الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْ يَجْمَعُ النَّاسَ لِلْجَمَاعَةِ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: شَرْطُ الِاعْتِكَافِ مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ الَّذِي لَهُ مُؤَذِّنٌ وَإِمَامٌ، وَيُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، أَوْ بَعْضُهَا بِجَمَاعَةٍ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ اهـ وَقَالَ قَاضِيَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ عِنْدَهُ إِلَّا فِي الْجَامِعِ اهـ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: لَا تَعْجَبْ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ؟ ! قَالَ: لَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْتَ، أَوْ حَفِظُوا وَنَسِيتَ، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبْغَضَ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - الْبِدَعُ، وَأَنَّ مِنَ الْبِدَعِ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الدُّورِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لِا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، وَتَقَدَّمَ مَرْفُوعًا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إِمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصِحُّ» " وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ ذِكْرَ الْجَامِعِ لِلْأَوْلَوِيَّةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ اهـ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ وُرُودَ الْحَدِيثِ لَا يُعَلَّلُ بِالْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْخِلَافِ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ مَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ مَسْجِدِ الْجَامِعِ، قِيلَ: إِذَا كَانَ يُصَلِّي فِيهِ بِجَمَاعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي مَسْجِدِهِ أَفْضَلُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى الْخُرُوجِ، ثُمَّ كُلُّ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَكْثَرَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَقَالَ: وَغَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يَقُولُ قَالَتِ: السُّنَّةُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَلَيْسَ فِيهِ السُّنَّةُ، وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ أَيْضًا بِدُونِ لَفْظِ السُّنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ زَادَ لَفْظَ السُّنَّةِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّصْحِيحِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ قَالُوا مَنْ رَوَى الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَنْهُ لَا يُنْظَرُ لِلطَّاعِنِينَ فِيهِ، وَإِنْ كَثُرُوا اهـ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ زِيَادَتِهِ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ فَثَبَتَ كَوْنُهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْفُوعِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّارِحِ: إِنْ أَرَدْتَ بِكَوْنِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ السُّنَّةِ إِضَافَتَهَا إِلَيْهِ عليه السلام فَهِيَ نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، أَوِ الْفُتْيَا بِمَا عَقِلْتَهُ مِنَ السُّنَّةِ، فَقَدْ خَالَفَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَالصَّحَابَةُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ كَانَ سَبِيلُهَا النَّظَرَ اهـ فَهُوَ غَفْلَةٌ مِنَ الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ السُّنَّةُ كَذَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2107 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ أَوْ يُوضَعُ لَهُ سَرِيرُهُ وَرَاءَ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2107 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ وُضِعَ أَوْ فُرِشَ (لَهُ فِرَاشُهُ أَوْ يُوضَعُ لَهُ سَرِيرُهُ) الظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ (وَرَاءَ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِإِبْدَالِ السِّينِ صَادًا وَهِيَ مِنَ أُسْطُوَانَاتِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَبَا لُبَابَةَ تِيبَ عَلَيْهِ عِنْدَهَا (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
2108 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُعْتَكَفِ: " هُوَ يَعْتَكِفُ الذُّنُوبَ وَيُجْرَى لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2108 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْمُعْتَكِفِ) ، أَيْ فِي حَقِّهِ وَشَأْنِهِ (وَهُوَ) وَفِي نُسْخَةٍ هُوَ (يَعْتَكِفُ الذُّنُوبَ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ يَحْتَبِسُ عَنِ الذُّنُوبِ، بَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْمُحْتَبِسِ فِي الْمَسْجِدِ الِانْحِبَاسُ عَنْ تَعَاطِي أَكْثَرِ الذُّنُوبِ وَلِذَا اخْتُصَّ الِاعْتِكَافُ بِالْمَسْجِدِ (وَيُجْرَى) بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ مَجْهُولًا وَقِيلَ مَعْلُومًا، أَيْ يَمْضِي وَيَسْتَمِرُّ (لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ) ، أَيْ مِنْ ثَوَابِهَا (كَعَامِلِ الْحَسَنَاتِ) ، أَيْ كَأُجُورِ عَامِلِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْجِيمِ وَالزَّايِ مَجْهُولًا، أَيْ يُعْطَى لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي يَمْتَنِعُ عَنْهَا بِالِاعْتِكَافِ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ وَغَيْرِهَا، فَاللَّامُ فِي الْحَسَنَاتِ لِلْعَهْدِ (كُلِّهَا) تَأْكِيدٌ لِلْجِنْسِ الْمَعْهُودِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
[كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ]
(- كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2109 -
عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
(كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ)
عُمُومًا وَبَعْضِ سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ خُصُوصًا، وَالْفَضِيلَةُ مَا يُفَضَّلُ بِهِ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ: لِفُلَانٍ فَضِيلَةٌ، أَيْ خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ كَمَا أَنَّ الْفُضُولَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَذْمُومِ اهـ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْفَضِيلَةُ فِي الصِّفَةِ الْقَاصِرَةِ وَالْفَاضِلَةِ فِي الْمُتَعَدِّيَةِ كَالْكَرَمِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْفَضِيلَةُ فِي الْعُلُومِ وَالْفَاضِلَةُ فِي الْأَخْلَاقِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ؟ فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ إِلَى الْمَنْعِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ وَلِئَلَّا يُوهِمَ التَّفْضِيلُ نَقْصَ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ مَالِكٍ، وَذَهَبَ آخَرُونَ وَهُمُ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّفْضِيلِ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ الْحَقُّ، وَقَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: الْعَجَبُ فَمَنْ يَذْكُرُ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ مَعَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي التَّفْضِيلِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ: لَعَلَّكَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ أَشَرْتَ إِلَى تَفْضِيلِ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ وَالْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ بَعْضُهَا أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ نُورَ الْبَصِيرَةِ إِنْ كَانَ لَا يُرْشِدُكَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الْمُدَايَنَةِ وَبَيْنَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ تَبَّتْ، وَتَرْتَاعُ عَلَى اعْتِقَادِ الْفَرْقِ نَفْسُكَ الْخَوَّارَةُ الْمُسْتَغْرِقَةُ بِالتَّقْلِيدِ فَقَلِّدْ صَاحِبَ الرِّسَالَةِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَقَالَ:" يس " قَلْبُ الْقُرْآنِ، وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى اهـ كَلَامُهُ ثُمَّ قِيلَ: الْفَضْلُ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الْأَجْرِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ بِحَسَبِ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ وَخَشْيَتِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَفَكُّرِهَا عِنْدَ وُرُودِ أَوْصَافِ الْعَلِيِّ، وَقِيلَ: بَلْ يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ اللَّفْظِ وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] الْآيَةَ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ مَوْجُودًا مَثَلًا فِي تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَمَا كَانَ مِثْلَهَا، فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا؛ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْقُرْآنُ يُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ الْعَلِيِّ، وَعَلَى الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَادِثٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي النَّفْسِيِّ فَهُمْ نَفَوْهُ لِقُصُورِ عُقُولِهِمُ النَّاقِصَةِ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا إِلَّا اللَّفْظِيَّ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى - وَبَنُوا عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ قَوْلَهُمْ مَعْنَى كَوْنِهِ - تَعَالَى - مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَنَحْنُ أَثْبَتْنَاهُ عَمَلًا بِمَدْلُولِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ فِي النَّفْيِ وَحْدَهُ أَوْ بِالِاشْتِرَاكِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّفْظِيِّ وَالنَّفْسِيِّ، قَالَ تَعَالَى: مَا يَأْتِيهِمْ مُنْذِرٌ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٌ " {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] " وَاللَّفْظُ مُحَالٌ عَلَيْهِ - تَعَالَى - وَخَلْقُ الْكَلَامِ فِي الشَّجَرَةِ مَجَازٌ لَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْقُرْآنَ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَوْ فِعْلَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لِجَمْعِهِ السُّورَ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَأَنَّهُ مَهْمُوزٌ، وَقِرَاءَةُ ابْنُ كَثِيرٍ إِنَّمَا هِيَ بِالنَّقْلِ كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله.
وَنُقِلَ قُرْآنٌ وَالْقُرْآنُ دَوَاؤُنَا، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ قَرَنْتَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ لِقَرْنِ السُّورِ وَالْآيَاتِ فِيهِ، وَأَغْرَبَ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْقُرْآنُ اسْمُ عَلَمٍ لِكَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَهْمُوزٍ وَلَا مَأْخُوذٍ مِنْ قَرَأْتَ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَعَلَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَفْصَحِ وَالْأَشْهَرِ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى الْهَمْزِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَنَقْلُ ابْنُ كَثِيرٍ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى الْهَمْزِ الْمَذْكُورِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْمُشْتَقَّاتِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى اقْرَأْ وَرَبُّكَ " {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2109 -
(عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَيْرُكُمْ) ، أَيْ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ أَوْ يَا أَيُّهَا الْأُمَّةُ، أَيْ أَفْضَلُكُمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ (مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ) ، أَيْ حَقَّ تَعَلُّمِهِ (وَعَلَّمَهُ) ، أَيْ تَعْلِيمَهُ وَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ هَذَا إِلَّا بِالْإِحَاطَةِ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا مَعَ زَوَائِدِ الْعَوَارِفِ الْقُرْآنِيَّةِ وَفَوَائِدِ الْمَعَارِفِ الْفَوْقَانِيَّةِ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ يُعَدُّ كَامِلًا لِنَفْسِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا، وَلِذَا وَرَدَ عَنْ عِيسَى عليه الصلاة والسلام مَنْ عَلِمَ وَعَمَلَ
وَعِلْمٍ يُدْعَى فِي الْمَلَكُوتِ عَظِيمًا، وَالْفَرْدُ الْأَكْمَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الْأَشْبَهُ فَالْأَشْبَهُ وَأَدْنَاهُ فَقِيهُ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ خَيْرُ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، وَقَالَ مِيرَكُ، رحمه الله: أَيْ مِنْ خَيْرِكُمْ لِوُرُودِ ذَلِكَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ أَيْضًا، قُلْتُ: كُلُّ مَا وَرَدَ دَاخِلٌ فِي الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ، كُلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الْفِرَا، وَلَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْعَمَلَ خَارِجٌ عَنْهُمَا لِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُورِثًا لِلْعَمَلِ فَلَيْسَ عِلْمًا فِي الشَّرِيعَةِ، إِذْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ مَعَ أَنَّهُ قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِلَى مَتَى الْعِلْمُ فَأَيْنَ الْعَمَلُ؟ قَالَ: عِلْمُنَا عَمَلٌ، ثُمَّ الْخِطَابُ عَامٌّ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّحَابَةِ كَذَا قِيلَ، وَلَوْ خُصَّ بِهِمْ فَغَيْرُهُمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَالْقُرْآنُ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّهِ وَبَعْضِهِ، وَيُصْبِحُ إِرَادَةَ الْمَعْنَى الثَّانِي هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ التَّعَلُّمُ وَالتَّعْلِيمُ وَلَوْ فِي آيَةٍ كَانَ خَيْرًا مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَوَجْهُ خَيْرِيَّتِهِ يُعْلَمُ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدْ أَدْرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ» " وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» " وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامَ اللَّهِ فَكَذَلِكَ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مَنْ يَتَعَلَّمِ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُهُ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ بِالْإِخْلَاصِ، قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي الْفَتَاوَى: تَعَلُّمُ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ سَوَاءٌ فِي الْفَضْلِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ فَالْفِقْهُ أَفْضَلُ اهـ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ظَاهِرٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِسَاءَةِ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ تَعَلُّمَ قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْقُرْآنِ عِلْمٌ يَقِينِيٌّ وَمِنَ الْفِقْهِ ظَنِّيٌّ، فَكَيْفَ يَكُونَانِ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ وَالْفِقْهُ إِنَّمَا يَكُونُ أَفَضَلَ لِكَوْنِهِ مَعْنَى الْقُرْآنِ فَلَا يُقَابَلُ بِهِ، نَعَمْ لَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ مَعْنَى الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ مَعْرِفَةِ لَفْظِهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْقُرْآنِ تَعَلُّمُ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُ رُكْنٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَبِالْفِقْهِ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الرُّكُوعِ رُكْنًا مَثَلًا فَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2110 -
ــ
2110 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ) فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ أَهْلُ الصُّفَّةِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى مَوْضِعٍ مُظَلَّلٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَهْلُ الصُّفَّةِ كَانُوا أَضْيَافَ الْإِسْلَامِ يَبِيتُونَ فِي صُفَّةِ مَسْجِدِهِ عليه الصلاة والسلام وَفِي حَاشِيَةِ السُّيُوطِيِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ: عَدَّهُمْ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ، وَالصُّفَّةُ مَكَانٌ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ أُعِدَّ لِنُزُولِ الْغُرَبَاءِ فِيهِ مَنْ لَا مَأْوَى لَهُ وَلَا أَهْلَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَكَانَتْ هِيَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ مُعَدَّةٌ لِفُقَرَاءِ أَصْحَابِهِ الْغَيْرِ الْمُتَأَهِّلِينَ، وَكَانُوا يَكْثُرُونَ تَارَةً حَتَّى يَبْلُغُوا نَحْوَ الْمِائَتَيْنِ وَيَقِلُّونَ أُخْرَى لِإِرْسَالِهِمْ فِي الْجِهَادِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَفِي التَّعَرُّفِ إِنَّمَا سُمُّوا صُوفِيَّةً لِقُرْبِ أَوْصَافِهِمْ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الصُّفَّةِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِلِبْسِهُمُ الصُّوفَ أَوْ لِصَفَاءِ أَسْرَارِهِمْ أَوْ لِصَفَاءِ مُعَامَلَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، أَيْ مِنَ السَّابِقِينَ الْمُسَارِعِينَ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْمُبَادِرِينَ فِي الطَّاعَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ نَسَبَهُمْ إِلَى الصُّفَّةِ وَالصُّوفِ فَإِنَّهُ عَبَّرَ عَنْ ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ تَرَكُوا الدُّنْيَا فَخَرَجُوا عَنِ الْأَوْطَانِ وَهَجَرُوا الْأَخْدَانَ وَسَاحُوا فِي الْبِلَادِ وَأَجَاعُوا الْأَكْبَادَ وَأَعْرَوُا الْأَجْسَادَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ سَتْرِ عَوْرَةٍ وَسَدِّ جَوْعَةٍ، فَلِخُرُوجِهِمْ عَنِ الْأَوْطَانِ سُمُّوا غُرَبَاءَ وَلِكَثْرَةِ أَسْفَارِهِمْ سُمُّوا سَيَّاحِينَ وَلِقِلَّةِ أَكْلِهِمْ سُمُّوا جَوْعِيَّةً وَمِنْ تَخْلِيَتِهِمْ عَنِ الْأَمْلَاكِ سُمُّوا فُقَرَاءً وَلِلِبْسِهِمُ الثَّوْبَ الْخَشِنَ مِنَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ سُمُّوا صُوفِيَّةً، ثُمَّ هَذِهِ كُلُّهَا أَحْوَالُ أَهْلِ الصُّفَّةِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ كَانُوا غُرَبَاءَ فُقَرَاءَ مُهَاجِرِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَا: كَانُوا يَخِرُّونَ مِنْ لَوَعٍ حَتَّى يَحْسَبَهُمُ الْأَعْرَابُ مَجَانِينَ وَكَانَ لِبَاسُهُمُ الصُّوفَ حَتَّى إِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ لَيَعْرَقَ فِيهِ فَيُوجَدُ مِنْهُ رِيحُ الضَّأْنِ إِذَا أَصَابَهُ الْمَطَرُ (فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ) ، أَيْ يَذْهَبُ فِي الْغُدْوَةِ وَهِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ أَوْ يَنْطَلِقُ (كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ) بِضَمِّ الْمُوَحِّدَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ اسْمُ وَادٍ بِالْمَدِينَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسِعَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ مِنَ الْبَطْحِ وَهُوَ الْبَسْطُ، وَضَبَطَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْضًا (أَوِ الْعَقِيقُ) قِيلَ: أَرَادَ الْعَقِيقَ الْأَصْغَرَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا أَسْوَاقُ الْإِبِلِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، لَكِنَّ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: أَوْ قَالَ إِلَى الْعَقِيقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَيَأْتِي بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ) تَثْنِيَةُ كَوْمَاءَ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ
وَاوًا وَأَصْلُ الْكَوْمِ الْعُلُوِّ، أَيْ فَيَحْصُلُ نَاقَتَيْنِ عَظِيمَتَيِ السَّنَامِ وَهِيَ مِنْ خِيَارِ مَالِ الْعَرَبِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَضُمُّ الْكَافَ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، وَكَأَنَّهُ وَهْمٌ مِنْهُ لِمَا وَقَعَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: وَنَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ هُوَ بِالْفَتْحِ الْمَوَاضِعُ الْمُشْرِفَةُ وَاحِدُهَا كَوْمَةٌ وَمِنْهُ كَوْمَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَمِنْ طَعَامٍ، أَيْ صَبْرَةٌ وَبَعْضُهُمْ يَضُمُّ الْكَافَ، وَقِيلَ: هُوَ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِمَا كُوِّمَ وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْفِعْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَنَاقَةٌ كَوْمَاءٌ مُشْرِفَةُ السَّنَامِ عَالِيَتُهُ (فِي غَيْرِ إِثْمٍ) كَسَرِقَةٍ وَغَصْبٍ سُمِّيَ مُوجِبُ الْإِثْمِ إِثْمًا مَجَازًا (وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ)، أَيْ فِي غَيْرِ مَا يُوجِبُهُ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ وَفِي لِلسَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ لُمْتُنَّنِي فِيهِ (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ) بِالنُّونِ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كُلُّنَا يُحِبُّ ذَلِكَ بِالْيَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اخْتِيَارَهُمْ فَقْرَهُمْ فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا الدُّنْيَا لِلدِّينِ لَا لِلطِّينِ وَلِيَصْرِفُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِيَتَجَهَّزُوا وَيُجَهِّزُوا جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَقِّيَهُمْ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ فَإِنَّهُ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ الْعِظَامِ كَمَا قَالَ عِيسَى عليه السلام:" يَا طَالِبَ الدُّنْيَا لِتِبْرٍ تَرْكُكَ الدُّنْيَا أَبَرُّ " وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " «لَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي حِجْرِهِ دَرَاهِمُ يُقَسِّمُهَا وَآخَرُ يَذْكُرُ اللَّهَ كَانَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ أَفْضَلَ» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ وَالْعَالِمَ خَيْرٌ مِنَ الْعَابِدِ، وَأَمَّا مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يُنَافِي مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ لِأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَا بِهِ الْكِفَايَةُ وَلَا أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ لَا تُنَافِي الزُّهْدَ فَضْلًا عَنِ الْوَرَعِ، فَمَعَ كَوْنِ النَّاقَتَيْنِ زَائِدًا عَلَى الْكِفَايَةِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ لَا يُلَائِمُهُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ قَالَ (أَفَلَا يَغْدُو) ، أَيْ أَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ فَلَا يَغْدُو وَمَا أَبْعَدَ تَقْدِيرَ ابْنِ حَجَرٍ، أَيْ إِذَا كُنْتُمْ كَذَلِكَ أَفَلَا يَغْدُو (أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ) بِالتَّشْدِيدِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالتَّخْفِيفِ (أَوْ يَقْرَأُ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فِيهِمَا، قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَرْضًا أَوْ نَفْيًا وَفِيهِ أَنَّ الْفَاءَ مَانِعَةٌ مِنْ كَوْنِهَا لِلْعَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ فَيَعْلَمَ أْو يَقْرَأَ مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ مَرْفُوعَانِ عَلَى الثَّانِي، قُلْتُ: وَيَجُوزُ نَصْبُهُمَا عَلَى الثَّالِثِ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَوَابُ النَّفْيِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَعْلَمُ مِنَ التَّعْلِيمِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ وَصَحَّحَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنَ الْعِلْمِ وَكَلِمَةُ أَوْ يَحْتَمِلُ الشَّكَّ وَالتَّنْوِيعَ اهـ وَفِي الشَّرْحِ أَنَّهُ صَحَّحَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ فَيَعْلَمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُون الْعَيْنِ، أَوْ شَكٍّ مِنَ الرَّاوِي دَفْعًا لِتَوَهُّمِ كَوْنِهِ مِنَ التَّعْلِيمِ فَيَكُونُ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَعَلَى التَّنْوِيعِ قَوْلُهُ (آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانُ وَقَوْلُهُ (خَيْرٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمَا أَوِ الْغُدُوِّ خَيْرٌ (لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٍ) ، أَيْ مِنَ الْآيَاتِ (خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ) ، أَيْ مِنَ الْإِبِلِ (وَأَرْبَعٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ) جَمْعُ عَدَدٍ (مِنَ الْإِبِلِ) بَيَانٌ لِلْأَعْدَادِ، قِيلَ: مِنْ أَعْدَادِهِنَّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَأَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ آيَاتٍ خَيْرٌ مِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ فَخَمْسُ آيَاتٍ خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ إِبِلٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ آيَتَيْنِ خَيْرٌ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَمِنْ أَعْدَادِهِمَا مِنَ الْإِبِلِ، وَثَلَاثًا خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَذَا أَرْبَعٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَاتِ تُفَضَّلُ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ مِنَ النُّوقِ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُوَضِّحُهُ مَا قِيلَ: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بُقُولِهِ وَآيَتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ، وَمَجْرُورِ أَعْدَادِهِنَّ عَائِدٌ إِلَى الْأَعْدَادِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَمِنِ الْإِبِلِ بَدَلٌ مِنْ أَعْدَادِهِنَّ أَوْ بَيَانٌ لَهُ يَعْنِي آيَتَانِ خَيْرٌ مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْإِبِلِ وَكَذَلِكَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْهُ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ تَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ نَفْعًا عَظِيمًا بِخِلَافِ الْإِبِلِ اهـ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَرَادَ تَرْغِيبَهُمْ فِي الْبَاقِيَاتِ وَتَزْهِيدَهُمْ عَنِ الْفَانِيَاتِ فَذِكْرُهُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّقْرِيبِ إِلَى فَهْمِ الْعَلِيلِ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الدُّنْيَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُقَابَلَ بِمَعْرِفَةِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِثَوَابِهَا مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ هَذَا لِشَيْخِ مَشَايِخِنَا أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ السِّرِّيَّ؛ حَيْثُ الْتَمَسَ مِنْهُ أَصْحَابُهُ مِنَ التُّجَّارِ نُزُولَهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَنْدَرِ جُدَّةَ أَيْامَ إِتْيَانِ الْغُرَبَاءِ مِنْ سَفَرِ الْبِحَارِ مُعَلِّلِينَ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ حُصُولَ بَرَكَةِ نُزُولِهِ إِلَى تِجَارَتِهِمْ وَمُكَمِّنِينَ بِأَنْ يَحْصُلَ لِخَدَمِ الشَّيْخِ بَعْضُ مَنَافِعِ بِضَاعَتِهِمْ فَأَبَى وَأَتَى بِأَعْذَارٍ سَاتِرَةٍ لِلْأَسْرَارِ، فَمَا فَهِمُوا وَأَلَحُّوا وَبَالَغُوا فِي الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْإِصْرَارِ، فَقَالَ الشَّيْخُ: مَا مِقْدَارُ مَائِدَةِ رِبْحِكُمْ فِي هَذَا السَّفَرِ؟ وَكَمْ أَكْثَرُ مَا يَحْصُلُ لَكُمْ فِيهِ مِنَ النَّتِيجَةِ وَالْأَثَرِ؟ فَقَالُوا: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَتَفَاوُتِ الْأَمْوَالِ، وَأَكْثَرُ الرِّبْحِ أَنْ يَصِيرَ الدِّرْهَمُ دِرْهَمَيْنِ وَيَكُونَ الْوَاحِدُ اثْنَيْنِ، فَتَبَسَّمَ الشَّيْخُ وَقَالَ: إِنَّكُمْ تَتْعَبُونَ هَذَا التَّعَبَ الشَّدِيدَ لِهَذَا الرِّبْحِ الزَّهِيدِ، فَنَحْنُ كَيْفَ نَتْرُكُ مُضَاعَفَةَ الْحَسَنَاتِ بِالْحَرَامِ وَهِيَ حَسَنَةٌ بِمِائَةِ أَلْفٍ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا عَنِ الْمَنَامِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2111 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ، إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟) قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: " فَثَلَاثُ آيَاتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2111 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ، إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟) قُلْنَا: نَعَمْ. أَيْ فِي رُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: أَيْ فِي طَرِيقِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ فِي أْهلِهِ يَعْنِي فِي مَحَلِّهِمْ (ثَلَاثُ خَلِفَاتٍ) ، أَيْ جَمْعُ خَلِفَةٍ بِفَتْحٍ فَكَسَرٍ مِنْ خَلَّفَتِ النَّاقَةُ، أَيْ حَمَلَتْ يَعْنِي حَامِلَاتٍ (عِظَامٍ) فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْمَاهِيَّةٍ (سِمَانٍ) فِي الْكَيْفِيَّةِ وَالْحَالِيَّةِ (قُلْنَا: نَعَمْ) ، أَيْ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ أَوْ عَلَى وَفْقِ الشَّرِيعَةِ لِيَكُونَ لِلْآخِرَةِ ذَرِيعَةً (قَالَ) ؛ أَيْ فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ وَغَفَلْتُمْ عَمَّا هُوَ أَوْلَى (فَثَلَاثُ آيَاتٍ) ، أَيْ فَاعْلَمُوا أَنَّ قِرَاءَةَ ثَلَاثِ آيَاتٍ خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِذَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ ذَلِكَ فَثَلَاثُ آيَاتٍ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ السَّبَبِيَّةِ، وَلِذَا تَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْفَاءُ فِي " فَثَلَاثُ آيَاتٍ " جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ فَالْمَعْنَى: إِذَا تَقَرَّرَ مَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تُحِبُّونَ مَا ذَكَرْتُ لَكُمْ فَقَدْ صَحَّ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهَا مَا أَذْكُرُهُ لَكُمْ مِنْ قِرَاءَةِ ثَلَاثِ آيَاتٍ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَتِلْكَ مِنَ الزَّائِدَاتِ الْفَانِيَاتِ (يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَوْ لِلْإِلْصَاقِ (فِي صَلَاتِهِ) بَيَانٌ لِلْأَكْمَلِ وَتَقْيِيدٌ لِلْأَفْضَلِ (خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ وَفِي الْأَوَّلِ لِلشُّيُوعِ فِي الْأَجْنَاسِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُعْرَفِ الثَّانِي (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2112 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2112 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ) ، أَيِ الْحَاذِقُ مِنَ الْمَهَارَةِ وَهِيَ الْحِذْقُ، جَازَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَوْدَةُ الْحِفْظِ أَوْ جَوْدَةُ اللَّفْظِ وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ كِلَيْهِمَا وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْكَامِلُ الْحِفْظِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، قَالَ الْجَعِيِرِيُّ فِي وَصْفِ أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ: كُلُّ مَنْ أَتْقَنَ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَأَدْمَنَ دَرْسَهُ وَأَحْكَمَ تَجْوِيدَ أَلْفَاظِهِ وَعَلِمَ مَبَادِيهِ وَمَقَاطِعِهِ وَضَبَطَ رِوَايَةَ قِرَاءَتِهِ وَفَهِمَ وُجُوهَ إِعْرَابِهِ وَلُغَاتِهِ وَوَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ اشْتِقَاقِهِ وَتَصْرِيفِهِ وَرَسَخَ فِي نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَأَخَذَ حَظًّا وَافِرًا مِنْ تَفْسِيرِهِ وَتَأْوِيلِهِ وَصَانَ نَقْلَهُ عَنِ الرَّأْيِ وَتَجَافَى عَنْ مَقَايِيسِ الْعَرَبِيَّةِ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ وَجَلَّلَهُ الْوَقَارُ وَغَمَرَهُ الْحَيَاءُ وَكَانَ عَدْلًا مُتَيَقِّظًا وَرِعًا مُعْرِضًا عَنِ الدُّنْيَا مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ قَرِيبًا مِنَ اللَّهِ فَهُوَ الْإِمَامُ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَيُقْتَدَى بِأَقْوَالِهِ وَيُهْتَدَى بِأَفْعَالِهِ (مَعَ السَّفَرَةِ) جَمْعُ سَافِرٍ وَهُمُ الرُّسُلُ إِلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقِيلَ: السَّفَرَةُ الْكَتَبَةُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَيِ الْكَتَبَةُ جَمْعُ سَافِرٍ مِنَ السَّفَرِ، وَأَصْلُهُ الْكَشْفُ فَإِنَّ الْكَاتِبَ يُبَيِّنُ مَا يَكْتُبُ وَيُوَضِّحُهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفَرٌ بِكَسْرِ السِّينِ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ الْحَقَائِقَ وَيُسْفِرُ عَنْهَا وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ هُمْ حَمَلَةُ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15 - 16] سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ الْمُنَزَّلَةَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُمْ يَسْتَنْسِخُونَهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمْ كَوْنُهُ مِنْ خَزَنَةِ الْوَحْيِ وَأُمَنَاءِ الْكُتُبِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَا نَسَخُوا الْقُرْآنَ، وَقِيلَ: السَّفَرَةُ الْمَلَائِكَةُ الْكَاتِبُونَ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ أَوْ مِنَ السَّفَارِ بِمَعْنَى الْإِصْلَاحِ فَالْمُرَادُ هُمْ حِينَئِذٍ الْمَلَائِكَةُ النَّازِلُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْعِبَادِ مِنْ حِفْظِهِمْ عَنِ الْآفَاتِ وَالْمَعَاصِي وَإِلْهَامِهِمُ الْخَيْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنَازِلٌ يَكُونُ فِيهَا رَفِيقًا لِلْمَلَائِكَةِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَتِهِمْ مِنْ حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ عَامِلٌ بِعَمَلِهِمْ وَسَالِكٌ مَسْلَكَهُمْ مِنْ كَوْنِهِمْ يَحْفَظُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَكْشِفُونَ لَهُمْ مَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ الْمَاهِرُ (الْكِرَامُ) جَمْعُ الْكَرِيمِ، أَيِ الْمُكْرَمِينَ عَلَى اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ مَوْلَاهُ لِعِصْمَتِهِمْ وَنَزَاهَتِهِمْ عَنْ دَنَسِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ (الْبَرَرَةِ) جَمْعُ بَارٍّ وَهُوَ الْمُحْسِنُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ الْمُطِيعُونَ مِنَ الْبِرِّ وَهُوَ الطَّاعَةُ يَعْنِي هُوَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ فِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ لِاتِّصَافِهِ بِصِفَتِهِمْ مِن حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ عَامِلَ عَمَلَهُمْ وَسَالِكَ مَسْلَكَهُمْ فِي حِفْظِهِ وَأَدَائِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ (وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ) ، أَيْ يَتَرَدَّدُ وَيَتَبَلَّدُ عَلَيْهِ لِسَانُهُ وَيَقِفُ فِي قِرَاءَتِهِ لِعَدَمِ مَهَارَتِهِ، وَالتَّعْتَعَةُ فِي الْكَلَامِ التَّرَدُّدُ فِيهِ مِنْ حَصْرٍ أَوْ عِيٍّ، يُقَالُ: تَعْتَعَ لِسَانُهُ إِذَا تَوَقَّفَ فِي الْكَلَامِ وَلَمْ يُطِعْهُ لِسَانُهُ (وَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ، أَيْ حُصُولُهُ أَوْ تَرَدُّدُهُ فِيهِ (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْقَارِئِ (شَاقٌّ) ، أَيْ شَدِيدٌ يُصِيبُهُ مَشَقَّةٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (لَهُ أَجْرَانِ) ، أَيْ أَجْرٌ لِقِرَاءَتِهِ وَأَجْرٌ لِتَحَمُّلِ مَشَقَّتِهِ وَهَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى تَحْصِيلِ الْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَتَتَعْتَعُ فِيهِ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاهِرِ بَلِ الْمَاهِرُ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا مَعَ السَّفَرَةِ وَلَهُ أُجُورٌ كَثِيرَةٌ حَيْثُ انْدَرَجَ فِي سِلْكِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَوِ الصَّحَابَةِ الْمُقَرَّبِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
2113 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2113 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا حَسَدَ)، أَيْ لَا غِبْطَةَ (إِلَّا عَلَى اثْنَيْنِ) وَقِيلَ: لَوْ كَانَ الْحَسَدُ جَائِزًا لَجَازَ عَلَيْهِمَا (رَجُلٌ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى تَقْدِيرِ هُمَا أَوْ مِنْهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا (آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ) ، أَيْ مَنَّ عَلَيْهِ بِحِفْظِهِ لَهُ كَمَا يَنْبَغِي (فَهُوَ يَقُومُ بِهِ) ، أَيْ بِتِلَاوَتِهِ وَحِفْظِ مَبَانِيهِ أَوْ بِالتَّأَمُّلِ فِي أَحْكَامِهِ وَمَعَانِيهِ أَوْ بِالْعَمَلِ بِأَوَامِرِهِ وَمَنَاهِيهِ أَوْ يُصَلِّي بِهِ وَيَتَحَلَّى بِآدَابِهِ (آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ)، أَيْ فِي سَاعَاتِهِمَا جَمْعُ إِنَى بِالْكَسْرِ بِوَزْنِ مِعَى وَإِنْوِ وَإِنْيٍ بِسُكُونِ النُّونِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْهُ إِلَّا فِي قَلِيلٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ (وَرَجُلٌ) بِالْوَجْهَيْنِ (آتَاهُ اللَّهُ مَالًا) ، أَيْ حَلَالًا (فَهُوَ يُنْفِقُ) ، أَيْ لِلَّهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْهُ (آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) ، أَيْ فِي أَوْقَاتِهِمَا (سِرًّا وَعَلَانِيَةً) وَلَعَلَّ هَذِهِ نُكْتَةُ تَقْدِيمِ اللَّيْلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَالَ مِيرَكُ: الْحَسَدُ قِسْمَانِ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ تَمَنِّي زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ، وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ فَهُوَ الْغِبْطَةُ وَهِيَ تَمَنِّي مِثْلَ النِّعْمَةِ الَّتِي عَلَى الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَمَنِّي زَوَالٍ عَنْ صَاحِبِهَا، أَيِ الْغِبْطَةُ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَتْ مُبَاحَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ مَحْمُودَةً إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ اهـ يَعْنِي فِيهِمَا وَأَمْثَالِهِمَا، وَلِذَا قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَنَّى الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ صَاحِبِ نِعْمَةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ النِّعْمَةُ مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْخَيِّرَاتِ اهـ يَعْنِي مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالطَّاعَاتِ الْمَالِيَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
2114 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طِيبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مَرٌّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ» ".
ــ
2114 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ) ، أَيْ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَعَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ لِإِفَادَةِ تَكْرِيرِهِ لَهَا وَمُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ دَأْبَهُ وَعَادَتَهُ كَفُلَانٍ يَقْرِي الضَّيْفَ وَيَحْمِي الْحَرِيمَ وَيُعْطِي الْيَتِيمَ (مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِنُونٍ سَاكِنَةٍ بَيْنَ الرَّاءِ وَالْجِيمِ الْمُخَفَّفَةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأُتْرُجُّ وَالْأُتْرُجَّةُ وَالتُّرُنْجُ ووالتُّرُنْجَةُ مَعْرُوفٌ وَهِيَ أَحْسَنُ الثِّمَارِ الشَّجَرِيَّةِ وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ لِحُسْنِ مَنْظَرِهَا صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُفِيدُ طِيبَ النَّكْهَةِ وَدِبَاغَ الْمَعِدَةِ وَقُوَّةَ الْهَضْمِ، وَمَنَافِعُهَا كَثِيرَةٌ مَكْتُوبَةٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ الْقَارِئُ طَيِّبُ الطَّعْمِ لِثُبُوتِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَطَيِّبُ الرِّيحِ لِأَنَّ النَّاسَ يَسْتَرِيحُونَ بِقِرَاءَتِهِ وَيَحُوزُونَ الثَّوَابَ بِالِاسْتِمَاعِ عَلَيْهِ وَيَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ مِنْهُ ( «وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طِيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّمْثِيلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ اشْتَمَلَ عَلَى مَعْنَى مَعْقُولِ صَرْفٍ لَا يُبْرِزُهُ عَنْ مَكْنُونِهِ إِلَّا تَصْوِيرُهُ بِالْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، ثُمَّ إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَهُ تَأْثِيرٌ فِي بَاطِنِ الْعَبْدِ وَظَاهِرِهِ، وَإِنَّ الْعِبَادَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ النَّصِيبُ الْأَوْفَرُ مِنْ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْقَارِئُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ الْبَتَّةَ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْحَقِيقِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَثَّرَ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ وَهُوَ الْمُرَائِي، أَوْ بِالْعَكْسِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَؤُهُ، وَإِبْرَازُ هَذِهِ الْمَعَانِي وَتَصْوِيرُهَا إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوَافِقُهَا وَيُلَائِمُهَا أَقْرَبُ وَلَا أَحْسَنُ وَلَا أَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَاتِ وَالْمُشَبَّهَ بِهَا وَارِدَةٌ عَلَى تَقْسِيمِ الْحَاصِلِ لِأَنَّ النَّاسَ إِمَّا مُؤْمِنٌ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، وَالثَّانِي إِمَّا مُنَافِقٌ صِرْفٌ أَوْ مُلْحَقٌ بِهِ وَالْأَوَّلُ إِمَّا مُوَاظِبٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ أَوْ غَيْرُ مُوَاظِبٍ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا فَقِسِ الْأَثْمَارَ الْمُشَبَّهَ بِهَا، وَوَجْهُ الشَّبَهِ فِي الْمَذْكُورَاتِ مُنْتَزَعٌ مِنْ أَمْرَيْنِ مَحْسُوسَيْنِ طَعْمٌ وَرِيحٌ، وَلَيْسَ بِمُفَرَّقٍ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا
…
لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالْأُتْرُجَّةِ» ) قِيلَ: لَا يَدْخُلِ الْجِنُّ بَيْتًا فِيهِ أُتْرُجٌّ، وَمِنْهُ يَظْهَرُ زِيَادَةَ حِكْمَةِ تَشْبِيهِ قَارِئِ الْقُرْآنِ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:
كُلُّ الْخِلَالِ الَّتِي فِيكُمْ مَحَاسِنُكُمْ
…
تَشَابَهَتْ فِيكُمُ الْأَخْلَاقُ وَالْخُلُقُ
كَأَنَّكُمْ شَجَرُ الْأُتْرُجِّ طَابَ مَعًا
…
حَمْلًا وَنَوْرًا وَطَابَ الْعُودُ وَالْوَرَقُ
( «وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَعْمَلُ بِهِ كَالتَّمْرَةِ» ) .
2115 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2115 -
(وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ) ، أَيْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ الْبَالِغُ فِي الشَّرَفِ وَظُهُورِ الْبُرْهَانِ مَبْلَغًا لَمْ يَبْلُغْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمَةِ (أَقْوَامًا) ، أَيْ دَرَجَةَ جَمَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنْ يُحْيِيَهُمْ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا وَيَجْعَلَهُمْ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعُقْبَى (وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ) ، أَيْ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ مَرَاتِبِ الْكَامِلِينَ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، قَالَ - تَعَالَى - {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] فَهُوَ مَاءٌ لِلْمَحْبُوبِينَ دِمَاءٌ لِلْمَحْجُوبِينَ، وَقَالَ عز وجل {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] قَالَ الطِّيبِيُّ: فَمَنْ قَرَأَهُ وَعَمِلَ بِهِ مُخْلِصًا رَفَعَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَرَأَهُ مُرَائِيًا غَيْرَ عَامِلٍ بِهِ وَضَعَهُ اللَّهُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَذَكَرَ الْبَغْوَيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي الْمَعَالِمِ «أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، أَيْ أَهْلُ مَكَّةَ؟ قَالَ: اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنُ أَبْزَى، فَقَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ عُمَرُ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ رَجُلٌ قَارِئُ الْقُرْآنَ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ قَاضٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا أَنَّ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَرْفَعُ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ".»
2116 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتْ، فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، وَلَمَّا أَخَّرَهُ رَفْعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ " قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ وَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ، فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لَا أَرَاهَا، قَالَ: " وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ: عَرَّجْتُ فِي الْجَوِّ بَدَلٌ فَخَرَجْتُ عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ.
ــ
2116 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (قَالَ) ، أَيْ يَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ (بَيْنَمَا هُوَ) ، أَيْ أُسَيْدُ (يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ)، أَيْ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَسَاعَاتِهِ (سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ) وَقِيلَ: التَّأْنِيثُ فِي مَرْبُوطَةٍ عَلَى تَأْوِيلِ الدَّابَّةِ، وَصَوَابُهُ أَنَّ الْفَرَسَ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَذَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَالْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ (إِذْ) ظَرْفٌ لِيَقْرَأَ (جَالَتِ الْفَرَسُ) ، أَيْ دَارَتْ وَتَحَرَّكَتْ كَالْمُضْطَرِبِ الْمُنْزَعِجِ مِنْ مُخَوِّفٍ نَزَلَ بِهِ (فَسَكَتَ) ، أَيْ أُسَيْدٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ لِيَنْظُرَ مَا السَّبَبُ فِي جَوَلَانِهَا (فَسَكَنَتْ) ، أَيِ الْفَرَسُ عَنْ تِلْكَ الْحَرَكَةِ فَظَنَّ أَنَّ جَوَلَانَهَا أَمْرٌ اتِّفَاقِيٌّ (فَقَرَأَ فَجَالَتْ فَسَكَتَ) ، أَيْ كَذَلِكَ (فَسَكَنَتْ) فَظَنَّ أَنَّهُ لِأَمْرٍ (ثُمَّ قَرَأَ) ، أَيْ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ فِي أَمْرِهِ فَتَرَوَّى ثُمَّ قَرَأَ (فَجَالَتِ الْفَرَسُ) فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ أَزْعَجَهَا عَنْ قَرَارِهَا، قِيلَ: تَحَرُكُ الْفَرَسِ كَانَ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ خَوْفًا مِنْهُمْ وَسُكُونُهَا لِعُرُوجِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ لِعَدَمِ ظُهُورِهِمْ، أَوْ تَحَرُّكِ الْفَرَسِ لِوِجْدَانِ الذَّوْقِ بِالْقِرَاءَةِ وَسُكُونِهَا لِذَهَابِ ذَلِكَ الذَّوْقِ مِنْهَا بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ (فَانْصَرَفَ) ، أَيْ أُسَيْدٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ مِنَ الْقِرَاءَةِ (وَكَانَ ابْنُهُ) ، أَيِ ابْنُ أُسَيْدٍ (يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا) ، أَيْ مِنَ الْفَرَسِ (فَأَشْفَقَ) ، أَيْ خَافَ أُسَيْدٌ (أَنْ تُصِيبَهُ) ، أَيِ الْفَرَسُ ابْنَهُ فِي جَوَلَانِهَا فَذَهَبَ أُسَيْدٌ إِلَى ابْنِهِ لِيُؤَخِّرَهُ عَنِ الْفَرَسِ (وَلَمَّا أَخَّرَهُ) ، أَيْ أُسَيْدُ ابْنَهُ يَحْيَى عَنْ قُرْبِ الْفَرَسِ (رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا) هِيَ لِلْمُفَاجَأَةِ (مِثْلَ الظُّلَّةِ) وَهِيَ الضَّمُّ مَا يَقِي الرَّجُلَ مِنَ الشَّمْسِ كَالسَّحَابِ وَالسَّقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَيْ شَيْءٌ مِثْلَ السَّحَابِ عَلَى رَأْسِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (فِيهَا) ، أَيْ فِي الظُّلَّةِ (أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ) ، أَيْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ (فَلَمَّا أَصْبَحَ) ، أَيْ دَخَلَ
أُسَيْدٌ فِي الصَّبَاحِ (حَدَّثَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ حَكَاهُ بِمَا رَآهُ لِفَزَعِهِ مِنْهُ (فَقَالَ) ، أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُزِيلًا لِفَزَعِهِ وَمُعْلِمًا لَهُ بِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَمُؤَكِّدًا لَهُ فِيمَا يَزِيدُ فِي طُمَأْنِينَتِهِ (اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ) كَرَّرَ مَرَّتَيْنِ لَا ثَلَاثًا عَلَى مَا فِي شَرْحِ ابْنِ حَجْرٍ لِلتَّأْكِيدِ، أَيْ رَدِّدْ وَدَاوِمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي سَبَبٌ لِمِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُهَا إِنْ وَقْعَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا اسْتِمْتَاعًا بِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اقْرَأْ لَفْظُ أَمْرِ طَلَبٍ لِلْقِرَاءَةِ فِي الْحَالِ وَمَعْنَاهُ تَخْصِيصُ وَطَلَبُ الِاسْتِزَادَةِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، فَكَأَنَّهُ اسْتَحْضَرَ تِلْكَ الْحَالَةَ الْعَجِيبَةَ الشَّأْنِ فَأَمَرَهُ تَحْرِيضًا عَلَيْهِ اهـ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلَّا زِدْتَ، وَلِذَلِكَ (قَالَ: فَأَشْفَقْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ: أَشْفَقْتُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى) ، أَيْ خِفْتُ إِنْ دُمْتُ عَلَيْهَا أَنْ تَدُوسَ الْفَرَسُ وَلَدِي يَحْيَى (وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَانْصَرَفْتُ) ، أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ (إِلَيْهِ)، أَيْ إِلَى يَحْيَى تَرَحُّمًا عَلَيْهِ (وَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ) وَهَذَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ تَكْرَارٌ وَدَفَعَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِأَنَّهُ لَمَّا حَكَى لَهُ عليه الصلاة والسلام صَدْرَ الْقَضِيَّةِ وَهُوَ جَوَلَانُ الْفَرَسِ حِينَ الْقِرَاءَةِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" اقْرَأْ "، أَيْ كُنْتَ زِدْتَ فِي الْقِرَاءَةِ فَذَكَرَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِهَا (فَخَرَجْتُ) ، أَيْ مِنْ بَيْتِي (حَتَّى لَا أَرَاهَا) ، أَيِ الْمَصَابِيحُ لِغَايَةِ الْفَزَعِ (قَالَ) ، أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟)، أَيْ تَعْلَمُ أَيَّ شَيْءٍ ذَاكَ الْمَرْئِيَّ (قَالَ: لَا، قَالَ: تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ دَنَتْ) ، أَيْ نَزَلَتْ وَقَرُبَتْ (لِصَوْتِكَ) ، أَيْ بِالْقِرَاءَةِ (وَلَوْ قَرَأْتَ) ، أَيْ إِلَى الصُّبْحِ (لَأَصْبَحَتْ) ، أَيِ الْمَلَائِكَةُ (يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لَا تَتَوَارَى مِنْهُمْ) ، أَيْ لَا تَغِيبُ وَلَا تَخْفَى الْمَلَائِكَةُ مِنَ النَّاسِ، وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ ازْدَحَمُوا عَلَى سَمَاعِ الْقُرْآنِ حَتَّى صَارُوا كَالشَّيْءِ السَّاتِرِ الْحَاجِزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، وَكَأَنَّ تِلْكَ الْمَصَابِيحَ هِيَ وُجُوهُهُمْ، وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنَّ الْأَجْسَامَ النُّورَانِيَّةَ إِذَا ازْدَحَمَتْ تَكُونُ كَالظُّلَّةِ وَلَا مِنْ أَنَّ بَعْضَهَا كَالْوَجْهِ أَضْوَأَ مِنْ بَعْضٍ كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ حَجَرٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي مُسْلِمٍ: عَرَّجَتْ) ، أَيْ صَعَدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَارْتَفَعَتْ فِيهِ لِكَوْنِهِ قَطَعَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي نَزَلَتْ لِسَمَاعِهَا (فِي الْجَوِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، أَيْ فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (بَدَلُ فَخَرَجْتُ) ، أَيْ مَكَانُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ (عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ) ، أَيْ فِي هَذِهِ وَعَلَى صِيغَةِ الْغَائِبَةِ فِي تِلْكَ.
