومقاما.
ويذكر القرآن هؤلاء الضالين بأسباب ضلالهم، فإنهم مقلدون يهرعون على آثار آبائهم، ولا يقارنون مقارنة منطقية بين مصيرهم المظلم ومصير المؤمنين المشرق السعيد، ولكن أسلافهم ضلوا من قبل مع أن النذر أرسلوا فيهم متتابعين، فلم ينج من العذاب العاجل إلا المصطفون الأخيار.
1 يقول الطبري في تأويل قوله تعالى: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} : "لا في هذه الخمر غول، وهو أن تغتال عقولهم. يقول: لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها، كما قال الشاعر:
وما زالت الكأس تغتالنا
…
وتذهب بالأول الأول
والعرب تقول: ليس فيها غيلة وغائلة وغول بمعنى واحد. تفسير الطبري 23/ 35. ثم يعلق على قراءتي: "يُنْزِفُونَ" بكسر الزاي وفتحها فيقول: "والصواب" من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتان المعنى غير مختلفتيه، فبأيتهما قرأ القارئ يصيب، وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم، ولا يسكرهم شربهم إياه فيذهب عقولهم".
2 قال ابن كثير: "وإنما شبهها برءوس الشياطين -وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين- لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر" انظر تفسيره 4/ 10.
وفي معرض هذا التذكير الذي يفيض بالإيحاءات المؤثرة، ويهز القلوب الغالفة هزا شديدا، رسم القرآن في لمحات عجلى قصة نوح الذي استجاب الله دعاءه فنجاه وأهله من الكرب العظيم، وأغرق المكذبين به، وقصة إبراهيم الذي حطم أصنام قومه، فهموا به ليقتلوه، وبنوا له بنيانا ليحرقوه فأنقذه الله من كيدهم وجعل النار بردا عليه وسلاما وقصة موسى وهارون اللذين اصطفاهما الله لرسالته، وآتاهما التوراة فيها هدى ونور، وكتب لهما النصر على فرعون وملئه المفسدين، وقصة إلياس الذي أنكر على قومه عبادتهم بعلا وإعراضهم عن أحسن الخالقين، وقصة لوط الذي نجاه الله وأهله -إلا امرأته- من الزلزال والدمار، وأمطر قومه الضالين حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين، وقصة يونس الذي ضاق ذرعا بتكذيب قومه فخرج مغاضبا آبقا، فركب سفينة مشحونة، واقترعوا حين تلاعبت بها الرياح والأمواج على من يلقونه منها تخفيفا لوزنها الثقيل، فخرجت القرعة ليونس فألقي في البحر والتقمه الحوت وهو مستحق للوم على قنوطه ومغاضبته، ثم سبح الله في بطن الحوت فاستجاب الله دعاءه، فأخرجه من بطنه ونبذه على الشاطئ عاريا سقيما، ولما أبل من مرضه دعا قومه إلى عبادة الله فآمنوا كلهم وكانوا مائة ألف أو يزيدون1.
هذه القصص جميعا رسمت أحداثها سورة "الصافات" في ومضات سريعة برزت من خلالها عاقبة المكذبين واستجابة الله لعباده المخلصين، فكان فيها إنذار للمشركين بسوء المصير ودعوة للنبي إلى الصبر الجميل. ولذلك خص إبراهيم الخليل في سلسلة هذه القصص بسياق أطول، ومراحل أكثر إسهابا وتفصيلا، حين عرضت حادثة فداء ابنه بمواقفها المؤثرة، وحوارها الأخاذ، وأسلوبها الرهيب، فقد أبرزت هذه الحادثة -بعد قصة تحطيم إبراهيم للأصنام- لما توحي به من الاستسلام لله، والاطمئنان إليه والثقة به،
1 راجع قصة يونس هذه في تفسير الطبري 23/ 63.
وهي الزاد الحقيقي لكل داعية يتحلى بالصبر الجميل، في طريق الدعوة الطويل:
ذهب إبراهيم إلى ربه، وهجر كل شيء في سبيله، وسأله أن يهبه ولدا صالحا، فبشره بغلام حليم1، وما كاد هذا الغلام يرافق أباه في درب الحياة، ويبلغ معه السعي في آفاقها، حتى تعرض لأقسى محنة فصبر واستسلم. لقد رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه، فأدرك أنها إشارة من ربه، فاستجاب راضيا مطمئنا، وأخبر ابنه برؤياه فوجده مستسلما صابر، ولكنه حين كب ابنه على جبينه استعدادا لذبحه فداه الله بكبش عظيم يذبحه، وعده وفيا بعهده، مؤديا لمهمته، وناداه:{أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
وبانتهاء سلسلة هذا القصص القرآني -ما أوجز عرضه وما أسهب به- تتجه المقاطع الأخيرة من سورة "الصافات" إلى مناقشة العرب في أسطورتهم عن الملائكة والشياطين، تأكيدا لتوحيد الله وتنزيهه عما يصفه به الجاهلون2. وفي اختتام السورة -بعد ذلك- بآيات التحميد والتسبيح تناسق تام بين البداية والنهاية: فقد أقسم الله في المطلع على أنه واحد، منزه عن كل شريك في ذاته أو ملكه، وختم السورة بالتسبيح بحمده تنزيها له أيضا عن كل شريك. وإن في هذا لبرهانا دامغا على وحدة الموضوع في السورة الواحدة مهما تطل آياتها وتتشعب فيها الجزئيات.
وأطرف ما في الحملة القرآنية على الأسطورة العربية في الملائكة والشياطين التنزل إلى خطاب العرب بمنطقهم نفسه ليعرفوا من تلقاء أنفسهم سخف ما تخيلوه وزعموه. فالنبي العربي الأمي مدعو إلى استفتاء العرب الأميين عن
1 المشهور عند الناس وأكثر المفسرين أنه إسماعيل، ولكن إمام المفسرين الطبري أورد حجج القائلين بأنه إسحاق ثم حجج القائلين بأنه إسماعيل، وانتصر للرأي الأول ورجح أن المفدي إسحاق. راجع أدلته في تفسيره 23/ 51-55.
