المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الخامسة: ابتداء وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر: - أحكام العبادات المترتبة على طلوع الفجر الثاني

[ناصر بن مشري الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌خطة البحث ومسائله:

- ‌منهج البحث

- ‌مصطلحات البحث ورموزه:

- ‌المطلب الأولتعريف الفجر، وبيان نوعيه، والفرق بينهما

- ‌أولا: تعريف الفجر:

- ‌ثانيًا: نوعا الفجر، وبيان الفرق بينهما:

- ‌ثالثًا: تحديد الفجر الصادق (ومقارنته بالتقاويم المتداولة):

- ‌المطلب الثانيأحكام الصلاة المترتبة على طلوع الفجر الثاني

- ‌المسألة الأولى: أول وقت صلاة الفجر:

- ‌المسألة الثانية: آخر وقت الضرورة لصلاة العشاء:

- ‌المسألة الثالثة: انتهاء وقت أداء صلاة الوتر:

- ‌المسألة الرابعة: ابتداء وقت سنة الفجر:

- ‌المسألة الخامسة: ابتداء أول أوقات النهي عن التطوع بالصلاة

- ‌المسألة السادسة: انتهاء وقت النزول الإلهي للسماء الدنيا:

- ‌المطلب الثالثأحكام الصيام المترتبة على طلوع الفجر الثاني

- ‌المسألة الأولى: أول وقت وجوب الإمساك الشرعي للصائم عن المفطرات:

- ‌المسألة الثانية: الشك في طلوع الفجر للصائم:

- ‌المسألة الثالثة: طهارة الحائض والنفساء قبل طلوع الفجر وتأخيرها الغسل إلى ما بعد طلوعه:

- ‌المسألة الرابعة: يجب على المجامع في رمضان النزع عند طلوع الفجر:

- ‌المسألة الخامسة: الصائم يصبح جنبًا، ويغتسل بعد طلوع الفجر:

- ‌المسألة السادسة: تبييت النية لصيام الفرض قبل طلوع الفجر:

- ‌المسألة السابعة: تأخير السحور للصائم إلى قبيل طلوع الفجر:

- ‌المطلب الرابعأحكام الحج المترتبة على طلوع الفجر الثاني

- ‌المسألة الأولى: ابتداء وقت الوقوف بعرفة:

- ‌المسألة الثانية: انتهاء وقت الوقوف بعرفة، وفوات الحج على من لم يكن وقف بها في وقت الوقوف الشرعي:

- ‌المسألة الثالثة: ابتداء وقت الدفع من مزدلفة لمن وجب عليه المبيت بها:

- ‌المسألة الرابعة: ابتداء وقت الوقوف بالمزدلفة لمن وجب عليه المبيت بها:

- ‌المسألة الخامسة: ابتداء وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر:

- ‌المسألة السادسة: أول وقت طواف الإفاضة:

- ‌المطلب الخامسمسائل متفرقة تترتب على طلوع الفجر الثاني

- ‌المسألة الأولى: أول وقت الغسل لصلاة الجمعة:

- ‌المسألة الثانية: أول وقت الغسل لصلاة العيدين:

- ‌المسألة الثالثة: بداية وقت وجوب إخراج زكاة الفطر:

- ‌المسألة الرابعة: بداية وقت ذبح الأضحية:

- ‌خاتمة بأهم نتائج البحث

- ‌مصادر البحث ومراجعة

- ‌ملخص البحث

الفصل: ‌المسألة الخامسة: ابتداء وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر:

واجبًا (1) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحج عرفة» (2).

فإذا طلعت الشمس يوم النحر فات وقت الوقوف بالمزدلفة بإجماع أهل العلم (3).

‌المسألة الخامسة: ابتداء وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر:

رمي جمرة العقبة يوم النحر واجب من واجبات الحج، يجبر بدم، في قول جمهور أهل العلم، وهي تحية مني؛ وهي آخر الجمرات مما يلي مني، وأولها مما يلي مكة شرفها الله تعالى (4).

ولرمي هذه الجمرة وقتان: وقت فضيلة، ووقت إجزاء (5).

