الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1770 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَوَّرَاتِ الْقُبُورِ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: قَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَرِهَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ، تَمَّ كَلَامُهُ.
ــ
1770 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَوَّرَاتِ الْقُبُورِ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ كَثِيرَاتُ الزِّيَارَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ) أَيِ التِّرْمِذِيُّ (قَدْ رَأَى) أَيْ ذَهَبَ (بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا) أَيِ اللَّعْنَ (كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِي رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ) وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَرِهَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ) وَفِي نُسْخَةٍ: وَكَثْرَةِ عَجْزِهِنَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: صَوَابُهُ وَكَثْرَةُ جَزَعِهِنَّ (تَمَّ كَلَامُهُ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ، تَمَّ كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ.
1771 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِيَ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي وَاضِعٌ ثَوْبِي وَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ رضي الله عنه مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
1771 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِيَ الَّذِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ قَبْرُهُ أَوْ دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ وَأَبُوهَا (وَإِنِّي وَاضِعٌ) بِالتَّنْوِينِ وَالظَّاهِرُ وَاضِعَةٌ، فَكَأَنَّهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ حَائِضٍ، أَوِ التَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ، وَيَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى قَوْلِهَا (ثَوْبِي) أَيْ بَعْضَ ثِيَابِي، وَلِذَا أُفْرِدَ هُنَا وَجُمِعَ فِيمَا سَيَأْتِي (وَأَقُولُ) أَيْ فِي نَفْسِي لِبَيَانِ عُذْرِ الْوَضْعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْقَوْلُ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِوَضْعِ الثَّوْبِ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ الْكَائِنُ هُنَا (زَوْجِي وَأَبِي) أَيْ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي، وَالْآخَرُ أَبِي، أَوِ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ أَيْ إِنَّمَا الشَّأْنُ زَوْجِي وَأَبِي مَدْفُونَانِ فِيهِ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْبَيْتِ أَيْ إِنَّمَا هُوَ مَدْفَنُ زَوْجِي وَأَبِي، عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ (فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ رضي الله عنه مَعَهُمْ) فِيهِ اخْتِيَارُ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ (فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُهُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ أَنَّ احْتِرَامَ الْمَيِّتِ كَاحْتِرَامِهِ حَيًّا (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَفِي شَرْحِ الصُّدُورِ لِلسُّيُوطِيِّ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الصَّحَابِيِّ قَالَ: لَأَنْ أَطَأَ عَلَى جَمْرَةٍ أَوْ عَلَى حَدِّ سَيْفٍ حَتَّى تُخْطَفَ رِجْلِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ، وَمَا أُبَالِي أَفِي الْقُبُورِ قَضَيْتُ حَاجَتِي أَيْ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ أَمْ فِي السُّوقِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ غَفْرَانَةَ مَرَّ عَلَى مَقْبَرَةٍ هُوَ حَاقِنٌ قَدْ غَلَبَهُ الْبَوْلُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ نَزَلْتَ فَبُلْتَ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ الْأَمْوَاتِ كَمَا أَسْتَحْيِي مِنَ الْأَحْيَاءِ.
[كِتَابُ الزَّكَاةِ]
بَابٌ - كِتَابُ الزَّكَاةِ
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
1772 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: " «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» "، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
(كِتَابُ الزَّكَاةِ)
هِيَ فِي اللُّغَةِ الطَّهَارَةُ، وَقَالَ تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] وَإِنَّمَا يُقَالُ زَكَى الزَّرْعُ إِذَا نَمَى، سُمِّيَ بِهَا نَفْسُ الْمَالِ الْمُخْرَجِ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، قَالَ تَعَالَى وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيتَاءِ هُوَ الْمَالُ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الْإِيتَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالْوُجُوبِ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ، وَمُنَاسَبَةُ اللُّغَوِيِّ أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ إِذْ يَحْصُلُ بِهِ النَّمَاءُ بِالْإِخْلَافِ مِنْهُ - تَعَالَى - فِي الدَّارَيْنِ، قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] وَالطَّهَارَةُ لِلنَّفْسِ مِنْ دَنَسِ الْبُخْلِ وَوَسَخِ الْمُخَالَفَةِ، وَلِلْمَالِ بِإِخْرَاجِ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْهُ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ أَعْنِي الْفُقَرَاءَ، ثُمَّ هِيَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسَبَبُهَا الْمَالُ الْمَخْصُوصُ، أَعْنِي النِّصَابَ النَّامِيَ تَحْقِيقًا، أَوْ تَقْدِيرًا، وَلِذَا تُضَافُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ، وَشَرْطُهَا الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْفَرَاغُ مِنَ الدَّيْنِ، ثُمَّ قِيلَ: فُرِضَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ مَعَ فَرْضِ الصَّوْمِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَفُرِضَ غَيْرُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ إِجْمَالًا، وَبُيِّنَتْ بِالْمَدِينَةِ تَفْصِيلًا جَمْعًا بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا بِمَكَّةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
1772 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ أَرْسَلَ (إِلَى الْيَمَنِ) أَيْ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا (فَقَالَ: " إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ") يُرِيدُ بِهِمُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَالَ الطِّيبِيُّ: قُيِّدَ قَوْلُهُ قَوْمًا بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَفْضِيلًا لَهُمْ، أَوْ تَغْلِيبًا عَلَى غَيْرِهِمْ (فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) لِأَنَّ فِيهِمْ مُشْرِكِينَ (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) فَإِنَّ مُوَحِّدِيهِمْ قَدْ يَكُونُونَ لِرِسَالَتِهِ مُنْكِرِينَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ دَعْوَةِ الْكُفَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِتَالِ، لَكِنَّ هَذَا إِذَا لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، أَمَّا إِذَا بَلَغَتْهُمْ فَغَيْرُ وَاجِبَةٍ، لِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَغَارَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَافِلُونَ (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أَيِ انْقَادُوا أَيْ لِلْإِسْلَامِ (فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ) قَالَ الْأَشْرَفُ تَبَعًا لِزَيْنِ الْعَرَبِ: يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ بِالْأُصُولِ فَقَطْ، وَذَلِكَ لِتَعْلِيقِهِ الْإِعْلَامَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الطَّاعَةِ لِلْإِيمَانِ، وَقَبُولِ كَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، بِفَاءِ الْجَزَاءِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا إِشْعَارَ لِأَنَّ الْمُتَرَتِّبَ الْإِعْلَامُ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ بِالْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا لَا يُخَاطَبُ بِهِ الْكُفَّارُ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِتَكْلِيفِهِمْ بِهَا إِنَّمَا يَقُولُ إِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرَةِ فَقَطْ، حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7] ، {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] الْآيَتَيْنِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَنَحْوَهُ كَالْعِيدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِفَرْضِيَّةِ الْوِتْرِ وَالْعِيدَيْنِ أَحَدٌ إِجْمَاعًا، وَالْمَفْهُومُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا، بَلْ مَفْهُومُ الْعَدَدِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ اتِّفَاقًا مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي بَيَانَ الْأَحْكَامِ إِجْمَاعًا، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ بِهِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ اقْتِصَارًا، وَمِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْخَمْسِ مَعَ فَرْضِيَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ كِفَايَةً، فِي صُورَةٍ وَعَيْنًا فِي أُخْرَى اتِّفَاقًا، وَأَيْضًا صَلَاةُ الْوَتْرِ مِنْ تَوَابِعِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مُلْحَقَةٌ بِهَا، فَذِكْرُهَا مُشْعِرٌ بِذِكْرِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَجَبَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا، كَمَا لَمْ يَذْكُرِ الصَّوْمَ مَعَ أَنَّهُ فُرِضَ قَبْلَ الزَّكَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أَيْ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ (فَأَعْلِمْهُمْ) لِيَكُونَ الْحُكْمُ تَدْرِيجِيًّا عَلَى وَفْقِ مَا نَزَلْ بِهِ التَّكْلِيفُ الْإِلَهِيُّ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ أَيْسَرُ مِنَ الْإِطَاعَةِ الْمَالِيَّةِ أَيْ فَأَخْبِرْهُمْ (أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ) أَيْ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ، وَشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْوُجُوبِ (صَدَقَةً) أَيْ زَكَاةً لِأَمْوَالِهِمْ (تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ يَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ اهـ وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَجْنُونَ، وَفِيهِ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِمْ (فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ) أَيْ إِنْ وُجِدُوا، وَكُرِهَ النَّقْلُ، وَسَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ وَصَحَابَتِهِ عليه السلام مِنَ الطَّمَعِ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ اللِّئَامِ لِأَنَّهُ خِلَافُ دَأْبِ الْكِرَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَدْفُوعَ عَيْنُ الزَّكَاةِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ نَقْلَ الزَّكَاةِ عَنْ بَلَدِ الْوُجُوبِ لَا يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِيهِ، بَلْ صَدَقَةُ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِمُسْتَحِقِّ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا نُقِلَتْ وَأُدِّيَتْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ، إِلَّا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله فَإِنَّهُ رَدَّ صَدَقَةً نُقِلَتْ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الشَّامِ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ خُرَاسَانَ اهـ وَفِيهِ أَنَّ فِعْلَهُ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ لِلْإِجْمَاعِ، بَلْ فَعَلَهُ إِظْهَارًا لِكَمَالِ الْعَدْلِ، وَقَطْعًا لِلْأَطْمَاعِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، بَلْ لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، وَفِي الْهِدَايَةِ: وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ لَقُلْنَا بِجَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الذِّمِّيِّ، أَيْ كَمَا قُلْنَا بِجَوَازِ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِمْ، لِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا» "، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: حَدِيثُ " «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» " مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيٍّ مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ، وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيِّ الْغُزَاةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْفَيْءِ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ مَكَانُ الْمَالِ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَكَانُ الرَّأْسِ الْمُخْرَجِ عَنْهُ، فِي الصَّحِيحِ مُرَاعَاةً لِإِيجَابِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَيُكْرَهُ نَقْلُهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، إِلَّا إِلَى قَرِيبِهِ أَوْ إِلَى أَحْوَجَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ دَفْعِ الْقِيَمِ مِنْ قَوْلِ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابِ خَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، وَيَجِبُ كَوْنُ مَحَلِّهِ كَوْنَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَحْوَجَ أَوْ ذَلِكَ مَا يَفْضُلُ بَعْدَ إِعْطَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَأَمَّا النَّقْلُ لِلْقَرَابَةِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، زِيَادَةً عَلَى قُرْبَةِ الزَّكَاةِ (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أَيْ لِلْإِنْفَاقِ (فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ) جَمْعُ كَرِيمَةٍ أَيِ احْتَرِزْ مِنْ أَخْذِ الْأَعْلَى مِنْ أَصْنَافِ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا تَبَرُّعًا مِنْهُمْ، فَفِيهِ أَمْرٌ بِالْعَدْلِ الْوَسَطِ الْمَرْعِيِّ فِيهِ جَانِبُ الْأَغْنِيَاءِ، وَحَقُّ الْفُقَرَاءِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَالِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ مَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْأَدَاءِ وَقْتَ الْإِمْكَانِ، أَيْ بَعْدَ الْوُجُوبِ (وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ) أَيْ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ بِأَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ أَوْ تُؤْذِيَهُ بِلِسَانِكَ (فَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ) أَيْ قَبُولِهِ لَهَا (حِجَابٌ) أَيْ مَانِعٌ، بَلْ هِيَ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ الْقَبُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذَا تَعْلِيلٌ لِلِاتِّقَاءِ، وَتَمْثِيلُ الدَّعْوَةِ لِمَنْ يَقْصِدُ إِلَى السُّلْطَانِ مُتَظَلِّمًا فَلَا يُحْجَبُ عَنْهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