2 وذلك في قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} الآيات
…
استئثارهم بالبنين من دون الله الذي ينسبون إليه البنات، فهل يفضل الله البنات على البنين؟ أم شهدوا مولد الملائكة فعرفوا جنسهم؟ أم افتروا على الله كذبا وهم يعلمون؟
وكيف طوعت لهم أنفسهم أن يزعموا أن بين الله وبين الجنة نسبا، مع أن الجن يعلمون أنهم -ككل خلق الله- يحضرون يوم القيامة ليحاسبوا على ما قدمت أيديهم؟ إن أباطيلهم هذه لن تخدع إلا من في قلبه مرض ومن تؤهله طبيعته الفاسدة لدخول الجحيم.
وليت أولئك المبطلين يسمعون رد الملائكة على أسطورتهم الحمقاء، فإنهم في الملأ الأعلى ما ينفكون يناجون ربهم بلسان الحال أو المقال مرددين: إنا صافون1 صفا بين يديك، نسبح بحمدك ونقدس لك، وننزهك عن الصاحبة والولد وعن كل شريك!.
وبعد هذه الحملة العنيفة الساخرة على الأسطورة الجاهلية الحمقاء، تهدد السورة مخترعي هذه الأساطير بمصيرهم المشئوم، وتعرض عليهم سنة الله في نصر جنده المخلصين، فلله العزة جميعا، وعلى رسله السلام، وله الحمد
1- من عجيب أمر القرآن أنه -في مواطن متفرقة- وصف الملائكة بمثل ما يوصف به جمع المؤنث السالم، كما رأينا في مطلع هذه السورة {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} وفي مطلع سورة "المرسلات". وعلل المفسرون أمارات التأنيث بإرادة طوائف من الملائكة تلك صفاتها، وليس تعليلهم ببعيد، فإن لمثله نظائركثيرة في العربية، ولكن يبدو لنا -والله أعلم- أن القرآن يرمي إلى سر أبعد مما ذكروا، فإنه لواثق من تهافت أسطورة العرب في تأنيث الملائكة فلا عليه بعد إن أنثها أو ذكرها من الناحية اللفظية ما دام قد حمل على جوهر الفكرة حتى أبطلها من أساسها.
ولا يمكننا الجزم بأن القرآن -حين أبطل تأنيث الملائكة- قد أثبت لها صفة الذكورة، فإن الملائكة من عالم الغيب الذي لا نعرف منه على وجه اليقين إلا ما جاء صراحة في الكتاب أو على لسان المعصوم، ولم يكلفنا الله ولا رسوله معرفة جنس الملائكة، أإناث هم أم ذكور، بل وصفهم لنا ببعض وظائفهم في طاعة الله بعلامات التأنيث تارة وأمارات التذكير تارة أخرى، ومن ذلك أن مثولهم صفا بين يدي الله عبر عنه في مطلع هذه السورة بـ {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} على جمع المؤنث السالم، وفي أواخرها بقوله على لسان الملائكة:{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} على جمع المذكر السالم. وتذكير الملائكة لفظا -بوجه عام- هو الذي يغلب في القرآن، ومنه قوله تعالى في غير هذا الموضع:{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} .
وحده لا شريك له منزها عن كل ما يصفون وما يخترعون1.
وحين ننتقل الآن إلى سورة "الكهف" لا مفر لنا من الإيجاز الشديد، والاستغناء في أكثر المواطن بالتلويح عن التصريح، لأننا نواجه سورة طويلة من عشر ومئة آية، ونلاحظ في آياتها نفسها انسيابا وطولا وإطنابا إلا في مقاطع قليلة، فضلا على ما يتلى في أوائلها وأواسطها، وأواخرها من قصص ديني يكاد يستغرق ثلثيها، وفضلا على ما يتخلل هذا القصص أو يعقبه من تعليق أو تذييل أو تفسير.
وربما بدت لنا سورة "الكهف" إحدى السور التي تفسح المجال لتفصيل الحديث عن خضوع القصة في القرآن للغرض الديني، ولكننا لن نعرض لهذا التفصيل إلا بقدر مخافة الذهاب باستطرادنا بيعدا عن غايتنا الأساسية في هذا الفصل، إذ يعنينا منه تقصي الخطوات التي مرت بها الدعوة الإسلامية في مكة ثم في المدينة، ولا ريب أن تقصي هذه الخطوات لا يسمح لنا -حتى في السور التي اخترنا تحليلها- باستطراد مفصل ولا تعقيب طويل.
تهدف سورة "الكهف" -كجميع السور المكية ولا سيما في هذه المرحلة الثالثة الأخيرة- إلى بناء العقيدة بناء سليما في إثبات الوحدانية، والفصل الواضح بين ذات الخالق وذات المخلوق، وكشف الحجب عن ظاهرة الوحي وأسرارها المعجزة العجيبة. ولا حاجة بنا إلى التصريح بمقاطع السورة وآياتها الناطقة بهذه الحقائق، فإنها تنبئ عن نفسها ولو اكتفى القارئ بإلقاء نظرة عجلى إليها. وحسبك في بدايتها أن هذا القرآن أنزل غير ذي عوج لتبشير المؤمنين الموحدين وإنذار الذين قالوا: اتخذ الله ولدا2، وفي نهايتها أن محمدا صلى الله عليه وسلم يؤمر بتوضيح الفرق الذي لا يتناهى بين آفاقه البشرية
1 بالإضافة إلى ما ذكرناه في الحواشي من التأويلات الواردة في تفسيري الطبري وابن كثير، ارجع في تفسير سورة الصافات إلى الرازي 7/ 118 والبيضاوي 2/ 167 والنسفي 4/ 13.
2 قال ابن إسحاق: الذين قالوا: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} هم مشركو العرب في قولهم: نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله. انظر تفسير ابن كثير 3/ 71.