2117 -
وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ حِصَانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالْقُرْآنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2117 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَإِلَى جَانِبِهِ) ، أَيْ يَمِينِهِ أَوْ شِمَالِهِ (حِصَانٌ) بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْكَرِيمُ مِنْ فَحْلِ الْخَيْلِ مِنَ التَّحَصُّنِ أَوِ التَّحْصِينِ لِأَنَّهُمْ يُحَصِّنُونَهُ صِيَانَةً لِمَائِهِ فَلَا يَرَوْنَهُ إِلَّا عَلَى كَرِيمَةٍ ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى سَمَّوْا بِهِ كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الْخَيْلِ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (مَرْبُوطٌ) ، أَيِ الْحِصَانُ (بِشَطَنَيْنِ) الشَّطَنُ بِفُتْحَتَيْنِ الْحَبْلُ الطَّوِيلُ الشَّدِيدُ الْفَتْلِ وَثَنَّاهُ دَلَالَةً عَلَى جُمُوحِهِ وَقُوَّتِهِ (فَتَغَشَّتْهُ) ، أَيِ الرَّجُلُ (سَحَابَةٌ) ، أَيْ سَتَرَتْهُ ظُلَّةٌ كَسَحَابَةٍ فَوْقَ رَأْسِهِ (فَجَعَلَتْ) ، أَيْ شَرَعَتِ السَّحَابَةُ (تَدْنُو) ، أَيْ تَقْرُبُ قَلِيلًا (وَتَدْنُو) ، أَيْ مِنَ الْعُلُوِّ إِلَى السُّفْلِ (وَجَعَلَ) ، أَيْ شَرَعَ (فَرَسُهُ يَنْفِرُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ مِنَ النَّفَرِ وَهُوَ أَشْبَهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: يَنْقُزُ بِالْقَافِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ يَثِبُ مِنْهَا (فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: تِلْكَ) ، أَيِ السَّحَابَةُ (السَّكِينَةُ) ، أَيِ السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ الَّتِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا الْقَلْبُ وَيَسْكُنُ بِهَا عَنِ الرُّعْبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ تَزْدَادُ طُمَأْنِينَتُهُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ إِذَا كُوشِفَ بِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: الْوَقَارُ، وَقِيلَ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:، أَيِ الْمَلَائِكَةُ وَمِنْهُ السَّكِينَةُ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ (تَنَزَّلَتْ) ، أَيْ ظَهْرَ نُزُولُهَا (بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2118 -
ــ
2118 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ بْنِ الْمُعَلَّى) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ (قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقِصَّتُهُ أَنَّهُ قَالَ: مَرَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقُلْتُ: لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، فَجَلَسْتُ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] " فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: تَعَالَ حَتَّى نَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِنْبَرِ فَنَكُونُ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فَكُنْتُ أُصَلِّي (فَدَعَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ)، أَيْ حَتَّى صَلَّيْتُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ) أَيِ اعْتِذَارًا (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي: قَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ " {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] ") وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ دَعْوَةَ اللَّهِ تُسْمَعُ مِنَ الرَّسُولِ، قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِجَابَةِ الطَّاعَةُ وَالِامْتِثَالُ وَبِالدَّعْوَةِ الْبَعْثُ وَالتَّحْرِيضُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - " لِمَا يُحْيِيكُمْ "، أَيْ مِنْ عُلُومِ الدِّيَانَاتِ وَالشَّرَائِعِ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةٌ كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ مَوْتٌ، قَالَ: لَا تُعْجَبْنَ الْجَهُولَ حُلَّتَهُ فَذَاكَ مَيِّتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ إِجَابَةَ الرَّسُولِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَمَا أَنَّ خِطَابَهُ بِقَوْلِكَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ لَا يُبْطِلُهَا اهـ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ: هَذَا لِأَنَّ إِجَابَتَهُ لَا تَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَيْضًا إِجَابَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ دُعَاءَهُ كَانَ لِأَمْرٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ وَلِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاةَ بِمِثْلِهِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يُنَاسِبُ الْأَوَّلَ اهـ وَالْأَظْهَرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ أَيْضًا، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْبُطْلَانِ وَعَدَمِهِ وَلِأَصْلِ الْبُطْلَانِ لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ) ، أَيْ أَفْضَلَ، وَقِيلَ: أَكْثَرُ أَجْرًا وَمَآلُهُ إِلَى الْأَوَّلِ (فِي الْقُرْآنِ) قِيلَ: السُّورَةُ مَنْزِلَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ وَمِنْهَا سُوَرُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهَا مَنْزِلَةٌ بَعْدَ مَنْزِلَةٍ مَقْطُوعَةٍ عَنِ الْأُخْرَى، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَهِيَ الطَّائِفَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُتَرْجَمَةُ الَّتِي أَقَلُّهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ وَبَسَطَ فِي اشْتِقَاقِهَا وَفِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ لِوَضْعِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ أَعْظَمَ سُورَةٍ اعْتِبَارًا بِعَظِيمِ قَدْرِهَا وَتَفَرُّدِهَا بِالْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهَا غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى فَرَائِدَ وَمَعَانٍ كَثِيرَةٍ مَعَ وَجَازَةِ أَلْفَاظِهَا اهـ وَقَدْ قِيلَ: جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: جَمِيعُ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْقُرْآنِ وَجَمِيعُهُ فِي الْفَاتِحَةِ وَجَمِيعُهَا فِي الْبَسْمَلَةِ وَجَمِيعُهَا تَحْتَ نُقْطَةِ الْبَاءِ مُنْطَوِيَةٌ وَهِيَ عَلَى كُلِّ الْحَقَائِقِ وَالدَّقَائِقِ مُحْتَوِيَةٌ، وَلَعَلَّهُ أَشَارَ إِلَى نُقْطَةِ التَّوْحِيدِ الَّذِي عَلَيْهَا مَدَارُ سُلُوكِ أَهْلِ التَّفْرِيدِ، وَقِيلَ: جَمِيعُهَا تَحْتَ الْبَاءِ وَوُجِّهَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ الْعُلُومِ وُصُولُ الْعَبْدِ إِلَى الرَّبِّ وَهَذِهِ الْبَاءُ بَاءُ الْإِلْصَاقِ فَهِيَ تُلْصِقُ الْعَبْدَ بِجَنَابِ الرَّبِّ وَذَلِكَ كَمَالُ الْمَقْصُودِ، ذَكَرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَابْنُ النَّقِيبِ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا وَأَخْرَجَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَوْ شِئْتُ أُوقِرُ سَبْعِينَ بَعِيرًا مِنْ تَفْسِيرِ أُمِّ الْقُرْآنِ لَفَعَلْتُ (قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ)، أَيْ أَنْتَ (مِنَ الْمَسْجِدِ) قِيلَ: لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا ابْتِدَاءً لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لِتَفْرِيغِ ذِهْنِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهَا بِكُلِّيَّتِهِ (فَأَخَذَ بِيَدِي) عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ (فَلَمَّا أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ) سُمِّيَتْ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ أَعْظَمُ سُورَةٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْقُرْآنِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَالتَّعَبُّدِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَذِكْرِ الْوَعْدِ لِأَنَّ فِيهِ ذِكْرُ رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْلَغِ الْأَشْمَلِ، وَذِكْرِ الْوَعِيدِ لِدَلَالَةِ يَوْمِ الدِّينِ، أَيِ الْجَزَاءُ، وَلِإِشَارَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِ وَذِكْرِ تَفَرُّدِهِ بِالْمُلْكِ وَعِبَادَةِ عِبَادِهِ إِيَّاهُ وَاسْتِعَانَتِهِمْ بِولَاهُ وَسُؤَالِهِمْ مِنْهُ وَذِكْرِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَمَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَلَا سُورَةَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ أَعْظَمُ كَيْفِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْهَا كَمِّيَّةً (قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، أَيْ هِيَ سُورَةُ الْحَمْدُ للَّهِ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) إِلَخْ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنْهَا أَمْ لَا (هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي) قِيلَ: اللَّامُ لِلْعَهْدِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] الْآيَةَ وَسُمِّيَتِ السَّبْعَ لِأَنَّهَا سَبْعُ آيَاتٍ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنِ الْكُوفِيِّ وَالْبَصْرِيِّ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا سَبْعُ آدَابٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا خَلَتْ عَنْ سَبْعَةِ أَحْرُفٍ الثَّاءِ وَالْجِيمِ وَالتَّاءِ وَالزَّايِ وَالشِّينِ وَالظَّاءِ وَالْفَاءِ، وَرَدَ بِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يُسَمَّى بِمَا فِيهِ دُونَ مَا فُقِدَ مِنْهُ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّهُ قَدْ
يُسَمَّى بِالضِّدِّ كَالْكَافُورِ لِلْأَسْوَدِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُنَافِي أَنَّهَا الْآيَاتُ السَّبْعُ كَمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَالْمَثَانِي لِتَكَرُّرِهَا فِي الصَّلَاةِ كَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تُثَنَّى بِسُورَةٍ أُخْرَى أَوْ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ تَعْظِيمًا لَهَا وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا اسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى مَنْ قَبْلَهَا أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ الثَّنَاءِ مَفَاعِلٍ مِنْهُ جَمْعُ مَثْنَى لِجَمْعِ الثَّنَاءِ كَالْمُحَمَّدَةِ بِمَعْنَى الْحَمْدِ أَوْ مُثَنِّيَةٍ مُفَعِّلَةٍ مِنَ الثَّنْيِ بِمَعْنَى التَّثْنِيَةِ أَوِ اسْمِ مَفْعُولٍ مِنَ التَّثْنِيَةِ بِمَعْنَى التَّكْرَارِ (وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) عُطِفَ عَلَى السَّبْعِ عَطْفُ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ (الَّذِي أُوتِيَهُ) إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ} [الحجر: 87] أَوْ خَصَصْتُهُ بِالْإِعْطَاءِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2119 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَجْعَلُوا بِيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2119 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ (مَقَابِرَ)، أَيْ خَالِيَةٌ مِنَ الذِّكْرِ وَالطَّاعَةِ فَتَكُونُ كَالْمَقَابِرِ وَتَكُونُونَ كَالْمَوْتَى فِيهَا أَوْ مَعْنَاهُ: لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ فِيهَا، وَيَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ (إِنَّ الشَّيْطَانَ) اسْتِئْنَافٌ كَالتَّعْلِيلِ (يَنْفِرُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ يَخْرُجُ وَيَشْرُدُ (مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) وَالْمَعْنَى: يَيْأَسُ مِنْ إِغْوَاءِ أَهْلِهِ بِبَرَكَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، أَوْ لِمَا يَرَى مِنْ جِدِّهِمْ فِي الدِّينِ وَاجْتِهَادِهِمْ فِي طَلَبِ الْيَقِينِ وَخَصَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِذَلِكَ لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْأَحْكَامِ فِيهَا، وَقَدْ قِيلَ: فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ وَأَلْفُ نَهْيٍ وَأَلْفُ حُكْمٍ وَأَلْفُ خَبَرٍ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ أَنْ يُقَالَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ خِلَافًا لِمَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا يُقَالُ السُّورَةُ الَّتِي فِيهَا الْبَقَرَةُ أَوْ يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ آخِرُ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ الْبَقَرَةُ» .
2120 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «اقْرَأُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَأُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَأُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2120 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ) أَيِ اغْتَنِمُوا قِرَاءَتَهُ وَدَاوِمُوا عَلَى تِلَاوَتِهِ (فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا) ، أَيْ مُشَفَّعًا (لِأَصْحَابِهِ) ، أَيِ الْقَائِمِينَ بِآدَابِهِ (اقْرَءُوا) ، أَيْ عَلَى الْخُصُوصِ (الزَّهْرَاوَيْنِ) تَثْنِيَةُ الزَّهْرَاءِ تَأْنِيثُ الْأَزْهَرِ وَهُوَ الْمُضِيءُ الشَّدِيدُ الضَّوْءِ، أَيِ الْمُنِيرَتَيْنِ لِنُورِهِمَا وَهِدَايَتِهِمَا وَعِظَمِ أَجْرِهِمَا فَكَأَنَّهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَاعَدَاهُمَا عِنْدَ اللَّهِ مَكَانُ الْقَمَرَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَقِيلَ: لِاشْتِهَارِهِمَا شُبِّهَتَا بِالْقَمَرَيْنِ (الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِّيَةِ أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَيَجُوزُ رَفْعُهَا، وَسُمِّيَتَا زَهْرَاوَيْنِ لِكَثْرَةِ أَنْوَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الْعَلِيَّةِ، وَذِكْرُ السُّورَةِ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى لِبَيَانِ جَوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا (فَإِنَّهُمَا) ، أَيْ ثَوَابُهُمَا الَّذِي اسْتَحَقَّهُ التَّالِي الْعَامِلُ بِهِمَا أَوْ هُمَا يَتَصَوَّرَانِ وَيَتَجَسَّدَانِ وَيَتَشَكَّلَانِ (تَأْتِيَانِ) ، أَيْ تَحْضُرَانِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ) ، أَيْ سَحَابَتَانِ تُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا عَنْ حَرِّ الْمَوْقِفِ، قِيلَ: هِيَ مَا يَغُمُّ الضَّوْءَ وَيَمْحُوهُ لِشَدَّةِ كَثَافَتِهِ (أَوْ غَيَايَتَانِ) وَهِيَ بِالْيَاءَيْنِ مَا يَكُونُ أَدْوَنَ مِنْهُمَا فِي الْكَثَافَةِ وَأَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ صَاحِبِهِمَا كَمَا يُفْعَلُ بِالْمُلُوكِ فَيَحْصُلُ عِنْدَهُ الظِّلُّ وَالضَّوْءُ جَمِيعًا (أَوْ فِرْقَانِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيْ طَائِفَتَانِ (مِنْ طَيْرٍ) جَمْعُ طَائِرٍ (صَوَافَّ) جَمْعُ صَافَّةٍ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْوَاقِفَةُ عَلَى الصَّفِّ أَوِ الْبَاسِطَاتُ أَجْنِحَتُهَا مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنَ الْأَوَّلَيْنِ إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا مَا وَقَعَ لِسُلَيْمَانَ عليه الصلاة والسلام وَ (أَوْ) يَحْتَمِلُ الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي وَالتَّخْيِيرُ فِي تَشْبِيهِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِتَقْسِيمِ التَّالِينَ لِأَنَّ أَوْ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَا مَنْ تَرَدَّدَ مِنَ الرُّوَاةِ لِاتِّسَاقِ الرُّوَاةِ عَلَيْهِ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَوْ لِلتَّنْوِيعِ فَالْأَوَّلُ لِمَنْ يَقْرَأهُمَا وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُمَا وَالثَّانِي لِمَنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَالثَّالِثُ لِمَنْ ضَمَّ إِلَيْهِمَا تَعْلِيمَ الْغَيْرِ (تُحَاجَّانِ) أَيِ السُّورَتَانِ تُدَافِعَانِ الْجَحِيمَ وَالزَّبَانِيَةَ أَوْ تُجَادِلَانِ وَتَخْصِمَانِ الرَّبَّ أَوِ الْخَصْمِ (عَنْ أَصْحَابِهِمَا) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي
الشَّفَاعَةُ (اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ بَعْدَ تَعْمِيمٍ أَمَرَ أَوَّلًا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَّقَ بِهَا الشَّفَاعَةَ، ثُمَّ خَصَّ الزَّهْرَاوَيْنِ وَأَنَاطَ بِهِمَا التَّخَلُّصَ مِنْ حَرِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالْمُحَاجَّةِ، وَأَفْرَدَ ثَالِثًا الْبَقَرَةَ وَأَنَاطَ بِهَا أُمُورًا ثَلَاثَةً حَيْثُ قَالَ (فَإِنَّ أَخْذَهَا) ، أَيِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى تِلَاوَتِهَا وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا (بَرَكَةٌ) ، أَيْ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ (وَتَرْكَهَا) بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، أَيْ تَرْكُهَا وَأَمْثَالُهَا (حَسْرَةً) ، أَيْ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا وَرَدَ:" «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» "(وَلَا يَسْتَطِيعُهَا) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا (الْبَطَلَةُ) ، أَيْ أَصْحَابُ الْبَطَالَةِ وَالْكَسَالَةِ لِطُولِهَا، وَقِيلَ: أَيِ السَّحَرَةُ لِأَنَّ مَا يَأْتُونَ بِهِ بَاطِلٌ، سَمَّاهُمْ بِاسْمِ فِعْلِهِمُ الْبَاطِلِ، أَيْ لَا يُؤَهَّلُونَ لِذَلِكَ أَوْ لَا يُوَفَّقُونَ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِهَا أَوْ عَلَى صَاحِبِهَا السَّحَرَةُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِيهَا {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] الْآيَةَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2121 -
وَعَنِ النَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2121 -
(وَعَنِ النَوَّاسِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ (بْنِ سَمْعَانَ) بِكَسْرِ السِّينِ وَبِفَتْحٍ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ مُتَصَوَّرًا أَوْ بِثَوَابِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ) عَطَفٌ عَلَى الْقُرْآنِ (الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ) دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَلَا يَكُونُ شَفِيعًا لَهُمْ بَلْ يَكُونُ الْقُرْآنُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ (تَقْدُمُهُ) ، أَيْ تَتَقَدَّمُ أَهْلَهُ أَوِ الْقُرْآنَ (سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ) بِالْجَرِّ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي تَقَدُّمِهِ لِلْقُرْآنِ، أَيْ يَقْدُمُ ثَوَابُهُمَا ثَوَابَ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: يُصَوَّرُ الْكُلُّ بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ كَمَا يُصَوَّرُ الْأَعْمَالُ لِلْوَزْنِ فِي الْمِيزَانِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ إِيمَانًا فَإِنَّ الْعَقْلَ يَعْجَزُ عَنْ أَمْثَالِهِ (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ) بِضَمِّ الظَّاءِ، أَيْ سَحَابَتَانِ (سَوْدَاوَانِ) لِكَثَافَتِهِمَا وَارْتِكَامِ الْبَعْضِ مِنْهُمَا عَلَى بَعْضٍ وَذَلِكَ مِنَ الْمَطْلُوبِ فِي الظِّلَالِ، قِيلَ: إِنَّمَا جُعِلَتَا كَالظُّلَّتَيْنِ لِتَكُونَا أَخْوَفُ وَأَشَدُّ تَعْظِيمًا فِي قُلُوبِ خُصَمَائِهِمَا لِأَنَّ الْخَوْفَ فِي الظُّلَّةِ أَكْثَرُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ إِظْلَالِ قَارِئِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ (بَيْنَهُمَا شَرْقٌ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ وَقَدْ رُوِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، أَيْ ضَوْءُ وَنُورُ الشَّرْقِ هُوَ الشَّمْسِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمَا مَعَ الْكَثَافَةِ لَا يَسْتُرَانِ الضَّوْءَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالشَّرْقِ الشَّقَّ وَهُوَ الِانْفِرَاجُ، أَيْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ وَفَصْلٌ كَتَمَيُّزِهَا بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْمُصْحَفِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الضَّوْءَ لِاسْتِغْنَائِهِ بِقَوْلِهِ ظُلَّتَانِ عَنْ بَيَانِ الْبَيْنُونَةِ فَإِنَّهُمَا لَا تُسَمَّيَانِ ظُلَّتَيْنِ إِلَّا وَبَيْنَهُمَا فَاصِلَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ فِيهِ تِبْيَانُ أَنَّهُ لَيْسَتْ ظُلَّةٌ فَوْقَ ظُلَّةٍ بَلْ مُتَقَابِلَتَانِ بَيْنَهُمَا بَيْنُونَةٌ مَعَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا ظُلَّتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ فِي الْأَبْصَارِ مُنْفَصِلَتَيْنِ بِالِاعْتِبَارِ (أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ) ، أَيْ طَائِفَتَانِ (مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2122 -
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:" يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ؟ " قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2122 -
(وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ كُنْيَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مُعْرَبٌ لَازِمُ الْإِضَافَةِ وَيَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ عِنْدَ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ) ، أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُصَاحِبًا لَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَعَ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمَا كَانَ يَحْفَظُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ مَعَ كَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْمُصَاحَبَةِ اهـ وَكَانَ رضي الله عنه مِمَّنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ (أَعْظَمُ؟) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، أَيْ أَعْظَمُ ثَوَابًا وَأَجْرًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فَوَّضَ الْجَوَابَ أَوَّلًا وَأَجَابَ ثَانِيًا لِأَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ أَفْضَلِيَّةُ شَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ غَيْرَ الَّتِي كَانَ يَعْلَمُهَا، فَلَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ وَالْمُعَادُ بِقَوْلِ (قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَكَ أَعْظَمُ؟) ظَنَّ أَنَّ مُرَادَهُ عليه الصلاة والسلام طَلَبُ الْإِخْبَارِ عَمَّا عِنْدَهُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِ (قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] إِلَى آخِرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ
كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: فَوَّضَ أَوَّلًا أَدَبًا وَأَجَابَ ثَانِيًا طَلَبًا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدَبِ وَالِامْتِثَالِ كَمَا هُوَ دَأْبُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: سُؤَالُهُ عليه الصلاة والسلام مِنَ الصَّحَابِيِّ قَدْ يَكُونُ لِلْحَثِّ عَلَى الْإِسْمَاعِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْكَشْفِ عَنْ مِقْدَارِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ، فَلَمَّا رَاعَى الْأَدَبَ أَوَّلًا وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِهِ عَلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِخْرَاجُ مَا عِنْدِهِ مِنْ مَكْنُونِ الْعِلْمِ فَأَجَابَ، وَقِيلَ: انْكَشَفَ لَهُ الْعِلْمُ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ مِنْ مَدَدِ رَسُولِهِ بِبَرَكَةِ تَفْوِيضِهِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ فِي جَوَابِ مُسَائَلَتِهِ، قِيلَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ أَعْظَمَ آيَةٍ لِاحْتِوَائِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى بَيَانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْأَذْكَارِ فِي تِلْكَ الْمَعَانِي أَبْلَغُ كَانَ فِي بَابِ التَّدَبُّرِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ (قَالَ) ، أَيْ أُبَيٌّ (فَضَرَبَ) ، أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فِي صَدْرِي) مَحَبَّةً وَتَعْدِيَتُهُ بِفِي نَظِيرُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - وَاصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أَيْ وَقَعَ الصَّلَاحُ فِيهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مَحَلًّا لَهُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي
. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى امْتِلَاءِ صَدْرِهِ عِلْمًا وَحِكْمَةً (وَقَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ) وَفِي نُسْخَةٍ: لِيَهْنِئْكَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ النُّونِ عَلَى الْأَصْلِ فَحُذِفَ تَخْفِيفًا، أَيْ لِيَكُنِ الْعِلْمُ هَنِيئًا لَكَ (يَا أَبَا الْمُنْذِرِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ هَنَّأَنِي الطَّعَامُ يَهْنَأْنِي وَيُهْنِئَنِي وَهَنَأْتُ، أَيْ تَهَنَّأْتُ بِهِ وَكُلُّ أَمْرٍ أَتَاكَ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فَهُوَ هَنِيءٌ، وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بِتَيْسِيرِ الْعِلْمِ وَرُسُوخِهِ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ الْإِخْبَارُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَبِي الْمُنْذِرِ رضي الله عنه (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2123 -
ــ