1773 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا رُدِّتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِبِلُ؟ قَالَ: " وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَافَصِيلًا وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رَدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ "، قِيلَ يَاَ رَسُولَ اللَّهِ: فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: " وَلَا صَاحِبُ بَقْرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ، تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْخَيْلُ؟ قَالَ: " فَالْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا، وَنِوَاءً عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا، وَلَا رِقَابِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فِي مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ، فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ حَسَنَاتٌ، وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ وَلَا تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا حَسَنَاتٍ وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْحُمُرُ؟ قَالَ: " مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] » ) " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1773 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الضَّمِيرُ لِمَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ دُونَ لَفْظِهِمَا، إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِمَا الشَّيْءَ الْحَقِيرَ ; بَلْ وَافِيَةَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَإِمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الْأَمْوَالِ وَإِمَّا عَوْدًا إِلَى الْفِضَّةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ، وَيُعْلَمُ حَالُ الذَّهَبِ مِنْهَا أَيْضًا، وَقِيلَ: أَرَادَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالذَّهَبُ مُؤَنَّثٌ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ عَلَى وَفْقِ التَّنْزِيلِ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] وَاكْتَفَى بِبَيَانِ صَاحِبِهَا عَنْ بَيَانِ حَالِ صَاحِبِ الذَّهَبِ، أَوْ لِأَنَّ الْفِضَّةَ أَكْثَرُ انْتِفَاعًا فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنَ الذَّهَبِ، وَأَشْهَرُ فِي أَثْمَانِ الْأَجْنَاسِ، وَلِذَا اكْتَفَى بِهِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام:" «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» "، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (صُفِّحَتْ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ كَمَا جُعِلَتِ الْفِضَّةُ وَنَحْوُهَا (لَهُ) أَيْ لِصَاحِبِهَا (صَفَائِحُ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَهِيَ مَا طُبِعَ عَرِيضًا، وَقُرِئَتْ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، لِقَوْلِهِ صُفِّحَتْ، وَمَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ وَفِي الْفِعْلِ ضَمِيرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْتَ إِمَّا بِالتَّأْوِيلِ السَّابِقِ، وَإِمَّا عَلَى التَّطْبِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، الَّذِي هُوَ هُوَ، انْتَهَى، وَهُوَ كَلَامُ الطِّيبِيِّ بِعَيْنِهِ (مِنْ نَارٍ) أَيْ يُجْعَلُ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، أَوْ يُجْعَلُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ، أَيْ يُجْعَلَ صَفَائِحَ كَأَنَّهَا نَارٌ، أَوْ كَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَارٍ، يَعْنِي كَأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِفَرْطِ إِحْمَائِهَا وَشِدَّةِ حَرَارَتِهَا صَفَائِحُ النَّارِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُوَافِقُ مَا فِي التَّنْزِيلِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35] فَجَعَلَ عَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هِيَ
الْمَحْمِيُّ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ (فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، أَيْ أُوقِدَ عَلَيْهَا ذَاتُ حِمًى وَحَرٍّ شَدِيدٍ، مِنْ قَوْلِهِ {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 11] فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي " فَأُحْمِيَتْ فِي نَارِ "، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا إِلَى الْفِضَّةِ فَالْفَاءُ تَفْسِيرِيَّةٌ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ إِلَى الصَّفَائِحِ النَّارِيَّةِ، أَيْ تُحْمَى مَرَّةً ثَانِيَةً (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) لِيَشْتَدَّ حَرُّهَا فَالْفَاءُ تَعْقِيبِيِّةٌ (فَيُكْوَى بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْفِضَّةِ أَوْ بِتِلْكَ الصَّفَائِحِ (جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ) قِيلَ: لِأَنَّهُ ازْوَرَّ عَنِ الْفَقِيرِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَعَبَسَ لَهُ وَجْهُهُ، وَبِشْرُهُ، وَوَلَّاهُ عِنْدَ الْإِلْحَاحِ ظَهْرَهُ، فَيُكْوَى بِمَالِهِ أَعْضَاؤُهُ الَّتِي آذَى الْفَقِيرَ بِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسَةِ، الَّتِي هِيَ الدِّمَاغُ وَالْقَلْبُ وَالْكَبِدُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْجِهَاتُ الْأَرْبَعُ، الَّتِي هِيَ مِنْ مَقَادِيمِ الْبَدَنِ وَمُؤَخَّرِهِ وَجَنْبَاهُ (كُلَّمَا رُدَّتْ) أَيْ عَنْ بَدَنِهِ إِلَى النَّارِ (أُعِيدَتْ) أَيْ أَشَدَّ مَا كَانَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ كُلَّمَا بَرُدَتْ رُدَّتْ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، لِيُحْمَى عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي إِذَا وَصَلَ كَيُّ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُعِيدَ الْكَيُّ إِلَى أَوَّلِهَا، حَتَّى وَصَلَ إِلَى آخِرِهَا اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي رُدَّتْ رَاجِعًا إِلَى الْأَعْضَاءِ، أَيْ كُلَّمَا رُدَّتِ الْأَعْضَاءُ بِالتَّبْدِيلِ بَعْدَ الْإِحْرَاقِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْإِفْنَاءِ أُعِيدَتِ الصَّفَائِحُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] (لَهُ) أَيْ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ (فِي يَوْمٍ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أَيْ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَيَطُولُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعَاصِينَ، بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فَهُوَ عَلَى بَعْضِهِمْ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ عز وجل {يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9 - 10] (حَتَّى يُقْضَى) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُحْكَمَ (بَيْنَ الْعِبَادِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي الْعَذَابِ وَبَقِيَّةَ الْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ، وَلِذَا قِيلَ: الدُّنْيَا حَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عِقَابٌ (فَيُرَى) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَوِ الْإِرَاءَةِ وَقَوْلُهُ (سَبِيلُهُ) مَرْفُوعٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى الثَّانِي، وَفِي نُسْخَةٍ: فَيَرَى بِالْمَعْلُومِ مِنَ الرُّؤْيَةِ، أَيْ هُوَ سَبِيلُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَبِرَفْعِ لَامِ سَبِيلِهِ وَنَصْبِهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَسْلُوبَ الِاخْتِيَارِ يَوْمَئِذٍ مَقْهُورٌ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرُوحَ إِلَى النَّارِ، فَضْلًا عَنِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُعَيَّنَ لَهُ أَحَدُ السَّبِيلَيْنِ (إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ سِوَاهُ وَكَانَ الْعَذَابُ تَكْفِيرًا لَهُ (وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) إِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى خُلُودِهِ فِي النَّارِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ ضَعْفُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْضًا، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِأَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ تَرْكَ الزَّكَاةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ إِنْ كَانَ كَافِرًا بِأَنِ اسْتَحَلَّ تَرْكَهَا، (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِبِلُ) أَيْ هَذَا حُكْمُ النُّقُودِ، فَالْإِبِلُ مَا حُكْمُهَا؟ أَوْ عَرَفْنَا حُكْمَ النَّقْدَيْنِ فَمَا حُكْمُ الْإِبِلِ؟ فَالْفَاءُ مُتَّصِلٌ بِمَحْذُوفٍ (قَالَ: وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ) بِالرَّفْعِ أَيْ يُوجَدُ، وَيَكُونُ، قِيلَ: بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ لَفْظًا لِوُجُودِ الْوَاوِ بَلْ جَوَابٌ لَهُ مَعْنًى مِنْ بَابِ تَلْقِينِ الْعَطْفِ، لَكِنْ مَعْنًى لَا لَفْظًا (لَا يُؤَدِّي) صِفَةٌ أَيْ لَا يُعْطِي صَاحِبُ الْإِبِلِ (مِنْهَا حَقَّهَا) أَيِ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِيهَا (وَمِنْ حَقِّهَا) أَيِ الْمَنْدُوبِ وَ " مِنْ " تَبْعِيضِيَّةٌ (حَلْبُهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: بِفَتْحِ اللَّامِ هِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَحُكِيَ سُكُونُهَا وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسُ (يَوْمَ وِرْدِهَا) قِيلَ: الْوِرْدُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَنَوْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى الْمَاءِ فَإِنَّ الْإِبِلَ تَأْتِي الْمَاءَ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَرُبَّمَا تَأْتِي فِي ثَمَانِيَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا أَنْ يُسْقَى أَلْبَانَهَا الْمَارَّةُ، وَهَذَا مِثْلُ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَذَاذِ بِاللَّيْلِ، أَرَادَ أَنْ يُصْرَمَ بِالنَّهَارِ لِيَحْضُرَهَا الْفُقَرَاءُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَحَصَرَ يَوْمَ الْوِرْدِ لِاجْتِمَاعِهِمْ غَالِبًا عَلَى الْمِيَاهِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ يَحْلِبَهَا فِي يَوْمِ شُرْبِهَا الْمَاءَ دُونَ غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَلْحَقَهَا مَشَقَّةُ الْعَطَشِ، وَمَشَقَّةُ الْحَلْبِ، وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُ وَقَعَ اسْتِطْرَادًا وَبَيَانًا لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ لَا لِكَوْنِ التَّعْذِيبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْتَمَلَ عَلَى
وَقْتِ الْقَحْطِ أَوْ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَوْ عَلَى وُجُوبِ ضِيَافَةِ الْمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قِيلَ: إِنَّ حَقَّهَا الْأَوَّلُ أَعَمُّ مِنَ الثَّانِي، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ التَّعْذِيبَ عَلَيْهِمَا مَعًا تَغْلِيظٌ (إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ (بُطِحَ) أَيْ أُلْقِيَ ذَلِكَ الصَّاحِبُ عَلَى وَجْهِهِ (لَهَا) أَيْ لِتِلْكَ الْإِبِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ لَهُ: أَيْ لِإِبِلِهِ أَوْ لِفِعْلِهِ، أَوْ أُقِيمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَهُ بِالتَّذْكِيرِ وَهُوَ خَطَأٌ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَرْفُوعَ فِي الْفِعْلِ لِصَاحِبِ الْإِبِلِ وَالْمَجْرُورَ لِلْإِبِلِ لِيَسْتَقِيمَ، وَلِأَنَّ الْمَبْطُوحَ الْمَالِكُ لَا الْإِبِلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا التَّمَسُّكُ بِالرِّوَايَةِ فَمُسْتَقِيمٌ وَأَمَّا بِالْمَعْنَى فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ الضَّمِيرُ لِإِرَادَةِ الْجِنْسِ، أَوْ لِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ لِصَاحِبِ الْإِبِلِ، وَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَائِمًا مَقَامَ الْفَاعِلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] (بِقَاعٍ) أَيْ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةٍ مُسْتَوِيَةٍ (قَرْقَرٍ) أَيْ أَمْلَسَ، وَقِيلَ: أَيْ مُسْتَوٍ فَيَكُونُ صِفَةً مُؤَكِّدَةً (أَوْفَرَ مَا كَانَتْ) أَيْ أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَعْظَمَ سِمَنًا، وَأَقْوَى قُوَّةً، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ يُرِيدُ كَمَالَ حَالِ الْإِبِلِ، الَّتِي وَطِئَتْ صَاحِبَهَا فِي الْقُوَّةِ وَالسِّمَنِ، لِيَكُونَ أَثْقَلَ لِوَطْئِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْفَرُ مُضَافٌ إِلَى مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي لَهَا، وَالْعَامِلُ بُطِحَ، وَقَوْلُهُ (لَا يَفْقِدُ) أَيِ الصَّاحِبُ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْإِبِلِ (فَصِيلًا) أَيْ وَلَدَ إِبِلٍ (وَاحِدًا) تَأْكِيدٌ وَالْجُمْلَةُ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ أَوْفَرَ (تَطَؤُهُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ تَضْرِبُهُ وَتَدُوسُهُ الْإِبِلُ (بِأَخْفَافِهَا) أَيْ بِأَرْجُلِهَا (وَتَعَضُّهُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ تَقْرِضُهُ وَتَقْطَعُ جِلْدَهُ (بِأَفْوَاهِهَا) أَيْ بِأَسْنَانِهَا (كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا) أَيْ أُولَى الْأَبِلِ (رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا) قَالُوا: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ عَكْسُ ذَلِكَ، كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لِمُسْلِمٍ، وَهُوَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا، وَتَوْجِيهُ مَا فِي الْكِتَابِ إِنَّهُ مَرَّتِ الْأُولَى عَلَى التَّتَابُعِ فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْأُخْرَى إِلَى الْغَايَةِ رُدَّتْ مِنْ هَذِهِ الْغَايَةِ، وَتَبِعَهَا مَا كَانَ يَلِيهَا فَمَا يَلِيهَا، إِلَى أَوَّلِهَا فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّتَابُعِ عَلَى طَرِيقِ الطَّرْدِ، وَالْعَكْسِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْصُلُ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ) فَكَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعِبَادِ، حَيْثُ لَمْ يَرْحَمُوا فُقَرَاءَ الْبِلَادِ مِنَ الزُّهَّادِ وَالْعِبَادِ (فَيُرَى) أَيْ فَيُعْلَمُ (سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ) إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ (وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) إِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرَانِ (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟) أَيْ كَيْفَ حَالُ صَاحِبِهَا (قَالَ: " وَلَا صَاحِبُ بَقْرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا ") أَيْ مِنْ أَجْلِهَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا (حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا) وَفِي نُسْخَةٍ لَهُ (بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ ذَوَاتِهَا وَصِفَاتِهَا (شَيْئًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ قُرُونُهَا سَلِيمَةٌ (لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ) أَيْ مُلْتَوِيَةُ الْقَرْنَيْنِ (وَلَا جَلْحَاءُ) أَيْ لَا قَرْنَ لَهَا (وَلَا عَضْبَاءُ) أَيْ مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ، وَنَفْيُ الثَّلَاثَةِ عِبَارَةٌ عَنْ سَلَامَةِ قُرُونِهَا لِيَكُونَ أَجْرَحَ لِلْمَنْطُوحِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِيهَا مَعْدُومَةٌ فِي الْعُقْبَى، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَهَا الدُّنْيَا، وَظَاهِرُ الْبَعْثِ أَنْ يُعِيدَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَعَلَّهُ يَخْلُقُهَا أَوَّلًا كَمَا كَانَتْ، ثُمَّ يُعْطِيهَا الْقُرُونَ لِيَكُونَ سَبَبًا لِعَذَابِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّدَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (تَنْطَحُهُ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُكْسَرُ فِي الْقَامُوسِ نَطَحَهُ كَمَنَعَهُ وَضَرَبَهُ أَصَابَهُ بِقَرْنِهِ فَقَوْلُهُ (بِقُرُونِهَا) إِمَّا تَأْكِيدٌ وَإِمَّا تَجْرِيدٌ (وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا) جَمْعُ ظِلْفٍ وَهُوَ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ بِالْفَرَسِ (كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَالْخَيْلُ، قَالَ: " فَالْخَيْلُ ") قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَلَهُ تَوْجِيهَانِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَعْنَاهُ دَعِ السُّؤَالَ عَنِ الْوُجُوبِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَلَكِنِ اسْأَلْ عَمَّا يَرْجِعُ مِنِ اقْتِنَائِهَا عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَعَلَى مَذْهَبٍ: مَعْنَاهُ لَا تَسْأَلْ عَمَّا وَجَبَ فِيهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَحْدَهُ، بَلِ اسْأَلْ عَنْهُ وَعَمَّا يَتَّصِلُ
بِهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ، إِلَى صَاحِبِهَا، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْوُجُوبِ؟ قُلْتُ: بِعَطْفِ الرِّقَابِ عَلَى الظُّهُورِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّقَابِ الذَّوَاتُ، إِذْ لَيْسَ فِي الرِّقَابِ مَنْفَعَةٌ لِلْغَيْرِ، كَمَا فِي الظُّهُورِ، وَبِمَفْهُومِ الْجَوَابِ الْآتِي فِي الْحُمُرِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَا أَنْزَلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ» ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ: بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا أَدَاءُ زَكَاةِ تِجَارَتِهَا اهـ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فَالْخَيْلُ مَا حُكْمُهَا؟ أَيَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ فَيُعَاقَبَ تَارِكُهَا لِذَلِكَ، أَوْ لَا فَلَا، قَالَ: فَالْخَيْلُ أَحْكَامُهَا ثَلَاثَةٌ أُخْرَى، أَيْ غَيْرُ مَا مَرَّ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يُعَاقَبَ تَارِكُهَا، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ الَّذِي يَكَادُ أَنْ يَقْرُبَ مِنَ الصَّرِيحِ عِنْدَ مَنْ لَهُ أَدَقُّ مُسْكَةٍ مِنْ إِنْصَافٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، قُلْتُ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ السِّيَاقِ فَهُوَ مِنَ الْمُكَابَرَةِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ لِأَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ، بَلْ مَحْضُ الْمَقْصُودِ، وَالْمَرَامُ هُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي النُّقُودِ وَالْحَيَوَانَاتِ ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ تَقْرِيرِهِ لَا يَكُونُ الْجَوَابُ مُطَابِقًا بَلْ وَلَا يَكُونُ دَلِيلًا لِأَحَدٍ مُطْلَقًا، فَلِهَذَا حَمَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَنَزَّلُوهُ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ بِمَا يَقْتَضِيهِ الطَّبْعُ السَّلِيمُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهَا فِيهَا التَّقْدِيرُ أَحْكَامُهَا ثَلَاثَةٌ غَيْرَ الزَّكَاةِ، فَهُوَ مِمَّا يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ، فَلَا يُسْمَعُ اهـ وَهَلْ هَذَا مُنَاقَضَةٌ بَيْنَ كَلَامَيْهِ وَمُدَافَعَةٌ بَيْنَ تَقْدِيرَيْهِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الثَّانِيَ هُوَ عَيْنُ الْأَوَّلِ عِنْدَ مَنْ لَهُ سَمْعٌ وَقَلْبٌ، فَتَأَمَّلْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَا زَكَاةَ فِيهَا فَبَاطِلٌ مِنْ عِنْدِهِ تَقْوِيَةٌ لِمَذْهَبِهِ، ثُمَّ أَطَالَ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّلَلِ، وَأَصْنَافِ الْخَطَلِ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا خَوْفًا مِنَ السَّآمَةِ وَالْمَلَلِ (ثَلَاثَةٌ) أَيْ رَبَطَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ (هِيَ) أَيِ الْخَيْلُ (لِرَجُلٍ وِزْرٌ) أَيْ ثِقَلٌ وَإِثْمٌ (وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ) أَيْ لِحَالِهِ فِي مَعِيشَتِهِ لِحِفْظِهِ عَنِ الِاحْتِيَاجِ وَالسُّؤَالِ (وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ) أَيْ ثَوَابٌ عَظِيمٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ " فَالْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ ": فِيهِ جَمْعٌ وَتَفْرِيقٌ وَتَقْسِيمٌ، أَمَّا الْجَمْعُ فَقَوْلُهُ ثَلَاثَةٌ، وَأَمَّا التَّفْرِيقُ فَقَوْلُهُ (فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ) الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ فَخَيْلٌ رَبَطَهَا، أَوْ يُقَالَ: وَأَمَّا الَّذِي لَهُ وِزْرٌ فَرَجُلٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَخَيْلُ رَجُلٍ (رَبَطَهَا رِيَاءً) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ أَيْ لِيَرَى النَّاسُ عَظَمَتَهُ فِي رُكُوبِهِ، وَحِشْمَتِهِ (وَفَخْرًا) أَيْ يَفْتَخِرُ بِاللِّسَانِ عَلَى مَنْ دُونِهُ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ (وَنِوَاءً) بِكَسْرِ النُّونِ وَالْمَدِّ وَالْوَاوِ بِمَعْنًى أَوْ أَيْ مُنَازَعَةً وَمُعَادَاةً (عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي رِوَايَةٍ: رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، أَيِ اسْتِغْنَاءً بِهَا، وَطَلَبًا لِنِتَاجِهَا، وَتَعَفُّفًا عَنِ السُّؤَالِ، يَعْنِي لِيَرْكَبَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَا يَسْأَلُ مَرْكُوبًا مِنْ أَحَدٍ اهـ كَلَامُهُ وَأَنْتَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْوِزْرِ، بَلْ لِلسِّتْرِ بِلَا خِلَافٍ، فَالصَّوَابُ أَنَّ مَحَلَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الرَّجُلِ الثَّانِي كَمَا سَيَأْتِي (فَهِيَ) أَيْ تِلْكَ الْخَيْلُ (لَهُ وِزْرٌ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ فَهِيَ جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مُشْعِرَةٌ بِاهْتِمَامِ الشَّارِعِ بِهِ، وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ (وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِيُجَاهِدَ، وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْجِهَادُ، بَلِ النِّيَّةُ الصَّالِحَةُ، إِذْ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ اهـ وَأَيْضًا إِذَا أَرَادَ بِهِ الْجِهَادَ فَتَكُونُ لَهُ أَجْرًا، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهَا لَهُ سِتْرٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ يُعَضِّدُهُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ: وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيَا وَتَعَفُّفًا، أَيِ اسْتِغْنَاءً بِهَا وَتَعَفُّفًا عَنِ السُّؤَالِ، أَوْ هُوَ أَنْ يَطْلُبَ بِنِتَاجِهَا الْعِفَّةَ وَالْغِنَى، أَوْ يَتَرَدَّدَ عَلَيْهَا مُتَاجَرَةً وَمُزَارِعَةً فَتَكُونَ سِتْرًا لَهُ يَحْجِبُهُ عَنِ الْفَاقَةِ (ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا) أَيْ بِالْعَارِيَةِ لِلرُّكُوبِ أَوِ الْفَحْلِ (وَلَا رِقَابِهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: إِمَّا تَأْكِيدٌ وَتَتِمَّةٌ لِلظُّهُورِ وَإِمَّا دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا اهـ وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايِرَةُ فَيَكُونُ كَالْإِبِلِ فِيهَا حَقَّانِ (فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ) أَيْ حِجَابٌ يَمْنَعُهُ عَنِ الْحَاجَةِ لِلنَّاسِ (وَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِهَادُ، فَإِنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ (فِي مَرْجٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ مَرْعًى، فِي النِّهَايَةِ، هُوَ الْأَرْضُ الْوَاسِعَةُ، ذَاتُ نَبَاتٍ كَثِيرٍ، يَمْرُجُ فِيهَا الدَّوَابُّ أَيْ تَسْرَحُ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِرَبَطَ (وَرَوْضَةٍ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوِ الرَّوْضَةُ أَخَصُّ مِنَ الْمَرْعَى، وَفِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ: أَوْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَمَا أَكَلَتْ)
أَيِ الْخَيْلُ (مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ) بَيَانٌ مُقَدَّمٌ (أَوِ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْعَلَفِ وَالْأَزْهَارِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ (إِلَّا كُتِبَ لَهُ عَدَدَ مَا أَكَلَتْ) أَيِ الَّذِي أَكَلَتْهُ مِنَ الْعُشْبِ وَالزَّرْعِ (حَسَنَاتٌ) بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ وَنَصَبَ عَدَدَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِعَدَدِ مَأْكُولَاتِهَا (وَكُتِبَ لَهُ عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا حَسَنَاتٌ) لِأَنَّ بِهَا بَقَاءَ حَيَاتِهَا مَعَ أَنَّ أَصْلَهَا قَبْلَ الِاسْتِحَالَةِ غَالِبًا مِنْ مَالِ مَالِكِهَا (وَلَا تَقْطَعُ) أَيِ الْخَيْلُ (طِوَلَهَا) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ حَبْلَهَا الطَّوِيلَ الَّذِي شُدُّ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي يَدِ الْفَرَسِ وَالْآخَرُ فِي وَتَدٍ أَوْ غَيْرِهِ لِتَدُورَ فِيهِ وَتَرْعَى مِنْ جَوَانِبِهَا وَلَا تَذْهَبُ لِوَجْهِهَا (فَاسْتَنَّتْ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ عَدَتْ وَمَرَجَتْ وَنَشِطَتْ لِمَرَاحِهَا أَوْ نَشَاطِهَا (وَلَا رَاكَبَ عَلَيْهَا شَرَفًا) أَيْ شَوْطًا أَوْ مَيْدَانًا أَوْ مَوْضِعًا عَالِيًا مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ ذَهَابًا إِلَى إِخْرَاجِ الْمَرْجِ أَوْ مَعَ الْعَوْدِ إِلَى مَحَلِّهَا (أَوْ شَرَفَيْنِ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَرَفًا لِأَنَّ الدَّابَّةَ تَعْدُو حَتَّى تَبْلُغَ شَرَفًا مِنَ الْأَرْضِ أَيْ مُرْتَفَعًا فَتَقِفُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقْفَةً، ثُمَّ تَعْدُو مَا بَدَا لَهَا (إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ آثَارِهَا) أَيْ بِعَدَدِ خُطَاهَا (وَأَرْوَاثِهَا) أَيْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (حَسَنَاتٌ) وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالرَّوْثِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الْبَوْلَ أَوْ أَسْقَطَهُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْهُ (وَلَا مَرَّ بِهَا) أَيْ جَاوَزَهَا (صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا (فَشَرِبَتْ مِنْهُ) أَيِ الْخَيْلُ (وَلَا يُرِيدُ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَنْوِي (أَنْ يَسْقِيَهَا) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا (إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي اعْتِدَادِ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ مَا تَسْتَقْذِرُهُ النُّفُوسُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا، وَكَذَا إِذَا احْتَسَبَ مَا لَا نِيَّةَ لَهُ فِيهِ وَقَدْ وَرَدَ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَا بَالُ مَا إِذَا قَصَدَ الِاحْتِسَابَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُجْعَلُ لِمَالِكِهَا بِجَمِيعِ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا وَفَضَلَاتِهَا حَسَنَاتٌ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحُمُرُ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حِمَارٍ أَيْ مَا حُكْمُهَا؟ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ هَلْ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ (قَالَ: مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (الْفَاذَّةُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ الْمُنْفَرِدَةُ فِي مَعْنَاهَا (الْجَامِعَةُ) لِجَمِيعِ الْخَيْرَاتِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مِثْلُهَا فِي قِلَّةِ الْأَلْفَاظِ وَجَمْعِ مَعَانِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: سُمِّيَتْ جَامِعَةً لِاشْتِمَالِ اسْمِ الْخَيْرِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ: فَرَائِضِهَا وَنَوَافِلِهَا، وَاسْمِ الشَّرِّ عَلَى مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيِ الْجَامِعَةُ أَوِ الْمُنْفَرِدَةُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى سَهْوٍ فِي أَصْلِهِ مِنْ سُقُوطِ لَفْظِ الْجَامِعَةِ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) أَيْ مِقْدَارَ نَمْلَةٍ أَوْ ذَرَّةٍ مِنَ الْهَبَاءِ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ (خَيْرًا يَرَهُ) أَيْ يَرَى ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] فَلَوْ أَعَانَ وَاحِدًا عَلَى رُكُوبِهَا يُثَابُ، وَلَوِ اسْتَعَانَ بِرُكُوبِهَا عَلَى فِعْلِ مَعْصِيَةٍ يُعَاقَبُ، فَقَدْ رَوَى الْأَصْفَهَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:" «النَّادِمُ يَنْظُرُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةَ، وَالْمُعْجَبُ يَنْظُرُ مِنَ اللَّهِ الْمَقْتَ، وَاعْلَمُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ سَيَنْدَمُ عَمَلَهُ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى حُسْنَ عَمَلِهِ، وَسُوءَ عَمَلِهِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَطِيَّتَانِ، فَأَحْسِنُوا السَّيْرَ عَلَيْهِمَا إِلَى الْآخِرَةِ، وَاحْذَرُوا التَّسْوِيفَ، فَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وَلَا يَغْتَرَنَّ أَحَدُكُمْ بِحِلْمِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مَنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» "(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
1774 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ " ثُمَّ تَلَا {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180] الْآيَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
1774 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ) أَيْ أَعْطَاهُ (مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ) بِالتَّشْدِيدِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ صُوِّرَ وَجُعِلَ (لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا) بِضَمِّ الشِّينِ وَيُكْسَرُ أَيْ عَلَى صُورَةِ شُجَاعٍ أَيِ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ نُصِبَ مَجْرَى الْمَفْعُولِ أَيْ صُوِّرَ مَالُهُ شُجَاعًا، أَوْ ضُمِّنَ مِثْلَ مَعْنَى التَّصْيِيرِ، أَيْ صُيِّرَ مَالُهُ عَلَى صُورَةِ شُجَاعٍ (أَقْرَعَ) أَيِ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ، لِكَثْرَةِ سُمِّهِ وَطُولِ عُمْرِهِ (لَهُ زَبِيبَتَانِ) أَيْ نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْقَ الْعَيْنَيْنِ، وَهُوَ أَخْبَثُ الْحَيَّاتِ، وَقِيلَ: الزَّبِيبَتَانِ الزَّبَدَانِ فِي الشِّدْقَيْنِ (يُطَوَّقُهُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ يُجْعَلُ الشُّجَاعُ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ، أَوْ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الرَّجُلُ شُجَاعًا وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} [آل عمران: 180] (يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ) أَيِ الشُّجَاعُ ذَلِكَ الْبَخِيلَ (بِلِهْزِمَتَيْهِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْهَاءِ (يَعْنِي: شِدْقَيْهِ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الدَّالِ، أَيْ بِطَرَفَيْ فَمِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اللِّهْزِمَةُ: اللِّحَى وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْحَنَكِ، وَفُسِّرَ بِالشِّدْقِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ اهـ وَقِيلَ هُمَا عَظْمَانِ نَاتِئَانِ تَحْتَ الْأُذُنَيْنِ، وَقِيلَ: مُضْغَتَانِ عَلِيفَتَانِ تَحْتَهَا (ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ) أَيْ جَزَاؤُهُ أَوْ مُنْقَلَبُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ نَوْعُ تَهَكُّمٍ لِمَزِيدِ غُصَّتِهِ وَهَمِّهِ لِأَنَّهُ شَرٌّ أَتَاهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَرْجُو خَيْرًا (ثُمَّ تَلَا) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180] بِالْغِيبَةِ وَالْخِطَابِ وَكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا مَعَ الْأَوَّلِ وَالْفَتْحِ مَعَ الثَّانِي (الْآيَةَ) أَيْ {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180](رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
1775 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا أَتَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا تَكُونُ وَأَسْمَنَهُ، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، وَتَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا، كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
1775 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ ") أَوْ لِلتَّقْسِيمِ (إِلَّا يُؤَدِّي حَقَّهَا) أَيْ لَا يُعْطِي زَكَاتَهَا (إِلَّا أُتِيَ بِهَا) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ حَالَ كَوْنِهَا (أَعْظَمَ مَا تَكُونُ) بِالتَّأْنِيثِ وَقِيلَ: بِالتَّذْكِيرِ، وَقِيلَ:" أَعْظَمَ " حَالٌ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْإِضَافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ أَيْ أَقْوَاهُ (وَأَسْمَنُهُ) وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ مَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَطْفُ مُرَادِفٍ أَوْ أَخَصُّ فَبَعِيدٌ مِنَ التَّحْقِيقِ، فَإِنَّ بَيْنَهُمَا مُبَايَنَةً عَلَى التَّدْقِيقِ (تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا) أَيْ تَدُوسُهُ بِأَرْجُلِهَا جَزَاءً لِتَكَبُّرِهُ (وَتَنْطِحُهُ) أَيْ تَضْرِبُهُ (بِقُرُونِهَا) جَزَاءً لِإِبَائِهِ وَامْتِنَاعِهِ، فَغَلَّبَ الْإِبِلَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الثَّلَاثَةِ، وَلِذَا بَدَأَ بِذِكْرِهَا، وَغَلَّبَ الْأَخِيرَيْنِ فِي الثَّانِي لِكَثْرَتِهِمَا (كُلَّمَا جَازَتْ) أَيْ مَرَّتْ (أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ) ثُمَّ إِمَّا مَعَ فَرِيقِ الْجَنَّةِ وَإِمَّا مَعَ فَرِيقِ النَّارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1776 -
وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدِّقُ فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1776 -
(وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدِّقُ ") بِتَخْفِيفِ الصَّادِ أَيْ آخِذُ الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْعَامِلُ (فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ) بِضَمِّ الدَّالِّ أَيْ يَرْجِعُ (وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ) الْجُمْلَةُ حَالٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ الْمُسَبَّبَ وَأَرَادَ السَّبَبَ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ لِلْعَامِلِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ لِلْمُزَكِّي، وَالْمَعْنَى تَلَقَّوْهُ بِالتَّرْحِيبِ، وَأَدَاءِ زَكَاةِ أَمْوَالِكُمْ، لِيَرْجِعَ عَنْكُمْ رَاضِيًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ إِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مُبَالَغَةً فِي اسْتِرْضَاءِ الْمُصَدِّقِ، وَإِنْ ظُلِمَ كَمَا سَيَجِيءُ فِي حَدِيثٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
1777 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ "، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَتِهِ قَالَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ» ".
