الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصحاب الرأي .. ثم ذكر الرواية الأخرى في المذهب، وقال: ولنا: "قول من سميَّنا من الصحابة، ولم نعرف لهم مخالفًا، فكان إجماعًا (1).
وأما إيجاب الهدي عليه، وإلزامه الحج من قابل: فمحل خلاف بين أهل العلم على قولين؛ الجمهور على أن الهدي يلزم من فاته الحج، خلافًا للحنفية، وإحدى الروايتين عن أحمد؛ والجمهور كذلك على أنه يلزمه الحج من قابل سواء كان الفائت واجبًا أو تطوعًا، خلافًا لإحدى الروايتين عن مالك وأحمد (2).
المسألة الثالثة: ابتداء وقت الدفع من مزدلفة لمن وجب عليه المبيت بها:
المبيت بمزدلفة لمن وافاها قبل طلوع الفجر واجب من واجبات الحج، من تركه فعليه دم، في قول أكثر أهل العلم (3).
(1) المغني (5/ 424 - 425).
(2)
ولهم في ذلك استدلالات لا تخلو من ضعف ومقال، والتفصيل في ذلك يطيل البحث ويخرجه عن مقصوده.
انظر: بدائع الصنائع (2/ 220) المسالك في المناسك (2/ 933) وما بعدها القوانين الفقهية (95) بداية المجتهد (2/ 271) التاج والإكليل (3/ 200) البيان (4/ 380 وما بعدها) المجموع (8/ 273) وما بعدها المغني (5/ 426، 427) الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 442) وما بعدها.
(3)
وهذا أوسط الأقوال في المسألة وأعدلها، خلافًا لمن قال إن المبيت بها سنة، ومن قال إنه ركن. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 415) بدائع الصنائع (2/ 156) المسالك في المناسك (1/ 528 وما بعدها) بداية المجتهد (1/ 277) مواهب الجليل (3/ 119) البيان (4/ 323) المجموع (8/ 151 - 153) المغني (5/ 284) الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 336) وما بعدها.
ولا خلاف بين أهل العلم، رحمهم الله، في أن السنة للحاج الذي وصل المزدلفة ليلة النحر أن يبيت بها حتى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر صلاه في أول وقته، ثم وقف بها، عند المشعر الحرام، أو حيث تيسر له ذلك، حتى يسفر الصبح جدًا، ثم يدفع إلى منى قبل طلوع الشمس (1).
والدليل على هذا: فعله صلى الله عليه وسلم في حجه؛ فقد روى جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم "أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره، وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا، فدفع قبل أن تطلع الشمس (2).
(1) انظر: المسالك في المناسك (1/ 548) وما بعدها بداية المجتهد (2/ 277، 278) مواهب الجليل (3/ 119) البيان (4/ 323) المجموع (8/ 151 - 153) المغني (5/ 284 - 286) شرح العمدة في الفقه (3/ 516) منسك شيخ الإسلام ابن تيمية (76، 77) الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 336) وما بعدها.
(2)
انظر: تخريجه فيما سبق من هذا البحث.
مع قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (1).
وعن عمرو بن ميمون الأودي رحمه الله قال: «شهدت عمر رضي الله عنه صلى بجمع (2) الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير (3) وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس» (4).
وعلى هذا فالسنة للحاج ألا يدفع من مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر اقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولا خلاف بين أهل العلم: في جواز تقديم الضعفة وكبار
(1) انظر: تخريجه فيما سبق من هذا البحث.
(2)
جمع: هي المزدلفة؛ ولها ثلاثة أسماء: المزدلفة والمشعر الحرام وجمع، سميت جمعًا لأن آدم عليه السلام وحواء لما أهبطا اجتمعا بها.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 286)(جمع) المسالك في المناسك (1/ 531) المغني (5/ 283) خالص الجمال (219).
(3)
ثبير: اسم جبل معروف بمكة، من أعظم جبالها، بالمزدلفة على يسار الذاهب منها إلى منى، وعلى يمين الداخل من مني إلى مكة، سمي ثبيرًا برجل من هذيل اسمه ثبير مات في ذلك الجبل فعرف الجبل به، كانت الشمس تشرق من ناحيته، فخاطبوه بهذا القول؛ كأنهم يقولون أدخل أيها الجبل في شروق الشمس؛ أي: طلوعها لنسرع إلى النحر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 202) معجم البلدان (2/ 85، 86)(ثبر) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 1/ 46) المسالك في المناسك (1/ 549، 550).