المحدودة وأفق الوحي المبين، فما هو إلا بشر مثل سائر البشر، وإنما يمتاز عنهم بتلقيه أوامر ربه الذي يقذف في قبله نور النبوة والهداية1، وفي غضونها قول أصحاب الكهف:{رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} وقول المؤمن صاحب الجنتين البطر المغرور: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} وقول العبد الصالح لموسى: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِيرَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فتلك جميعا آيات نواطق بوحدانية الله وعلمه الشامل الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وإذا آثرنا الإلمام بهذه الحقائق الأولية ولم نفض فيها لمحنا في السورة موضوعا شديد الصلة بتلك الحقائق ينبثق عنها بأساليب طريفة جدا تكاد تصيره مستقلا فريدا: ذلك هو تصوير شئون الغيب، واقتطاعها من إطار العقيدة العام لتقابل بأسرارها العميقة كل ما ظهر أمره من قضايا الإيمان.
وفي السورة ثلاث أقاصيص تصحح عقائد المؤمنين في شئون الغيب، وتفصل لهم بين ما يرقى علمهم إليه وما لا يعرفونه إلا إذا كشف الله عن أبصارهم الغطاء: قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع العبد الصالح، وقصة ذي القرنين في رحلاته الثلاث ولا سيما "بين السدين" مع يأجوج ومأجوج.
أما أصحاب الكهف فقد اختار القرآن لعرض قصتهم ثلاث لوحات حافلة بالحركة حتى في تصوير رقادهم الطويل: فمن عجب أن ترسم ريشة القرآن الخلاقة -في اللوحة الأولى- أولئك الفتية أيقاظا وهم رقود، إذ جعلتهم طوال النوم الذي ضرب على آذانهم أكثر من ثلاثة قرون2 يتقلبون تقلب
1 وذلك في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} . وقد علق عليه الطبري فقال: "يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المشركين يا محمد: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم، لا علم لي إلا ما علمني الله، وإن الله يوحي إلي أن معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا معبود واحد لا ثاني له ولا شريك" الطبري 16/ 31.
2 قصة أصحاب الكهف عالمية، تعرفها المسيحية في أساطيرها الذهبية "Legende Doree" وقد كتب لها الانتشار حتى أطراف بلاد المغول، والرواية المسيحية لهذه القصة "التي كتبت بالسريانية في القرن الخامس الميلادي" تجعل عدد أولئك الفتية سبعة، وتجعل رقادهم في الكهف قرنين فقط، فقد بدأ رقادهم العجيب في عهد الامبراطور دقيانوس "بين عام 249 إلى 251" ثم استيقظوا في عهد ثيودوسيوس بعد ست وتسعين ومائة سنة.
انظر Massignon، Recherche sur la valeur eschatologique des Sept Dormants، dans Actes XXe congres des Orientalistes، 302.
الأيقاظ ولكنهم لا يقعدون ولا يفتحون أعينهم ولا يغادرون مكانهم فيثيرون برقادهم المتقلب ذعرا شديدا في قلوب المارين بهم المطلعين عليهم. وتزداد هذه اللوحة حياة وحركة بصورة كلبهم باسطا ذراعيه بالفناء كأنه يقوم على حراستهم، وبصورة الشمس متجافية عنهم، متباعدة عن كهفهم، كأنها لا تريد لشعاعها أن ينفذ إليهم، فهي تميل عن كهفهم يمنة إذا طلعت وتجاوزهم يسرة إذا غربت، فما أعجبها آية من آيات الله1.
واللوحة الثانية -بطبيعتها- حافلة بالحركة والحياة: فقد استيقظ الرقود، ودب فيهم النشاط من جديد، وفركوا العيون، ونظر بعضهم إلى بعض في استغراب شديد، إذا شعروا أنهم يصحون من رقدة طويلة ولكنهم لم يعرفوا كم لبثوا في كهفهم نائمين، فتساءلوا عن مدة لبثهم وتناجوا فيما بينهم، وظنوا أن نومهم -مهما يك قط طال- لم يزد على يوم أو بعض يوم، ثم ردوا الأمر إلى ربهم، فإنهم فتية مؤمنون يفوضون كل أمرهم إلى الله.
وفي اللوحة الثالثة -وهي خاطفة سريعة- يغادر أحد الفتية الكهف، ويذهب بما بقي معهم من نقودهم الفضية ليشتري لهم طعاما طيبا يسدون به إحساسهم بالجوع بعد رقادهم العجيب، فينصحونه -قبيل الخروج- بالحذر من مشركي تلك المدينة، لئلا يعرفوا مخبأهم فيقتلوهم رجما أو يردوهم عن عبادة الواحد القهار2.
ومن خاتمة هذه الأقصوصة، ثم من أسلوب التعقيب على خاتمتها، نستنتج أن أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا بعد شرك أسلافهم، وأن الله أعثرهم
1 قارن بتفسير الطبري 15/ 139.
2 قارن بتفسير ابن كثير 4/ 76-77.
على الفتية الذين فروا بدينهم منذ ثلاثة قرون فتلقوهم بالحفاوة والتكريم حين عرفوهم من زميلهم الذي جاء السوق يشتري الطعام، ثم يتوفى الله أصحاب الكهف حقا في أجلهم المحتوم، فيتنافس مواطنوهم في تكريمهم بعد موتهم وينتهون -بعد نزاع طويل- إلى بناء معبد فوق أضرحتهم، تخليدا لذكراهم المجيدة، ورقدتهم العجيبة1.
وهذه القصة القرآنية -على إيغالها في الغرابة- ليست أعجب ما في الكون من آيات وأحداث، وقد صور القرآن لوحاتها الثلاث -بكل غرائبها- ضمن هذا الإطار الذي يستصغر أحداثها كلها ما دامت يد القدرة الإلهية صالحة للتعلق بها وتدبيرها. وتأكيدا لهذه الفكرة، مهد القرآن لوقائع هذه القصة بقوله الصريح:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ 2 كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} وجواب هذا الاستفهام ينطق بأن أصحاب الكهف لم يكونوا أعجب آيات الله3: فإنهم فتية آمنوا بربهم، واعتزوا بإيمانهم، ودعوا قومهم بقوة إلى التوحيد، واستنكروا عبادتهم الآلهة من دون الله، فما ضاق الكفر بهم ذرعا هيأ الله لهم من رحمته كنفا، وآواهم إلى الكهف، وأنسأ فيه آجالهم، وأطال فيه رقادهم، وجعل في طول رقدتهم -على غير ما ألفه الناس- آية من آياته وإن لم تكن أعظم الآيات!