ــ
1777 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ) لِيُفَرِّقَهَا عَنْهُمْ (قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ، فَآتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَالتَّبَرُّكِ، قِيلَ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي مُعْطِي الزَّكَاةِ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهَا بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ، فَهِيَ خَاصَّةٌ لَهُ. اهـ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ: قِيلَ: لَفْظُ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى بِهَا لِغَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى بِمَعْنَاهُ اهـ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: اخْتَلَفُوا فِي الدُّعَاءِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ، فَقِيلَ: يُكْرَهُ وَلَوْ أَنْ أَرَادَ بِهَا مُطْلَقَ الرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ، وَقِيلَ: خِلَافُ الْأَوْلَى، وَقِيلَ: يُسَنُّ، وَقِيلَ: يُبَاحُ إِنْ أَرَادَ بِالصَّلَاةِ مُطْلَقَ الرَّحْمَةِ، وَيُكْرَهُ إِنْ أَرَادَ بِهَا مَقْرُونَةً بِالتَّعْظِيمِ. اهـ، وَالْمَانِعُونَ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْآلَ مُقْحَمٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِآلِهِ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَيَعُمُّ الدُّعَاءُ، لِأَنَّهُ إِذَا دَعَا لِآلِهِ لِأَجْلِهِ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الدُّعَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
(وَفِي رِوَايَةٍ) قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ (إِذَا أَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةٍ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ) أَيْ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلسَّاعِي أَنْ يَدْعُوَ لِمُعْطِي الزَّكَاةِ، فَيَقُولَ: آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا، وَقَوْلُهُ آجَرَكَ اللَّهُ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَهُوَ أَجْوَدُ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِمَنْ أَتَاهُ بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَفِي أَهْلِهِ» ".
1778 -
ــ
1778 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ) أَيْ أَرْسَلَهُ عَامِلًا (عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ) أَيْ فَجَاءَ وَاحِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَهُ (مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ) بِفَتْحٍ وَكَسْرٍ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ: ابْنُ جَمِيلٍ لَهُ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ. اهـ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ فَلَا يُعَدُّ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ التَّقْدِيرُ " مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ الزَّكَاةَ "، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيِ امْتَنَعَ مِنْ إِعْطَائِهَا فَحَلُّ الْمَعْنَى، لَكِنَّهُ مُخِلٌّ لِلْمَبْنَى (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَنْقِمُ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَيُفْتَحُ أَيْ مَا يُنْكِرُ نِعْمَةَ اللَّهِ (ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّهُ (كَانَ) أَوْ مَا يَكْرَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ (فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وَهَذَا مِمَّا لَا يُكْرَهُ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةَ عَلَى الْحَدِّ
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ ضِرَابِ الْكَتَائِبِ
وَلِهَذَا قِيلَ التَّقْدِيرُ: مَا يَنْقِمُ شَيْئًا إِلَّا أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَقِيلَ: مَا يَغْضَبُ عَلَى طَالِبِ الصَّدَقَةِ إِلَّا كُفْرَانَ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَسْنَدَ صلى الله عليه وسلم الْإِغْنَاءَ إِلَى نَفْسِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ سَبَبًا لِدُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَوِجْدَانِ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا حَمَلَهُ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ إِلَّا الْإِغْنَاءُ، وَهُوَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: يُقَالُ نَقِمْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْقِمُ بِالْكَسْرِ إِذَا عِبْتَ عَلَيْهِ، وَنَقِمَ الْأَمْرَ وَنَقِمْتُهُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ إِذَا كَرِهْتُهُ، وَفِي الْمَغْرِبِ نَقِمَ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ كَذَا إِذَا عَابَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَكَرِهَهُ، أَقُولُ: فَمَعْنَى الْحَدِيثِ مَا يَنْقِمُ وَيَغْضَبُ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَيَكْرَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ (وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا) وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً أَيْ تَظْلِمُونَهُ بِطَلَبِ الزَّكَاةِ مِنْهُ، إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لِأَنَّهُ (قَدِ احْتَبَسَ) أَيْ وَقَفَ (أَدْرَاعَهُ) جَمْعُ الدِّرْعِ (وَأَعْتُدَهُ) بِضَمِّ التَّاءِ جَمْعُ عَتَادٍ وَهُوَ مَا أَعَدَّهُ الرَّجُلُ مِنَ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ وَآلَاتِ الْحَرْبِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَأَنْتُمْ تَظْلِمُونَهُ بِأَنْ تَعُدُّوهَا مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَتَطْلُبُونَ الزَّكَاةَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ احْتِبَاسِ آلَاتِ الْحَرْبِ حَتَّى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ، وَعَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولَاتِ كَمَا قَالَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَعَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِهِ مِنْ يَدِ الْوَاقِفِ
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَإِلَّا لَمَا اعْتَذَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مُطَالَبَةِ زَكَاةِ مَالِ التِّجَارَةِ عَلَى خَالِدٍ بِهَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَقِيلَ: تَظْلِمُونَهُ بِدَعْوَى مَنْعِ الزَّكَاةِ مِنْهُ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ وَقَفَ تَبَرُّعًا سِلَاحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ قَصَدَ بِاحْتِبَاسِهَا إِعْدَادَهَا لِلْجِهَادِ دُونَ التِّجَارَةِ، وَقِيلَ: تَظْلِمُونَهُ بِطَلَبِ مَا زَادَ عَلَى الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ قَدِ احْتَبَسَ الْأَدْرَاعَ وَالْأَعْتُدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَقِيلَ: بِدَعْوَى أَنَّهُ غَنِيٌّ وَقَدِ احْتَبَسَ مِنْ رَهْنِ أَسْلِحَتِهِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِأَجْلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَـ " فِي " تَعْلِيلِيَّةٌ (وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ) أَيْ صَدَقَةُ الْعَبَّاسِ لِلسَّنَةِ الذَّاهِبَةِ (عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا) أَيْ مِثْلُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ فِي كَوْنِهَا فَرِيضَةً عَامٌ آخَرُ، لَا فِي السِّنِينَ وَالْقَدْرِ، قِيلَ: أَخَّرَ عَنْهُ زَكَاةَ عَامَيْنِ لِحَاجَةٍ بِالْعَبَّاسِ، وَتَكَفَّلَ بِهَا عَنْهُ، وَيُعَضِّدُهُ مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَهَا عَلَيْهِ وَضَمَّنَهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يَقْبِضْهَا وَكَانَتْ دَيْنًا عَلَى الْعَبَّاسِ لِأَنَّهُ رَأَى بِهِ حَاجَةً، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى السَّاعِي قُلْتُ أَحْوَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مِنْ خَصَائِصِهِ فَلَا يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ اهـ وَلَا مَنْعَ إِذَا رَأَى الْخَلِيفَةُ مِثْلَ هَذَا فِي بَعْضِ رَعَايَاهُ رِعَايَةً لِحَالِهِ مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى عَدَمِ فَوْتِ مَالِهِ، وَقِيلَ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ سَنَتَيْنِ تَقْدِيمًا عَامَ شَكَا الْعَامِلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنَّا تَسَلَّفْنَا مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ "، وَرُوِيَ: إِنَّا تَعَجَّلْنَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِالْحَمْلِ عَلَى وُقُوعِ الْقَضِيَّتَيْنِ (ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَمَا نَافِيَةٌ، أَيْ مَا عَلِمْتَ (أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ النُّونِ، أَيْ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ، إِذْ يُقَالُ لِنَخْلَتَيْنِ نَبَتَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ صِنْوَانٌ، وَلِأَحَدِهِمَا صِنْوٌ، وَالْمَعْنَى أَمَا تَنَبَّهْتَ أَنَّهُ عَمِّي وَأَبِي، فَكَيْفَ تَتَّهِمُهُ بِمَا يُنَافِي حَالَهُ، لَعَلَّ لَهُ عُذْرًا، وَأَنْتَ تَلُومُهُ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا تُؤْذِهِ رِعَايَةً لِجَانِبِي (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
1779 -
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَخَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِى اللَّهُ، فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقْرًا لَهُ خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعِرُ "، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغَتُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: " هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ يُتَذَرَّعُ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ، وَكُلُّ دَخِيلٍ فِي الْعُقُودِ يُنْظَرُ هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ كَحُكْمِهِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ أَمْ لَا. هَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
ــ
1779 -
(وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الْأِزْدِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ قَبِيلَةٌ مِنْ بُطُونِ قَحْطَانَ (يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ) بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّاءِ، فَوْقَهَا نُقْطَتَانِ، وَقَدْ تُفْتَحُ نِسْبَةً إِلَى بَنِي لُتَبٍ، قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هُوَ بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ التَّاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَتَحَهَا، قَالُوا: وَهُوَ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ بِإِسْكَانِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْجَامِعِ: بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَالْمَعْنَى جَعَلَهُ عَامِلًا (عَلَى الصَّدَقَةِ) وَسَاعِيًا فِي أَخْذِهَا (فَلَمَّا قَدِمَ) أَيِ الْمَدِينَةَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْعَمَلِ (قَالَ: هَذَا) إِشَارَةٌ لِبَعْضِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ (لَكُمْ وَهَذَا) إِشَارَةٌ لِبَعْضٍ آخَرَ (أُهْدِيَ لِي فَخَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أَيِ النَّاسَ لِيُعَلِّمَهُمْ وَلِيُحَذِّرَهُمْ مِنْ فِعْلِهِ (فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ شَكَرَهُ شُكْرًا جَزِيلًا (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أَيْ ثَنَاءً جَمِيلًا (ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ (فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالًا مِنْكُمْ) أَيْ أَجْعَلُهُمْ عُمَّالًا (عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ) أَيْ جَعَلَ حَاكِمًا فِيهِ (فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ) أَيْ مِنَ الْعُمَّالِ وَرُوعِيَ فِيهِ الْإِجْمَالُ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَيْنَهُ سِتْرًا وَتَكَرُّمًا عَلَيْهِ (فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ) أُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ وَهِيَ (هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي) أَيْ أُعْطِيَتْ لِي، أَوْ أُرْسِلَتْ إِلَيَّ هَدِيَّةً (فَهَلَّا جَلَسَ) أَيْ لِمَ لَمْ يَجْلِسْ (فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ أَوْ لِلشَّكِّ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِشَأْنِهِ، وَتَحْقِيرٌ لَهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ التَّعْظِيمُ مِنْ حَيْثُ عَمَلِهِ (فَيَنْظُرَ) بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ قَوْلِهِ فَهَلَّا يَجْلِسُ أَيْ فَيَرَى أَوْ يَنْتَظِرُ (أَيُهْدَى لَهُ) أَيْ شَيْءٌ فِي بَيْتِهِ الْأَصْلِيِّ (أَمْ لَا) لِعَدَمِ الْبَاعِثِ الْعَرَضِيِّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يُعْطِهِ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا لِطَمَعٍ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ زَكَاتِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنَّهُ يُعْطَى لِغَيْرِ هَذَا الْغَرَضِ أَيْضًا، لَكِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُعْطَى مِنْ حَيْثُ الْعَمَلِ، وَلَهُ أُجْرَةُ الْعَمَلِ مِنْ هَذَا الْمَالِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَهُوَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ، وَمَا أُعْطِي لَهُ يَكُونُ دَاخِلًا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ (وَالَّذِي نَفْسِي) أَيْ ذَاتِي أَوْ رُوحِي (بِيَدِهِ) أَيْ بِقَبْضَةِ تَصَرُّفِهِ (لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ) أَيْ خُفْيَةً أَوْ عَلَانِيَةً (مِنْهُ) أَيْ مَالِ الصَّدَقَةِ (شَيْئًا) أَيْ أَصَالَةً أَوْ تَبَعًا (إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ صَارَ سَبَبًا لِمَجِيئِهِ (يَحْمِلُهُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (عَلَى رَقَبَتِهِ) أَيْ تَشْهِيرًا