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (407) كتاب الحج، باب متى يدفع من جمع (1684).
السن والنساء، ودفعهم من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الفجر؛ قال ابن قدامة رحمه الله:"وبه قال عطاء، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، ولأن فيه رفقًا بهم، ودفعًا لمشقة الزحام عنهم، واقتداء بفعل نبيهم "(1).
واختلف أهل العلم، رحمهم الله، في جواز الدفع من مزدلفة قبل طلوع الفجر لغير الضعفة والنساء ومرافقيهم (2) على قولين:
القول الأول: يجوز للحاج مطلقًا، قويًا كان أو ضعيفًا رجلاً كان أو امرأة، الدفع من مزدلفة إلى منى بعد منتصف الليل. وإليه ذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة في قول (3).
(1) المغني (5/ 286) وانظر: أضواء البيان (5/ 274) المسالك في المناسك (1/ 542، 543) البيان (4/ 324) المجموع (8/ 156) وما بعدها، مناسك ابن جماعة (74) منسك شيخ الإسلام ابن تيمية (76).
(2)
وهذا الخلاف إنما هو على مذهب الجمهور الذين يرون أن المبيت بمزدلفة واجب؛ وهم كما سبق: المالكية والشافعية والحنابلة؛ وكذا عند من يرى أن المبيت بها ركن؛ وهو منسوب لبعض فقهاء السلف كالشعبي والنخعي والأوزاعي. وأما الحنفية وأحد القولين عند الشافعية والحنابلة، فالمبيت عندهم سنة لا واجب.
انظر: ما سبق تقريره في بداية المسألة الثالثة.
(3)
انظر: عقد الجواهر الثمينة (1/ 409) بداية المجتهد (2/ 277) البيان (4/ 324 - 326) كتاب الحج من الحاوي الكبير (2/ 688) المغني (5/ 284) الإنصاف (4/ 32) الشرح الممتع (7/ 339) وما بعدها.
والقول الثاني: لا يجوز الدفع من مزدلفة قبل طلوع الفجر، إلا لمن كان معذورًا كالضعفة وكبار السن والنساء الذين وردت الرخصة لهم بذلك. وإليه ذهب الحنفية، والحنابلة في قول، وطائفة من كبار أهل العلم المحققين؛ كابن المنذر وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الشنقيطي، والألباني وغيرهم رحمة الله على الجميع (1).
استدل أصحاب القول الأول بأدلة منها:
1 -
ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كنت فيمن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله» وفي لفظ قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثقل أو قال: في الضعفة، من جمع بليل» (2).
(1) والحنفية، رحمهم الله، يرون أن المبيت بالمزدلفة سنة، والوقوف بها واجب، والوقوف لا يكون إلا بعد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر إلى طلوع الشمس منه، فمن وقف بها قبل طلوع الفجر، أو بعد طلوع الشمس فوقوفه لا يعتد به.
انظر: أضواء البيان (5/ 274) فتح الباري (3/ 616) المبسوط (4/ 63) رد المحتار على الدر المحتار (2/ 511) المسالك في المناسك (1/ 542، 544) المغني (5/ 284) شرح العمدة في الفقه (3/ 516، 522، 523) منسك شيخ الإسلام ابن تيمية (76) مجموع الفتاوى (26/ 135) الإنصاف (4/ 32) مناسك الحج والعمرة للألباني (32) الحج أحكامه وصفه (99).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (406) كتاب الحج، باب من قدم ضعفه أهله بليل (1677، 1678) ومسلم في صحيحه (510، 511) كتاب الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن (1293).
2 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني عندها» (1).
3 -
وعنها رضي الله عنها قالت: كانت سودة (بنت زمعة) امرأة ضخمة ثبطة (2) فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل، فأذن لها، فقالت عائشة: فليتني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة، وكانت عائشة لا تفيض إلا مع الإمام (3).
قالوا: هذه الأدلة تدل على جواز انصراف الحاج ودفعه من مزدلفة قبل الفجر بعد انتصاف الليل ومضي أكثره
(1) أخرجه أبو داود في سننه (284) كتاب المناسك، باب التعجيل من جمع (1942) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 217) كتاب الحج وصححه النووي في المجموع (8/ 177) وابن كثير في إرشاد الفقيه (1/ 339) والزيلعي في نصب الراية (3/ 83) وابن قيم الجوزية في زاد المعاد (2/ 284) والشوكاني في نيل الأوطار (5/ 82) والشنقيطي في أضواء البيان (5/ 276).