والقرآن حريص -من خلال هذه الأقصوصة- على تصحيح عقائد المؤمنين في شئون الغيب: فهو يومئ إلى خوض الناس فيها وتضخيمهم أحداثها جيلا فجيلا، ورجمهم بالغيب في تعيين عدد أبطالها، ويوجه المؤمنين إلى ترك المراء فيما لا يعنيهم، وينهاهم عن استفتاء أهل الكتاب وغيرهم
1 قارن بالكشاف 2/ 384.
2 اختلف أهل التأويل في المراد بالرقيم، فقال بعضهم: اسم قرية أو واد، وقال بعضهم: بل هو جيل أصحاب الكهف، وقال آخرون: إنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف، وصرح إمام المفسرين الطبري بأن الرأي الأخير هو "أولى الأقوال بالصواب" تفسير الطبري 15/ 132.
3 وذلك ما فهمه أهل التأويل. وانظر الروايات عنهم في هذا الصدد 15/ 130.
في تلك القصة1 فما لهم حاجة في معرفة زمانها ولا مكانها، ولا أسماء أشخاصها ولا أشكالهم ولا أعدادهم، ولا الطريقة التي صينوا بها في فجوة من الكهف لم يعبث بهم عابث حتى جاء الوقت المعلوم. بل اتجه القرآن إلى عبرة هذه القصة يستخلصها للمؤمنين ويحملهم على استخلاصها بأنفسهم، فليس لهم أن يقفوا غير ما علموه في الماضي وما يمكنهم الساعة أن يعلموه. أما المستقبل فهو غيب محجب لا يقطع أحد فيه بقول ولا عمل، وإنما يحسن فيه التفكير، والتدبير {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} 2.
وأما قصة موسى مع العبد الصالح فارتباطها بشئون الغيب أوثق من ارتباط قصة الكهف بتلك الشئون: فإن مشاهدها الأربعة المعروضة في هذه السورة قد تصادم ما تعارف الناس على تسميته بمنطق الأشياء والأحداث، وقد تثير بغرائبها الاستنكار، بيد أنها تحل أبسط حل وأيسره إذا ما عرضت على الصعيد الغيبي بمفاجآته ومعجزاته.
وأول تلك المشاهد الأربعة بطله موسى كليم الله، وهو -على ما فيه من عجب- ليس شيئا ذا بال حين يقاس بالمشاهد الثلاثة الباقية التي كان بطلها عبدًا صالحا آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما.
إن موسى -في المشهد الأول- مصمم على بلوغ مجمع البحرين3.
1 قال الطبري في تأويل الآية: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} : "يقول عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تمار يا محمد، يقول: لا تجادل أهل الكتاب فيهم، يعني في عدة أهل الكهف، وحذفت العدة اكتفاء بذكرهم فيها لمعرفة، السامعين بالمراد" الطبري 15/ 150.
2 قارن بتفسير ابن كثير 3/ 79.
3 سكت القرآن عن تعيين المنطقة الواقعة عند مجمع البحرين، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك، إلا أننا نستنتج -في ضوء معلوماتنا التاريخية- أن المراد بمجمع البحرين التقاء خليجي العقبة والسويس بالبحر الأحمر، ولا داعي للرجوع إلى التفاسير في مثل هذه الشئون، فأكثر الآراء فيها هنا رجم بالغيب، ولا نستثني من ذلك تفسير الطبري نفسه. وانظر على سبيل المثال الطبري 15/ 176.
ولو مضى حقبا حتى يصل إليه، ويريد الله له أن يلتقي بالعبد الصالح فينسيه حوتا كان قد أعده للأكل فتاه، ولعله شواه، لكن هذا الحوت المشوي دبت فيه الحياة مرة أخرى فسرب في البحر واتخذ سبيله فيه. وعجب فتى موسى للمفاجأة الغريبة. أما موسى فلم يعجب بل أدرك أن المكان الذي نسيا فيه حوتهما هو الموعد المحدد للقاء العبد الصالح، فعادا إلى آثارهما فوجدا الرجل الذي كان يبحثان عنه1.
وفي المشهد الثاني يختفي فتى موسى، وينفرد نبي الله موسى بحوار مع العبد الصالح ذي العلم اللدني، ويلتمس النبي الكريم من الولي الصفي أن يصاحبه في رحلته ويتعلم من لدنه شيئا من حقائق الغيب التي كشف الله له حجابها فيشترط العبد الصالح على نبي الله موسى الصبر والطاعة من غير تردد ولا استفسار ولا استنكار، ويركبان سفينة، فإذا العبد الصالح يخرقها بمن فيها حين أمست في ثبج البحر، فغلبت موسى طبيعته وأنكر على رجل العجائب فعلته، وعجب له كيف يغرق السفينة فيعرض ركابها للهلاك، ويشتد الحوار بين الرجلين ويعاهد موسى ذلك العبد الصالح على أن يجنبه الإرهاق بكثرة المراجعة والتساؤل.
وفي المشهد الثالث يلتقي الرجلان في طريقهما بغلام، فيقتله العبد الصالح، فيثور موسى في وجهه، ويعترض على قتله النفس الزكية الطاهرة قتلا عمدا، ويذكره رجل العجائب بعهده، فيعتذر موسى كرة أخرى وينوي ألا يسأل العبد الصالح شيئا.
وفي المشهد الرابع يدخلان مدينة بخيلة لا تؤوي ضيفا ولا تطعم جائعا، فيجدان فيها جدارًا يوشك أن ينقض، فيقيمه الرجل الغريب دون مقابل مع أنهما كانا جائعين يستطعمان، فما لرجل الأسرار لا يطلب أجرا يأكلان به من أهل القرية البخلاؤ2؟
1 قارن بالكشاف 2/ 396.
2 قال ابن كثير في تفسيره 3/ 98 تأويلا لقوله تعالى على لسان موسى {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} : أي لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا.
وبتدخل موسى مرة ثالثة في المراجعة والاستفسار أضاع آخر فرصة له في مصاحبة الرجل، وأنشأ يستمع في عجب شديد لتأويل العبد الصالح لمواقفه الغامضة بكل مفاجآتها وأسرارها.