2123 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ) ، أَيْ بِجَمْعِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِيُفَرِّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:، أَيْ فِي حِفْظِهَا، أَيْ فَوَّضَ إِلَيَّ ذَلِكَ، فَالْوِكَالَةُ بِمَعْنَاهَا اللُّغَوِيُّ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفْوِيضِ أَمْرٌ لِلْغَيْرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِجَبْرِ مَا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِي صَوْمِهِ تَفْرِيطٌ فَهِيَ بِمَعْنَى اللَّامِ (فَأَتَانِي آتٍ) ، أَيْ فَجَاءَنِي وَاحِدٌ (فَجَعَلَ) ، أَيْ طَفِقَ وَشَرَعَ (يَحْثُو) ، أَيْ يَغْرِفُ وَيَأْخُذُ هَيْلًا لَا كَيْلَا (مِنَ الطَّعَامِ) وَيَجْعَلُ فِي وِعَائِهِ وَذَيْلِهِ كَحَثِيِ التُّرَابِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ الْبُرُّ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُزَّكَّى بِهِ فِي الْفِطْرَةِ (فَأَخَذْتُهُ وَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ) هُوَ مِنْ رَفْعِ الْخَصْمِ إِلَى الْحَاكِمِ، أَيْ وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ بِكَ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ لِيَقْطَعَ يَدَكَ فَإِنَّكَ سَارِقٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ، وَفِيهِ أَنَّ الْقَطْعَ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ الْمَالُ مُحَرَّزًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنِ اسْتِحْقَاقًا مِنْهُ (قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ) ، أَيْ فَقِيرٌ فِي نَفْسِي (وَعَلَيَّ عِيَالٌ) ، أَيْ نَفَقَتُهُمْ إِظْهَارًا لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاجِ (وَلِي حَاجَةٌ) ، أَيْ حَادِثَةٌ زَائِدَةٌ (شَدِيدَةٌ) ، أَيْ صَعْبَةٌ كَمَوْتٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مُطَالَبَةِ دَيْنٍ أَوْ جُوعٍ مُهْلِكٍ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا اشْتَدَّ الْحَاجَةُ إِلَى مَا أَخَذْتُهُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ فَقِيرٌ وَقَدِ اضْطُرَّ الْآنَ إِلَى مَا فَعَلَ لِأَجَلِ الْعِيَالِ وَهَذَا لِلْمُحْتَاجِينَ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ الْجِنِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] فَالْمَعْنَى إِنَّا لَا نَرَاهُمْ عَلَى صُوَرِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي خُلِقُوا عَلَيْهَا لِبُعْدِ التَّبَايُنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَجْسَامٌ نَارِيَّةٌ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ وَالِاشْتِبَاهِ، وَلِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى الْجِنَّ عُزِّرَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَمَثَّلُوا بِصُوَرٍ أُخْرَى كَثِيفَةٍ (قَالَ) ، أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (فَخَلَّيْتُ) ، أَيْ سَبِيلَهُ (عَنْهُ) يَعْنِي تَرَكْتُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ الطَّعَامِ أَمْ لَا، بَلْ وَلَا أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخَذَ أَوْ لَا أَيْضًا لِأَنَّ يَحْثُو يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يُرِيدُ أَنْ يَحْثُوَ لِيَحْتَاجَ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى مُعَالَجَةٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى تُطَابِقَ الْحَدِيثَ قَوَاعِدُ مَذْهَبِهِ (فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ (أَسِيرُكَ) ، أَيْ مَأْخُوذُكَ (الْبَارِحَةَ؟) ، أَيِ اللَّيْلَةُ الْمَاضِيَةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ: إِخْبَارُهُ عليه الصلاة والسلام بِالْغَيْبِ وَتَمَكُّنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَخْذِهِ الشَّيْطَانَ وَرَدِّهِ خَاسِئًا وَهُوَ كَرَامَةٌ بِبَرَكَةِ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُعْلَمُ مِنْهُ إِعْلَاءُ حَالِ الْمَتْبُوعِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ جَمْعِ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ ثُمَّ تَوْكِيلِهِمْ أَحَدًا بِتَفْرِيقِهَا (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ) ، أَيْ
" النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ) بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ فِي إِظْهَارِ الْحَاجَةِ (وَسَيَعُودُ) ، أَيْ فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْهُ (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ) أَيِ انْتَظَرْتُهُ وَرَاقَبْتُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ثَانِي لَيْلَةٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَقْيِيدِهِ عليه الصلاة والسلام قَوْلُهُ: مَا فَعَلَ أَسِيرُكُ الْآتِي بِقَوْلِهِ الْبَارِحَةَ (فَجَاءَ يَحْثُوا) حَالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأَنَّ الْحَثْوَ عَقِبَ الْمَجِيءِ لَا مَعَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَجَاءَ فَجَعَلَ يَحْثُو اعْتِمَادًا عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْخُذُ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ (مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: دَعْنِي) أَيِ اتْرُكْنِي (فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ لَا أَعُودُ، فَرَحِمْتُه) لَعَلَّهُ لِقَوْلِهِ لَا أَعُودُ وَإِلَّا فَقَدْ تَحَقَّقَ كَذِبُهُ فِي إِظْهَارِ الْحَاجَةِ عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، وَقِيلَ: ظَنَّ أَنَّهُ تَابَ مِنْ كَذِبِهِ (وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً) ، أَيْ شَدِيدَةً كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَعِيَالًا فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ) ، أَيْ لِعَهْدِهِ بِعَدَمِ الْعَوْدِ وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ الرَّاوِي اخْتِصَارًا (فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ) ، أَيْ فِي عَدَمِ الْعَوْدِ (وَسَيَعُودُ فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَذَكَرَ لَهُ مَا يَقْطَعُ طَمَعَهُ فِي أَنَّهُ يُطْلِقُهُ فَقَالَ (وَهَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ إِنَّكَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا الْمَجِيءُ الَّذِي جِئْتَهُ آخِرَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، إِنَّكَ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يُطْلِقُهُ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُبْتَدَأٌ وَآخِرَ بَدَلٌ مِنْهُ وَالْخَبَرُ أَنَّكَ (تَزْعُمُ) ، أَيْ تَظُنُّ أَوْ تَقُولُ (لَا تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ) وَفِي نُسْخَةٍ: تَزْعُمُ أَنْ لَا تَعُوُدَ، أَيْ تَظُنُّ أَنْ لَا تَعُودَ ثُمَّ تَعُودَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ أَنَّكَ تَزْعُمُ صِفَةُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مَوْصُوفَةُ هَذَا الْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَالضَّمِيرُ مُقَدَّرٌ، أَيْ فِيهَا اهـ فَقَوْلُهُ: هَذَا آخِرُ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَيْضًا وَعَدَ بِعَدَمِ الْعَوْدِ وَهُوَ سَاقِطٌ اخْتِصَارًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَلَامُ الشَّارِحِ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ: وَلَا أَعُودُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الثَّانِيَةُ اهـ وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْتِزَامَ عَدَمِ الْعَوْدِ مُحَقَّقٌ إِمَّا صَرِيحًا أَوْ ضِمْنًا، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَعُودُ (قَالَ: دَعْنِي) ، أَيْ خَلِّنِي (أُعَلِّمُكَ) بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ (كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا إِذَا أَوَيْتَ) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ، أَيْ إِذَا قَصَدْتَ (إِلَى فِرَاشِكَ) لِأَجْلِ النَّوْمِ وَنَزَلْتَ فِيهِ (فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ "{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]" حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ) ، أَيْ إِلَى (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّ أَنَّ الْقَيُّومَ لَيْسَ رَأْسُ الْآيَةِ خِلَافًا لِلْبَصْرِيِّ (فَإِنَّكَ) ، أَيْ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ (لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ) ، أَيْ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ أَمْرِهِ (حَافِظًا) ، أَيْ مِنَ الْقُدْرَةِ أَوْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ (وَلَا يَقْرَبُكَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ (شَيْطَانٌ) لِأَذًى دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ (حَتَّى تُصْبِحَ) ، أَيْ تَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ غَايَةً لِمَا بَعْدَ لَنْ، قِيلَ: تُرِكَ الْإِسْنَادُ لِوُضُوحِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ كُوشِفَ لَهُ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قُلْتُ: لَكِنْ صَحَّ بِتَقْرِيرِهِ عليه الصلاة والسلام كَمَا سَيَأْتِي وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: " مَنْ قَرَأَهَا - يَعْنِي آيَةَ الْكُرْسِيِّ - حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ أَمَّنَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى دَارِهِ وَدَارِ جَارِهِ وَأَهْلِ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ " (فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ؟) لَمْ يَقُلِ الْبَارِحَةَ هُنَا أَيْضًا لِمَا سَبَقَ (قُلْتُ: زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ صَدَقَكَ) ، أَيْ فِي التَّعْلِيمِ (وَهُوَ كَذُوبٌ) ، أَيْ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِ أَوْ فِي أَغْلَبِ أَحْوَالِهِ، وَفِي الْأَمْثَالِ الْكَذُوبُ
قَدْ يُصَدَّقُ (تَعْلَمُ) ، أَيْ أَتَعْلَمُ (مَنْ تُخَاطِبُ) ، أَيْ التَّعْيِينُ الشَّخْصِيُّ (مُنْذُ ثَلَاثٍ)، أَيْ لَيَالٍ (قُلْتُ: لَا، قَالَ: ذَاكَ شَيْطَانٌ) بِالتَّنْوِينِ مَرْفُوعًا وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ بِالنَّصْبِ لِأَنَّ السُّؤَالَ فِي قَوْلِهِ مَنْ تُخَاطِبُ عَنِ الْمَفْعُولِ، فَالْعُدُولُ إِلَى جُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَتَشْخِيصِهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِمَزِيدِ التَّعْيِينِ وَدَوَامِ الِاحْتِرَازِ عَنْ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ إِبْلِيسُ، وَوَجْهُ صَرْفِهِ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ شَطَنَ، أَيْ بَعُدَ قَالَ فِي الْقَامُوسِ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ وَالشَّيْطَانُ مَعْرُوفٌ وَتَشَيْطَنَ فَعَلَ فِعْلَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ الشَّيْطَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِيذَانًا بِتَغَايُرِهِمَا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ بِلَفْظِهَا كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، وَوَجْهُ تَغَايُرِهَا أَنَّ الْأَوَّلَ لِلْجِنْسِ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ نَفْيُ قُرْبَانِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ لَهُ، وَالثَّانِي لِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، أَيْ شَيْطَانٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَلَوْ عَرَفَ لَا وَهْمَ خِلَافَ الْمَقْصُودِ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُشَارَ إِلَى السَّابِقِ أَوْ إِلَى الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُرَادٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحَدِيثُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ جَائِزٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْمَلْ بِمَا يَقُولُ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلِمَ الْمُتَعَلِّمَ كَوْنَ مَا يَتَعَلَّمُهُ حَسَنًا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حُسْنَهُ وَقُبْحَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّمَ إِلَّا مِمَّنْ عَرَفَ دِيَانَتَهُ وَصَلَاحَهُ اهـ وَفِيهِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ كَثِيرَةٌ فِي مَعَانٍ حَسَنَةِ الظَّاهِرِ كَفَضِيلَةِ السُّوَرِ وَالْعِبَادَاتِ وَالدَّعَوَاتِ وَلَا يَجُوزُ التَّعَلُّمُ فِي أَمْثَالِهَا إِلَّا مِنَ الثِّقَاتِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2124 -
ــ
2124 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام قَاعِدًا) وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي أَصْلِ الْحِصْنِ وَلَعَلَّ نَصْبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَانَ (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ: أَيْ بَيْنَ أَوْقَاتٍ وَحَالَاتٍ هُوَ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ مِيرَكُ: بَيْنَا وَبَيْنَمَا وَبَيْنَ مَعْنَاهَا الْوَسَطُ، وَبَيْنَ ظَرْفٌ إِمَّا لِلْمَكَانِ كَقَوْلِكَ: جَلَسْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ الدَّارِ، أَوْ لِلزَّمَانِ كَمَا هُنَا، أَيِ الزَّمَانُ الَّذِي كَانَ جِبْرِيلُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (سَمِعَ) وَفِي نُسْخَةٍ: إِذْ سَمِعَ، أَيْ جِبْرِيلُ (نَقِيضًا) ، أَيْ صَوْتًا شَدِيدًا كَصَوْتِ نَقْضِ خَشَبِ الْبِنَاءِ عِنْدَ كَسْرِهِ، وَقِيلَ: صَوْتًا مِثْلَ صَوْتِ الْبَابِ (مِنْ فَوْقِهِ) ، أَيْ مَعَ جِهَةِ السَّمَاءِ أَوْ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ (فَرَفَعَ) ، أَيْ جِبْرِيلُ (رَأْسَهُ فَقَالَ) ، أَيْ جِبْرِيلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ فِي جَمْعٍ وَرَفْعٍ وَقَالَ رَاجِعَةٌ إِلَى جِبْرِيلَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ إِطْلَاعًا عَلَى أَحْوَالِ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: إِلَّا وَلِأَنَّ رَاجِعَانِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالضَّمِيرُ فِي قَالَ لِجِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ حَضَرَ عِنْدَهُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ وَوَقَفَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ الْمُخْتَارُ وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ (هَذَا) ، أَيْ هَذَا الصَّوْتُ (بَابٌ) ، أَيْ صَوْتُ بَابٍ (مِنَ السَّمَاءِ) ، أَيْ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا (فُتِحَ الْيَوْمَ) ، أَيِ الْآنَ (لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ) هَذَا مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي فِي حِكَايَتِهِ لِحَالٍ سَمِعَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَلَغَهُ مِنْهُ (فَقَالَ) ، أَيْ جِبْرِيلُ أَوِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (هَذَا) ، أَيِ النَّازِلُ (مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ)، أَيِ الْمَلَكُ (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَالَ، أَيِ الْمَلَكُ (أَبْشِرْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ أَيِ افْرَحْ (بِنُورَيْنِ) سَمَّاهُمَا نُورَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نُورٌ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِمَا أَوْ لِأَنَّهُمَا يُرْشِدَانِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، أَيْ بِمَا فِي آيَتَيْنِ مُنَوِّرَتَيْنِ (أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ يُعْطَهُمَا (نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ) بِالْجَرِّ وَجَوَّزَ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ (وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ الْمَقْرُأَةِ عِنْدَ الشَّيْخِ، وَكَذَا فِي أَصْلِ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَآخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ اهـ وَالْمُرَادُ " آمَنَ الرَّسُولُ " كَذَا قِيلَ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: فَمَا لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَأَوَّلُ تِلْكَ الْخَوَاتِيمِ آمَنَ الرَّسُولُ وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَوَّلُهَا " لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ "(لَنْ تَقْرَأَ) الْخِطَابُ لَهُ عليه الصلاة والسلام وَالْمُرَادُ هُوَ وَأُمَّتُهُ إِذِ الْأَصْلُ مُشَارَكَتُهُمْ لَهُ فِي كُلِّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ إِلَّا مَا اخْتُصَّ بِهِ (بِحَرْفٍ مِنْهُمَا) ، أَيْ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَالْخَوَاتِيمِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ يُقَالُ: أَخَذْتُ بِزِمَامِ النَّاقَةِ وَأَخَذْتُ زِمَامَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ لِإِلْصَاقِ الْقِرَاءَةِ بِهِ وَأَرَادَ بِالْحَرْفِ الطَّرَفَ مِنْهَا فَإِنَّ حَرْفَ الشَّيْءِ طَرَفُهُ وَكَنَّى بِهِ عَنْ جُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَقَوْلُهُ (إِلَّا أُعْطِيتَهُ) حَالٌ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُقَدَّرٌ، أَيْ مُسْتَعِينًا بِهِمَا عَلَى قَضَاءِ مَا يَسِخُ مِنَ الْحَوَائِجِ إِلَّا أُعْطِيتَهُ، أَيْ أُعْطِيتَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِهِ " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] " كَقَوْلِهِ "{غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] " وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا هُوَ حَمْدٌ وَثَنَاءٌ أُعْطِيتَ ثَوَابَهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحَرْفِ حَرْفُ التَّهَجِّي وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُعْطِيتَهُ حِينَئِذٍ أُعْطِيتَ مَا تَسْأَلُ مِنْ حَوَائِجِكَ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حِكَايَةِ ذَلِكَ التَّوْقِيفِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام وَحَذْفُهُ الْإِسْنَادَ لِوُضُوحِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّهَ كَشَفَ الْحَالَ وَتَمَثَّلَ لَهُ جِبْرِيلُ حَتَّى رَآهُ وَرَفَعَ الرَّأْسَ فَرَأَى الْمَلَكَ النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا تَمَثَّلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ ذَلِكَ النَّقِيضَ وَالْقَوْلَ اهـ وَلَا يَخْفَى بَعْدُ الثَّانِي.
2125 -
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْآيَتَانِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2125 -
(وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ)، أَيِ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْآيَتَانِ) أَيِ الْكَائِنَتَانِ (مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، أَيْ آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى آخِرِهِ (مَنْ قَرَأَ بِهِمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ) ، أَيْ دَفَعَتَا عَنْهُ الشِّرْكَ وَالْمَكْرُوهَ وَهُوَ مِنْ كَفَى يَكْفِي إِذَا دَفَعَ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَأَغْنَاهُ، وَقِيلَ: كَفَتَاهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ أَوْ كَفَتَاهُ عَنْ سَائِرِ الْأَوْرَادِ أَوْ أَرَادَ أَنَّهُمَا أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُنَاسِبُ لِنَظْمِهِمَا أَنَّهُمَا كَفَتَاهُ عَنْ تَجْدِيدِ الْإِيمَانِ وَبَسَطَ فِي تَوْجِيهِهِ لِأَنَّهُ مَعَ خَفَاءِ ظُهُورِهِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ قَطْعًا، فَإِنَّ بِهِمَا يَحْصُلُ تَجْدِيدُ الْإِيمَانِ لَا أَنَّهُمَا تَكْفِيَانِ عَنْهُ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ إِذِ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّجْدِيدَ عَلَى اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِارْتِدَادِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ اصْطِلَاحَ الصُّوفِيَّةِ فَمُرَادُهُمْ بِالتَّجْدِيدِ جَعْلُهُ مُجَدَّدًا وَمُؤَكَّدًا وَمُؤَبَّدًا بِاسْتِحْضَارِ مَعْنَى التَّوْحِيدِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ وَرَفْعِ الْغَفْلَةِ فِي كُلِّ طَرْفَةٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ:
وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ
…
عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتَ بِرِدَّتِي
وَأَخَذَ السَّادَةُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] أَيْ دُومُوا عَلَى الْإِيمَانِ، وَمِنْ «قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: " أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
2126 -
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2126 -
(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ) ، أَيْ حُفِظَ (مِنَ الدَّجَّالِ) ، أَيْ مِنْ شَرِّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ الْفِتْيَةَ عُصِمُوا مِنْ ذَلِكَ الْجَبَّارِ كَذَلِكَ يَعْصِمُ اللَّهُ الْقَارِئَ مِنَ الْجَبَّارِينَ، وَقِيلَ: سَبَبُ ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ، فَمَنْ تَدَبَّرَهَا لَا يُفْتَتَنُ بِالدَّجَّالِ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِالْخُصُوصِ، وَاللَّامُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَيَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ لِخَوَارِقَ تَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ كَقَوْلِهِ لِلسَّمَاءِ أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ لِوَقْتِهَا وَلِلْأَرْضِ انْبِتِي فَتُنْبِتُ لِوَقْتِهَا زِيَادَةً فِي الْفِتْنَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُوجَدْ فِتْنَةٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَعْظَمُ مِنْ فِتْنَتِهِ، وَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا حَذَّرَهُ قَوْمَهُ، وَكَانَ السَّلَفُ يُعَلِّمُونَ حَدِيثَهُ الْأَوْلَادَ فِي الْمَكَاتِبِ، أَوْ لِلْجِنْسِ فَإِنَّ الدَّجَّالَ مَنْ يَكْثُرُ مِنْهُ الْكَذِبُ وَالتَّلْبِيسُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:«يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ» ، أَيْ مُمَوِّهُونَ، وَفِي حَدِيثٍ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالًا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيَ كَمَا سَيَأْتِي:«مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» ، قِيلَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ الْعَشْرِ أَنَّ حَدِيثَ الْعَشْرِ مُتَأَخِّرٌ وَمَنْ عَمِلَ بِالْعَشْرِ فَقَدْ عَمِلَ بِالثَّلَاثِ، وَقِيلَ: حَدِيثُ الثَّلَاثِ مُتَأَخِّرٌ وَمَنْ عُصِمَ بِثَلَاثٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعَشْرِ وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى أَحْكَامِ النَّسْخِ، قَالَ مِيرَكُ: بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ لَا يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ، وَأَنَا أَقُولُ: النَّسْخُ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَخْبَارِ، وَقِيلَ: حَدِيثُ الْعَشْرِ فِي الْحِفْظِ وَالثَّلَاثِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَمَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ وَقَرَأَ الثَّلَاثَ كُفِىَ وَعُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَقِيلَ: مَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ عُصِمَ مَنْ لَقْيِهِ وَمَنْ قَرَأَ الثَّلَاثَ عُصِمَ مِنْ فِتْنَتِهِ إِنْ لَمْ يَلْقَهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْحِفْظِ الْقِرَاءَةُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْعِصْمَةِ الْحِفْظُ مِنْ آفَاتِ الدَّجَّالِ.
2127 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ " قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2127 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهِ (قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ)، أَيْ أَحَدٌ (ثُلُثَ الْقُرْآنِ) لِأَنَّهُ يَصْعُبُ عَلَى الدَّوَامِ عَادَةً (قَالَ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، أَيْ إِلَى آخِرِهِ أَوْ سُورَتِهِ (يَعْدِلُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، أَيْ يُسَاوِي (ثُلُثَ الْقُرْآنِ) لِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ آيِلَةٌ إِلَى تَعْلِيمِ ثَلَاثَةِ عُلُومٍ عِلْمُ التَّوْحِيدِ وَعِلْمُ الشَّرَائِعِ وَعِلْمُ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ تَشْتَمِلُ عَلَى الْقِسْمِ الْأَشْرَفِ مِنْهَا الَّذِي هُوَ كَالْأَصْلِ لِلْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ وَهُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ عَلَى أَبْيَنِ وَجْهٍ وَآكَدِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَنْ مُشَارِكٍ فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ قَصَصٍ وَأَحْكَامٍ وَصِفَاتِ اللَّهِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مُتَمَحِّضَةٌ لِلصِّفَاتِ فَهِيَ ثُلُثُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: ثَوَابُهَا يُضَاعَفُ بِقَدْرِ ثَوَابِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بِلَا تَضْعِيفٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَكَرُّرِهَا اسْتِيعَابُ الْقُرْآنِ وَخَتْمُهُ، وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ، قَالَ مِيرَكُ: أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «جَزَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ جُزْأً مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ» ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الثَّلَاثَةَ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّوَابِ فَقَالَ: مَعْنَى كَوْنِهَا ثُلُثُ الْقُرْآنِ ثَوَابُ قِرَاءَتِهَا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ مِثْلَ ثَوَابِ مَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: مِثْلُهُ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ وَهِيَ دَعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَهَلْ ذَلِكَ الثُّلُثُ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنٌ، أَيْ ثُلُثٌ فُرِضَ مِنْهُ، فِيهِ نَظَرٌ يَلْزَمُ مِنَ الثَّانِي أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا كَانَ كَمَنْ قَرَأَ خَتْمَةً كَامِلَةً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ عَمِلَ بِمَا تَضْمَنُهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ هَذَا الْحَدِيثَ أَخْلَصُ مِمَّنْ أَجَابَ بِالرَّأْيِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَهْوَيْهِ فَإِنَّهُمَا حَمَلَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا فَضْلًا فِي الثَّوَابِ تَحْرِيضًا عَلَى تَعَلُّمِهَا لَا أَنَّ قِرَاءَتَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَوْ قَرَأَهَا مِائَتَيْ مَرَّةٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، أَيْ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
2128 -
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه.