أَوِ افْتِضَاحًا، قِيلَ فِي الْآيَةِ {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] وَأُجِيبُ بِأَنَّ الظُّهُورَ يَشْمَلُ مَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا، أَوْ ذَاكَ فِي أَوْزَارِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا فِي أَوْزَارِ الْفُجَّارِ، لِمَزِيدِ قُبْحِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهَا حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ عِبَادِهِ (إِنْ كَانَ) أَيِ الْمَأْخُوذُ (بَعِيرًا لَهُ) أَيْ لِلْبَعِيرِ (رُغَاءً) بِضَمِّ الرَّاءِ صَوْتٌ لِلْبَعِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فَلَهُ رُغَاءٌ فَحَذَفَ الْفَاءَ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَهُوَ سَائِغٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ شَائِعٍ. اهـ (أَوْ بَقَرًا لَهُ خُوَارٌ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ صَوْتُ الْبَقَرِ (أَوْ شَاةً) بِالنَّصْبِ (تَيْعِرُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَفَتْحِهَا أَيْ تَصِيحُ لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْعَرَصَاتِ فَيَكُونُ أَشْهَرَ فِي فَضِيحَتِهِ وَأَكْثَرَ فِي سَلَامَتِهِ (ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ) أَيْ وَبَالَغَ فِي رَفْعِهِمَا (حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ) أَيْ بَيَاضَهُمَا، وَالْعُفْرَةُ بِالضَّمِّ بَيَاضٌ لَيْسَ بِخَالِصٍ، وَلَكِنْ كَلَوْنِ الْعُفَرِ بِالتَّحْرِيكِ، أَيِ التُّرَابِ، أَرَادَ مَنْبَتَ الشَّعْرِ مِنَ الْإِبِطَيْنِ لِمُخَالَطَةِ بَيَاضِ الْجِلْدِ سَوَادَ الشَّعْرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ نَتْفِ الشَّعْرِ، أَوْ حَلْقِهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يُرَى مِنَ الْبُعْدِ (ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) أَيِ الْوَعِيدَ أَوْ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّقْرِيرِ، وَقِيلَ هَلْ بِمَعْنَى قَدْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي قَوْلِهِ: هَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ) كَذَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ إِمَّا كَذَا فِي رِوَايَتِهِ، وَإِمَّا نُقِلَ بِالْمَعْنَى، وَلَكِنْ مُقْتَضَى الْمَقَامِ تَقْدِيمُ الْأَبِ فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِزِيَادَةِ الْإِكْرَامِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ " بَيْتِ أُمِّهِ " مَحْمُولًا عَلَى التَّنَزُّلِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَيْسَ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ، فَفِيهِ تَهْجِينٌ لِحَالِهِ (فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إِلَيْهِ) وَهَذَا أَيْضًا تَفْسِيرٌ لَهُ، أَوْ نَقْلٌ مَعْنَوِيٌّ أَوْ رِوَايَةٌ (أَمْ لَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ يُتَذَرَّعُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ يُتَوَسَّلُ (بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ فَهُوَ مَحْظُورٌ) أَيْ مَمْنُوعٌ وَمُحَرَّمٌ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْقَرْضُ يَجُرُّ الْمَنْفَعَةَ، وَالدَّارُ الْمَرْهُونَةُ يَسْكُنُهَا الْمُرْتَهِنُ بِلَا كِرَاءٍ، وَالدَّابَّةُ الْمَرْهُونَةُ يَرْكَبُهَا أَوْ يَرْتَفِقُ بِهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ (وَكُلُّ دَخِيلٍ) بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ أَيْ كُلُّ عَقْدٍ يَدْخُلُ (فِي الْعُقُودِ) وَيُضَمُّ إِلَى بَعْضِهَا (يَنْظُرُ) أَيْ فِيهِ (هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ كَحُكْمِهِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ أَمْ لَا) فَعَلَى الْأَوَّلِ يَصِحُّ، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَصِحُّ كَمَا إِذَا بَاعَ مِنْ أَحَدٍ مَتَاعًا يُسَاوِي عَشْرَةً بِمِائَةٍ لِيُقْرِضَهُ أَلْفًا مَثَلًا يَدْفَعُ رِبْحَهُ إِلَى ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَمَنْ رَهَنَ دَارًا بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ وَأَجَّرَهُ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ فَقَدِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَعْضَ أُمَّتِهِ يَرْتَكِبُونَ هَذَا الْمَحْظُورَ بَالَغَ حَيْثُ قَالَ: " اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ " مَرَّتَيْنِ (هَكَذَا) أَيْ نَقَلَهُ الْبَغَوِيُّ عَنْهُ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) وَعَلَيْهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي الْمُوَطَّأِ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا أَنَّ الرَّجُلَ يُعْطِي صَاحِبَهُ الذَّهَبَ الْجَيِّدَ وَيَجْعَلُ مَعَهُ رَدِيئًا، وَيَأْخُذُ مِنْهُ ذَهَبًا مُتَوَسِّطًا مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَقَالَ: هَذَا لَا يَصْلُحُ لِأَنَّهُ أَخَذَ فَضْلَ جَيِّدِهِ مِنَ الرَّدِيءِ وَلَوْلَاهُ لَمْ يُبَايِعْهُ. اهـ وَمَا قَالَهُ فِي الْكُلِّيَّةِ الْأُولَى فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِنَا، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرِّرَةِ أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ، فَوَسِيلَةُ الطَّاعَةِ طَاعَةٌ، وَوَسِيلَةُ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ مِنَ الْكُلِّيَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا يَلِيقُ بِمَذْهَبِ مَنْ مَنَعَ الْحِيَلَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الرِّبَا، أَوْ غَيْرِهِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ يَرَى إِبَاحَةَ الْحِيَلِ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الدَّخِيلِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَ عَامِلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، وَقَدْ قَالَ لَهُ: إِنَّهُ يُشْتَرَى صَاعُ تَمْرٍ جَيِّدٍ بِصَاعَيْ رَدِيءٍ حِيلَةٌ تُخْرِجُهُ عَنِ الرِّبَا، وَهِيَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِدَرَاهِمَ وَيَشْتَرِيَ بِهَا الْجَيِّدَ، فَافْهَمْ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ تَوَسَّطَ فِي مُعَامَلَةٍ أَخْرَجَهَا عَنِ الْمُعَامَلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الرِّبَا جَائِزٌ، هَذَا وَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ أَنَّ مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا وَلَيْسَ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَيَاءَ مِنَ النَّاسِ كَأَنْ سُئِلَ بِحَضْرَتِهِمْ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ لَمْ يُعْطَهُ، الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِهِ مِثْلَ هَذَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُكْرَهٌ بِسَبَبِ الْحَيَاءِ، فَهُوَ كَالْمُكْرَهِ بِالسَّيْفِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا مُدَارَاةً عَنْ عِرْضِهِ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، وَكَذَا مَنْ أَعْطَى حَاكِمًا أَوْ سَاعِيًا أَوْ أَسِيرًا شَيْئًا عَلِمَ الْمُعْطَى مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ لَهُ بِالْحَقِّ أَوْ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْحَقَّ إِلَّا إِنْ أَخَذَ شَيْئًا فَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ وَمَا أَشْبَهَهَا لَا يَمْلِكُ الْآخِذُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ» ، وَلِضَعْفِ دَلَالَةِ الْإِعْطَاءِ عَلَى الْمِلْكِ أَثَرُ الْقَصْدِ الْمُخْرِجِ لَهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ بِخِلَافِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ دَالٌّ قَوِيٌّ عَلَى الْمِلْكِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ قَصْدٌ قَارَنَهُ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ هَاهُنَا صَالِحٌ، وَهُوَ التَّخَلُّصُ عَنِ الرِّبَا، وَفِي تِلْكَ الصُّوَرِ فَاسِدٌ، وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
1780 -
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
1780 -
(وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ) أَيْ جَعَلْنَاهُ عَامِلًا (عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا) أَيْ أَخْفَى عَلَيْنَا (مِخْيَطًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ أَيْ إِبْرَةً (فَمَا فَوْقَهُ) أَيْ فَشَيْئًا يَكُونُ فَوْقَهُ فِي الصِّغَرِ أَوِ الْكِبَرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ " فَمَا فَوْقَهُ " لِلتَّعْقِيبِ عَلَى التَّوَالِي، وَمَا فَوْقَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَعْلَى أَوِ الْأَدْنَى كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] وَذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ اسْتِطْرَادًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي ذِكْرِ الْعَمَلِ وَالْخِيَانَةِ (كَانَ) أَيْ ذَلِكَ الْكِتْمَانُ (غُلُولًا) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ أَيْ خِيَانَةً فِي الْغَنِيمَةِ (يَأْتِي بِهِ) أَيْ بِمَا غَلَّ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تَفْضِيحًا لَهُ، قَالَ - تَعَالَى - {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
1781 -
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
1781 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] أَيْ يَجْمَعُونَهَا أَوْ يَدْفِنُونَهَا {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] كَبُرَ بِضَمِّ الْبَاءِ أَيْ شَقَّ وَصَعُبَ (ذَلِكَ) أَيْ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ الْعُمُومِ (عَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّهُ يَمْنَعُ جَمْعَ الْمَالِ مُطْلَقًا وَأَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَثَّلَ مَالًا جَلَّ أَوْ قَلَّ فَالْوَعِيدُ لَاحِقٌ بِهِ (فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (أَنَا أُفَرِّجُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ أُزِيلُ الْغَمَّ وَالْهَمَّ (عَنْكُمْ) وَآتَى بِالْفَرَجِ لَكُمْ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَقَدْ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ (فَانْطَلَقَ) أَيْ فَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنَ (كَبُرَ) أَيْ عَظُمَ (عَلَى أَصْحَابِكَ هَذِهِ الْآيَةُ) أَيْ حُكْمُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ مَنْعِ الْجَمْعِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ) بِالتَّذْكِيرِ أَوِ التَّأْنِيثِ أَيْ لِيُحِلَّ اللَّهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ لَكُمْ (مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ) قَالَ - تَعَالَى - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَمَعْنَى التَّطَيُّبِ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ إِمَّا أَنْ يُحِلَّ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ الْمَخْلُوطِ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ وَإِمَّا أَنْ يُزَكِّيَهُ مِنْ تَبِعَةِ مَا لَحِقَ بِهِ مِنْ إِثْمِ مَنْعِ حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَنْزِ مَنْعُ الزَّكَاةِ لَا الْجَمْعُ مُطْلَقًا (وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ) عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ " قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَيْسَتْ فِي الْمَصَابِيحِ لَكِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِكَذَا، وَلَمْ يَفْرِضِ الْمَوَارِيثَ إِلَّا لِيَكُونَ طَيِّبًا، لِمَنْ يَكُونُ بَعْدَكُمْ، وَالْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْجَمْعُ مَحْظُورًا مُطْلَقًا لَمَا افْتَرَضَ اللَّهُ الزَّكَاةَ وَلَا الْمِيرَاثَ وَقَوْلُ (وَذَكَرَ كَلِمَةً) مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - أَيْ وَذَكَرَ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً أُخْرَى فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا أَضْبِطُهَا، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَعِلَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (لِتَكُونَ) أَيْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ لِتَكُونَ الْمَوَارِيثُ (طَيِّبَةً لِمَنْ بَعْدَكُمْ فَقَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (فَكَبَّرَ عُمَرُ) أَيْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَرَحًا، لِكَشْفِ الْحَالِ وَرَفْعِ الْإِشْكَالِ (ثُمَّ قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَهُ) أَيْ لِعُمَرَ (أَلَا أُخْبِرُكَ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَلَا لِلتَّنْبِيهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامِيَّةً وَلَا نَافِيَةً (بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ) أَيْ بِأَفْضَلِ مَا يَقْتَنِيهِ وَيَتَّخِذُهُ لِعَاقِبَتِهِ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنْ لَا وِزْرَ فِي جَمْعِ الْمَالِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَرَأَى فَرَحَهُمْ بِذَلِكَ، رَغَّبَهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَهُوَ التَّقَلُّلُ وَالِاكْتِفَاءُ بِالْبُلْغَةِ (الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) أَيِ الْجَمِيلَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَيَانٌ، قِيلَ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَنْفَعُ مِنَ الْكَنْزِ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا يَدَّخِرُهَا الرَّجُلُ، لِأَنَّ النَّفْعَ فِيهَا أَكْثَرُ لِأَنَّهُ (إِذَا نَظَرَ) أَيِ الرَّجُلُ (إِلَيْهَا سَرَّتْهُ) أَيْ جَعَلَتْهُ مَسْرُورًا - بِجَمَالِ صُورَتِهَا، وَحُسْنِ سِيرَتِهَا، وَحُصُولِ حِفْظِ الدِّينِ بِهَا، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ حَصَّنَ ثُلْثَيْ دِينِهِ» " وَقَدْ يُؤَدِّي حُسْنُ صُورَتِهَا إِلَى مُشَاهَدَةِ التَّجَلِّيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْلَى مَقَاصِدِ
الصُّوفِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَمَّا قِيلَ لِلْجُنَيْدِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ: أَلَا تَتَزَوَّجُ؟ ! فَقَالَ: إِنَّمَا تَصْلُحُ الْمَرْأَةُ لِمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جَمَالِ اللَّهِ فِيهَا (وَإِذَا أَمَرَهَا) بِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ (أَطَاعَتْهُ) وَخَدَمَتْهُ (وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ) وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: فِي نَفْسِهِ، أَيْ لَهُ حَقُّ زَوْجِهَا مِنْ بُضْعِهَا وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهَا، وَكَذَا بَيْتُ زَوْجِهَا وَمَالُهُ وَوَلَدُهُ، فَهَذِهِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ، قَالَ الْقَاضِي: لَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَكَنْزِهِ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَرَأَى اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِ، رَغَّبَهُمْ عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الْجَمِيلَةُ فَإِنَّ الذَّهَبَ لَا يَنْفَعُكَ إِلَّا بَعْدَ الذَّهَابِ عَنْكَ، وَهِيَ مَا دَامَتْ مَعَكَ تَكُونُ رَفِيقَكَ، تَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَسُرُّكَ، وَتَقْضِي عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَطَرَكَ، وَتُشَاوِرُهَا فِيمَا يَعِنُّ لَكَ فَتَحْفَظُ عَلَيْكَ سِرَّكَ، وَتَسْتَمِدُّ مِنْهَا فِي حَوَائِجِكَ، فَتُطِيعُ أَمْرَكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا تُحَامِي مَالَكَ وَتُرَاعِي عِيَالَكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا أَنَّهَا تَحْفَظُ بَذْرَكَ، وَتُرَبِّي زَرْعَكَ، فَيَحْصُلُ لَكَ بِسَبَبِهَا وَلَدٌ، يَكُونُ لَكَ وَزِيرًا فِي حَيَاتِكَ، وَخَلِيفَةً بَعْدَ وَفَاتِكَ، لَكَانَ لَهَا بِذَلِكَ فَضْلٌ كَثِيرٌ. اهـ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِمَا بُيِّنَ أَنَّ جَمْعَ الْمَالِ مُبَاحٌ لَهُمْ ذُكِرَ أَنَّ صَرْفَهُ إِلَى مَا يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خَيْرٌ وَأَبْقَى فَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى كَرَاهِيَةِ جَمْعِ الْمَالِ، وَلِذَا قَالَ: الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَيَجْمَعُهَا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا الْمُرَادُ بِالْكَنْزِ الْمَذْمُومِ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ وَإِنْ لَمْ تَدْفِنْ، فَإِنْ أَدَّيْتَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ دُفِنَ، لِمَا فِي حَدِيثٍ سَنَدُهُ حَسَنٌ:«مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ: أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى الْكَنْزِ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: أَمَّا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ إِنَّ الْكَنْزَ فِي الْآيَةِ مَا لَمْ يُنْفَقْ مِنْهُ فِي الْغَزْوِ، وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ إِنَّهُ الدَّفْنُ فَهُوَ غَلَطٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَمْ يَعْتَرِضْهُ الْمُنْذِرِيُّ قَالَهُ مِيرَكُ.