أما خرقه للسفينة فكان سببا لسلامتها وصيانتها لمساكين يعملون في البحر، إذ كان ملكهم في تلك الفترة ظالما يغتصب السفن الصالحة، فنجت هذه بعيبها من الاغتصاب.
وأما قتله للغلام -مع أنه يقترف ما يوجب قتله شرعا- فكان رحمة بأبويه المؤمنين، إذ أعلم الله العبد الصالح أن هذا الغلام لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، فقد طبع كافرًا1، ولولا إطلاع الله عبده الصالح على حقيقة هذا الأمر الغيبي المحجب لما كان له ولا لسواه قتل نفس زكية بغير حق.
وأما إقامته الجدار بلا مقابل فلم تكن خدمة لأهل القرية البخلاء، وإنما كانت فرصة لصيانة كنز تحت الجدار ليتيمين صغيرين خبأ لهما أبوهما ذاك الكنز ليستخرجاه من تحت الجدار متى بلغا أشدهما، فلما رآه البعد الصالح ينقض أقامه بإذن الله لئلا ينكشف أمره لأهل المدينة فينتزعوا ملكيته من أيدي الصغيرين اليتيمين.
وبهذا التأويل لم يزعم العبد الصالح لنفسه علم الغيب، بل إلى الله حكمة ما صنع، واعترف بعجزه المطلق عن فعل أمر لم يأذن به الله، وكان رمزا للعلم الغيبي اللدني الذي يتمثل -بإرادة الله- في شخص رجل من الناس، ليس بالنبي المعروف ولا الرسول المشهور، فقد سكت حتى عن اسمه القرآن! 2.
1 انظر أحكام أهل الذمة "لابن القيم" بتحقيقنا 531، وقارن أيضا بشفاء العليل له أيضا 284.
2 ولكن المفسرين لم يسكتوا عن اسمه، فقد سموه "الخضر" وبنوا هذه التسمية على روايات تناقلها الناس جيلا فجيلا بعد أن ضخموا أحداثها. وللمستشرق فنسنك بحث طريف حول تضخيم قصة الخضر عند العامة
Wensinck، Encycl. de l'Islam، II، 912.
ولعل القصة الثالثة عن ذي القرنين تبدو -في الظاهر- أضعف صلة بشئون الغيب من قصتي أصحاب الكهف والعبد الصالح. فإنها لا تعدو أن تكون وصفا لرحلات ثلاث إلى الشرق والغرب والوسط قام بها رجل يسمى ذا القرنين. لكن الجو الغامض الذي أحيط بهذه الرحلات، وتراءى غموضه كالمقصود في القرآن، يلوح بالمعاني الغيبية من وراء ستار: فقد بلغ ذو القرنين هذا مغرب الشمس في رحلته الأولى، ومشرقها في رحلته الثانية، والمنطقة المتوسطة "بين السدين" في رحلته الثالثة.
وفي رحلته الغربية وجد الشمس تغرب في عين {حَمِئَةٍ} كثيرة الطين اللزج1، في موضع تكثر فيه المياه والأعشاب، وقد سكت القرآن عن تحديد تلك العين "الحمئة"، فألقانا الغموض المقصود في تجهيل شديد ربما كان يفوق سرية الأمور المسماة "بالغيبة".
وفي رحلته الشرقية وجد الشمس تطلع على قوم لا ستر لهم دونها، فربما أفاد هذا أن القوم كانوا عراة، وربما أشار إلى أن أرضهم مكشوفة تطلع الشمس عليهم فيها بلا ساتر، وليس في النص ما يقطع بأسماء القوم ولا باسم الأرض التي كانوا فيها ينزلون.
أما رحلته المتوسطة بين {السَّدَّيْنِ} فكل ما فيها يدعو إلى الرهبة الشديدة التي يفوق الشعور بها أحيانا شعور التهيب لدى مواجهة الغيب وأسراره: فالقرآن هنا يذكر موضعا بعينه يسميه {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} مثلما يذكر قوما بأعيانهم يسميهم {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} ويصفهم بالإفساد في الأرض2. وما نظن هذه
1 هذا التفسير إنما يصح على قراءة {حَمِئَةٍ} بالهمز، ولكن بعض قراء الأمصار قرءوا "حَامِيَة" بالياء أي: حارة، وأشار إمام المفسرين الطبري إلى صحة القراءتين، وعلل ذلك بقوله:"جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ في "عين حامية" ووصفها بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة، ويكون القارئ في {عَيْنٍ حَمِئَةٍ} ووصفها بصفتها التي هي بها، وهي أنها ذات حمأة وطين". ثم يستعرض الطبري الأخبار الواردة بكلتا القراءتين. تفسير الطبري 16/ 10.
2 ولذلك لا نرى حاجة للرجوع إلى كتب التفسير لتعيين المراد بهذه الألفاظ.
الألوان من الغموض إلا مقصودة في هذا السياق، فإن حديث القرآن عن ذي القرنين لا يشبه -ولا ينبغي أن يشبه- حديث كتاب في السيرة عن الفتوحات التي أتمها فاتح عظيم، وإنما يرسم القرآن -في غضون هذه الرحلات الثلاث- ملامح إنسان شديد الصلة بالله، لم يكن سلطانه بقوته الشخصية بل مكن الله له في الأرض، وآتاه من كل شيء سببا، وهتف به أو ألهمه أو أوحى إله -كما يريد- في الملمات ليوجهه أفضل الوجهات، حتى قال له عند العين الحمئة:{يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} .
وتبدو صلته بالله شديدة وثقى في قوله للقوم -عند بناء السد: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي} ثم قوله عند انتهائه من هذا البناء: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} 1.
وهكذا اختيرت تلك القصص الثلاث في سورة "الكهف" لمعالجة شئون الغيب، وردها جميعا إلى الذي يحفها بالأسرار، ولا يميط عنها اللثام إلا بمقدار، ولا يأذن لأحد برؤيتها إلا من وراء ستار.