ــ
2128 -
(وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
2129 -
ــ
2129 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا) ، أَيْ أَرْسَلَهُ أَمِيرًا (عَلَى سَرِيَّةٍ) ، أَيْ جَيْشٍ (وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ) لِأَنَّهُ كَانَ إِمَامَهُمْ (فِي صَلَاتِهِمْ) بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ (فَيَخْتِمُ) لَهُمْ، أَيْ قِرَاءَتَهُ (بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تَبَرُّكًا بِقِرَاءَتِهِ وَمَحَبَّةً لِتِلَاوَتِهِ، أَيْ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ هَذِهِ السُّورَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يَخْتِمُ قِرَاءَتَهُ لِلْفَاتِحَةِ أَوْ لِمَا يَقْرَؤُهُ بَعْدَهَا مِنَ الْقُرْآنِ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اهـ وَلَا شَكَّ أَنَّ حَمْلَنَا أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَعِبَارَةُ الطِّيبِيِّ يَعْنِي كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَقْرَأَهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مُحْتَمِلَةً لِلصِّوَرِ كُلِّهَا، وَسَيَأْتِي فِي صُورَةٍ أُخْرَى فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ الْأَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ لِصِحَّةِ الْإِسْنَادِ (فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ)، أَيْ فِعْلَهُ (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ) أَهْوَ لِلِاخْتِصَارِ أَوْ لِعَدَمِ حِفْظِ غَيْرِهَا أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ (فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا) ، أَيْ إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا (صِفَةُ الرَّحْمَنِ) وَلَعَلَّهُ آثَرَ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ اسْتِشْعَارًا بِأَنَّ شُهُودَهُ لِذَلِكَ سَبَبٌ لِسَعَةِ رَجَائِهِ بِتَرَادُفِ مَظَاهِرِ رَحْمَتِهِ وَآلَائِهِ (وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَهَا) ، أَيْ لِذَلِكَ دَائِمًا، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَعَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَحْدَهُ وَهُوَ الصَّمَدُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ حَوَائِجُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ تُصُوِّرَ صَمَدٌ سِوَاهُ لَفَسَدَ نِظَامُ الْعَالَمِ، مِنْ ثَمَّةَ كَرَّرَ لَفْظَ اللَّهِ وَأَوْقَعَ الصَّمَدَ الْمُعَرَّفَ خَبَّرًا لَهُ وَقَطَعَهُ مُسْتَأْنَفًا عَلَى بَيَانِ الْمُوجِبِ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ هُنَا اللَّهَ هُوَ الْأَحَدُ فِي الْأُلُوهِيَّةِ إِذْ لَوْ تُصُوِّرَ غَيْرُهُ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ فِيهَا وَهُوَ مُحَالٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ لَمْ يُولَدْ، أَوْ دُونَهُ فِيهَا فَلَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا وَإِلَيْهِ لَمَّحَ بِقَوْلِهِ لَمْ يَلِدْ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ وَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا وَإِلَيْهِ رَمَزَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ) ، أَيْ لِمَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا أَوْ لِهَذَا يُحِبُّهَا، قَالَ الْمَازِرِيُّ: مَحَبَّةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ إِرَادَةُ ثَوَابِهِمْ وَتَنْعِيمِهِمْ، وَقِيلَ: نَفْسُ الْإِثَابَةِ وَالتَّنْعِيمِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَعَلَى الثَّانِي مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْعِبَادِ لَهُ - تَعَالَى - فَلَا يَبْعُدُ فِيهَا الْمَيْلُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - فَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنِ الْمَيْلِ، وَمَيْلُ مُحِبِّيهِمْ لَهُ - تَعَالَى - بِاسْتِقَامَتِهِمْ عَلَى طَاعَتِهِ فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ ثَمَرَةُ الْمَحَبَّةِ وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ مَيْلُهُمْ إِلَيْهِ تَعَالَى لِاسْتِحْقَاقِهِ - تَعَالَى - مَحَبَّتِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُلَائِمُهَا مِنَ اللَّذَّاتِ وَهِيَ فِي حَقِّهِ - تَعَالَى - مُحَالٌ، فَيَحْمِلُ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ إِمَّا عَلَى إِرَادَةِ الْإِثَابَةِ أَوْ عَلَى الْإِثَابَةِ نَفْسِهَا، وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْعِبَادِ لَهُ - تَعَالَى - فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمَيْلُ إِلَيْهِ - تَعَالَى - وَصِفَاتُهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى إِيَّاهَا مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهَا وَأَنْ يُرَادَ بِهَا نَفْسُ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ - تَعَالَى - فَيَرْجِعُ حَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ إِلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الِاسْتِقَامَةَ ثَمَرَةُ الْمَحَبَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
2130 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قَالَ: " إِنَّ حُبَّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَاهُ.
ــ
2130 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا) قَالَ مِيرَكُ: اسْمُهُ كُلْثُومُ، وَقِيلَ: كَرْزَمٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ)، أَيْ قِرَاءَتُهَا وَسَمَاعُهَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الفاتحة: 1 - 28894] تَفْسِيرٌ لَهَا أَوْ بَدَلٌ (قَالَ: إِنَّ حُبَّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ) ، أَيْ أَنَالَكَ أَفَاضِلَ دَرَجَاتِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ وَبَيْنَ الْجَوَابِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَخْبَرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ؟ قُلْتُ: هَذَا الْجَوَابُ ثَمَرَةُ ذَلِكَ الْجَوَابِ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إِذَا أَحَبَّهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَهَذَا مِنْ وَجِيزِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ، فَإِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي الْأَوَّلِ عَلَى السَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ وَفَى الثَّانِي عَكْسُهُ اهـ وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَظَنَّ شَارِحٌ أَنَّ الدُّخُولَ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا فِيهِ ثَمَرَةُ ذَاكَ إِذْ إِدْخَالُ الْجَنَّةِ ثَمَرَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مَعْنَاهُ) فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْمُصَنِّفِ وَدَفْعٌ عَنْهُ، وَفَى الْحِصْنِ رَمَزَ بِالْخَاءِ وَالتَّاءِ، قَالَ مِيرَكُ: كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ بِسُورَةٍ يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ أُخْرَى فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا إِنْ أَصَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ:" يَا فُلَانُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ؟ وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ " فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ:" حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ " ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَاهُ مُعَلَّقًا، وَقَدْ وَصَلَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ حَسَنٌ.
2131 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2131 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ تَرَ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ، أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الصَّالِحُ لِأَنْ يُخَاطِبَ اهـ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِطَابَ خَاصٌّ لِلرَّاوِي وَالْمُرَادَ عَامٌّ (آيَاتٍ أُنْزِلَتْ) صِفَةُ الْآيَاتِ (اللَّيْلَةَ) نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ وَتَعْجِيبٍ، وَأَشَارَ إِلَى سَبَبِ التَّعَجُّبِ بِقَوْلِهِ (لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ) ، أَيْ فِي بَابِهِمَا وَهُوَ التَّعَوُّذُ وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَرَفْعُ مِثْلِهِنَّ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْخِطَابِ عَلَى صِيغَةِ الْفَاعِلِ وَنَصْبِ مِثْلِهِنَّ وَقَوْلُهُ (قَطُّ) لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي الْمَاضِي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، أَيْ لَمْ تُوجَدْ آيَاتُ سُورَةٍ كُلُّهُنَّ تَعْوِيذٌ لِلْقَارِئِ مِنْ شَرِّ الْأَشْرَارِ مِثْلَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ فِيهِمَا لَيْسَ مِنْ آيَاتِهِمَا، وَيُوَافِقُ مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ، وَوَرَدَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا، وَلَمَّا سُحِرَ عليه الصلاة والسلام اسْتَشْفَى بِهِمَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ خِلَافًا لِلْبَعْضِ، أَيْ لِبَعْضٍ مِمَّنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَفِي جَوَاهِرِ الْفِقْهِ: يَكْفُرُ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُؤَوَّلٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: كَفَرَ مُطْلَقًا أَوَّلَ أَوْ لَمْ يُؤَوِّلْ، وَفِى بَعْضِ الْفَتَاوَى فِي إِنْكَارِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُفْرٌ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ قَالَ: الْمُعَوِّذَتَانِ لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ لَا يُكَفَّرُ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَكْفُرُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَرْفَعُ الِاخْتِلَافَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا أَفَادَهُ الْحَدِيثُ أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ إِمَّا مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ عَلَى رَأْيٍ، وَإِمَّا صَحِيحٌ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ لَكِنَّهُ نُفِيَ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ نَفْيِهِ وَعَلَى أَنَّ لَفْظَ قُلْ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
2132 -
وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَابِ الْمِعْرَاجِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
2132 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ (إِلَى فِرَاشِهِ)، أَيْ أَتَاهُ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ (كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا) قِيلَ: النَّفْثُ إِخْرَاجُ رِيحٍ مِنَ الْفَمِ مَعَ شَيْءٍ مِنَ الرِّيقِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي الْمِفْتَاحِ: النَّفْثُ شَبِيهٌ بِالنَّفْخِ وَهُوَ أَقَلُّ مِنَ التَّفْلِ لِأَنَّ التَّفْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الرِّيقِ اهـ وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْهِدَايَةِ وَالْقَامُوسِ (فَقَرَأَ) ، أَيْ بَعْدَ النَّفْثِ وَعَقِبَيْهِ (فِيهِمَا)، أَيْ فِي الْكَفَّيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ النَّفْثَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَقِيلَ: خَالَفَ السَّحَرَةَ، أَوِ الْمَعْنَى: ثُمَّ أَرَادَ النَّفْثَ فَقَرَأَ فَنَفَثَ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ وَفَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: وَقُرِأَ بِالْوَاوِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ النَّفْثِ عَلَى الْقِرَاءَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْوَاوِ بَلْ مِنَ الْفَاءِ وَلَعَلَّ الْفَاءَ سَهْوٌ مِنَ الْكَاتِبِ أَوِ الرَّاوِي، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَخْطِئَةُ الرُّوَاةِ الْعُدُولِ بِمَا عَرَضَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ خَطَأٌ هَلَّا قَاسَوْا هَذِهِ الْفَاءَ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ " {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] " وَقَوْلِهِ " {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا} [البقرة: 54] " عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مُؤَخَّرَةٌ عَنِ الْقَتْلِ، فَالْمَعْنَى جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى النَّفْثِ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا اهـ وَهُوَ مَآلُ تَأْوِيلِ الطِّيبِيِّ وَقَوْلُهُ التَّوْبَةُ مُؤَخَّرَةٌ عَنِ الْقَتْلِ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا هُوَ عَلَامَةُ تَوْبَتِهِمْ أَوْ شَرْطُهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عُطِفَ بِثُمَّ لِتَرَتُّبِ النَّفْثِ فِيهِمَا عَلَى جَمْعِهِمَا ثُمَّ بِالْفَاءِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْثَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرَّدَ نَفْخٍ مَعَ رِيقٍ بَلْ مَعَ قِرَاءَتِهِ فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى ابْتِدَاءِ النَّفْثِ مُقَارَنَةً لِبَقِيَّتِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَزَعَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِالْوَاوِ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ فِيهِ بِالْفَاءِ اهـ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي (ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ) بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ لِيَمْسَحَ (بِهِمَا) ، أَيْ بِمَسْحِهِمَا (عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ)، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهُ (يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَابِ الْمِعْرَاجِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) وَهُوَ إِمَّا لِتَكَرُّرِهِ حَوْلَهُ إِلَيْهِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ بِذَلِكَ الْبَابِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ - وَهَا أَنَا هَا هُنَا أَذْكُرُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ بِشَرْحِهِ لِابْنِ الْمَلَكِ تَتْمِيمًا لِفَائِدَةِ الْكِتَابِ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْهُولُ أَسْرَى يَسْرِي إِذْ أَسْرَى لَيْلًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ انْتَهَى بِهِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ شَجَرَةٌ فِي أَقْصَى الْجَنَّةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَلَا يَتَعَدَّاهَا أَوْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ أَوْ نُفُوسُ السَّائِحِينَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فَيَجْتَمِعُونَ فِيهِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا وَرَاءَهَا غَيْرُ اللَّهِ، فَأُعْطِيَ ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغُفِرَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِهِ. الْمُقْحِمَاتُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْخَفِيفَةِ الْمَكْسُورَةِ مَرْفُوعَةٌ بِغُفِرَ وَهِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي تُقْحِمُ أَصْحَابَهَا، أَيْ تُلْقِيهِمْ فِي النَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَدِّدُهَا مِنْ قَحْمٍ فِي الْأَمْرِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ يَعْنِي أُعْطِيَ صلى الله عليه وسلم الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ.
2133 -
(الْفَصْلُ الثَّانِي) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «ثَلَاثَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْقُرْآنُ يُحَاجُّ الْعِبَادَ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَالْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ تُنَادِي أَلَا مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» " رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
ــ
2133 -
(الْفَصْلُ الثَّانِي)(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثَةٌ) ، أَيْ أَشْيَاءٌ أَوْ أَعْمَالٌ (تَحْتَ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، أَيْ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (الْقُرْآنُ) قَدَّمَهُ فَإِنَّهُ أَجَلُّهَا رُتْبَةً وَأَعْظَمُهَا حُرْمهً، وَلِذَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (يُحَاجُّ الْعِبَادَ) ، أَيْ يُخَاصِمُهُمْ فِيمَا ضَيَّعُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ أَوْ يُحَاجُّ لَهُمْ وَيُخَاصِمُ عَنْهُمْ بِسَبَبِ مُحَافَظَتِهِمْ حُقُوقِهِ كَمَا تَقَدَّمَ يُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا وَكَمَا وَرَدَ الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ فَنَصَبَ الْعِبَادَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ (لَهُ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (ظَهْرٌ) ، أَيْ مَعْنًى ظَاهِرٌ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّأَمُّلِ يَفْهَمُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ أَدَوَاتُ فَهْمِهِ (وَبَطْنٌ) ، أَيْ مَعْنًى خَفِيٌّ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ مِنْ إِشَارَاتٍ خَفِيَّةٍ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا خَوَاصُّ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَالِمِينَ بِحَسَبِ الِاسْتِعْدَادِ وَحُصُولِ الْإِمْدَادِ، وَقِيلَ: ظَهْرُهُ تِلَاوَتُهُ كَمَا أُنْزِلَ،
وَبَطْنُهُ التَّدَبُّرَ لَهُ، وَقِيلَ: ظَهْرُهُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ، وَبَطْنُهُ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّفَاوُتُ فِي فَهْمِهِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا أَرْدَفَ قَوْلَهُ يُحَاجُّ الْعِبَادَ بِقَوْلِهِ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يُطَالِبُ بِقَدْرِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ وَفَهْمِهِ، وَالْجُمْلَةُ خَالِيَةٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُحَاجُّ، أَيْ فَمَنِ اتَّبَعَ ظَوَاهِرَهُ وَبَوَاطِنَهُ فَقَدْ أَدَّى بَعْضَ حُقُوقِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقَامَ بِأَفْضَلِ وَظَائِفِهِ الْعُبُودِيَّةِ (وَالْأَمَانَةُ) وَهِيَ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ أَوِ الْخَلْقِ لَزِمَ أَدَاؤُهُ وَفُسِّرَتْ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] بِأَنَّهَا الْوَاجِبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ (وَالرَّحِمُ) اسْتُعِيرَتْ لِلْقَرَابَةِ بَيْنَ النَّاسِ (تُنَادِي) بِالتَّأْنِيثِ، أَيْ قَرَابَةُ الرَّحِمِ أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالرَّحِمِ، وَقِيلَ: كُلٌّ مِنَ الثَّلَاثَةِ (أَلَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ (مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ) ، أَيْ بِالرَّحْمَةِ (وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ) ، أَيْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ إِخْبَارًا وَدُعَاءً، قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ ثَلَاثَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ، أَيْ هِيَ بِمَنْزِلَةٍ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَضِيعُ أَجْرَ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يُهْمِلُ مُجَازَاةَ مَنْ ضَيَّعَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا، كَمَا هُوَ حَالُ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ السَّلَاطِينَ الْوَاقِفِينَ تَحْتَ عَرْشِهِ فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إِلَيْهِمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَشُكْرَهُمْ وَشِكَايَتَهُمْ تَكُونُ مُؤَثِّرَةً تَأْثِيرًا عَظِيمًا، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مَا يُحَاوِلُهُ الْإِنْسَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَائِرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَامَّةِ النَّاسِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ وَأَهْلِهِ، فَالْقُرْآنُ وَصْلَةٌ إِلَى أَدَاءِ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأَمَانَةُ تَعُمُّ النَّاسَ فَإِنَّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ وَسَائِرَ حُقُوقِهِمْ أَمَانَاتٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَمَنْ قَامَ بِهَا فَقَدْ أَقَامَ الْعَدْلَ وَمَنْ وَاصَلَ الرَّحِمَ وَرَاعَى الْأَقَارِبَ بِدَفْعِ الْمَخَاوِفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَقَدْ أَدَّى حَقَّهَا، وَقَدَّمَ الْقُرْآنَ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَعْظَمُ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَخِيرَيْنِ، وَعَقِبَهُ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنَ الرَّحِمِ وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَدَاءِ حَقِّ الرَّحِمِ، وَصَرَّحَ بِالرَّحِمِ مَعَ اشْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مُحَافَظَتِهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا أَحَقُّ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْحِفْظِ (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: وَفَى إِسْنَادِهِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ وَاهٍ.
2134 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارَتْقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
2134 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُقَالُ) ، أَيْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَتَوَجُّهِ الْعَامِلِينَ إِلَى مَرَاتِبِهِمْ عَلَى حَسَبِ مَكَاسِبِهِمْ (لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ) ، أَيْ مَنْ يُلَازِمُهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ لَا مَنْ يَقْرَؤُهُ وَهُوَ يَلْعَنُهُ (اقْرَأْ وَارَتْقِ) ، أَيْ إِلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ أَوْ مَرَاتِبِ الْقُرْبِ (وَرَتِّلْ) ، أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ فِي قِرَاءَتِكَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ وَالشُّهُودِ الْأَكْبَرِ كَعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ (كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ) ، أَيْ قِرَاءَتُكَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى وَفْقِ الْأَعْمَالِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (فِي الدُّنْيَا) مِنْ تَجْوِيدِ الْحُرُوفِ وَمَعْرِفَةِ الْوُقُوفِ النَّاشِئِ عَنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِ الْفُرْقَانِ (فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا) وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ عَلَى عَدَدِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ «مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ دَرَجَةٌ» فَالْقُرَّاءُ يَتَصَاعَدُونَ بِقَدْرِهَا، قَالَ الدَّانِيُّ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ آيِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ، فَقِيلَ: وَمِائَتَا آيَةٍ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ، وَقِيلَ: وَأَرْبَعَ عَشَرَةَ، وَقِيلَ: وَتِسْعَ عَشَرَةَ، وَقِيلَ: وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: وَسِتٌّ وَثَلَاثُونَ، وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ الدَّيْلَمَيِّ فِي سَنَدِهِ كَذَّابٌ:" «دَرَجُ الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ آيِ الْقُرْآنِ، بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةٌ، فَتِلْكَ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ وَمِائَتَا آيَةٍ وَسِتَّ عَشَرَةَ آيَةٍ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مِقْدَارُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ التَّرَقِّيَ يَكُونُ دَائِمًا، فَكَمَا أَنَّ قِرَاءَتَهُ فِي حَالِ الِاخْتِتَامِ اسْتَدْعَتْ الِافْتِتَاحَ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ كَذَلِكَ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَالتَّرَقِّي فِي الْمَنَازِلِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَهُمْ كَالتَّسْبِيحِ لِلْمَلَائِكَةِ لَا تَشْغَلُهُمْ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِهِمْ بَلْ هِيَ أَعْظَمُ مُسْتَلَذَّاتِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَنَالُ هَذَا الثَّوَابَ الْأَعْظَمَ إِلَّا مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَأَتْقَنَ أَدَاءَهُ وَقِرَاءَتَهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّاحِبَ هُوَ الْحَافِظُ دُونَ الْمُلَازِمِ لِلْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ، قُلْتُ: الْأَصْلُ فِيمَا فِي الْجَنَّةِ أَنَّهُ يَحْكِي مَا فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ فِي الدُّنْيَا صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُلَازِمَ لَهُ نَظَرًا
لَا يُقَالُ لَهُ صَاحِبُ الْقُرْآنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يُفَارِقُ الْقُرْآنَ فِي حَالَةٍ مِنَ الْحَالَاتِ، وَأَيْضًا فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ:" «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فَيَقْرَأُ وَيَصْعَدُ بِكُلِّ أَيْةٍ دَرَجَةً حَتَّى يَقْرَأَ شَيْئًا مَعَهُ» " فَقَوْلُهُ مَعَهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ حَافِظُهُ، وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ الرَّامَهُرْمُزِيِّ: فَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ بِقِرَاءَتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ذَكَرَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ( «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَظْهِرَهُ أَتَاهُ مَلَكٌ يُعَلِّمُهُ فِي قَبْرِهِ وَيَلْقَى اللَّهَ وَقَدِ اسْتَظْهَرَهُ» ) وَفِي حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ ( «وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ يَتَفَلَّتُ مِنْهُ وَلَا يَدَعْهُ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَمَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَطِيعُهُ وَلَا يَدَعُهُ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَشْرَافِ أَهْلِهِ» ) وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ ( «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ، لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَجْهَلَ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ وَفِي جَوْفِهِ كَلَامُ اللَّهِ» ) .
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَنْزِلَةُ الَّتِي فِي الْحَدِيثِ هِيَ مَا يَنَالُهُ الْعَبْدُ مِنَ الْكَرَامَةِ عَلَى حَسَبِ مَنْزِلَتِهِ فِي الْحِفْظِ وَالتِّلَاوَةِ لَا غَيْرَ، وَذَلِكَ لِمَا عَرِفْنَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ أَنَّ الْعَامِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمُتَدَبِّرَ لَهُ أَفْضَلُ مِنَ الْحَافِظِ وَالتَّالِي لَهُ إِذَا لَمْ يَنَلْ شَأْنَهُ فِي الْعَمَلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْ الصِّدِّيقِ وَأَكْثَرُ تِلَاوَةً مِنْهُ وَكَانَ هُوَ أَفْضَلَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِسَبْقِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَتَدَبُّرِهِ لَهُ وَعَمَلِهِ بِهِ، وَإِنْ ذَهَبْنَا إِلَى الثَّانِي وَهُوَ أَحَقُّ الْوَجْهَيْنِ وَأَتَمُّهُمَا فَالْمُرَادُ مِنَ الدَّرَجَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِالْآيَاتِ سَائِرُهَا وَحِينَئِذٍ تُقَدَّرُ التِّلَاوَةُ فِي الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَتْلُوَ آيَةً إِلَّا وَقَدْ أَقَامَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَاسْتِكْمَالُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لِلْأُمَّةِ بَعْدَهُ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي الدِّينِ وَمَعْرِفَةِ الْيَقِينِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَقْرَأُ عَلَى مِقْدَارِ مُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ تَدَبُّرًا وَعَمَلًا اهـ وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ وَنِهَايَةِ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ وَلَا عِبْرَةَ بِطَعْنِ ابْنِ حَجْرٍ فِيهِ وَتَضْعِيفِ كَلَامِهِ وَحَمْلِهِ عَلَى التَّكْلِفَةِ وَالْمُنَافَاةِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ التَّحْقِيقَ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ يَقْرَؤُهُ دَائِمًا وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ وَإِنْ قَرَأَهُ دَائِمًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] فَمُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ وَالْحِفْظِ لَا يُعْتَبَرُ اعْتِبَارًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَرَاتِبُ الْعَلِيَّةُ فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ وَفِيهِ: " «فَيَقُولُ: الْقُرْآنُ يَا رَبِّ حُلَّةً فَيَلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ فَيَلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَيَرْضَى عَنْهُ وَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ» ".
2135 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
ــ
2135 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ) ، أَيْ قَلْبِهِ (شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ نُسْخَةٌ، أَيِ الْخَرَابُ لِأَنَّ عِمَارَةَ الْقُلُوبِ بِالْإِيمَانِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَزِينَةَ الْبَاطِنِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْحَقَّةِ وَالتَّفَكُّرِ فِي نَعْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أُطْلِقَ الْجَوْفُ وَأُرِيدَ بِهِ الْقَلْبُ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] وَاحْتِيجَ لِذِكْرِهِ لِيَتِمَّ التَّشْبِيهُ لَهُ بِالْبَيْتِ الْخَرَابِ بِجَامِعِ أَنَّ الْقُرْآنَ إِذَا كَانَ فِي الْجَوْفِ يَكُونُ عَامِرًا مُزَيَّنًا بِحَسَبِ قِلَّةِ مَا فِيهِ وَكَثْرَتِهِ، وَإِذَا خُلِّيَ عَمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالتَّفَكُّرِ فِي آلَاءِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَصِفَاتِهِ يَكُونُ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ الْخَالِي عَمَّا يُعَمِّرُهُ مِنَ الْأَثَاثِ وَالتَّجَمُّلِ اهـ وَكَأَنَّهُ عَدْلٌ عَنْ ظَاهِرِ الْمُقَابَلَةِ الْمُتَبَادِرِ إِلَى الْفَهْمِ، وَإِذَا خُلِّيَ عَنِ الْقُرْآنِ لِعَدَمِ ظُهُورِ إِطْلَاقِ الْخَرَابِ عَلَيْهِ، وَغَفَلَ ابْنُ حَجْرٍ عَنْ مَلْحَظِهِ وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يُنَاسِبُهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ) .