1782 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «سَيَأْتِيكُمْ رُكَيْبٌ مُبَغَّضُونَ، فَإِذَا جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ، وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهِمْ، وَأَرْضُوهُمْ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ، وَلْيَدْعُوا لَكُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. .
ــ
1782 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَيَأْتِيكُمْ رُكَيْبٌ) تَصْغِيرُ رَكْبٍ وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لِلرَّاكِبِ، فَلِذَا صُغِّرَ عَلَى لَفْظِهِ، وَلَوْ كَانَ جَمْعًا لِرَاكِبٍ كَمَا قِيلَ لِقِيلَ: رُوَيْكِبُونَ أَيْ سُعَاةٌ وَعُمَّالٌ لِلزَّكَاةِ (مُبَغَّضُونَ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ يُبْغَضُونَ طَبْعًا لَا شَرْعًا، لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَحْبُوبَ قُلُوبِهِمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْعُمَّالِ سَيْءَ الْخُلُقِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ (فَإِذَا جَاءُوكَهُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ) أَيْ قُولُوا لَهُمْ مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَسَهْلًا، وَأَظْهِرُوا الْفَرَحَ بِقُدُومِهِمْ، وَعَظِّمُوهُمْ (وَخَلُّوا) أَيِ اتْرُكُوا (بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ) أَيْ مَا يَطْلُبُونَ مِنَ الزَّكَاةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي لَا تَمْنَعُوهُمْ وَإِنْ ظَلَمُوكُمْ، لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ مُخَالَفَةُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ مِنْ جِهَتِهِ، وَمُخَالَفَةُ السُّلْطَانِ تُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ. اهـ، وَهُوَ كَلَامُ الْمُظْهِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَمَّ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُخَالَفَةَ لَجَازَ الْكِتْمَانُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ؟ قَالَ:" لَا "(فَإِنْ عَدَلُوا) أَيْ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ (فَلِأَنْفُسِهِمْ) أَيْ فَلَهُمُ الثَّوَابُ (وَإِنْ ظَلَمُوا) بِأَخْذِ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْكُمْ أَوْ أَفْضَلَ أَيْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ أَوْ عَلَى زَعْمِكُمْ (فَعَلَيْهِمْ) وَفِي الْمَصَابِيحِ: فَعَلَيْهَا، أَيْ فَعَلَى أَنْفُسِهِمْ إِثْمُ ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَلَكُمُ الثَّوَابُ بِتَحَمُّلِ ظُلْمِهِمْ (وَأَرْضُوهُمْ) أَيِ اجْتَهِدُوا فِي إِرْضَائِهِمْ مَا أَمْكَنَ بِأَنْ تُعْطُوهُمُ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ وَلَا غِشٍّ وَلَا خِيَانَةٍ (فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ) أَيْ كَمَالَهَا (رِضَاهُمْ) بِالْقَصْرِ وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ حُصُولُ رِضَاهُمْ (وَلْيَدْعُوا) بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا (لَكُمْ) وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ لِقَابِضِ الزَّكَاةِ سَاعِيًا أَوْ مُسْتَحِقًّا أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُزَكِّي، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ الْمَفْتُوحَةُ لِلتَّعْلِيلِ، وَالتَّقْدِيرُ أَرْضُوهُمْ لِتَتِمَّ زَكَاتُكُمْ وَلْيَدْعُوا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِرْضَاءَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدُّعَاءِ، وَوُصُولِ الْقَبُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ " مُبَغَّضُونَ " أَوْجَهُ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ " سَيَأْتِيكُمْ " إِلَخْ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ عُمَّالُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْصُرُهُ شَكْوَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْتَعْمِلُ ظَالِمًا، فَالْمَوْتُ أَنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ عُمَّالٌ يَطْلُبُونَ مِنْكُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، فَتُبَغِّضُونَهُمْ وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ، وَلَيْسُوا بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ " وَإِنْ عَدَلُوا "، " وَإِنْ ظَلَمُوا " مَبْنَيٌّ عَلَى هَذَا الزَّعْمِ، وَلَوْ كَانُوا ظَالِمِينَ فِي الْحَقِيقَةِ كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ " وَيَدْعُوا لَكُمْ " (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ الْغِفَارِيُّ، قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ضَعِيفٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ: ثِقَةٌ.
1783 -
وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَ نَاسٌ - يَعْنِي مِنَ الْأَعْرَابِ - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُصَدِّقِينَ يَأْتُونَا فَيَظْلِمُونَا، فَقَالَ: " أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ ظَلَمُونَا؟ قَالَ: " أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ، وَإِنْ ظُلِمْتُمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1783 -
(وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ - يَعْنِي مِنَ الْأَعْرَابِ -) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي عَنْ جَرِيرٍ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَكَسْرِ الدَّالِّ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ عَامِلُ الزَّكَاةِ (يَأْتُونَا فَيَظْلِمُونَا) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا فِيهِمَا (فَقَالَ: أَرْضُوا) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ (مُصَدِّقِيكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ ظَلَمُونَا) أَيْ نُرْضِيهِمْ وَلَوْ كَانُوا ظَالِمِينَ عَلَيْنَا (قَالَ: أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ وَإِنْ ظُلِمْتُمْ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ وَإِنِ اعْتَقَدْتُمْ أَنَّكُمْ مَظْلُومُونَ بِسَبَبِ حُبِّكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَظْلُومِينَ حَقِيقَةً يَجِبُ إِرْضَاؤُهُمْ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِرْضَاؤُهُمْ وَإِنْ كَانُوا مَظْلُومِينَ حَقِيقَةً، لِقَوْلِهِ فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِهِمْ رِضَاؤُهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ لَفْظَةَ إِنِ الشُّرْطِيَّةِ هُنَا تَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ لَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ» "(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ.
1784 -
«وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَّةِ قَالَ: قُلْنَا أَنَّ أَهْلَ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ؟ قَالَ: " لَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1784 -
(وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيِّةِ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ بَشِيرُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَقِيلَ: بَشِيرُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَصَاصِيَّةِ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَقِيلَ: مَنْسُوبَةٌ إِلَى خَصَاصَ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَنْ أَزْدٍ (قَالَ: قُلْنَا إِنَّ أَهْلَ الصَّدَقَةِ) أَيْ أَهْلَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْعُمَّالِ (يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا) أَيْ يَظْلِمُونَ وَيَتَجَاوَزُونَ وَيَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْنَا (أَفَنَكْتُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ؟ قَالَ: لَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ كِتْمَانَ بَعْضِ الْمَالِ خِيَانَةٌ، وَمَكْرٌ; وَلِأَنَّهُ لَوْ رَخَّصَ لَرُبَّمَا كَتَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى عَامِلٍ غَيْرِ ظَالِمٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
1785 -
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ كَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
1785 -
(وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ) مُتَعَلِّقٌ بِالْعَامِلِ أَيْ عَمَلًا بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ، أَوْ بِالْإِخْلَاصِ وَالِاحْتِسَابِ (كَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ فِي تَحْصِيلِ بَيْتِ الْمَالِ، وَاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ فِي تَمْشِيَةِ أَمْرِ الدَّارَيْنِ (حَتَّى يَرْجِعَ) أَيِ الْعَامِلُ (إِلَى بَيْتِهِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
1786 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
1786 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) قِيلَ: إِنْ أَرَادَ جَدُّهُ مُحَمَّدًا فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ أَرَادَ جَدَّ شُعَيْبٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ فَشُعَيْبٌ لَمْ يُدْرِكْ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يُذْكَرْ حَدِيثُهُ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ هَكَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقِيلَ: إِنَّ شُعَيْبًا أَدْرَكَ جَدَّهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ أَيْضًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَنْ جَدِّهِ أَيْ جَدِّ أَبِيهِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ، أَوْ جَدِّ عَمْرٍو فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا، وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ الْأَوَّلُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الضَّعِيفِ، الَّذِي يُفِيدُ الِاتِّصَالَ، وَإِلَّا فَالصَّحِيحُ أَنَّ حَدِيثَهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالِانْقِطَاعِ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا جَلَبَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ لَا يَقْرَبُ الْعَامِلُ أَمْوَالَ النَّاسِ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ يَنْزِلَ السَّاعِي مَحَلًّا بَعِيدًا عَنِ الْمَاشِيَةِ، ثُمَّ يَحْضُرُهَا، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى مِيَاهِهِمْ أَوْ أَمْكِنَةِ مَوَاشِيهِمْ لِسُهُولَةِ الْأَخْذِ حِينَئِذٍ، وَيُطْلَقُ الْجَلَبُ أَيْضًا عَلَى حَثِّ فَرَسِ السِّبَاقِ عَلَى قُوَّةِ الْجَرْيِ - بِمَزِيدِ الصِّيَاحِ عَلَيْهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِضْرَارِ الْفَرَسِ (وَلَا جَنَبَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ لَا يُبْعِدُ صَاحِبُ الْمَالِ الْمَالَ بِحَيْثُ تَكُونُ مَشَقَّةٌ عَلَى الْعَامِلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَا يَنْزِلُ السَّاعِي بِأَقْصَى مَحَالِّ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِالْأَمْوَالِ أَنْ تُجَنَّبَ إِلَيْهِ أَيْ تُحْضَرَ. اهـ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَلَبِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَلَا يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ أَغْرَبَ حَيْثُ ذَكَرَ
هَذَا الْمَعْنَى أَوَّلًا مُؤَدِّيًا بِقِيلَ تَبَعًا لِلطِّيبِيَّ، ثُمَّ قَالَ: وَوَجْهُ النَّهْىِ عَنْ هَذَا وَاضِحٌ أَيْضًا، فَلَعَلَّ تَضْعِيفُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لَا غَيْرَ. اهـ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ أَيْضًا أَنْسَبُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى السِّبَاقِ بِأَنْ يُجَنِّبَ فَرَسًا إِلَى الْفَرَسِ الَّذِي سَابَقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَتَرَ الْمَرْكُوبُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَجْنُوبِ، قِيلَ: وَكَانَ وَجْهُ النَّهْيِ عَنْهُ أَنَّ السِّبَاقَ بِمَا هُوَ لِبَيَانِ اخْتِبَارِ قُوَّةِ الْفَرَسِ، وَبِهَذَا الْفِعْلِ لَا يُعْرَفُ قُوَّةُ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرَسَيْنِ، فَرُبَّ فَرَسٍ تَوَانَى أَوَّلًا فِي الْإِثْنَاءِ ثُمَّ سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكِلَا اللَّفْظَيْنِ مُشْتَرِكٌ فِي مَعْنَى السِّبَاقِ وَالزَّكَاةِ، وَالْقَرِينَةُ الْمُوَضِّحَةُ لِأَدَاءِ الْمَعْنَى الثَّانِي قَوْلُهُ (وَلَا تُؤْخَذُ) بِالتَّأْنِيثِ وَتُذَكَّرُ (صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ) أَيْ مَنَازِلِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ وَمِيَاهِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ كَنَّى بِهَا عَنْهُ فَإِنَّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فِي دَوْرِهِمْ لَازِمٌ لِعَدَمِ بُعْدِ السَّاعِي عَنْهَا فَيُجْلَبُ إِلَيْهِ، وَلِعَدَمِ بُعْدِ الْمُزَكِّي فَإِنَّهُ إِذَا بَعُدَ عَنْهَا لَمْ يُؤْخَذْ فِيهَا. اهـ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ مُؤَكِّدٌ لِأَوَّلِهِ، أَوْ إِجْمَالٌ لِتَفْصِيلِهِ، لَكِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُقَرِّرَةَ أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ، تُفِيدُ أَنَّ النَّفْيَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ سَابِقٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، ثُمَّ الْجَامِعُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُنَاسَبَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَهِيَ عَدَمُ الضَّرَرِ وَالْإِضْرَارِ مِنَ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَسْرَارِ النَّبَوِيَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
1787 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّهُمْ وَقَفُوهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ.