وإذا صححنا الرواية التي تزعم أن أهل مكة بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة لالتماس أسئلة منهم تحرج محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأن أولئك الأحبار أغروا رسولي قريش بسؤال النبي الكريم "عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان لهم من حديث عجيب، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه"2، تجلى لنا في هذه السورة عمق الدرس القرآني الذي اتجه إلى المؤمنين ينهاهم عن الرجم بالغيب، ويحذرهم من
1 ومع ذلك خلط بعض جهلة المفسرين بين ذي القرنين المتدين المؤمن هذا والإسكندر المقدوني الوثني المشهور، وكان في خلطهم مادة للتعليق في أبحاث بعض المستشرقين. وانظر على سبيل المثال.
Decourdemanche "j. A." La legende d'Alexander chez les Musulmans، dans la Revue de l'Histoire des Religious، VI 1992، 98.
2 وقارن بتفسير ابن كثير 3/ 71.
الجدل العقيم، ويصل قلوبهم بربهم علام الغيوب: فالموضوع الذي هدفت إليه السورة هو -بالمقام الأول- بناء العقيدة بناء سليما في ذات الله، وفي شئون الغيب الموكولة إلى علم الله.
وفي السورة بعد ذلك ومضات سريعة تخللت بعض مقاطعها مصغرة للقيم المادية1، معرضة بفناء الدنيا وسرعة زوالها2، داعية إلى صبر الأنفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، مؤكدة أن الاعتزاز الحقيقي إنما يكون بالإيمان والتقوى3، وأن الكافرين بلقاء ربهم هم الأخسرون أعمالا4. ولا ريب أن تخلل السورة بهذه الومضات السريعة يتناسق مع محورها الأساسي الذي رأيناه يدور حول بناء العقيدة، فلا بد في هذا البناء من تصحيح النظر إلى قيم الأشياء ومقاييس الحياة.
ومع سورة "إبراهيم" ننتهي إلى الحلقة الأخيرة المختارة من سور المرحلة المكية الختامية، فيخيل إلينا أننا نواجه فيها تكرارا لحقائق شديدة الشبه بما عرفناه في تحليل السور المكية الماضية، ولا سيما في أواخر المرحلة الثانية، وأن عيوننا تقع فيها أيضا على مشاهد مكررة وكأنها ظلال المشاهد السابقات:
1 وقد صورت هذا أبلغ التصوير آيات الرجلين والجنتين، فقد قال الفقير المؤمن لصاحب الجنتين المغرور {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} . وانتهى الأمر بالجنة المثمرة المحفوفة بالنخل والزرع أن تهشمت وخوت على عروشها. انظر الكشاف 2/ 389.
2 كما في المثل المضروب للحياة الدنيا في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} الآيات وراجع تفسيرها في الكشاف 2/ 392.
3 وأوضح مثال لذلك في السورة قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآية، ففي هذا الخطاب الرباني أمر بمجالسة أهل الذكر وتعليمهم الخير، لأن دعوة الحق إنما تقوم على أمثالهم، "سواء أكانوا فقراء أم أغنياء وأقوياء أم ضعفاء" قارن بتفسير ابن كثير 3/ 80.
4 في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الآيات، يقول الطبري 16/ 28:"عني بقوله هذا كل عامل عمل يحسبه فيه مصيبا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر".
فإن أبرز الحقائق التي تعالجها سورة "إبراهيم" وحدة الدعوة التي نادى بها رسل الله، وتنزيه الله عن كل شريك، وتذكير المشركين بالبعث والحساب، وعرض آلاء الرحمن التي يكفر بها الإنسان، وإن أبرز المشاهد التي رسمتها سورة "إبراهيم" مواقف المكذبين المعاندين للأنبياء، وصور المجرمين في جهنم والمتقين في الجنات، وسياط التبكيت والتأنيب تصب على الإنسان الظلوم الكفار الذي يتعامى عن صفحات الكون الجميلة وهي معروضة على الأنظار1.
وإنها لنظرة عجلى لا يكتفي بمثلها إلا الذي يقرأ القرآن غافلا عن الأضواء الخاصة التي تتوهج في كل سورة، وعن الإيحاءات الخاصة التي يبثها في القلوب كل مقطع قرآني جديد.
ولعل أهم ما امتازت به هذه السورة أن مظللة في جميع مقاطعها بشخصية النبي الصفي الذي سميت باسمه: شيخ الأنبياء إبراهيم. فمن خلال دعوته المباركة برزت وحدة الرسالة في جميع الأجيال، وفي ظلال إيمانه الراسخ نبتت فكرة التوحيد، وفي إطار من قلبه المنيب رسمت لوحات الكون الجميل، ثم صورت مواقف الشكر والجحود.
وينبغي ألا يفوتنا أن إبراهيم إنما ذكر في وسط السورة أثناء الحديث عن نعم الله التي لا تحصى، وأن صورته فيها جسمت "نموذج" الصبار الشكور، الذي لا ينفك يبتهل إلى الله ويسبح بحمده بكرة وعشيا، ولكن هذه الصورة طبعت السياق كله طبعة واحدة وتركت في كل مقطع منه ظلا من إبراهيم الخليل.
ولقد جاء في مطلع السورة ذكر موسى، ثم تلاه ذكر قوم نوح وعاد وثمود، إلا أن هذه الأسماء الضخمة -رغم تمهل السياق في عرض طائفة من الأحداث المرتبطة بها- لم يكن لها في محور السورة توجيه: فما تحدثت
1 انظر المسائل الكبرى في هذه السورة في تفسير الرازي 5/ 213.
الآيات عن موسى، وإخراجه قومه من الظلمات إلى النور، وتذكيره إياهم بنجاتهم من آل فرعون1، إلا ليكون رمزا لوحدة الرسل التي نادى بها إبراهيم، لذلك لم يلبث السياق أن انتقل إلى حقيقة الرسالة وحقيقة دعوتها إلى الاعتقاد بالله الواحد، على لسان نوح وعاد وثمود: ففي أزمنة مختلفة ومواضع متعددة جاء أولئك الرسل جميعا بأصول متماثلة بينة لا تخفى حقائقها على أولي القلوب والأبصار. وكل رسول من أولئك المصطفين الأخيار كان يثير انتباه قومه إلى شكهم المريب كلما تعاموا عن آيات الله في السموات والأرض، وكل رسول منهم كان يقرر بشريته ولا ينكرها قائلا لقومه المكابرين:{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 2، وما كان فيهم إلا مواجه للطغيان، صبور على الاضطهاد، متوكل على الله، كأن كلا منهم صورة مكررة من أبيه إبراهيم: به يقتدي، وعلى آثاره يسير، وهكذا برزت وحدة الرسالة ونبتت فكرة التوحيد في ظلال من إيمان إبراهيم.