2136 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.
ــ
2136 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الْخُدْرِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ الرَّبُّ تبارك وتعالى مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ) ، أَيْ حِفْظُهُ وَعِلْمُ مَبَانِيهِ وَتَدَبُّرُ مَعَانِيهِ وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ (عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتَيْ أَعْطَيْتُهُ) ، أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ (أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، قِيلَ: شُغْلُ الْقُرْآنِ الْقِيَامُ بِمَوَاجِبِهِ وَحُقُوقِهِ، وَمَسْأَلَتِي عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، أَيْ لَا يَظُنُّ الْمَشْغُولُ بِهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْأَلْ لَمْ يُعْطَ حَوَائِجَهُ عَلَى أَكْمَلِ الْعَطَاءِ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ لَهُ.
وَعَنِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ - شُغْلُ الْقُرْآنِ الْقِيَامُ بِمُوجِبَاتِهِ مِنْ إِقَامَةِ فَرَائِضِهِ وَالِاجْتِنَابِ عَنْ مَحَارِمِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ ذَكَرَهُ وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ، وَإِذَا عَصَاهُ فَقَدْ نَسِيَهُ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصَوْمُهُ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالذِّكْرِ وَالْمَسْأَلَةِ اللَّذَانِ لَيْسَا فِي الْقُرْآنِ كَالدَّعَوَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلَهِ (وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ) ، أَيْ الدَّالُ عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَشَرَّفَهُ بِاعْتِبَارِ مَدْلُولِهِ (عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ) ، أَيْ وَكَذَلِكَ فَضْلُ الِاشْتِغَالِ وَالْمُشْتَغِلِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ وَجْهُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِ الذَّاكِرِينَ بِذِكْرِ السَّائِلِينَ أَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ سَائِرِينَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ إِذْ لِسَانُ حَالِ كُلِّ مَخْلُوقٍ نَاطِقٍ بِالِافْتِقَارِ إِلَى نِعَمِ الْحَقِّ وَإِمْدَادِهِ بَعْدَ إِيجَادِهِ، ثُمَّ هَذَا الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِلَّا فَمَحَلُّهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى قِدَمِ الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ رَدًّا عَلَى الْمُحَدِّثِينَ، قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ تَتِمَّةِ قَوْلِ اللَّهِ عز وجل فَحِينَئِذٍ فِيهِ الْتِفَاتٌ كَمَا لَا يَخْفَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا أَظْهَرُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى ارْتِكَابِ الِالْتِفَاتِ، وَنُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ وَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا عَطِيَّةَ الْعَوْفِيَّ فَفِيهِ ضَعْفٌ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) قَالَ مِيرَكُ: وَلَفْظُ الدَّارِمِيِّ " «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسَائِلِي» " اهـ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِي الْمَعْنَى الْأَعَمُّ أَوِ الْأَخَصُّ وَهُوَ الْأَظْهَرُ الْأَنْسَبُ لِلْجَمْعِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْإِضَافَةِ التَّشْرِيفِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] .
2137 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.
ــ
2137 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا) ، أَيْ قَابِلًا لِلِانْفِصَالِ أَوِ الْمُرَادُ بِهِ مَثَلًا (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ) ، أَيْ عَطِيَّةٌ (وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)، أَيْ مُضَاعَفَةٌ بِالْعَشْرِ وَهُوَ أَقَلُّ التَّضَاعُفِ الْمَوْعُودِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَلِلْحَرْفِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ وَالْحَرْفُ يُطْلَقُ عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ وَالْمَعَانِي وَالْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ وَالْكَلِمَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي قِرَاءَتِهَا وَعَلَى مُطْلَقِ الْكَلِمَةِ وَلِذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام (لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، أَلْفٌ) بِالسُّكُونِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَقِيلَ: بِالتَّنْوِينِ (حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مُسَمَّى أَلِفٍ حَرْفٌ وَالِاسْمُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ وَكَذَا مُسَمَّى مِيمٍ وَهُوَ حَرْفٌ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَفْظَةَ مِيمٍ اسْمٌ لِهَذَا الْمُسَمَّى، فَحُمِلَ الْحَرْفُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْمَذْكُورَاتِ مَجَازًا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فِي ضَرْبِ اللَّهِ مَثَلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ضَهٍ وَرَهٍ وَبِهِ وَعَلَى هَذَا إِنْ أُرِيدَ بِـ (الم) مُفْتَتَحُ سُورَةِ الْفِيلِ يَكُونُ عَدَدُ الْحَسَنَاتِ ثَلَاثِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مُفْتَتَحُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَشَبَهِهَا بَلَغَ الْعَدَدُ تِسْعِينَ اهـ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ بَعِيدٌ إِذِ الرِّوَايَةُ (ألم) بِالْمَدِّ لَا بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُنَاسِبِ أَنْ يُقَالَ: فَأُحَرِّفُ بَدَلِ مِيمٍ حَرْفٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عليه الصلاة والسلام ذَكَرَ مِنْ (ألم) مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ حَرْفًا وَأَنْ يُلَاحِظَ الْمُسَمَّيَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ (ألم) عِبَارَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ عَنْ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَدَاءَ نَفْسِ الْأَسْمَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ مُرَادَهُ أَنْ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ يَكُونُ عَدَدُ الْحَسَنَاتِ تِسْعِينَ وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْفِيلِ يَكُونُ عَدَدُهَا ثَلَاثِينَ كَمَا هُوَ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ، وَلَا يُرِيدُ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُهُمَا لِأَنَّهُ جَاءَ صَرِيحًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيِّ ( «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، لَا أَقُولُ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَلَكِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْمِيمَ وَالذَّالَ وَاللَّامَ وَالْكَافَ» ) اهـ وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحِسَابِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ لَا الْمَلْفُوظَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ ( «لَا أَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ بَاءٌ وَسِينٌ وَمِيمٌ، وَلَا أَقُولُ الم وَلَكِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَالْمِيمَ» )(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) ، أَيْ لِأُمَّتِنَا تَمْيِيزٌ عَنْ نِسْبَةِ غَرِيبٍ، وَقَالَ: وَوَقَفَهُ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ.
2138 -
ــ
2138 -
(وَعَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ) تَابِعِيٌّ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ (قَالَ: مَرَرْتُ فِي الْمَسْجِدِ) ، أَيْ بِنَاسٍ جَالِسِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي الْمَسْجِدِ ظَرْفٌ، وَالْمُرُورُ بِهِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (فَإِذَا النَّاسُ يَخُوضُونَ) ، أَيْ يَدْخُلُونَ دُخُولَ مُبَالَغَةٍ (فِي الْأَحَادِيثِ) ، أَيْ أَحَادِيثِ النَّاسِ وَأَبَاطِيلِهِمْ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْحِكَايَاتِ وَالْقِصَصِ وَيَتْرُكُونَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْآثَارِ وَأَنْوَارِ الْبُرْهَانِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَادِيثُ الصِّفَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ ظُهُورِهَا أَوْ يُبَالِغُونَ فِي بَحْثِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَيَتْرُكُونَ التَّعَلُّقَ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخَوْضُ أَصْلُهُ الشُّرُوعُ فِي الْمَاءِ وَالْمُرُورُ فِيهِ وَيُسْتَعَارُ فِي الشُّرُوعِ، وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا يُذَمُّ الشُّرُوعُ فِيهِ (فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه) خَصَّهُ إِمَّا لِكَوْنِهِ الْخَلِيفَةَ إِذْ ذَاكَ أَوْ لِتَمَيُّزِهِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ " «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» " خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَلِمَنْ قَالَ: ضَعِيفٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ إِفْرَادِ طُرُقِهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ (فَأَخْبَرْتُهُ)، أَيِ الْخَبَرُ (فَقَالَ: أَوَقَدْ فَعَلُوهَا؟) ، أَيْ أَتَرَكُوا الْقُرْآنَ وَقَدْ فَعَلُوهَا، أَيْ وَخَاضُوا فِي الْأَحَادِيثِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: أَوَقَدْ فَعَلُوا الْمُنْكَرَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ ارْتَكَبُوا هَذِهِ الشَّنِيعَةَ وَخَاضُوا فِي الْأَبَاطِيلِ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ وَالْوَاوَ الْعَاطِفَةَ يَسْتَدْعِيَانِ فِعْلًا مُنْكَرًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، أَيْ فَعَلُوا هَذِهِ الْفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا) لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهَا) ، أَيِ الْقِصَّةُ وَبَيَانُهَا (سَتَكُونُ فِتْنَةً) ، أَيْ مِحْنَةً عَظِيمَةً وَبَلِيَّةً عَمِيمَةً، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُرِيدُ بِالْفِتْنَةِ مَا وَقَعَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أَوْ خُرُوجَ التَّتَارِ أَوِ الدَّجَّالِ أَوْ دَابَّةِ الْأَرْضِ اهـ وَغَيْرَ الْأَوَّلِ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ كَمَا لَا يَخْفَى (قُلْتُ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا؟)، أَيْ مَا طَرِيقُ الْخُرُوجِ وَالْخَلَاصِ مِنَ الْفِتْنَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ الطِّيبِيُّ:، أَيْ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ أَوِ السَّبَبُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْفِتْنَةِ (قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ) ، أَيْ طَرِيقُ الْخُرُوجِ مِنْهَا تَمَسُّكٌ بِكِتَابِ اللَّهِ عَلَى التَّقْدِيرِ مُضَافٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: التَّقْدِيرُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا الْمَخْرَجُ، أَيِ السَّبَبُ الْمَانِعُ لِلْوُقُوعِ فِي الضَّلَالَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْفِتْنَةِ (فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ) ، أَيْ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ (وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ) وَهِيَ الْأُمُورُ الْآتِيَةُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَحْوَالِ الْقِيَامَةِ، وَفِي الْعِبَارَةِ تَفَنُّنٌ (وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ، أَيْ حُكْمُ مَا وَقَعَ أَوْ يَقَعُ بَيْنَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَمَبَانِي الْأَحْكَامِ (وَهُوَ الْفَصْلُ) ، أَيِ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَوِ الْمَفْصُولِ وَالْمُمَيَّزِ فِيهِ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعَذَابُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَةٌ (لَيْسَ بِالْهَزْلِ) ، أَيْ جِدٌّ كُلُّهُ وَحَقٌّ جَمِيعُهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَالْهَزْلُ فِي الْأَصْلِ الْقَوْلُ الْمُعَرَّى عَنِ الْمَعْنَى الْمَرْضِيِّ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْهُزَالِ ضِدُّ السِّمَنِ، وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ - وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13 - 14] أَيْ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى كَوْنِهِ فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَآثَرَ الْمَصْدَرَ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَفْصُولٌ بِهِ أَوْ أَنَّهُ قَاطِعٌ فِي أَنَّهُ حَقٌّ وَيُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ أَوْ ذُو فَصْلٍ وَبَيَانٍ لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] (مَنْ تَرَكَهُ) ، أَيِ الْقُرْآنَ إِيمَانًا وَعَمَلًا (مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ) ، أَيْ أَهْلَكَهُ أَوْ كَسَرَ عُنُقَهُ وَأَصْلُ الْقَصْمِ الْكَسْرُ وَالْإِبَانَةُ فَالْمَعْنَى قَطَعَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ عَنْ رَحْمَتِهِ أَوْ قَطَعَ حُجَّتَهُ بِخِلَافِ مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ - تَعَالَى - وَصَّلَهُ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ وَأَعْلَى مَنَازِلِ الْجَمَالِ مِنَ الْوِصَالِ وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ أَوْ إِخْبَارٌ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَالطِّيبِيُّ رحمه الله وَتَبِعَهُمَا ابْنُ حَجَرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا ضِدَّانِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَبَيَّنَ التَّارِكَ بِمِنْ جَبَّارٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى التَّرْكِ إِنَّمَا هُوَ التَّجَبُّرُ وَالْحَمَاقَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِآيَةٍ أَوْ بِكَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِمَّا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ أَوْ تَرَكَ قِرَاءَتَهَا مِنَ التَّكَبُّرِ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهُ عَجْزًا وَكَسَلًا وَضَعْفًا مَعَ اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَيْ بِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ وَلَكِنَّهُ مَحْرُومٌ (وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى) ، أَيْ طَلَبَ الْهِدَايَةِ مِنَ الضَّلَالَةِ (فِي غَيْرِهِ) مِنَ الْكُتُبِ وَالْعُلُومِ الَّتِي غَيْرُ مَأْخُوذَةٍ مِنْهُ وَلَا مُوَافِقَةٍ مَعَهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِلسَّبَبِيَّةِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لِلظَّرْفِيَّةِ أَبْلَغُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ (أَضَلَّهُ اللَّهُ) ، أَيْ
عَنْ طَرِيقِ الْهَدْيِ وَأَوْقَعَهُ فِي سَبِيلِ الرَّدَى وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ الضَّالَّةِ (وَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ) ، أَيِ الْمُحْكَمُ الْقَوِيُّ وَالْحَبْلُ مُسْتَعَارٌ لِلْوَصْلِ وَلِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى شَيْءٍ، أَيِ الْوَسِيلَةُ الْقَوِيَّةُ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَسَعَادَةِ قُرْبِهِ وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] (وَهُوَ الذِّكْرُ) ، أَيْ مَا يُذَّكِّرُ بِهِ الْحَقُّ - تَعَالَى - أَوْ مَا يَتَذَكَّرُ بِهِ الْخَلْقُ، أَيْ يَتَّعِظُ (الْحَكِيمُ)، أَيْ ذُو الْحِكْمَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ أَوِ الْحَاكِمِ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ أَوْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ أَوِ الْمُحْكِمِ آيَاتِهِ الْقَوِيِّ بُنْيَانِهِ لَا يُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَقْدِرَ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَالَ - تَعَالَى - {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] أَوِ الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الشَّرَفُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَعْنَى الْمُذَكِّرِ فَالْمُرَادُ بِالْحَكِيمِ ذُو الْحِكْمَةِ وَأَمَّا تَفْسِيرُ الذِّكْرِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فَبَعِيدٌ (وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ)، أَيْ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مِنَ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْطِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّضْلِيلِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فَمَنْ سَلَكَهُ نَجَا وَمَنْ عَدَلَ عَنْهُ غَوَى (هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ، أَيْ لَا تَمِيلُ عَنِ الْحَقِّ (بِهِ) ، أَيْ بِاتِّبَاعِهِ (الْأَهْوَاءُ) ، أَيِ الْهَوَى إِذَا وَافَقَ هَذَا الْهَدْيَ حُفِظَ مِنَ الرَّدَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مُبْتَدِعًا وَضَالًّا يَعْنِي لَا يَمِيلُ بِسَبَبِهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْآرَاءِ لَا يُقَالُ قِيلَ لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْكَازَرُونِيِّ: إِنَّ أَهْلَ الْبِدْعَةِ أَيْضًا يَسْتَدِلُّونَ بِالْقُرْآنِ كَمَا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَحْتَجُّونَ بِهِ عِنْدَ الْبُرْهَانِ، قَالَ - تَعَالَى - {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] لِأَنَّا نَقُولُ سَبَبُ الْإِضْلَالِ عَدَمُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَإِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ تَرَكُوا الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقَاصِدِ الْقُرْآنِيَّةِ وَفَى الْقُرْآنِ " {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] " فَمَا عَرَفُوا الْقُرْآنَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَمَا قَلَّدُوا مَنْ هُوَ كَامِلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَدِلَّتِهِ فَوَقَعُوا فِيمَا وَقَعُوا حَيْثُ أَنْكَرُوا الْحَدِيثَ وَدَفَعُوا، وَلِذَا قَالَ الْجُنَيْدُ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي طَرِيقِنَا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاسْتَمَرَّ قَانِعًا بِجَهْلِهِ فَهُوَ ضَحِكَةٌ لِلشَّيْطَانِ مَخْسَرَةٌ لَهُ لِأَنَّ عِلْمَنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ:، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ عَلَى تَبْدِيلِهِ وَتَغْيِيرِ إِمَالَتِهِ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى وُقُوعِ تَحْرِيفِ الْغَالِينَ وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقِيلَ: الرِّوَايَةُ مِنَ الْإِزَاغَةِ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ وَالْبَاءُ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، أَيْ لَا يُمِيلُهُ الْأَهْوَاءُ الْمُضِلَّةُ عَنْ نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ وَعَدَمِ الْإِقَامَةِ كَفِعْلِ الْيَهُودِ بِالتَّوْرَاةِ حِينَ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - تَكَفَّلَ بِحِفْظِهِ، قَالَ - تَعَالَى - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] (وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ) ، أَيْ لَا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ، قَالَ - تَعَالَى - {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 97 - 17] وَقِيلَ: لَا يَخْتَلِطُ بِهِ غَيْرُهُ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ وَيَلْتَبِسُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَحْفَظُهُ، أَوْ يُشْتَبَهُ كَلَامُ الرَّبِّ بِكَلَامِ غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ كَلَامًا مَعْصُومًا دَالًّا عَلَى الْإِعْجَازِ وَلِذَا لَا يَجِدُونَ فِيهِ تَنَاقُضًا يَسِيرًا " {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] " (وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ) ، أَيْ لَا يَصِلُونَ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُنْهِهِ حَتَّى يَقِفُوا عَنْ طَلَبِهِ وُقُوفَ مَنْ يَشْبَعُ مِنْ مَطْعُومٍ، بَلْ كُلَّمَا اطَّلَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِهِ اشْتَاقُوا إِلَى آخَرَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا فَلَا شِبَعَ وَلَا سَآمَةَ (وَلَا يَخْلُقُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ مِنْ خَلِقَ الثَّوْبُ إِذَا بَلِيَ وَكَذَلِكَ أَخْلَقَ (عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ) ، أَيْ لَا تَزُولُ لَذَّةُ قِرَاءَتِهِ وَطَرَاوَةُ تِلَاوَتِهِ وَاسْتِمَاعُ أَذْكَارِهِ وَأَخْبَارِهِ مِنْ كَثْرَةِ تَكْرَارِهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ بَابُهَا، أَيْ لَا يَصْدُرُ الْخَلْقُ مِنْ كَثْرَةِ تَكْرَارِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كَلَامِ غَيْرِهِ - تَعَالَى - الْمَقُولِ فِيهِ: جُبِلَتِ النُّفُوسُ عَلَى مُعَادَاةِ الْمُعَادَاتِ بَلْ هَذَا مِنْ قَبِيلِ:
أَعِدْ ذِكْرَ نُعْمَانَ لَنَا إِنَّ ذِكْرَهُ هُوَ الْمِسْكُ مَا كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ
وَلِذَا كُلَّمَا زَادَ الْعَبْدُ مِنْ تَكْرَارِ قِرَاءَتِهِ أَوْ سَمَاعِ تِلَاوَتِهِ ازْدَادَ فِي حَلَاوَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ لِحُصُولِ مُتَمَنَّاهُ، وَلِذَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ: وَتِرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلًا وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ عَنْ بِمَعْنَى مَعَ (وَلَا يَنْقَضِي عَجَائِبُهُ) ، أَيْ لَا يَنْتَهِي غَرَائِبُهُ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا، قِيلَ: كَالْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ لِلْقَرِيبَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجْرٍ، وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَجَائِبِ بِحَيْثُ لَا يَتَنَاهَى أَقْوَى مِنْ عَدَمِ شِبَعِ الْعُلَمَاءِ وَنَفْيِ الْبِلَى بَلْ أَعْلَى
وَأَغْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (هُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (إِذْ سَمِعَتْهُ) ، أَيِ الْقُرْآنُ، وَفَى نُسْخَةٍ: إِذَا سَمِعَتْهُ (حَتَّى قَالُوا) ، أَيْ لَمْ يَتَوَقَّفُوا وَلَمْ يَمْكُثُوا وَقْتَ سَمَاعِهِمْ لَهُ عَنْهُ، بَلْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ لِمَا بَهَرَهُمْ مِنْ شَأْنِهِ فَبَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَاهَةِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَبَالَغُوا فِي مَدْحِهِ حَتَّى قَالُوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] ، أَيْ شَأْنُهُ مِنْ حَيْثِيَّةِ جَزَالَةِ الْمَبْنَى وَغَزَارَةِ الْمَعْنَى {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2] ، أَيْ يَدُلُّ عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ أَوْ يَهْدِي اللَّهُ بِهِ النَّاسَ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ (فَآمَنَّا بِهِ) ، أَيْ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِيمَانُ بِرَسُولِ اللَّهِ (مَنْ قَالَ بِهِ) مَنْ أَخْبَرَ بِهِ (صَدَقَ) ، أَيْ فِي خَبَرِهِ أَوْ مَنْ قَالَ قَوْلًا مُلْتَبِسًا بِهِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى قَوَاعِدِهِ وَوَفْقَ قَوَانِينِهِ وَضَوَابِطِهِ صَدَقَ (وَمَنْ عَمِلَ بِهِ) ، أَيْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ (أُجِرَ) ، أَيْ أُثِيبَ فِي عَمَلِهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَسِيمًا لِأَنَّهُ لَا يَحُثُّ إِلَّا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالْأَحْوَالِ (وَمَنْ حَكَمَ بِهِ) ، أَيْ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ بَيْنَ خَوَاطِرِهِ (عَدَلَ) ، أَيْ فِي حُكْمِهِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ (وَمَنْ دَعَا) ، أَيِ الْخَلْقُ (إِلَيْهِ)، أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ (هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ الْمَدْعُوُّ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَحْصِيلٌ حَاصِلٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَصِحُّ بِنَاؤُهُ لِلْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ اهـ وَهُوَ احْتِمَالٌ عَقْلِيٌّ وَإِلَّا فَالنُّسَخُ الْمُصَحَّحَةُ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، فَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ: رُوِيَ مَجْهُولًا، أَيْ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ وُفِّقَ لِمَزِيد الِاهْتِدَاءِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ) الظَّاهِرُ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ (وَفِي الْحَارِثِ) ، أَيِ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ (مَقَالٌ) ، أَيْ مُطْعَنٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَشَهِدَ أَنَّهُ كَاذِبٌ اهـ وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِصُحْبَةِ عَلِيٍّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: كَانَ أَفْقَهَ النَّاسِ وَأَفْرَضَ النَّاسِ وَأَحْسَبَ النَّاسِ اهـ.
فَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ رَوَى عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَشَهِدَ أَنَّهُ كَذَبَ وَلِذَا لَمْ يَقُلْ كَذَّابٌ مَعَ أَنَّ الْكَذُوبَ قَدْ يَصْدُقُ وَلِذَا رَوَى عَنْهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَهُ ضَعِيفٌ إِسْنَادُهُ وَإِنْ كَانَ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ مَعْنَاهُ مَعَ أَنَّ الضَّعِيفَ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ اتِّفَاقًا.
2139 -
وَعَنْ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
2139 -
(وَعَنْ مُعَاذِ الْجُهَنِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ) ، أَيْ فَأَحْكَمَهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، أَيْ فَأَتْقَنَهُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ:، أَيْ حَفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ (وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلْبَسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ وَالسَّعَادَةِ اهـ وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ (ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ) اخْتَارَهُ عَلَى أَنْوَرَ وَأَشْرَقَ إِعْلَامًا بِأَنَّ تَشْبِيهَ التَّاجِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ بِالشَّمْسِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْإِشْرَاقِ وَالضَّوْءِ بَلْ مَعَ رِعَايَةٍ مِنَ الزِّينَةِ وَالْحُسْنِ (مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ) حَالَ كَوْنِهَا (فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا) فِيهِ تَتْمِيمُ صِيَانَةٍ مِنَ الْإِحْرَاقِ وكَلَالِ النَّظَرِ بِسَبَبِ أَشِعَّتِهَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ (لَوْ كَانَتْ) ، أَيِ الشَّمْسُ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ (فِيكُمْ) ، أَيْ فِي بُيُوتِكُمْ تَتْمِيمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الشَّمْسَ مَعَ ضَوْئِهَا وَحُسْنِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي بُيُوتِنَا كَانَتْ آنَسَ وَأَتَمَّ مِمَّا لَوْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فِي دَاخِلِ بُيُوتِكُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ فِي بَيْتِ أَحَدِكُمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيهِ (فَمَا ظَنُّكُمْ)، أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا جَزَاءُ وَالِدَيْهِ لِكَوْنِهِمَا سَبَبًا لِوُجُودِهِ (بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟) وَفِي رِوَايَةٍ: عَمِلَ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اسْتِقْصَارٌ لِلظَّنِّ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَةِ مَا يُعْطَى لِلْقَارِئِ الْعَامِلِ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُلْكِ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بِشَرٍ كَمَا أَفَادَتْهُ مَنِ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَعْنَى تَحَيُّرِ الظَّانِّ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) .