(2)
ثبطة: أي ثقيلة بطيئة من التثبيط؛ وهو التعويق والشغل عن المراد. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 202)(ثبط).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (406) كتاب الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل (1680، 1681) ومسلم في صحيحه (510) كتاب الحج، باب استحباب دفع الضعفة من النساء وغيرهن، (1290).
في مزدلفة، فإذا مضى أكثر الليل أجزأه الدفع إلى منى (1).
ولكن هذا الاستدلال مردود: بأن الترخيص إنما هو في حق الضعفة ومن في حكمهم، وأما من عداهم فالأصل عدم الترخيص لهم بالدفع من مزدلفة إلا بعد طلوع الفجر؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقياسهم على الضعفة، قياس مع الفارق (2).
ولأجل هذا كانت عائشة تتمنى لو أنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة، ولو كان الدفع من مزدلفة قبل طلوع الفجر جائزًا للجميع لما كان لاستئذان سودة، ولا لتمني عائشة معنى.
واستدل أصحاب القول الثاني بأدلة منها:
1 -
أدلة القول الأول؛ حيث قالوا: هي نص في الإذن للضعفة والنساء ومن في حكمهن، والإذن يقتضي أن يكون الأصحاء والأقوياء ملزمين بالبقاء في مزدلفة إلى طلوع الفجر، وإلا لم يكن للإذن للضعفة والنساء معنى (3).
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بالمزدلفة، ولم يتعجل، ولم يدفع منها
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 415) كتاب الحج من الحاوي (2/ 690) البيان (4/ 326) الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 339).
(2)
انظر: خالص الجمان (218، 219) الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 339، 340).
(3)
انظر: أضواء البيان (5/ 274) المغني (5/ 284 - 285).
إلا بعد طلوع الشمس، وقال:«خذوا عني مناسككم» (1).
3 -
(1) انظر: تخريجه فيما سبق من هذا البحث.
وانظر في الاستدلال به: المغني (5/ 284) مناسك الحج والعمرة، ابن عثيمين (82).
(2)
يا هنتاه: أي: يا هذه، وتفتح النون وتسكن، وتضم الهاء الآخرة وتسكن، وفي التثنية: هنتان، وفي الجمع: هنوات وهنات، وفي المذكر: هن وهنان وهنون. وهي لفظة تختص بالنداء.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 241) هنا.
(3)
التغليس: ضد الإسفار، وهو ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح: أي: لقد سرنا إلى منى في ذلك الوقت.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 339)(غلس).
(4)
الظُّعُن، والظُّعْن والظعائن، والأظعان، واحدة الظعينة، وهي المرأة وأصل الظعينة: الراحلة التي يرحل ويظعن عليها: أي: يسار، وقيل للمرأة: ظعينة؛ لأنها تظعن مع الزوج حيث ظعن، أو لأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت، وقيل: الظعينة؛ المرأة في الهودج، ثم قيل للهودج بلا امرأة، وللمرأة بلا هودج: ظعينة.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 143)(ظعن).
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه (406) كتاب الحج باب من قدم ضعفة أهله بليل، فيقفون بالمزدلفة يدعون، ويقدم إذا غاب القمر، (1679) ومسلم في صحيحه (510) كتاب الحج باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى منى في أواخر الليل قبل زحمة الناس (1291).
ووجه الدلالة منه من وجهين:
أحدهما: أن غلامها أنكر عليها تبكيرها بغلس، مما يدل على أن المستقر عندهم أن المبيت بالمزدلفة إلى الفجر واجب، وأنه لا يجوز الدفع منها لمنى إلا بعد طلوع الفجر.
وثانيهما: أنها لم تنكر عليه ذلك، وإنما أخبرته أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أذن للظعن والضعفة بذلك، وهذا يدل على أن غيرهم لا يجوز له الدفع منها إلى منى إلا بعد طلوع الفجر.
والذي يظهر: والله تعالى أعلم، القول الثاني: أنه لا يجوز الدفع من مزدلفة قبل الفجر إلا للظعن والضعفة من الرجال والنساء، ومن كان مرافقًا لهم، فيدفعون من مزدلفة إلى منى آخر الليل، بعد مغيب القمر، كما فعلت أسماء رضي الله عنه.
وأما من ليس ضعيفًا، ولا تابعًا لضعيف؛ فإنه يبقى بمزدلفة حتى يصلي الفجر في أول وقتها، ثم يدفع بعده؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك لقوة أدلة هذا القول؛ وصراحتها في الدلالة على المراد، ولأن هذا القول هو الذي تجتمع به الأدلة؛ فإن