ثم تقلب في السورة صفحات مضيئة من كتاب الكون الكبير: في الماء المنهمر من السماء، والثمر النابت من الأرض، والشمس بضيائها الوهاج، والقمر بنوره الفضي، وفي كل صفحة من تلك الصفحات نرى أبا الأنبياء إبراهيم قارئا يتدبر، خاشعا يتبتل، كأن دعاءه الضارع يتكرر كلما لهج لسان بحمد الله! وهكذا رسمت لوحات الكون الجميل في إطار من قلبه المنيب.
ويريد الله في هذه السورة أن يمد ظلال "خليله" على هذه اللوحات مدا،
1 وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} الآيات، وانظر في الطبري المراد بقوله:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} 13/ 122.
2 قارن بقول الزمخشري في تأويل الآية: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون: أنهم مثلهم في البشرية وحدها. فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعا منهم، واقتصروا على قولهم:{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالنبوة لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم" الكشاف 2/ 296.
فيصور دعاءه الخاشع صاعدا إليه ذاهبا في السماء، حين يسأله للبلد الحرام الأمن والسلام، ويرجوه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ويطمع في رضاه عن كل من تبع سبيله، ولا يستعجل لمن حاد عن الصراط عذاب الخزي والهوان، ويحمد الله على أن وهبه على الكبر إسماعيل وإسحاق، ويختم بابتهال ضارع أن يغفر الله له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب1.
وينعكس، في مقابل هذه الصورة، "نموذج" آخر يجسد الإنسان الكافر الكنود الذي يتلو كتاب الكون بلسان جاحد، وينظر إلى آفاقه الجميلة ببصر حسير، فلا يبالي بشيء مما سخره الله له في السماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والنجم والشجر، واليل والنهار. وعلى أمثاله يلقي القرآن سياط التقريع والتأنيب تهز القلب وتلذع الوجدان وهو يقول:{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} 2.
وإبراهيم، الذي عرضت من خلال شخصيته النبوية الكبرى تلك العقائد والتعاليم لم يك مجهولا في مكة: فجميع المكيين يعظمون إبراهيم، ولم يك مجهولا في المدينة فجميع يهود يثرب كانوا يقدسون الخليل، ولم تكن أخباره خافية على النصارى حيثما وجدوا فإن له في قلوبهم مكانة يغبطه عليها سائر النبيين: فإلقاء الأضواء على عقيدة التوحيد وعلى دعوة الرسل في إطار من شخص إبراهيم قد لون هذه السورة لونا يجمع على استحسانه أهل مكة وأهل التوحيد، وفتح باب الإيمان على مصراعيه أمام الحنفاء للدخول في دين الله أفواجا، وجاء في أواخر الوحي المكي إرهاصًا لأوائل السورة المدنية التي دأبت على تعظيم إبراهيم، وعلى تألف قلوب اليهود بمثل هذا التعظيم، وفي هذه الأضواء الخاصة برزت سورة "إبراهيم" بنمط فريد، في عرض فكرة التوحيد3.
1 قارن بتفسير ابن كثير 2/ 540.
2 قارن بالكشاف 2/ 303.
3 أضف أيضا إلى ما أحلنا عليه من كتب التفسير -لتأويل سورة إبراهيم- تفسير البيضاوي 485 والنسفي 2/ 195.
وعقب تحليلنا لهذه السورة -بعد سورتي الصافات والكهف- أشرفنا على نهاية الوحي في مكة، وبتنا نستشعر جوا جديد يكاد يجعل المرحلة المكية الثالثة مرحلة انتقالية تتوسط بسورها الطوال وحي مكة الذي تم نزوله ووحي المدينة الذي سيتعاقب على ما يجد من الوقائع بعد الهجرة، وربا فسرنا -في ضوء هذه المرحلة الانتقالية- كثرة الآيات والمقاطع التي التبست على المفسرين فظنوها مدنية واستثنوها من بعض السور المكية غافلين عن العامل الزمني الذي نعتقد نحن أنه فرض تلك المقاطع ذات الطابع المدني على سور طابعها مكي -مع أن السور برمتها مكية خالصة- وفقا لتمهيده الطريق بين مراحل الوحي المدني المقبل سريعا من وراء حجاب الغيب.
ولقد امتازت سور المرحلة المكية الختامية بطولها وطول آياتها، وافتتاح طائفة منها ببعض الحروف المقطعة، وتوجيه الخطاب فيها إلى الناس جميعا لا إلى أهل مكة وحدهم، والتذكير بطاعة الله ورسوله تمهيدا لما سيفصل في المدينة من الفرائض والواجبات، والدعوة إلى الإحسان والعمل الصالح للفوز بالجنة والنجاة من النار، وتوضيح شئون الغيب المتعلقة بذات الله وصفاته، أو بالملائكة والجن، أو بالأنبياء والأولياء، أو بالمعجزات والكرامات، ورد الهداية والضلال إلى الله إلى جانب ما يتصرف به الإنسان في حدود حريته واختياره، وعرض قصص النبيين ولا سيما أئمتهم المعظمين كإبراهيم، وتصوير عقيدة التوحيد بأسلوب جديد.
ولا ريب أننا أسهبنا الحديث عن السور المكية بمراحلها الثلاث، وكان مقصدنا من ذاك الإسهاب واضحا: هو تقصي أطوار التنزيل لتعيين السابق منها والمسبوق، وإبراز الملامح الصريحة التي تعيننا على ترجيح الإطار الزمني المتنزلة فيه طائفة من السور والآيات. وقد أشرنا آنفا إلى صعوبة الجزم في تصوير المراحل المكية، ولا سيما في بدء الوحي، وإلى سهولته في تعيين المراحل المدنية حتى آخر ما نزل من الوحي، وعللنا ذلك بانتشار الإسلام
وتيسر أدوات النسخ والكتابة والنقل في المدينة.