2140 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2140 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يَفْرِضُ تَجَسُّمَهُ إِذْ تَجَسَّمَ الْمَعْنَى جَائِزٌ وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِهِ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِصِحَّةِ فَرْضِ وَضْعِ الْمُصْحَفِ (فِي إِهَابٍ) ، أَيْ جِلْدٍ لَمْ يُدْبَغْ كَذَا قَالُوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الْجِلْدِ إِمَّا عَلَى التَّجْرِيدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا لَمْ يُدْبَغْ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْإِهَابِ وَهُوَ الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغُ لِأَنَّ الْفَسَادَ إِلَيْهِ أَسْرَعُ وَنَفْخُ النَّارِ فِيهِ أَنْفَذُ لِيُبْسِهِ وَجَفَافِهِ وَبِخِلَافِ الْمَدْبُوغِ لِلِينِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لِي فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ بِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَارِئُ غَيْرَ مُرْتَاضٍ نَفَعَهُ الْقُرْآنُ (ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: ثُمَّ لَيْسَ لِتَرَاخِي الزَّمَانِ بَلْ لِتَرَاخِي الرُّتْبَةِ بَيْنَ الْجَعْلِ فِي الْإِهَابِ وَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ وَإِنَّهُمَا أَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ لِرُتْبَةِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ الثَّانِي أَعْظَمُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: ثُمَّ عَلَى بَابِهَا وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَاءِ (مَا احْتَرَقَ) ، أَيِ الْإِهَابُ بِبَرَكَةِ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ يَنَابِيعِ الرَّحْمَةِ وَأَنْهَارِ الْحِكْمَةِ مَا يُخْمِدُ تِلْكَ النَّارَ وَيُطْفِئُهَا كَمَا وَرَدَ (جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَإِنَّ نُورَكَ أَطْفَأَ لَهَبِي) وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ مَعَ هَذَا الْجِلْدِ الْحَقِيرِ الَّذِي جَاوَرَهُ فِي سَاعَةٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِجَوْفِ الْحَافِظِ لَهُ وَجَسَدِ الْعَامِلِ بِهِ الَّذِي اسْتَقَرَّ فِيهِ أَزْمِنَةً عَدِيدَةً وَمُدَدًا مَدِيدَةً؟ فَيَكُونُ حِفْظُهُ لِخَوْفِهِ مِنْ نَارِ الْبُعْدِ وَالْحِجَابِ، وَنَارُ جَهَنَّمَ أَحْرَى وأْولى وَأَبْلَغُ وَأَقْوَى، وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَرَجَّحَهُ الْقَاضِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْجِنْسَ أَقْرَبُ وَأَحْرَى، وَضُرِبَ الْمَثَلُ بِالْإِهَابِ لِلتَّحْقِيرِ أَحْرَى لِأَنَّ التَّمْثِيلَ وَارِدٌ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَوْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا} [الكهف: 109] الْآيَةَ، قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ فِي التَّنْظِيرِ " {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] " أَيْ يَنْبَغِي وَيَحِقُّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ فِي مِثَالِ هَذَا الشَّيْءِ الْحَقِيرِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ بِهِ وَيُلْقَى فِي النَّارِ مَسَّتْهُ فَكَيْفَ بِالْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ أَكْرَمُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَفْضَلُهُمْ وَقَدْ وَعَاهُ فِي صَدْرِهِ وَتَفَكَّرَ فِي مَعَانِيهِ وَوَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهِ وَعَمِلَ فِيهِ بِجَوَارِحِهِ؟ فَكَيْفَ تَمَسُّهُ؟ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَحْرِقَهُ، قَالَ: وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ وَقَعَ التَّنَاسُبُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّ الْمَعْنَى مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلْبَسَ وَالِدَاهُ تَاجًا، فَكَيْفَ بِالْقَارِئِ الْعَامِلِ؟ وَلَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ مَسَّتْهُ النَّارُ، فَكَيْفَ بِالتَّالِي الْعَامِلِ؟ اهـ وَهَذَا تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ مَا وَقَعَتَا مُتَوَالِيَتَيْنِ فِي لَفْظِ النُّبُوَّةِ لِيَطْلُبَ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا، وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْكِتَابِ يَكْفِي كَوْنُهُمَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي فَضْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فَضْلَهُ بِسَبَبِهِ مَعَ أَنَّ الْمُنَاسَبَة الَّتِي ذَكَرَهَا غَيْرُ تَامَّةٍ لِأَنَّ الشُّرْطِيَّةَ الْأُولَى حَقِيقِيَّةٌ وَالثَّانِيَةَ فَرْضِيَّةٌ، فَقِيلَ: كَانَ هَذَا مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْمَصَابِيحِ بِلَفْظِ (لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ مَسَّتْهُ النَّارُ) وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمَعَالِمِ بِسَنَدِهِ ثُمَّ قَالَ: قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ وَقَرَأَهُ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَرِوَايَةُ مَسَّتْهُ كَمَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أَوْلَى مِنِ احْتَرَقَ اهـ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ أَبْلَغُ لَا أَنَّهُ أَصَحُّ لِأَنَّ النُّسَخَ الْمُصَحَّحَةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى لَفْظِ احْتَرَقَ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَكْثَرَ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَكَذَا ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِالْمَعْنَى إِنَّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ لَمْ تَحْرِقْهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ جِسْمَ حَافِظِ الْقُرْآنِ كَالْإِهَابِ لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ:" احْفَظُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ "(رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ: «لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ مَا أَكَلَتْهُ النَّارُ» .
2141 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلِّهِمْ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَحَفْصُ بْنُ سَلْمَانَ الرَّاوِي لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ.
ــ
2141 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ (فَاسْتَظْهَرَهُ) أَيِ اسْتَظْهَرَ حِفْظَهُ بِأَنْ حَفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ أَوِ اسْتَظْهَرَ طَلَبَ الْمُظَاهَرَةَ وَهِيَ الْمُعَاوَنَةُ أَوِ اسْتَظْهَرَ إِذَا احْتَاطَ فِي الْأَمْرِ وَبَالَغَ فِي حِفْظِهِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَطَلَبَ مِنْهُ الْقُوَّةَ أَوِ الْمُعَاوَنَةَ فِي الدِّينِ (فَأَحَلَّ حَلَالَهُ
وَحَرَّمَ حَرَامَهُ) أَوِ احْتَاطَ فِي حِفْظِ حُرْمَتِهِ أَوِ امْتِثَالِهِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةٌ هُنَا بِدَلِيلِ الْفَاءَيْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ اعْتَقَدَهُمَا مَعَ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَتَرْكِهِ لِلثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهِ بِفِعْلِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ (أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ) ، أَيْ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ (وَشَفَّعَهُ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ قَبِلَ شَفَاعَتَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: جَعَلَهُ شَفِيعًا (فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلِّهُمْ) ، أَيْ كُلُّ الْعَشَرَةِ (قَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ) وَإِفْرَادُ الضَّمِيرِ لِلَفْظِ الْكُلِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي رَفْعِ الْمَنْزِلَةِ دُونَ حَطِّ الْوِزْرِ بِنَاءً عَلَى مَا افْتَرَوْهُ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ يَجِبُ خُلُودُهُ فِي النَّارِ وَلَا يُمْكِنُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَالْوُجُوبُ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاعَدَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَالدَّارِمِيُّ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَحَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّاوِي) بِإِسْكَانِ الْيَاءِ (لَيْسَ هُوَ بِالْقَوِيِّ) ، أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَعَ هَذَا (يُضَعَّفُ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ يُنْسَبُ إِلَى الضَّعْفِ (فِي الْحَدِيثِ) ، أَيْ فِي رِوَايَتِهِ.
2142 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ " فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّورَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرَوَى الدَّارِمِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أُنْزِلَتْ، وَلَمْ يَذْكُرْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ــ
2142 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَرَأَ» ) ، أَيْ أُبَيٌّ (أُمَّ الْقُرْآنِ) يَعْنِي الْفَاتِحَةَ وَسُمِّيَتْ بِهَا لِاحْتِوَائِهَا وَاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ إِجْمَالًا، أَوِ الْمُرَادُ بِالْأُمِّ الْأَصْلُ فَهِيَ أَصْلُ قَوَاعِدِ الْقُرْآنِ وَيَدُورُ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِيمَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ هَذَا جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ تَقْرَأُ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنْ حَالَةِ الْقِرَاءَةِ لَا نَفْسًا؟ قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ مُرَتِّلًا وَمُجَوِّدًا، أَوْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَأَلَ عَنْ حَالِ مَا يقَرَأُهُ فِي الصَّلَاةِ أَهِيَ سُورَةٌ جَامِعَةٌ حَاوِيَةٌ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ فَلِذَلِكَ جَاءَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ، أَيْ هِيَ جَامِعَةٌ لِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَأَصْلٌ لَهَا ( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ» ) ، أَيْ فِي بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ سُورَةٌ (مِثْلُهَا وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيَانِيَّةً أَوْ تَبْعِيضَيَّةً (وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ) مِنْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ لِلْمُبَالَغَةِ (الَّذِي أُعْطِيتُهُ) ، أَيْ وَلَمْ يُعْطَهُ نَبِيٌّ غَيْرِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، أَيْ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ مِنْ قَوْلِ: مَا أُنْزِلَتْ، وَلَمْ يَذْكُرْ) ، أَيْ الدَّارِمِيُّ (أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ)، أَيْ قِصَّتُهُ الْكَائِنَةُ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .
2143 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَاقْرَءُوهُ، فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَ فَقَرَأَ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا تَفُوحُ رِيحُهُ كُلَّ مَكَانٍ، وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِئَ عَلَى مِسْكٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2143 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ) ، أَيْ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: تَعَلُّمُ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيهِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ تَبْدِيلٌ وَتَحْرِيفٌ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرْيَةِ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ أَثِمُوا بِأَسْرِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِيهِ وَقْفَةٌ، إِذِ الْمُخَاطَبُ بِهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ فَحَيْثُ كَانَ فِيهِمْ عَدَدُ التَّوَاتُرِ مِمَّنْ يَحْفَظُهُ فَلَا إِثْمَ عَلَى أَحَدٍ، نَعَمْ يَتَعَيَّنُ فِي عَدَدِ التَّوَاتُرِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ أَوْ يُحَرِّفَ شَيْئًا مَنَعُوهُ اهـ وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّرْكَشِيِّ إِنَّ كُلَّ بَلَدٍ لَا بُدَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ تَعَلُّمَ بَعْضِ الْقُرْآنِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْكُلِّ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَقْرَأُ أَثِمُوا جَمِيعًا، وَأَيْضًا لَا يَحْصُلُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ إِلَّا بِمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَإِلَّا فَكُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ يَقُولُ: لَيْسَ
عِلْمُ الْقُرْآنِ فَرْضًا عَلَيْنَا فَيَنْجَرُّ إِلَى فَسَادِ الْعَالِمِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَأَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِحِفْظِهِ أَفْضَلُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ مِنْ سَائِرِ الْعُلُومِ دُونَ فَرْضِ الْعَيْنِ مِنْهَا (فَاقْرَءُوهُ) ، أَيْ بَعْدَ التَّعَلُّمِ وَعَقِيبِهِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ أَمْرٌ بِالْأَكْمَلِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّعَلُّمِ وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّجْوِيدُ وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ " فَاقْرَءُوهُ " كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] أَيْ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَدَاوِمُوا تِلَاوَتَهُ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَ فَقَرَأَ وَقَامَ بِهِ) ، أَيْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَتِهِ أَوْ دَاوَمَ بِهِ (كَمَثَلِ جِرَابٍ) بِالْكَسْرِ وَالْعَامَّةُ تَفْتَحُهُ، قِيلَ: لَا تَفْتَحِ الْجِرَابَ وَلَا تَكْسِرِ الْقِنْدِيلَ، وَخَصَّ الْجِرَابَ هُنَا بِالذِّكْرِ احْتِرَامًا لِأَنَّهُ مِنْ أَوْعِيَةِ الْمِسْكِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّقْدِيرُ: فَإِنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ لِأَجْلِ مَنْ تَعَلَّمَهُ كَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْجَوَابِ، فَمَثَلُ مُبْتَدَأٌ وَالْمُضَافُ مَحْذُوفٌ وَاللَّامُ فِي لِمَنْ تَعَلَّمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ كَمَثَلٍ عَلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْضًا وَالتَّشْبِيهُ إِمَّا مُفْرَدٌ وَإِمَّا مُرَكَّبٌ (مَحْشُوٌّ) ، أَيْ مَمْلُوءٌ مَلْأً شَدِيدًا بِأَنْ حُشِيَ بِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِغَيْرِهِ (مِسْكًا) نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ (تَفُوحُ رِيحُهُ)، أَيْ تَظْهَرُ وَتَصِلُ رَائِحَتُهُ (كُلَّ مَكَانٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي صَدْرَ الْقَارِئِ كَجِرَابٍ وَالْقُرْآنُ فِيهِ كَالْمِسْكِ فَإِنَّهُ إِذَا قَرَأَ وَصَلَتْ بَرَكَتُهُ إِلَى تَالِيهِ وَسَامِعِيهِ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ إِطْلَاقَ الْمَكَانِ لِلْمُبَالَغَةِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَعَ أَنَّ التَّدْمِيرَ وَالْإِيتَاءَ خَاصٌّ (وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، أَيْ مَثَلُ رِيحِ مَنْ تَعَلَّمَهُ (فَرَقَدَ) ، أَيْ نَامَ عَنِ الْقِيَامِ وَغَفَلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ تَرْكِ الْعَمَلِ (وَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (فِي جَوْفِهِ) ، أَيْ فِي قَلْبِهِ (كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِئَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ رُبِطَ (عَلَى مِسْكٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ شُدَّ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْأَوْعِيَةُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ تَصِلُ بَرَكَتُهُ مِنْهُ إِلَى بَيْتِهِ وَإِلَى السَّامِعِينَ وَيَحْصُلُ اسْتِرَاحَةٌ وَثَوَابٌ إِلَى حَيْثُ يَصِلُ صَوْتُهُ، فَهُوَ كَجِرَابٍ مَمْلُوءٍ مِنَ الْمِسْكِ إِذَا فَتَحَ رَأْسَهُ تَصِلُ رَائِحَتُهُ إِلَى كُلِّ مَكَانٍ حَوْلَهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَقْرَأْ لَمْ تَصِلْ بَرَكَتُهُ مِنْهُ لَا إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَجِرَابٍ مَشْدُودٍ رَأْسُهُ وَفِيهِ مِسْكٌ فَلَا تَصِلُ رَائِحَتُهُ مِنْهُ إِلَى أَحَدٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ.
2144 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنَ إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَ بِهِمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
2144 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَجَرِّ الْمُؤْمِنِ وَنَصْبِهِ (إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يَعْنِي " {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ - غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 1 - 3] "(وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ) وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا وَتَأْخِيرُهَا، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا تَقْدِيمُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فِي الْحِصْنِ (حِينَ يُصْبِحُ) ، أَيْ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ بَعْدَهَا وَهُوَ ظَرْفُ يَقْرَأُ (حُفِظَ بِهِمَا) ، أَيْ بِقِرَاءَتِهِمَا وَبَرَكَتِهِمَا (حَتَّى يُمْسِيَ) ، أَيْ يَدْخُلُ اللَّيْلِ لِأَنَّ الْإِمْسَاءَ ضِدُّ الْإِصْبَاحِ كَمَا أَنَّ الْمَسَاءَ ضِدُّ الصَّبَاحِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَالصِّحَاحِ (وَمَنْ قَرَأَ بِهِمَا) قَرَأَهُ وَبِهِ لُغَتَانِ (حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ.
2145 -
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، أَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَلَا تُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا الشَّيْطَانُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
2145 -
(وَعَنِ النُّعْمَانِ) بِضَمِّ النُّونِ (ابْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا) ، أَيْ أَمَرَ مَلَائِكَتَهُ بِكِتَابَةِ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقِيلَ: أَيْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ مَطَالِعِ الْعُلُومِ الْغَيْبِيَّةِ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: كِتَابَةُ مَقَادِيرِ الْخَلَائِقِ قَبْلَ خَلْقِهَا بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ كَمَا وَرَدَ لَا تُنَافِي كِتَابَةَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ بِأَلْفَيْ عَامٍ لِجَوَازِ اخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْكِتَابَةِ فِي اللَّوْحِ وَلِجَوَازِ أَنْ لَا يُرَادَ بِهِ التَّحْدِيدُ، بَلْ مُجَرَّدُ السَّبْقِ الدَّالِّ عَلَى الشَّرَفِ اهـ وَلِجَوَازِ مُغَايَرَةِ الْكِتَابَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَتَدَبَّرْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (أَنْزَلَ مِنْهُ) ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ، وَفَى أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَنْزَلَ فِيهِ، وَالرِّوَايَةُ مِنْهُ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْخُلَاصَةَ أَنِ الْكَوَائِنَ كُتِبَتْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ عَامٍ وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ، ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ فَأَظْهَرَ كِتَابَةَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَأَنْزَلَهُمَا مَخْتُومًا بِهِمَا أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: أَنْزَلَ فِيهِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ، وَالرِّوَايَةُ أَنْزَلَ مِنْهُ (آيَتَيْنِ) هُمَا آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى آخِرِهِ (خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَلَا تُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ) ، أَيْ مَكَانٍ مِنْ بَيْتٍ وَغَيْرِهِ (فَيَقْرَبُهَا الشَّيْطَانُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ نَصْبًا وَرَفْعًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَا تُوجَدُ قِرَاءَةٌ يَعْقُبُهَا قُرْبَانٌ يَعْنِي أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عَطْفًا عَلَى الْمَنْفِيِّ، وَالنَّفْيُ سُلِّطَ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْجَمْعِيَّةِ، أَيْ لَا تَجْتَمِعُ الْقِرَاءَةُ وَقُرْبُ الشَّيْطَانِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.
2146 -
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
ــ
2146 -
(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الثَّلَاثِ لِتَضَمُّنِهَا الْكِتَابَ الْمَحْفُوظَ مِنَ الْعِوَجِ الذى يُرِيدُهُ ذَلِكَ اللَّعِينُ وَمِنْ تَبْشِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجْرِ الْحَسَنِ وَإِنْذَارِ الْكَافِرِينَ بِالْعَذَابِ الْمُؤَبَّدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .
2147 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس، وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
2147 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ) ، أَيْ لُبُّهُ وَخَالِصُهُ الْمُودَعُ فِيهِ الْمَقْصُودُ (يس) ، أَيْ سُورَتُهَا لِأَنَّ أَحْوَالَ الْقِيَامَةِ مَذْكُورَةٌ فِيهَا مُسْتَقْصَاةٌ بِحَيْثُ لَمْ تَكُنْ فِي سُورَةٍ سِوَاهَا مِثْلَ مَا فِيهَا، وَلِذَا خُصَّتْ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَوْتَى أَوْ لِكَوْنِ قِرَاءَتِهَا تُحْيِيِ قُلُوبَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَتُقَلِّبُهَا مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قَلْبٌ لَكَانَ " يس " قَلْبُهُ، قُلْتُ: هَذَا قَلْبُ الْكَلَامِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، وَمَا أَطْيَبَ مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَنَّهُ لِاحْتِوَائِهَا مَعَ قَصْرِهَا عَلَى الْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ وَالْآيَاتِ الْقَاطِعَةِ وَالْعُلُومِ الْمَكْنُونَةِ وَالْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ وَالْمَوَاعِيدِ الْفَائِقَةِ وَالزَّوَاجِرِ الْبَالِغَةِ اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَقَائِقَ وَالْمَعَانِي، وَنَظَرُهُ الْمَحْسُوسُ مَحْصُورٌ عَلَى الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي أَنَّهُ سُمِّيَ قَلْبًا لِوُقُوعِهِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مَعَ السَّبْعِ الْمَثَانِي أَوْ لِكَوْنِ جُمْلَةٍ فِيهَا تُقْرَأُ طَرْدًا وَعَكْسًا وَهِيَ (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) وَلَا يَلْزَمُ الِاطِّرَادُ فِي وَجْهِ التَّسْمِيَةِ حَتَّى لِمُجَرَّدِ أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا، وَالْأَحْسَنُ مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَهُوَ مُقَرَّرٌ فِيهَا بِأَبْلَغِ وَجْهٍ فَكَانَتْ قَلْبَ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْفَخْرُ الرَّازِّيُّ، وَقَالَ النَّسَفِيُّ: لِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا تَقْرِيرُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ
الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ وَهَذِهِ تَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ لَا غَيْرَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ وَالْأَرْكَانِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ فِيهَا أَعْمَالُ الْقَلْبِ لَا غَيْرَ سُمِّيَتْ قَلْبًا، وَلِهَذَا أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِقِرَاءَتِهَا عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ الْجَنَانُ ضَعِيفَ الْقُوَّةِ وَالْأَعْضَاءُ سَاقِطَةً، لَكِنَّ الْقَلْبَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ وَرَجَعَ عَمَّا سِوَاهُ فَيُقْرَأُ عِنْدَهُ مَا يَزْدَادُ بِهِ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَيَشُدُّ بِهِ تَصْدِيقَهُ بِالْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ اهـ وَهُوَ غَايَةُ الْمُنَى، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ نَظَرٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَوْجُودٌ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ( «وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ» ) ، أَيْ ثَوَابَهَا (عَشْرَ مَرَّاتٍ) ، أَيْ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَخُصَّ مَا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِمَا أَرَادَ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْحَرَمِ مِنَ الْأَمْكِنَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لِأَنَّ رَاوِيَهُ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ مِنْ رِجَالِ الْحَدِيثِ فَهُوَ نَكِرَةٌ لَا يَتَعَرَّفُ اهـ وَفَى الْحِصْنِ ( «قَلْبُ الْقُرْآنِ يس لَا يَقْرَأُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ، اقْرَؤُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ اهـ وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ مَوْصُولٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه:«إِنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ دُونَ اللَّهِ، فَمَنْ وَقَّرَ الْقُرْآنَ فَقَدْ وَقَّرَ اللَّهَ، وَمَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْقُرْآنَ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّ اللَّهِ، وَحُرْمَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ اللَّهِ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، فَمَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ شُفِّعَ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ صُدِّقَ، وَمَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَحَمَلَةُ الْقُرْآنِ هُمُ الْمَحْفُوفُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ الْمُكْتَسِبُونَ نُورَ اللَّهِ الْمُتَعَلِّمُونَ كَلَامَ اللَّهِ، مَنْ عَادَاهُمْ فَقَدْ عَادَى اللَّهَ، وَمَنْ وَالَاهُمْ فَقَدْ وَالَى اللَّهَ، يَا حَمَلَةَ كِتَابِ اللَّهِ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ بِتَوْقِيرِ كِتَابِهِ يَزِدْكُمْ حُبًّا وَيُحَبِّبْكُمْ إِلَى خَلْقِهِ، يَدْفَعُ عَنْ مُسْتَمِعِ الْقُرْآنِ سُوءَ الدُّنْيَا، وَيَدْفَعُ عَنْ تَالِيِ الْقُرْآنِ بَلْوَى الْآخِرَةِ، وَمُسْتَمِعِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَبْرٍ ذَهَبًا، وَتَالِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ لَسُورَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ يُدْعَى صَاحِبُهَا الشَّرِيفَ عِنْدَ اللَّهِ يَشْفَعُ صَاحِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَكْثَرِ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَهِيَ سُورَةُ يس» .