ــ
1787 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا) أَيْ وَجَدَهُ وَحَصَّلَهُ وَاكْتَسَبَهُ ابْتِدَاءً (فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي مَنْ وَجَدَ مَالًا وَعِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَمَانُونَ شَاةً وَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ حَصَلَ لَهُ أَحَدٌ وَأَرْبَعُونَ شَاةً بِالشِّرَاءِ أَوْ بِالْإِرْثِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِلْأَحَدِ وَالْأَرْبَعِينَ حَتَّى يَتَمَّ حَوْلُهَا مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ، أَوِ الْإِرْثِ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمَالِ الْمَوْجُودِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يَكُونُ الْمُسْتَفَادُ تَبَعًا لَهُ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى الثَّمَانِينَ وَجَبَ الشَّاتَانِ، يَعْنِي كَمَا فِي الْكُلِّ، كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ النِّتَاجُ تَبَعًا لِلْإِمْهَاتِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَذَكَرَ) أَيْ سَمَّى التِّرْمِذِيُّ (جَمَاعَةٌ) أَيْ بِأَسْمَائِهِمْ (أَنَّهُمْ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ ذَكَرَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ عَدَدُهُمْ (وَقَفُوهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (عَلَى ابْنِ عُمَرَ) أَيْ لَمْ يَرْفَعْهُ ابْنُ عُمَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْمَتْنِ، كَمَا وَقَفَهُ وَقَالَ: مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا إِلَخْ، وَفِي الْمَصَابِيحِ الْوَقْفُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ، قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ أَبِي عُمَرَ مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا إِلَخْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَرُوِيَ مَوْقُوفًا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ الْمَدِينِي، وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ كَثِيرُ الْغَلَطِ، هَكَذَا عِبَارَةُ التِّرْمِذِيِّ، وَالَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الْمُصَنِّفَ لَيْسَ فِيهِ، تَأَمَّلْ. اهـ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَقَفُوهُ: لَكِنَّ الْقَاعِدَةَ الْحَدِيثَةَ الْأُصُولِيَّةَ أَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ رَفَعَ ; لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ تُقَوِّي مِنْ وَصْلِهِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لَهُ فَمَحَلُّهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقَانِ صَحِيحَيْنِ، أَوْ حَسَنَيْنِ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِذَا اعْتَمَدَهُ الْأَئِمَّةُ وَجَعَلُوا الدَّلِيلَ لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْحَوْلَ فِيمَا ذُكِرَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَمَتَى خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ عَادَ فَوْرًا بِطَلَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلًا آخَرَ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَتَأَمَّلْ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» "، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» "، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ " فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ ": فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ فَبِحِسَابٍ أَوْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَالْحَارِثُ وَإِنْ كَانَ مُضَعَّفًا لَكِنَّ عَاصِمَ ثِقَةٌ وَقَدْ رَوَى الثِّقَةُ أَنَّهُ رَفَعَهُ مَعَهُ فَوَجَبَ قَبُولُ رَفْعِهِ وَرُدَّ تَصْحِيحُ وَقَفْهِ، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضُمُّ الْمُسْتَفَادُ، بَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ حَوْلٌ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ زَكَّاهُ سَوَاءً كَانَ نِصَابًا أَوْ أَقَلَّ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ جِنْسِهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " مَنِ اسْتَفَادَ ": الْحَدِيثَ
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» "، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ، وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنَ الْأَصْلِ نَفْسِهِ، فَيَنْسَحِبُ حَوْلُهُ عَلَيْهَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، قُلْنَا: لَوْ قُدِّرَ تَسْلِيمُ ثُبُوتِهِ فَعُمُومُهُ لَيْسَ مُرَادًا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خُرُوجِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ، وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ مِمَّا يُعَلَّلُ، وَيَخْرُجُ بِالتَّعْلِيلِ ثَانِيًا، فَعِلَلُنَا بِالْمُجَانَسَةِ، فَقُلْنَا: إِخْرَاجُ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ مِنْ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ ضَمِّهَا إِلَى حَوْلِ الْأَصْلِ لِمُجَانَسَتِهَا إِيَّاهُ، لَا لِلتَّوَلُّدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ الْمُسْتَفَادُ إِذَا كَانَ مُجَانِسًا أَيْضًا، فَيُضَمُّ إِلَى مَا عِنْدَهُ بِمَا يُجَانِسُهُ، فَكَانَ اعْتِبَارُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِهِ فِي أَصْحَابِ الْغَلَّةِ الَّذِينَ يَسْتَغِلُّونَ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّ فِي اعْتِبَارِ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ مِنْ دِرْهَمٍ وَنَحْوِهُ حَرَجًا عَظِيمًا، وَشُرِعَ الْحَوْلُ لِلتَّيْسِيرِ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ، وَعَلَى هَذِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِ اللَّامِ فِي الْحَوْلِ لِلْحَوْلِ الْمَعْهُودِ قِيَامُهُ لِلْأَصْلِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ، بَلْ يَكُونُ لِلْمَعْهُودِ كَوْنُهُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمُسْتَفَادَ ابْتِدَاءً، وَهُوَ النِّصَابُ الْأَصْلِيُّ، أَعْنِي أَوَّلَ مَا اسْتَفَادَهُ، وَغَيْرَهُ، وَالتَّخْصِيصُ وَقَعَ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُجَانِسُ، وَبَقِيَ تَحْتَ الْعُمُومِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَمْ يُجَانِسْ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْأَصْلِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْحَوْلُ مُرَادٌ بِهِ الْمَعْهُودُ الْمُقَدَّرُ.
1788 -
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
1788 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ حَالًا بِمُضِيِّ الْحَوْلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ حَوْلُهَا فَهُوَ حَاصِلُ الْمَعْنَى لَا تَحْقِيقُ الْمَبْنَى (فَرَخَّصَ لَهُ) أَيِ الْعَبَّاسِ (فِي ذَلِكَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ بَعْدَ حُصُولِ النِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ. اهـ، وَكَذَا عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الْفِطْرَةِ بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ اتِّفَاقًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ النِّصَابِ، وَلَا قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ أَنَّ مَالَهُ سَبَبَانِ يُقَدَّمُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا عَلَيْهِمَا، وَزَكَاةُ الْمَالِ لَهَا سَبَبَانِ: مِلْكُ النِّصَابِ، وَتَمَامُ الْحَوْلِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ لَهَا سَبَبَانِ: دُخُولُ رَمَضَانَ، وَإِدْرَاكُ جُزْءٍ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةِ الْعِيدِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ)، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ، هُوَ يَقُولُ الزَّكَاةُ إِسْقَاطُ الْوَاجِبِ، وَلَا إِسْقَاطَ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَصَارَ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ، بِجَمْعِ أَنَّهُ أَدَاءٌ قَبْلَ السَّبَبِ، إِذِ السَّبَبُ هُوَ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ، وَلَمْ يُوجَدْ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ اعْتِبَارَ الزَّائِدِ عَلَى مُجَرَّدِ النِّصَابِ جُزْءٌ مِنَ السَّبَبِ، بَلْ هُوَ النِّصَابُ فَقَطْ، وَالْحَوْلُ تَأْجِيلٌ فِي الْأَدَاءِ بَعْدَ أَصْلِ الْوُجُوبِ، فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَتَعْجِيلُ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ، فَالْأَدَاءُ بَعْدَ النِّصَابِ كَالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ، وَكَصَوْمِ الْمُسَافِرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ بَعْدَ السَّبَبِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مُسَارَعَةً إِلَى الْخَيْرِ، فَأَذِنَ لَهُ ذَلِكَ.
1789 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " «أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، لِأَنَّ الْمُثَنَّى بْنَ الصَّبَّاحِ ضَعِيفٌ.