وإذا أغفلنا النزر القليل الذي اختلفت في مدنيته، أو تعددت الروايات في سبقه وتأخره، وسعنا أن نتفق مع المحققين من المفسرين على أن المرحلة المدنية الأولى افتتحت بالبقرة، ثم تلتها الآنفال، ثم آل عمران، فالأحزاب، فالممتحنة، فالنساء، فالحديد، وأن المرحلة المدنية المتوسطة بدأت بسورة محمد، ثم تلتها الطلاق، فالحشر، فالنور، فالمنافقون، فالمجادلة، فالحجرات، وأن المرحلة الثالثة والنهائية في المدينة استهلت بالتحريم، ثم تلتها الجمعة، فالمائدة، فالتوبة، فالنصر.
ولعل القارئ يتوقع -رغم طول هذا الفصل بين يديه -أن نختار الآن أيضا من كل زمرة من هذه الزمر المدنية الثلاث سورة واحدة نحللها على نحو ما صنعنا في المراحل المكيات الثلاث، فنستغني بسورة "البقرة" عن الزمرة المدنية الأولى، وبـ"النور" عن الثانية، وبـ"المائدة" عن الثالثة الختامية.
ولكننا نؤكد لكل من قرأ هذا الفصل بعناية -وما نظننا بحاجة إلى التأكيد- أننا حتى لو اكتفينا بعرض الخطوط التشريعية الكبرى في هاتيك السور "النموذجية" الثلاث، لطال بنا الحديث، وغلبت على أسلوبنا عبارات الأصوليين والفقهاء، وخرجنا بكتابنا عن الغاية الأدبية التي من أجلها ألفناه: فإن الحقائق الشرعية في العبادات والمعاملات، والحلال والحرام، والأحوال الشخصية والقوانين الدولية، وشئون السياسة والاقتصاد، وأحوال السلم والحرب، ووقائع المعارك والغزوات، تتردد في جل هذه السور المدنية بنسب متفاوتة، وأشكال متغايرة تتجدد باستمرار، بل بأشكال تبدو جدتها أحيانا ناسخة لما قبلها، أو مبدلة لحكمه1، أو مفصلة على الأقل لشيء من إجماله، ومقيدة لبعض إطلاقه، ومخصصة لبعض عمومه. لذلك رأينا أن
1 وهذا ما يلجئنا إلى عقد فصل مستقل لما نسميه علم الناسخ والمنسوخ، ومن خلاله يمكن فهم هذه الأشكال المتجددة باستمرار في أحكام بعض المقاطع القرآنية.
الإشارة إلى هذه القضايا المتشابكة في التنزيل المدني تغني عن تفصيل الجزئيات ولو كانت هذه الجزئيات لا تعدو الخطوط العريضة الكبرى.
وبحسبنا -إن غضضنا النظر عن تعاقب المراحل المدنية ابتداء ووسطا وختاما- أن نومئ فقط إلى رءوس المسائل التي وردت في سورة واحدة من المرحلة المدنية الأولى هي سورة الأنفال، أو سورة بدر الكبرى كما كان يسميها عبد الله بن عباس1.
افتتحت هذه السورة بالحديث عن الآنفال، فالمعركة قد انتهت، والنصر قد تحقق، وبدأ المسلمون يختلفون في الغنائم والأسلاب، ثم رسمت صورة فريق من المؤمنين أقبلوا على المعركة كارهين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، ثم صورت استغاثة المؤمنين بربهم، ومده لهم بالملائكة والنعاس والماء يذهب عنهم رجس الشيطان، ثم أمست عبارتها صاخبة بما توالى فيها من الأوامر والأحكام العسكرية المتعلقة بالفرار يوم الزحف، ويمتن الله -بعد ذلك- على المؤمنين بالنصر، فما قتلوا عدوهم ولكن الله قتلهم، وما النصر إلا من عند الله، وتتعاقب التعاليم الدينية والأخلاقية للمؤمنين بعد المعركة، فليطيعوا الله والرسول، وليحذروا الفتن العامة التي يختلط فيها الفاسد بالصالح، وليحذورا خيانة الله وخيانة أماناتهم وهم يعلمون.
وتستعرض السورة -في غضون هذه التعاليم- صورا من مكر الكافرين وعنادهم، وتقرر مبادئ عامة في اضمحلال القوى الكافرة واستحالة أموالها حسرات عليها. ثم تنذر الكافرين بقتالهم لحماية العقيدة ونشر دين الله، وتتحدث عن الغنائم وطرقة توزيعها ومصارفها، وتصور جانبا من معركة بدر وتفصل وقائعها حين كان المؤمنون بالعدوة الدنيا والمشركون بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم، وترتد إلى المؤمنين، كرة أخرى تحذرهم من الاغترار بالنصر، ومن السير للقتال بطرا ورياء، وتعرض عليهم صورة الكافرين على
1 قارن بتفسير الرازي 4/ 436.
فراش الموت، ثم تدعو إلى إعداد القوة لحماية السلم، وترغب صراحة في الجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء، ولكنها تظل تحرض المؤمنين على القتال، وتثير فيهم القوة المعنوية، وتجعل أحدهم في حال الضعف كفوءا لاثنين من المشركين وفي حال القوة كفؤا لعشرة من الرجال، وتعود إلى بدر فتعتب على النبي وصحبه لأخذهم الفداء من الأسرى وإيثارهم عرض الدنيا على الآخرة، وتقرر في الختام أنواع الولاية الأربعة وترتب على هذه التصنيفات بعض الحقوق والواجبات1. وتظل الأدة المفضلة لعرض هذه التشريعات هي التصوير، فما ألقيت تفصيلاتها جافة كما تلقى أحكام القانون.
وهكذا كان تنوع الموضوعات هو الباعث الأهم على تنوع الأسلوب القرآني، فما هما بالأسلوبين المتعارضين اللذين لا تربط بينهما صلة، وإنما هو أسلوب واحد يشتد أو يلين، ويفصل أو يجمل تبعا لحال المخاطبين. وهذا سر من أسرار الإعجاز التي يمتاز بها القرآن الكريم.
راجع في تفسير هذه السورة الطبري 9/ 114 والنسفي 2/ 71 والبيضاوي 357.