فأما وقت الفضيلة: لرمي هذه الجمرة: فهو بعد طلوع

(1) انظر: عقد الجواهر الثمينة (1/ 418) الاستذكار (11/ 246، 247) البيان (4/ 325) المغني (5/ 282، 283) منسك شيخ الإسلام ابن تيمية (76، 77).

(2)

انظر: تخريجه والحكم عليه فيما سبق من هذا البحث.

(3)

انظر: الاستذكار (11/ 261).

(4)

انظر: أضواء البيان (5/ 293) مناسك ابن جماعة (77) البيان (4/ 330)(8/ 168) المغني (5/ 291) مجموع الفتاوى (26/ 135) خالص الجمان (225) مناسك الحج والعمرة لابن عثيمين (105، 107).

(5)

انظر أضواء البيان (5/ 280) عقد الجواهر الثمينة (1/ 411، 412) المغني (5/ 294).

ص: 101

الفجر بإجماع أهل العلم (1). لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رماها ضحى يوم النحر؛ قال جابر رضي الله عنه: «رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس» (2).

وأما وقت الجواز لرمي هذه الجمرة: فمحل خلاف بين أهل العلم على أربعة أقوال (3) بيانها على النحو التالي:

القول الأول: يبدأ وقت الجواز لرمي جمرة العقبة بعد طلوع الفجر الثاني يوم النحر، مطلقًا للقادر والعاجز. وإليه ذهب الحنفية، والمالكية والحنابلة في إحدى الروايتين (4).

القول الثاني: يبدأ وقت الجواز لرمي جمرة العقبة بعد منتصف ليلة النحر، مطلقًا للقادر والعاجز، وإليه ذهب الشافعية، والحنابلة في الروايات الأخرى؛ وهي الصحيح من المذهب وعليها جماهير الأصحاب (5).

(1) انظر: أضواء البيان (5/ 275، 276) المسالك في المناسك (1/ 567) الاستذكار (11/ 261) بداية المجتهد (2/ 278، 279، 280) الإجماع (22) البيان (4/ 330) المجموع (8/ 168) المغني (5/ 294) حاشية ابن قاسم على الروض المربع (4/ 154).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (513) كتاب الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي (314)(1299).

(3)

والخلاف في هذه المسألة له تعلق وثيق بالخلاف في الدفع من مزدلفة، انظر ما سبق من هذا البحث.

(4)

انظر: المبسوط (4/ 68) المسالك في المناسك (1/ 567) الاستذكار (11/ 261) مواهب الجليل (3/ 136) المغني (5/ 295) زاد المعاد (2/ 252).

(5)

انظر: البيان (4/ 331) المجموع (8/ 177) المغني (5/ 295) الفروع (6/ 54) زاد المعاد (2/ 252) الإنصاف (4/ 37) الشرح الممتع على زاد المستقنع (7/ 361).

ص: 102

القول الثالث: لا يجوز رمي جمرة العقبة مطلقًا إلا بعد طلوع الشمس. وإليه ذهب طائفة من فقهاء السلف؛ منهم: مجاهد، والثوري، والنخعي، وعزاه الترمذي لأكثر أهل العلم (1).

القول الرابع: التفريق بين الضعفة والعجزة وغيرهم؛ فيجوز الرمي بعد غياب القمر من ليلة النحر لمن له عذر أو يشق عليه مزاحمة الناس؛ كالمرضى والضعفة والعجزة، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له الرمي إلا بعد طلوع الشمس. وهو اختيار طائفة من المحققين من أهل العلم؛ منهم: ابن قيم الجوزية، والشوكاني، ومال إليه الشنقيطي (2).

استدل أصحاب القول الأول: على أن وقت الجواز لرمي جمرة العقبة يبدأ بعد طلوع الفجر الثاني يوم النحر، مطلقًا للقادر والعاجز، بأدلة؛ منها:

1 -

فعله صلى الله عليه وسلم فإنه إنما رماها ضحى يوم النحر؛ قال جابر رضي الله عنه: "رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس (3).

(1) انظر: الجامع الصحيح (3/ 240) الاستذكار (11/ 262) البيان (4/ 331) المغني (5/ 295).

(2)

انظر: أضواء البيان (5/ 280) الاستذكار (11/ 262) نيل الأوطار (5/ 79) البيان (4/ 331) المغني (5/ 295) زاد المعاد (2/ 252).