ــ
1789 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ صَارَ وَلِيَّ يَتِيمٍ (لَهُ مَالٌ) أَيْ عَظِيمٌ بِأَنْ يَكُونَ نِصَابًا، وَلَمَّا حَمَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى مُطْلَقِ الْمَالِ قَالَ فِي قَوْلِهِ " حَتَّى تَأْكُلَهُ " أَيْ مُعْظَمَهُ إِذْ مَا دُونَ النِّصَابِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَأْكُلَ الصَّدَقَةُ مِنْهُ شَيْئًا (فَلْيَتَّجِرْ) بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (فِيهِ) أَيْ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَلْيَتَّجِرْ بِهِ كَقَوْلِكَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ لِأَنَّهُ عُدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ، فَجَعَلَهُ ظَرْفًا لِلتِّجَارَةِ وَمُسْتَقَرِّهَا، وَفَائِدَةُ جَعْلِ الْمَالِ مَقَرًّا لِلتِّجَارَةِ أَنْ لَا يُنْفِقَ مِنْ أَصْلِهِ، بَلْ يُخْرِجُ النَّفَقَةَ مِنَ الرِّبْحِ، وَإِلَيْهِ يُنْظَرُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وَإِلَى قَوْلِهِ {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء: 5](وَلَا بِتَرْكِهِ) بِالنَّهْيِ وَقِيلَ: بِالنَّفْيِ (حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ) أَيْ تُنْقِصَهُ وَتُفْنِيَهِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ سَبَبُ الْإِفْنَاءِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ مِنْهُ فَيَنْقُصَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا زَكَاةَ فِيهِ. اهـ، وَسَيَأْتِي جَوَابُهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ لِأَنَّ الْمُثَنَّى) عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ (ابْنُ الصَّبَّاحِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (ضَعِيفٌ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ:
لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ تَدْلِيسًا وَتَعْمِيَةً، وَإِبْهَامًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْوِيَ هُوَ عَنْ شُعَيْبٍ، وَشُعَيْبٌ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ جَدِّ شُعَيْبٍ، وَهُوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عِمْرَانَ يَرْوِيهِ عَنْ شُعَيْبٍ، وَهُوَ عَنْ جَدِّهِ، فَلَا يَكُونُ مُتَّصِلًا. اهـ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَرَدَ بِأَنَّ الضَّعِيفَ هُوَ وَصْلُهُ، وَأَمَّا إِرْسَالُهُ فَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ لِلْحَدِيثِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ وَالْأُخَرُ ضَعِيفٌ، لِيَصِحَّ هَذَا الْقَوْلُ، بَلْ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ لِاحْتِمَالِ الِاتِّصَالِ وَالْإِرْسَالِ كَوْنُ الرَّاوِي مُدَلِّسًا هَذَا الْحَدِيثَ، لِاحْتِمَالِ الِاتِّصَالِ فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّ عِلَّةَ الضَّعْفِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ لَيْسَتْ إِلَّا كَوْنَ الْمُثَنَّى ضَعِيفًا، وَالْحَدِيثُ مُنْحَصِرٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِلَّا فَالْمُرْسَلُ إِذَا كَانَ صَحِيحًا حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيمَا لَمْ يُعْتَضَدْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدِ اعْتَضَدَ بِعُمُومِ الْخَبَرَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ: خَبَرِ " يَأْخُذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ "، وَخَبَرِ " فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ " فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَامَّةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ بِاجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَضَعِيفٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا يُرْوَى الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، لِأَنَّ الْمُثَنَّى يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّلْقِيحِ: قَالَ مُهَنَّى سَأَلَتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقَانِ آخَرَانِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ بِاعْتِرَافِهِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم مِنَ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يَسْتَلْزِمُ قَوْلَهُ عَنْ سَمَاعٍ، إِذْ يُمْكِنُ الرَّأْيُ فِيهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَيْهِ، فَحَاصِلُهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ عَنِ اجْتِهَادٍ، عَارَضَهُ رَأْيُ صَحَابِيٍّ آخَرَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَنَا أَبُو حَنِيفَةَ حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ زَكَاةٌ، وَلَيْثٌ كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ، وَقِيلَ: اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَكُنْ لِيَذْهَبَ فَيَأْخُذَ عَنْهُ حَالَ اخْتِلَاطِهِ، وَيَرْوِيهِ، وَهُوَ الَّذِي شَدَّدَ أَمْرَ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُشَدِّدْهُ غَيْرُهُ، عَلَى مَا عُرِفَ، وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، مَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. اهـ، مُلَخَّصُهَا.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
1790 -
ــ
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
1790 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ مَاتَ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ جُعِلَ خَلِيفَةً (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ وَفَاتِهِ (وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ) إِمَّا تَغْلِيظٌ أَوْ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَإِنْكَارُ وُجُوبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كُفْرٌ اتِّفَاقًا ; بَلْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ إِنْكَارَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ كَفْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا أَوِ الْمَعْنَى قَارَبُوا الْكُفْرَ أَوْ شَابَهُوا الْكُفَّارَ، أَوْ أَرَادَ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ (مِنَ الْعَرَبِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ غَطَفَانَ وَفَزَارَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَغَيْرَهَمْ، مَنَعُوا الزَّكَاةَ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَاعْتَرَضَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ الْآتِي، وَأَبُو بَكْرٍ جَعَلَهُمْ كُفَّارًا لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ، أَوْ أَتَوْا بِشُبْهَةٍ فِي الْمَنْعِ، فَيَكُونُ تَغْلِيظًا، وَعُمَرُ أَجْرَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ. اهـ، وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي مَا رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّي زَكَاتَنَا لِمَنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ سَكَنًا لَنَا، وَالْآنَ قَدْ ذَهَبَ بِوَفَاتِهِ عليه السلام فَلَا نُؤَدِّيهَا لِغَيْرِهِ، أَيْ لَمَّا أَنْ عَزَمَ عَلَى قِتَالِهِمْ (قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَأَبَى بَكْرٍ رضي الله عنهما: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) كِنَايَةً عَنِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ الْمُشْرِكُونَ (فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) يَعْنِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ وَهِيَ لَا اللَّهُ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ وَحْدَهَا (عَصَمَ) بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ حَفِظَ وَمَنَعَ (مِنِّي) أَيْ مِنْ تَعَرُّضِي أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ) أَيْ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ لِمَالِهِ وَنَفْسِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، إِلَّا بِحَقِّهِ أَيْ بِحَقِّ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ بِحَقِّ أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ
(وَحِسَابُهُ) أَيْ جَزَاؤُهُ وَمُحَاسَبَتُهُ (عَلَى اللَّهِ) بِأَنَّهُ مُخْلِصٌ أَمْ لَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ نَتْرُكُ مُقَاتَلَتَهُ، وَلَا نُفَتِّشُ بَاطِنَهُ، هَلْ هُوَ مُخْلِصٌ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ (بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) أَيِ الْمَقْرُونَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ الْمَوْجُودَتَيْنِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَهَذَا أَظْهَرُ فِي اسْتِدْلَالِ أَبِي بَكْرٍ (فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ) أَيْ كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ النَّفْسِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي الْحَقَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ " إِلَّا بِحَقِّهِ " أَعَمَّ مِنَ الْمَالِ، وَغَيْرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّ عُمَرَ حَمَلَ قَوْلَهُ بِحَقِّهِ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ صَحَّ اسْتِدْلَالُهُ بِالْحَدِيثِ، فَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ شَامِلٌ لِلزَّكَاةِ أَيْضًا، أَوْ تَوَهَّمَ عُمَرُ أَنَّ الْقِتَالَ لِلْكُفْرِ، فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ لَا لِلْكُفْرِ اهـ، وَلَا مُسْتَدَلَّ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ بِأَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ فَإِنَّ الْفَرْقَ ظَاهِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِتَالِ لِقَوْمٍ تَرَكُوا شِعَارَ الْإِسْلَامِ بِتَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدًا مِنْ أَصْحَابِنَا جَوَّزَ الْقِتَالَ لِقَوْمٍ تَرَكُوا الْأَذَانَ فَضْلًا عَنِ الْأَرْكَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الْآيَةَ يُوجِبُ حَقَّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا لِلْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ وَظَهَرَ تَغَيُّرُ النَّاسِ كَرِهَ أَنْ يُفَتِّشَ السُّعَاةُ عَلَى النَّاسِ مَسْتُورَ أَمْوَالِهِمْ فَفَوَّضَ الدَّفْعَ إِلَى الْمُلَّاكِ نِيَابَةً عَنْهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ طَلَبَ الْإِمَامِ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمْ طَالَبَهُمْ بِهَا (وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي) أَيْ بِالْمَنْعَةِ وَالْغَلَبَةِ (عَنَاقًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيِ الْأُنْثَى لَمْ تَبْلُغْ سِتَّةً مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ، وَذَكَرَهَا مُبَالَغَةً، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي رِوَايَةٍ: عَقَالًا، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَصَحُّهَا وَأَقْوَاهَا قَوْلُ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ أَنَّهُ وَرَدَ مُبَالَغَةً، لِأَنَّ الْكَلَامَ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّضْيِيقِ وَالتَّشْدِيدِ، فَيَقْتَضِي قِلَّةً وَحَقَارَةً، فَانْدَفَعَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ قَوْلِهِ: وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا فِي الصِّغَارِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، فَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ مَا فِي أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ «عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: أَتَانِي مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِيَّ، يَعْنِي كِتَابِي أَنْ لَا آخُذَ رَاضِعَ لَبَنٍ» . . الْحَدِيثَ، قَالَ: وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ لَا يُعَارِضُهُ لِأَنَّ أَخْذَ الْعَنَاقِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ مِنَ الصِّغَارِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ " فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ " أَنَّ الْعَنَاقَ يُقَالُ عَلَى الْجَزِعَةِ وَالثَّنِيَّةِ، وَلَوْ مَجَازًا، فَارْجِعْ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ، وَلَوْ سَلِمَ جَازَ أَخْذُهَا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ لَا أَنَّهَا هِيَ نَفْسُ الْوَاجِبِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، أَوْ هُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ لَا التَّحْقِيقِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عِقَالًا مَكَانَ عَنَاقًا (كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا) أَيْ عَلَى تَرْكِ مَنْعِهَا أَوْ لِأَجْلِ مَنْعِهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ أَصْلًا عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَخْذًا مِنَ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ مَانِعِيهَا قَهْرًا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ فِي قِتَالِ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ لِإِنْكَارِهَا أَوْ شُبْهَةٍ فِي وُجُوبِهَا، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، وَأَمَّا مَنِ انْقَادَ إِلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ فِي فِعْلِهَا، وَتَرْكِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي الْمَقْهُورِ (قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ) أَيِ الشَّأْنُ (إِلَّا رَأَيْتُ) أَيْ عَلِمْتُ (أَنَّ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ) وَفَتَحَ قَلْبَهُ بِالْإِلْهَامِ غَيْرَةً عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ) أَيْ رَأَى أَبَا بَكْرٍ أَوِ الْقِتَالَ (هُوَ الْحَقُّ) وَهَذَا إِنْصَافٌ مِنْهُ رضي الله عنه وَرُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَظْهَرُ نُطْقِ الْحَقِّ، وَمَنْبَعُ عَيْنِ الصِّدْقِ، وَهَذَا يُظْهِرُ كَمَالَ الصِّدِّيقِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَارُوقِ، حَيْثُ سَلَكَ الصِّدِّيقُ طَرِيقَ التَّدْقِيقِ وَسَبِيلَ التَّحْقِيقِ، عَلَى وَفْقِ التَّوْفِيقِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عُلِمَ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ مُحِقٌّ، فَهَذَا الضَّمِيرُ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
1791 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَهُوَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ أَصَابِعَهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
1791 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ) وَهُوَ الْمَالُ الْمَكْنُوزُ أَيِ الْمَجْمُوعُ، أَوِ الْمَدْفُونُ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَالٍ حَرَامٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا) أَيْ يَصِيرُ حَيَّةً وَيَنْقَلِبُ وَيَتَصَوَّرُ، أَوْ يَكُونُ جَزَاؤُهُ شُجَاعًا (أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ) أَيْ صَاحِبُ الْكَنْزِ أَوْ صَاحِبُ الشُّجَاعِ وَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ (وَهُوَ) أَيِ الشُّجَاعُ (يُطَالِبُهُ) وَلَا يَتْرُكُهُ (حَتَّى يُلْقِمَهُ) مِنَ الْإِلْقَامِ (أَصَابِعَهُ) لِأَنَّ الْمَانِعَ الْكَانِزُ يَكْتَسِبُ الْمَالَ بِيَدَيْهِ، قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: وَهُوَ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَلْقُمَ الشُّجَاعُ أَصَابِعَ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَصَابِعُهُ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يُلْقِمَ صَاحِبُ الْمَالِ الشُّجَاعَ أَصَابِعَ نَفْسِهِ أَيْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ لُقْمَةَ الشُّجَاعِ، تَأَمَّلْ. اهـ، وَلَعَلَّ وَجْهُ التَّأَمُّلِ مَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ بَقِيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ: ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّجَاعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ أَيْ شِدْقَيْهِ، وَخَصَّ هُنَا بِإِلْقَامِ الْأَصَابِعَ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ الْمَانِعَ يَكْتَسِبُ الْمَالَ بِيَدَيْهِ، وَيَفْتَخِرُ بِشِدْقَيْهِ، فَخُصَّا بِالذِّكْرِ. اهـ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: كُلٌّ يُعَذَّبُ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَانَعَ الزَّكَاةِ يُعَذَّبُ بِجَمِيعِ مَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ، فَيَكُونُ مَالُهُ تَارَةً يُجْعَلُ صَفَائِحَ، وَتَارَةً يُصَوَّرُ شُجَاعًا أَقْرَعَ يُطَوِّقُهُ، وَتَارَةً يَتْبَعُهُ وَيَفِرُّ مِنْهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ أَصَابِعَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
1792 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِهِ شُجَاعًا "، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] » الْآيَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
1792 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عُنُقِهِ شُجَاعًا، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا مِصْدَاقَهُ) أَيْ مَا يُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنْ مِصْدَاقِهِ، أَوْ مِنْ بَيَانٍ لَهُ، وَمَا بَعْدَهُ بَدَلُ بَعْضٍ مِنَ الْكُلِّ، وَأَمَّا جَعْلُ ابْنِ حَجَرٍ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، كَمَا لَا يَخْفَى {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، وَفِيهَا {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ مِيرَكُ: بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ.
1793 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا خَالَطَتِ الزَّكَاةُ مَالًا قَطُّ إِلَّا أَهْلَكَتْهُ» ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحُمَيْدِيُّ، وَزَادَ: قَالَ: يَكُونُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ صَدَقَةٌ فَلَا تُخْرِجْهَا فَيُهْلِكُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى تَعْلِيقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ هَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَائِشَةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي خَالَطَتْ. . تَفْسِيرُهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ غَنِيٌّ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْفُقَرَاءِ.
ــ
1793 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا خَالَطَتِ الزَّكَاةُ مَالًا قَطُّ) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ صَاحِبُ مَالٍ مِنَ النِّصَابِ فَيَأْخُذُ الزَّكَاةَ، أَوْ بِأَنْ لَمْ يُخْرِجْ مِنْ مَالِهِ الزَّكَاةَ (إِلَّا أَهْلَكَتْهُ) أَيْ نَقَصَتْهُ أَوْ أَفْنَتْهُ، أَوْ قَطَعَتْ بَرَكَتَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ مَحَقَتْهُ، أَوِ اسْتَأْصَلَتْهُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ كَانَتْ حِصْنًا لَهُ، أَوْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ كَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ، لِأَنَّ الْحَرَامَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ شَرْعًا (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالْحُمَيْدِيُّ وَزَادَ) أَيِ الْحُمَيْدِيُّ (قَالَ) أَيِ الْبُخَارِيُّ: أَوْ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ (يَكُونُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ صَدَقَةٌ فَلَا تُخْرِجُهَا فَيُهْلِكُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ) فَكَأَنَّهَا تَعَيَّنَتْ وَاخْتَلَطَتْ (وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ) أَيْ لَا بِالذِّمَّةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ احْتِمَالِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فِي مُخَالَطَةِ الْمَالِ، وَالْحَلَالُ أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذَا أَمْكَنَ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ، وَإِرَادَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُمْتَنَعِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَى الْمُخَالَطَةِ، فَإِنَّهَا مَعْنًى وَمَبْنًى تَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ مُتَمَايِزَيْنِ، يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَأَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهَا بِإِهْلَاكِ الْحَرَامِ الْحَلَالَ؟ قُلْتُ: لَمَّا جَعَلَ الزَّكَاةَ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنِ الْمَالِ لَا بِالذِّمَّةِ جَعَلَ قَدْرَ الزَّكَاةِ الْمُخْرَجِ مِنَ