(3)

انظر تخريجه فيما سبق من هذا البحث.

ص: 103

مع قوله صلى الله عليه وسلم لأمته: «خذوا عني مناسككم» (1).

وهو صلى الله عليه وسلم قد رمى في النهار، والنهار يبدأ من طلوع الفجر الثاني.

2 -

ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه في ضعفة أهله، وقال:«لا ترموا الجمار حتى تصبحوا» (2).

فثبت الجواز بالإصباح، والصبح لا يكون إلا بعد طلوع الفجر الثاني (3). قال الإمام مالك رحمه الله:"لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لأحد أن يرمي قبل طلوع الفجر، ولا يجوز رميها قبل الفجر، فإن رماها قبل الفجر أعادها"(4).

3 -

ما روى ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر"(5).

(1) انظر: تخريجه فيما سبق من هذا البحث.

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (9/ 123)(3503) وحسنه لغيره محققه الشيخ شعيب الأرنؤوط وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/ 132) كتاب الحج، باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.

(3)

انظر: شرح معاني الآثار (2/ 217) المجموع (8/ 177).

(4)

ولعل مقصوده بذلك: من ليس له عذر، انظر: الاستذكار (11/ 261) بداية المجتهد (2/ 279).

(5)

أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 207) وفيه (قبل الفجر)، وأحمد في مسند بني هاشم (2935) وهو حديث ضعيف الإسناد ثم هو مخالف لما صح من طرق عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس. انظر: مسند الإمام أحمد وتعليق المحققين عليه (5/ 100) وسيأتي بإذن الله تخريج هذه الطريق في أدلة القول الثالث (109).

ص: 104

فهو دليل على جواز رمي جمرة العقبة بعد الفجر؛ لأن ابن عباس ليس من الضعفة الذين رخص لهم (1).

ولكنه مردود بأنه حديث ضعيف الإسناد من جهة، ومخالف لما صح عن ابن عباس، من طرق عدة أنه صلى الله عليه وسلم:«أمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس» من جهة ثانية (2).

4 -

حديث أسماء رضي الله عنها السابق: «أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة .. فارتحلوا، حتى رمت الجمرة ثم رجعت، فصلت الصبح في منزلها، فقال لها مولاها: يا هنتاه! ما أرانا إلا قد غلسنا! قالت: يا بني! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن» (3).

5 -

حديث سالم مولى ابن عمر قال: «كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام، بالمزدلفة بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن

(1) انظر: الاستذكار (11/ 263).

(2)

انظر: تعليق محققي مسند الإمام أحمد (5/ 100) وانظر ما سيأتي من هذا البحث (109) وما بعدها.

(3)

انظر: تخريجه فيما سبق من هذا البحث.

ص: 105

عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1).

فحديث أسماء وفعلها، وحديث ابن عمر وفعله بأهله: دليلان صريحان على جواز الرمي بعد طلوع الفجر، وقبل طلوع الشمس، مطلقًا للضعفة وغيرهم، لا سيما وفيهم من ليس من الضعفة والعجزة (2).

واستدل أصحاب القول الثاني: على أن وقت الجواز لرمي جمرة العقبة يبدأ بعد منتصف ليلة النحر، مطلقًا للقادر والعاجز بأدلة، منها.

1 -

ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تعني عندها» (3).

2 -

ما روته أم سلمة رضي الله عنها قالت: «قدمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة، فرميت بليل، ثم مضيت إلى مكة، فصليت بها الصبح، ثم رجعت إلى منى» (4).

(1) انظر: تخريجه فيما سبق من هذا البحث.

(2)

انظر فتح الباري (3/ 616، 617).

(3)

انظر تخريجه فيما سبق من هذا البحث (93).

(4)

أورده الإمام ابن قيم الجوزية في زاد المعاد (2/ 249، 250)، وعزاه للخلال بسنده، قال: أنبأنا علي بن حرب حدثنا هارون بن عمران عن سليمان بن أبي داود، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أخبرتني أم سلمة، فساقه، ثم ضعفه بسليمان بن داود الخوليان. قال ابن حبان:"سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق، ثقة مأمون، وقد أثنى على سليمان هذا: أبو زرعة، وأبو حاتم، وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ. وقال الحافظ ابن حجر: "أما سليمان بن داود الخولاني فلا ريب في أنه صدوق" انظر: تهذيب التهذيب (2/ 93).

وقال الشنقيطي في أضواء البيان (5/ 277، 278) ولا شك أن هذه الرواية عن أم سلمة تقوى الرواية الأولى عن عائشة .. وسليمان المذكور، وثقه، وأثنى عليه غير واحد .. وبذلك كله يعلم أن روايته لا تقل عن أن تكون عاضدًا لغيرها. اهـ.

ص: 106

فدل هذان الحديثان على جواز رمي جمرة العقبة قبل فجر يوم النحر بليل (1).

3 -

حديث أسماء السابق في الصحيحين (2)؛ ولفظه عند أبي داود؛ عن أسماء: «أنها رمت الجمرة، قال مولاها، إنا رمينا الجمرة بليل! قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3).

فهو دليل على جواز رمي جمرة العقبة بليل قبل طلوع الفجر يوم النحر (4).

(1) انظر: أضواء البيان (5/ 277، 278) الاستذكار (11/ 260، 263، 264) البيان (4/ 331) المغني (5/ 295).

(2)

انظر: تخريجه فيما سبق من هذا البحث.

(3)

سنن أبي داود (284) كتاب المناسك باب التعجيل من جمع (1943) وصحح هذه الرواية الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 546)(1943).

(4)

انظر: الاستذكار (11/ 264) فتح الباري (3/ 617) بداية المجتهد (2/ 280 المغني (5/ 295).

ص: 107

4 -

ولأن نصف الليل الأخير من ليلة النحر وقت للدفع من مزدلفة فكان وقتًا للرمي، كبعد طلوع الشمس (1).

واعترض على الاستدلال بهذه الأدلة جميعًا من وجهين:

الأول: ضعف بعضها؛ فحديث عائشة أنكره الإمام أحمد، وابن قيم الجوزية، والبيهقي وابن التركماني، وضعفه الألباني وغيره؛ للاضطراب في متنه وسنده (2).

وحديث أم سلمة الآخر ضعفه الإمام ابن قيم الجوزية (3).

ولكن هذا الاعتراض مردود: بأنهما حديثان صحيحان، وقد صححهما جمع من الأئمة، كما تقدم في تخريجهما، واحتجوا بهما.

الثاني: أن غاية ما تفيده هذه الأدلة: الإذن في رميها في ذلك الوقت للضعفة والنساء ومن رخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من عداهم من الأصحاء القادرين فلا (4).

(1) انظر: البيان (4/ 331) المغني (5/ 295).

(2)

انظر: سنن البيهقي ومعها الجوهر النقي (5/ 132، 133) زاد المعاد (2/ 249) إرواء الغليل (4/ 278، 279)(1077) ضعيف سنن أبي داود (152)(1942)

والعجيب أن ابن القيم رحمه الله صححه في زاد المعاد بعد ذلك (2/ 284)

فلعله وهم أو تغير اجتهاده وثبتت لديه صحته.

(3)

انظر: زاد المعاد (2/ 250).

(4)

انظر: شرح السنة (4/ 104) نيل الأوطار (5/ 79، 82).

ص: 108

ولا يلزم، من كون نصف الليل وقتًا للدفع من مزدلفة أن يكون وقتًا للرمي، حتى للضعفة ونحوهم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ابن عباس في ضعفة أهله من جمع بليل، و:"أمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس"(1).

واستدل أصحاب القول الثالث؛ على أنه لا يجوز رمي جمرة العقبة مطلقًا إلا بعد طلوع الشمس، بأدلة؛ منها:

1 -

فعله صلى الله عليه وسلم فإنه إنما رمي جمرة العقبة ضحى يوم النحر (2) وقال صلى الله عليه وسلم لأمته «خذوا عني مناسككم» (3).

2 -

ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» .

وفي رواية قال: فجعل يلطخ أفخاذنا، ويقول:«أُبَيْنِيَّ (4) لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» زاد سفيان: "قال ابن عباس: ما إخال أحدًا يعقل يرمي حتى تطلع الشمس، قال أبو داود: اللطخ: الضرب اللين (5).

(1) سيأتي تخريجه.

(2)

انظر: تخريجه فيما سبق من هذا البحث.

(3)

انظر تخريجه فيما سبق من هذا البحث.

(4)

أُبَيْنِيَّ: اسم مفرد يدل على الجمع، وهو تصغير أبني، كأعمى وأعيمى وقيل: هو تصغير بني، جمع ابن مضافاً إلى النفس.

وقيل: هو تصغير بني؛ جمع ابن مضافًا إلى النفس

انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 21)(أبَنَ).

(5)

أخرجه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 240) كتاب الحج باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل (893) وأبو داود في السنن (284) كتاب المناسك باب التعجيل من جمع (1940) وابن ماجة في السنن (438) كتاب المناسك، باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار (3025) وأحمد في مسند بني هاشم، (2082) وصححه محققو مسند الإمام أحمد (3/ 504) وصححه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 240) والنووي في المجموع (8/ 177) وابن حجر في فتح الباري (3/ 617) وابن قيم الجوزية في زاد المعاد (2/ 251) والشوكاني في نيل الأوطار (5/ 81، 82) والشنقيطي في أضواء البيان (5/ 278) والألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 545، 546)(1940، 1941) ، وأصله في الصحيحين من غير النهي عن الرمي حتى تطلع الشمس انظر (92) من هذا البحث.

ص: 109

فهذان الحديثان: نصان صريحان في أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الشمس لفعله صلى الله عليه وسلم، ولنهيه عن رميها قبل طلوع الشمس، حتى لمن جاز لهم الدفع من المزدلفة قبل طلوع الفجر (1).

قال الإمام الترمذي رحمه الله: "حديث ابن عباس: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم لم يروا بأسًا أن يتقدم الضعفة من المزدلفة بليل، يصيرون إلى منى، وقال أكثر أهل العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:«أنهم لا يرمون حتى تطلع الشمس» (2).

(1) انظر: أضواء البيان (5/ 278)، الاستذكار (11/ 262)، المغني (5/ 294).

(2)

الجامع الصحيح (3/ 240).

ص: 110

وأجيب عن هذه الأدلة من وجهين:

الأول: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا عارض قوله، كان محمولاً على الاستحباب، وكان قوله مقدمًا على فعله؛ لاحتمال أن يكون الفعل خاصًا به، أو من باب الأفضلية (1).

الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس محمول على الاستحباب، وحديث عائشة في قصة أم سلمة محمول على الجواز؛ جمعًا بين الأدلة (2).

واستدل أصحاب القول الرابع؛ على التفريق بين الضعفة والعجزة وغيرهم بأدلة منها:

أ- استدلوا على جواز رمي جمرة العقبة مع الفجر للضعفة والنساء والعجزة ومن معهم؛ بإذنه صلى الله عليه وسلم لهم في رمي الجمرة بغلس، آخر ليلة النحر؛ كما هو ثابت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها:

1 -

حديث عائشة رضي الله عنهما: «في إذنه لأم سلمة أن تدفع إلى منى ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت» (3).

2 -

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع

(1) انظر: كتاب الحج من الحاوي الكبير (2/ 722) المجموع (8/ 177).

(2)

انظر: أضواء البيان (5/ 280) البيان (4/ 330) المغني (5/ 295).

(3)

انظر: تخريجه وكلام أهل العلم عليه فيما سبق.

ص: 111

أهله إلى منى يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر» (1).

3 -

حديث سالم مولى ابن عمر قال: «كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله، فيقفون عند المشعر الحرام؛ بالمزدلفة بليل

فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

4 -

حديث أسماء رضي الله عنها: أنها رمت الجمرة قال مولاها: إنا رمينا الجمرة بليل! قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).

فهذه الأدلة الثابتة حجة ظاهرة على جواز رمي الضعفة والعجزة والظعن ونحوهم جمرة العقبة آخر ليلة النحر؛ بعد غياب القمر، أو بغلس الصبح؛ لإذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك ولا ينبغي التوقف في جواز ذلك لهم بعد طلوع الفجر (4).

ب- واستدلوا على أن الأقوياء وغير الضعفة والظعن لا

(1) انظر: تخريجه وكلام أهل العلم عليه فيما سبق.

(2)

انظر: تخريجه وكلام أهل العلم عليه فيما سبق.

(3)

انظر: تخريجه وكلام أهل العلم عليه فيما سبق.

(4)

انظر: أضواء البيان (5/ 279، 280) الاستذكار (11/ 264) فتح الباري (3/ 617) بداية المجتهد (2/ 280) البيان (4/ 331) المغنى (5/ 295) زاد المعاد (2/ 252).

ص: 112

يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس يوم النحر بما يلي.

1 -

مفهوم الأدلة السابقة وهو أن الإذن برمي الجمرة قبل طلوع الشمس إنما هو للظعن والضعفة ونحوهم، ولا يشمل غيرهم من الأقوياء الذكور والأصحاء (1).

2 -

فعله صلى الله عليه وسلم فإنه إنما رمي جمرة العقبة ضحى يوم النحر؛ (2)، وقال صلى الله عليه وسلم لأمته «خذوا عني مناسككم» (3).

3 -

ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله، وقال:«لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» (4).

فهذه الأدلة الصحيحة تدل دلالة ظاهرة على أن الأصحاء الأقوياء لا يجوز لهم أن يرموا جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس من يوم النحر، وأن الرخصة في رميها قبل لا تشملهم (5).

والذي يظهر، والله تعالى أعلم، أن الراجح من هذه الأقوال هو القول الرابع؛ التفريق بين الضعفة والعجزة

(1) انظر: أضواء البيان (5/ 279، 280) زاد المعاد (2/ 252).

(2)

انظر: تخريجه فيما سبق.

(3)

انظر: تخريجه فيما سبق.

وانظر: أضواء البيان (5/ 278) الجامع الصحيح (3/ 240) الاستذكار (11/ 262) المغني (5/ 294).

(4)

انظر: تخريجه والحكم عليه فيما سبق.

(5)

انظر: أضواء البيان (5/ 279، 280) زاد المعاد (2/ 252).

ص: 113

وغيرهم من الأقوياء الأصحاء؛ فيجوز الرمي بعد غياب القمر من ليلة النحر لمن له عذر أو يشق عليه مزاحمة الناس؛ كالمرضى والضعفة والعجزة، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له الرمي إلا بعد طلوع الشمس، لما يلي:

أولا: أن الإذن في رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس للضعفة والعجزة ثابت صحيح مشهور، لا مدفع له، ولا ينبغي التوقف في الإذن لهؤلاء في الرمي بعد الصبح قبل طلوع الشمس.

ثانيًا: أن الأقوياء ثبت، كما في حديث ابن عباس، نهيهم عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.

ثالثًا: أن هذا القول هو القول الذي تجتمع به الأدلة وتتفق، والقاعدة المقررة عند أهل العلم: أن يجمع بين النصين إن أمكن، وإلا فالترجيح بينهما هو المتعين (1).

قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: «ثم تأملنا فإذا أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أمر الصبيان أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس، فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قدمه من النساء، فرمين قبل طلوع الشمس للعذر، والخوف عليهن من مزاحمة الناس وحطمهم، وهذا الذي دلت عليه السنة؛ جواز الرمي قبل طلوع الشمس للعذر

(1) انظر: أضواء البيان (5/ 280).

ص: 114

بمرض أو كبر يشق عليه مزاحمة الناس لأجله، وأما القادر الصحيح فلا يجوز له ذلك» (1).

وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله: «إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة: أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء، وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك» .

وأما رميهم؛ أعني الضعفة والنساء، قبل طلوع الفجر، فهو محل نظر، فحديث عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه، وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن يقتضي منعه. والقاعدة المقررة في الأصول: هي أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع، وإلا فالترجيح بينهما، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم؛ فجعلوا لرمي جمرة العقبة وقتين: وقت فضيلة ووقت جواز، وحملوا حديث ابن عباس على وقت الفضيلة، وحديث عائشة على وقت الجواز؛ وله وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى (2).

(1) زاد المعاد (2/ 252).

(2)

أضواء البيان (5/ 279، 280).

ص: 115