2148 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَرَأَ طه وَيس قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفِ عَامٍ، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ قَالَتْ: طُوبَى لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ هَذَا عَلَيْهَا وَطُوبَى لِأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا وَطُوبَى لِأَلْسِنَةٍ تَتَكَلَّمُ بِهَذَا» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2148 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَرَأَ طه وَيس» ) ، أَيْ أَظْهَرَ قِرَاءَتَهُمَا وَبَيَّنَ ثَوَابَ تِلَاوَتِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَفْهَمَهُمَا مَلَائِكَتَهُ وَأَلْهَمَهُمْ مَعْنَاهُمَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَرَ بَعْضَهُمْ بِقِرَاءَتِهَا عَلَى الْبَقِيَّةِ إِعْلَامًا لَهُمْ بِشَرَفِهِمَا، وَيُحْتَمَلُ بَقَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُ - تَعَالَى - أَسْمَعَهُمْ كَلَامَهُ النَّفْسِيَّ بِهِمَا إِجْلَالًا لَهُمَا بِذَلِكَ، وَهَذَا الْإِسْمَاعُ يُسَمَّى قِرَاءَةً كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ يُسَمَّى قُرْآنًا حَقِيقَةً، وَخُصَّتَا بِذَلِكَ لِافْتِتَاحِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم الدَّالَّةِ عَلَى غَايَةِ كَمَالِهِ وَنِهَايَةِ إِجْلَالِهِ (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِأَلْفِ عَامٍ فَلَمَّا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ الْقُرْآنَ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِزَمَانٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ الْقِرَاءَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا، أَيْ هَذَا الْجِنْسُ مِنَ الْقُرْآنِ وَسَمَّاهُ قُرْآنًا تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِمَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الْبَعْضِ (قَالَتْ) ، أَيِ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي سَمِعُوهَا (طُوبَى) ، أَيِ الْحَالَةُ الطَّيِّبَةُ وَالرَّاحَةُ الْكَامِلَةُ حَاصِلَةٌ (لِأُمَّةٍ يَنْزِلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَوِ الْمَعْلُومِ (هَذَا) ، أَيِ الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ أَوْ مَا ذَكَرَ مِنْ طَه وَيس خُصُوصًا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَوْ هَذَا وَنَحْوِهِ عُمُومًا (عَلَيْهَا) بِسَبَبِ إِيمَانِهَا بِهِمَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِطُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ فِي كُلِّ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْجَنَّةِ مِنْهَا غُصْنٌ، أَقُولُ: وَهَذِهِ طُوبَى مِنْ تِلْكَ الطُّوبَى قَالَ - تَعَالَى - {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29](وَطُوبَى لِأَجْوَافٍ تَحْمِلُ هَذَا) ، أَيْ بِالْحِفْظِ وَالْمُحَافَظَةِ (وَطُوبَى لِأَلْسِنَةٍ تَتَكَلَّمُ بِهَذَا) ، أَيْ تَقْرَؤُهُ غَيْبًا أَوْ نَظَرًا وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقُلْ وَطُوبَى لِآذَانٍ تَسْمَعُ بِهَذَا لِدُخُولِهِ فِي أُمَّةٍ نَزَلَ عَلَيْهَا (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
2149 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانِ فِي لَيْلَةٍ أَصْبَحَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي خَثْعَمٍ الرَّاوِي يُضَعَّفُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ -: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
ــ
2149 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانِ) تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ (فِي لَيْلَةٍ) ، أَيُّ لَيْلَةٍ كَانَتْ (أَصْبَحَ)، أَيْ يَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ أَوْ صَارَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ (يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِنْ حِينِ قِرَاءَتِهَا إِلَى الصُّبْحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ دَائِمًا نَعَمْ فَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حديِثٌ غَرِيبٌ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي خَثْعَمٍ الرَّاوِي يُضَعَّفُ) ، أَيْ فِي الْحَدِيثِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) ، أَيْ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ (يَعْنِي) ، أَيْ يُرِيدُ التِّرْمِذِيُّ بِمُحَمَّدٍ (الْبُخَارِيَّ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ (هُوَ)، أَيْ عُمَرُ بْنُ أَبِي خَثْعَمٍ (مُنْكَرُ الْحَدِيثِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ النُّخْبَةِ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ أَشَدُّ جَرْحًا مِنْ قَوْلِهِمْ ضَعِيفٌ.
2150 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ غُفِرَ لَهُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَهِشَامُ أَبُو الْمِقْدَامِ الرَّاوِي يُضَعَّفُ.
ــ
2150 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ» ) بِضَمِّهِمَا وَيَسْكُنُ الثَّانِي (غُفِرَ لَهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ، وَفَى نُسْخَةٍ: ضَعِيفٌ بَدَلَ غَرِيبٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْعَكْسِ (وَهِشَامُ أَبُو الْمِقْدَامِ الرَّاوِي يُضَعَّفُ) .
2151 -
وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، يَقُولُ: " إِنَّ فِيهِنَّ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
2151 -
(عَنِ الْعِرْبَاضِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ (ابْنِ سَارِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ) بِكَسْرِ الْبَاءِ نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ وَهِيَ السُّوَرُ الَّتِي فِي أَوَائِلِهَا سُبْحَانَ أَوْ سَبَّحَ بِالْمَاضِي أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ سَبِّحْ بِالْأَمْرِ وَهِيَ سَبْعَةٌ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1] وَالْحَدِيدُ وَالْحَشْرُ وَالصَّفُّ وَالْجُمْعَةُ وَالتَّغَابُنُ وَالْأَعْلَى (قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ) ، أَيْ يَنَامَ (يَقُولُ) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى قِرَاءَةِ تِلْكَ السُّوَرِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ (إِنْ فِيهِنَّ) ، أَيْ فِي الْمُسَبِّحَاتِ (آيَةٌ) ، أَيْ عَظِيمَةٌ (خَيْرٌ)، أَيْ هِيَ خَيْرٌ (مِنْ أَلْفِ آيَةٍ) قِيلَ: هِيَ " لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ " وَهَذَا مِثْلُ اسْمِ اللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الْفَضِيلَةِ فَعَلَى هَذَا فِيهِنَّ، أَيْ فِي مَجْمُوعِهِنَّ، وَعَنِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهَا " {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] " اهـ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا هِيَ الْآيَةُ الَّتِي صُدِّرَتْ بِالتَّسْبِيحِ، وَفِيهِنَّ بِمَعْنَى جَمِيعِهِنَّ، وَالْخَيْرِيَّةُ لِمَعْنَى الصِّفَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ الْمُلْتَزِمَةِ لِلنُّعُوتِ الْإِثْبَاتِيَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَخْفَى الْآيَةَ فِيهَا كَإِخْفَاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي وَإِخْفَاءِ سَاعَةِ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ مُحَافَظَةً عَلَى قِرَاءَةِ الْكُلِّ لِئَلَّا تَشُذَّ تِلْكَ الْآيَةُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ عَنِ الْعِرْبَاضِ.
2152 -
وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ مُرْسَلًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
2152 -
(وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ (مُرْسَلًا) فَإِنَّهُ مِنَ التَّابِعِينَ، قَالَ: لَقِيتُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حديِثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مَرْفُوعًا عَنِ الْعِرْبَاضِ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا مِنْ قَوْلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ - أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ - وَهُوَ الْحَدِيدُ وَالْحَشْرُ وَالصَّفُّ وَالْجُمْعَةُ وَالتَّغَابُنُ وَالْأَعْلَى كَذَا فِي الْحِصْنِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالزُّمُرَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
2153 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2153 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ سُورَةً) ، أَيْ عَظِيمَةً (فِي الْقُرْآنِ) ، أَيْ كَائِنَةً فِيهِ، وَنَصْبَ صِفَةً لِاسْمِ إِنَّ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: فِي بِمَعْنَى مِنْ (ثَلَاثُونَ آيَةً) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هِيَ ثَلَاثُونَ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لَهَا أَيْضًا وَقَوْلُهُ (شَفَعَتْ) بِالتَّخْفِيفِ خَبَرُ إِنَّ كَذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثُونَ خَبَرٌ لـ (إِنَّ) وَقَوْلُهُ شَفَعَتْ خَبَرٌ ثَانٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوِ اسْتِئْنَافٌ فَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ مَعْنًى قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: شُفِّعَتْ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا، أَيْ قُبِلَتْ شَفَاعَتُهَا، وَقِيلَ: عَلَى الْفَاعِلِ مُخَفَّفًا وَهَذَا أَقْرَبُ اهـ وَعَلَيْهِ النُّسَخُ الْمَقْرُوأَةُ الْمُصَحَّحَةُ، وَالشَّفَاعَةُ لِلسُّورَةِ إِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَإِمَّا عَلَى أَنَّهَا تَتَجَسَّمُ كَمَا مَرَّ، وَفِي سُوقِ الْكَلَامِ عَلَى الْإِبْهَامِ ثُمَّ التَّفْسِيرُ تَفْخِيمٌ لِلسُّورَةِ، إِذْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ سُورَةَ تَبَارَكَ شَفَعَتْ لَمْ تَكُنْ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ: الْبَسْمَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ وَآيَةٌ تَامَّةٌ مِنْهَا لِأَنَّ كَوْنَهَا ثَلَاثِينَ آيَةً إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً مِنْهَا، وَالْحَالُ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً مِنْهَا، فَهِيَ إِمَّا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالْأَكْثَرِينَ، وَإِمَّا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى كَرِوَايَةٍ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ) مُتَعَلِّقٌ بِشَفَعَتْ وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ فِي الْخَبَرِ يَعْنِي كَانَ رَجُلٌ يَقْرَؤُهَا وَيُعَظِّمُ قَدْرَهَا فَلَمَّا مَاتَ شَفَعَتْ لَهُ حَتَّى دُفِعَ عَنْهُ عَذَابُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ تَشْفَعُ لِمَنْ يَقْرَأُهَا فِي الْقَبْرِ أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِي رَجُلٍ لِلْإِفْرَادِ شَخْصًا، أَيْ شَفَعَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنْ شَفَعَتْ بِمَعْنَى تُشَفَّعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] وَ " {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا} [الفتح: 1] " لَكَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ وَأَنَّ رَجُلًا مَا يَقْرَؤُهَا تَشْفَعُ لَهُ فَيَكُونُ تَحْرِيضًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَى قِرَاءَتِهَا (وَهِيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] ، أَيْ إِلَى آخِرِهَا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: وَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ.
2154 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لَا يَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
2154 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِبَاءَهُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَدِّ وَبَعْدَهُ ضَمِيرٌ، أَيْ خَيْمَتُهُ، وَفَى نُسْخَةٍ: خِبْأَةٌ عَلَى التَّنْكِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْخِبَاءُ أَحَدُ بُيُوتِ الْعَرَبِ مِنْ وَبَرٍ أَوْ صُوفٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ شَعْرٍ وَيَكُونُ عَلَى عَمُودَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَيْ خَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ (عَلَى قَبْرٍ) ، أَيْ عَلَى مَوْضِعِ قَبْرٍ (وَهُوَ) ، أَيِ الصَّحَابِيُّ (لَا يَحْسَبُ) بِفَتْحِ السِّينِ أَوْ كَسْرِهَا، أَيْ لَا يَظُنُّ (أَنَّهُ قَبْرٌ) ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ مَوْضِعُ قَبْرٍ (فَإِذَا) لِلْمُفَاجَأَةِ (فِيهِ) ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ (إِنْسَانٌ) ، أَيْ مَدْفُونٌ سَمِعَهُ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقَظَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُعَيَّنٌ وَأَنَّهُ مُبْهَمٌ (يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا) قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ هُوَ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ هَذَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْمَاضِي وَإِلَّا كَانَ إِخْبَارًا بِالْغَيْبِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَمْوَاتِ يَصْدُرُ مِنْهُ مَا يَصْدُرُ عَنِ الْأَحْيَاءِ (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ صَاحِبُ الْخَيْمَةِ (فَأَخْبَرَهُ)، أَيْ بِمَا سَمِعَهُ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هِيَ) ، أَيْ سُورَةُ الْمُلْكِ (الْمَانِعَةُ) ، أَيْ تَمْنَعُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوجِبُ عَذَابَ الْقَبْرِ أَوِ الْمَانِعَةُ لِقَارِئِهَا عَنْ أَنْ يَنَالَهُ مَكْرُوهٌ فِي الْمَوْقِفِ مَنْعًا كَامِلًا (هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ)، أَيْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ أَوِ الثَّانِيَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأَوْلَى وَالْعَذَابُ مُطْلَقٌ أَوْ مُقَيَّدٌ بِالْقَبْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ: هِيَ الْمَانِعَةُ هِيَ الْمُنْجِيَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوِ الثَّانِيَةُ مُفَسِّرَةٌ وَمِنْ ثَمَّةَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ " تُنْجِيهِ " ثُمَّ الْجُمْلَتَانِ مُبَيَّنَتَانِ لِلشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ)
2155 -
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ غَرِيبٌ.
ــ
2155 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ» ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ (وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى غَايَةَ لَا يَنَامُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِذَا دَخَلَ وَقْتُ النَّوْمِ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَهُمَا، وَأَنْ يَكُونَ لَا يَنَامُ مُطْلَقًا حَتَّى يَقْرَأَهُمَا، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ النَّوْمُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَتَقَعُ الْقِرَاءَةُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ النَّوْمِ، أَيْ وَقْتَ كَانَ، وَلَوْ قِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُهُمَا بِاللَّيْلِ لَمْ يُفِدْ هَذِهِ الْفَائِدَةَ اهـ وَالْفَائِدَةُ هِيَ إِفَادَةُ الْقَبْلِيَّةِ، وَلَا يُشَكُّ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ أَظْهَرُ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَقْدِيرٍ يُفْضِي إِلَى تَضْيِيقٍ، وَمِنْ أَغْرَبِ الْغَرَائِبِ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ: قَوْلُهُ لَا يَنَامُ، أَيْ لَا يُرِيدُ النَّوْمَ إِذَا دَخَلَ وَقْتُهُ لِيُفِيدَ مَا قَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ قِرَاءَةُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ مَعَ سُوَرٍ أُخْرَى كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ النَّوْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ النَّسَائِيِّ فِي الثَّانِيَةِ: إِنَّ مَنْ قَرَأَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ مَنَعَهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَمَا وَقَعَ لِشَارِحٍ هُنَا مِمَّا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ لَا يَنَامُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ بَلْ كَانَ يَقْرَأُهُمَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ النَّوْمِ غَفْلَةً عَمَّا ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ اهـ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَا فَهِمَ كَلَامَ الطِّيبِيِّ أَوْ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ وَإِلَّا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِهِمْ عِنْدَ ذَوِي الْأَفْهَامِ مَعَ غَرَابَةِ عِبَارَتِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْمَنَامَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَكَذَا) ، أَيْ هُوَ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ غَرِيبٌ) ، أَيْ هُوَ غَرِيبٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ صَحِيحًا لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا اهـ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفَهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ كُلُّهُمْ عَنْ جَابِرٍ.
2156 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
2156 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقُرْآنِ بَيَانُ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَإِذَا زُلْزِلَتْ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ فَقَطْ مُسْتَقِلَّةٌ بِبَيَانِ أَحْوَالِهِ إِجْمَالًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الْمَعَاشِ وَأَحْوَالِ الْمَعَادِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَخِيرِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ مُحْتَوِيَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنِ الشِّرْكِ إِثْبَاتٌ لِلتَّوْحِيدِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبْعَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّسْوِيَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ فَضْلُ إِذَا زُلْزِلَتْ عَلَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ التَّسْوِيَةَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ فَلَا بُدَّ فِيهَا أَيْضًا مِنَ التَّأْوِيلِ، ثُمَّ قِيلَ: هَذِهِ تَوْجِيهَاتٌ بِمَبْلَغِ عِلْمِنَا وَفَهْمِنَا فَلَا تَخْلُو عَنْ قُصُورٍ وَاحْتِمَالٍ، وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَإِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ الَّذِي يُنْتَهَى إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالْكَشْفِ عَنْ خَفِيَّاتِ الْعُلُومِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَمَّا الْفَقْرَةُ الْأُولَى فَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ رُبْعِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْفَقْرَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَأَمَّا الْفَقْرَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ كُلِّهِمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
2157 -
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَقَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
2157 -
(وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ) ، أَيْ يَدْخُلُ فِي الصَّبَاحِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ) ، أَيْ بِمَقَالِي (الْعَلِيمِ) بِحَالِي (مِنَ الشيِطانِ الرَّجِيمِ) ، أَيْ مِنْ إِغْوَائِهِ، وَالتَّكْرَارُ لِلْإِلْحَاحِ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ خَبَرٌ لَفْظًا دُعَاءٌ مَعْنًى، أَوِ التَثْلِيثُ لِمُنَاسَبَةِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ الْقَارِئُ عَنْ قِرَاءَتِهَا وَالتَّدَبُّرِ فِي مَعَانِيهَا وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ مَا فِيهَا (فَقَرَأَ) ، أَيْ بَعْدَ التَّعَوُّذِ الْمَذْكُورِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ أَخْذُ الظَّاهِرِيَّةِ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْفَاءُ مُقَابِلَةٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ لِأَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ تَقَدُّمَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ ظَاهِرًا، وَالْحَدِيثُ بِخِلَافِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ فَاسْتَعِذْ، وَلَا يَحْسُنُ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي الْحَدِيثِ (ثَلَاثَ آيَاتٍ ثُمَّ آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ)، أَيْ مِنْ قَوْلِهِ " {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ} [الحشر: 22] " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ عِنْدَ كَثِيرِينَ (وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ) ، أَيْ يَدْعُونَ لَهُ بِتَوْفِيقِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ أَوْ يَسْتَغْفِرُونَ لِذُنُوبِهِ (حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا) ، أَيْ حَكِيمًا (وَمَنْ قَالَهَا) ، أَيِ الْكَلِمَاتُ الْمَذْكُورَةُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ:، أَيِ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ (حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ) ، أَيْ بِالْمَرْتَبَةِ الْمَسْطُورَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى اقْتِصَارًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الصُّبْحَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ الْفَجْرُ أَوْ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلَ إِطْلَاقُ الشَّرْعِ وَالثَّانِي عُرْفُ الْمُنَجِّمِينَ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَسَاءُ وَالْإِمْسَاءُ ضِدُّ الصَّبَاحِ لُغَةً وَالْإِصْبَاحِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّبَاحِ فِيهِ أَوَائِلُ النَّهَارِ عُرْفًا وَبِالْمَسَاءِ أَوَائِلُ اللَّيْلِ عُرْفًا، وَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ ذِكْرٍ أُنِيطَ بِالصَّبَاحِ أَوْ بِالْمَسَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا اللُّغَوِيَّ إِذِ الصَّبَاحُ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى الزَّوَالِ وَالْمَسَاءُ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ كَمَا قَالَهُ ثَعْلَبٌ وَمَنْ تَبِعَهُ اهـ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَنْ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ يَكُونُ شَاذًّا فَلَا مَعْنَى لِلْعُدُولِ عَنْ قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِلَى قَوْلِ ثَعْلَبٍ وَجَعْلِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لُغَةً، ثُمَّ لَا مَعْنَى لِلْعُدُولِ عَنِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ الْمُطَابِقِ لِلُّغَةِ إِلَى عُرْفِ الْعَامَّةِ سِيَّمَا فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ صَارِفٍ عَنِ الْأَوَّلِ وَبَاعِثٍ عَلَى الثَّانِي (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
2158 -
وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مُحِيَ عَنْهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَفِي رِوَايَتِهِ: خَمْسِينَ مَرَّةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
ــ
2158 -
(وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَتَيْ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، أَيْ إِلَى آخِرِهِ أَوْ هَذِهِ السُّورَةَ (مُحِيَ عَنْهُ) ، أَيْ عَنْ كِتَابِ أَعْمَالِهِ (ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) ، أَيْ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَنْبٌ يَكُونُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَمُطْلٍ فِي الْحَيَاةِ وَعَدَمِ وَصِيَّةٍ فِي الْمَمَاتِ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي وَهُوَ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ:«يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنَ» ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جُعِلَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الذُّنُوبِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ أَنَّهُ قَيَّدَ الذُّنُوبَ بِالصَّغَائِرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَفِي رِوَايَتِهِ) ، أَيْ الدَّارِمِيُّ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارِمِيِّ (خَمْسِينَ مَرَّةً) ، أَيْ بَدَلَ مِائَتَيْ مَرَّةٍ وَهِيَ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (وَلَمْ يَذْكُرْ) ، أَيِ الدَّارِمِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ) لِمَا تَقَرَرَ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مِمَّا لَا مُسَامَحَةَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الدَّيْنُ وَلَوْ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَزَكَاةٍ وَكَفَّارَةٍ فَلَا يُمْحَى بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ شَائِبَةً قَوِيَّةً لِلْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ الَّذِي يُصْرَفُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَمْحُهُ ذَلِكَ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالدَّيْنِ دَيْنُ الْعِبَادِ فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ دَيْنُ اللَّهِ فَمِنْ أَيْنَ الْجَزْمُ بِاسْتِثْنَاءِ هَذَا النَّوْعِ مِنْهُ.
2159 -
وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قَرَأَ مِائَةَ مَرَّةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: يَا عَبْدِي ادْخُلْ عَلَى يَمِينِكَ الْجَنَّةَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
2159 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ عَنْ أَنَسٍ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَرَادَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ: قَالَ مَنْ أَرَادَ (أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَامَ) عَطْفٌ عَلَى أَرَادَ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ (عَلَى يَمِينِهِ) ، أَيْ عَلَى وَجْهِ السِّنَةِ (ثُمَّ قَرَأَ مِائَةَ مَرَّةٍ) ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ) الشَّرْطُ مَعَ جَزَائِهِ الَّذِي هُوَ يَقُولُ جَزَاءً يَقُولُ جَزَاءً لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ مَنْ، وَلَمْ يَعْمَلِ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي جَزَائِهِ أَعْنِي يَقُولُ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَاضٍ فَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ إِذًا فَلَا يَعْمَلُ فِي الْجَزَاءِ (يَا عَبْدِي) ، أَيِ الْمَخْصُوصُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي تَوْحِيدِي (ادْخُلْ عَلَى يَمِينِكَ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ ادْخُلْ فَطَابَقَ هَذَا قَوْلَهُ " فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ " يَعْنِي أَنْتَ إِذَا أَطَعْتَ رَسُولِي وَاضْطَجَعْتَ عَلَى يَمِينِكَ وَقَرَأْتَ السُّورَةَ الَّتِي فِيهَا صِفَاتِي فَأَنْتَ الْيَوْمَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَادْخُلْ مِنْ جِهَةِ يَمِينِكَ (الْجَنَّةُ) وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَسَاتِينَ الْجَنَّةِ وَقُصُورَهَا الَّتِي فِي جَانِبِ الْيَمِينِ أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي فِي جَانِبِ الْيَسَارِ، وَإِنْ كَانَتْ تَانِكَ الْجِهَتَانِ يَمِينًا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ: مُقَرَّبُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ عِلِّيِّينَ وَأَبْرَارٌ وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَعُصَاةٌ مَغْفُورُونَ أَوْ مُشَفَّعُونَ أَوْ مُطَهَّرُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْيَسَارِ، وَيُقْتَبَسُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر: 32 - 33] أَيِ الْعِبَادُ الْمُصْطَفُونَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مُكَافَأَةٌ لِطَاعَتِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاضْطِجَاعِ عَلَى الْيَمِينِ وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ الَّتِي فِيهَا صِفَاتُهُ - تَعَالَى - فَيَجْعَلُ مَنْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْجَانِبِ الْيَمِينِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَيَنْبَغِي لِمَنْ بَلَّغَهُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ شَيْءٌ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا لِأَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ اتِّفَاقًا.
2160 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ: " وَجَبَتْ " قُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ» " رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
2160 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَقَالَ: وَجَبَتْ» )، أَيْ لَهُ (فَقُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ؟) ، أَيْ وَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ جَزَاءً لِقِرَاءَتِهِ وَجَبَتْ أَوْ مَا فَاعِلُ وَجَبَتْ (قَالَ: الْجَنَّةُ) ، أَيْ بِمُقْتَضَى وَعْدِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ الَّذِي لَا يَخْلُفُهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31] (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .
2161 -
وَعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ إِلَى فِرَاشِي، فَقَالَ: " اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2161 -
(وَعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ أَبِيهِ) فِي التَّقْرِيبِ: فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الْأَشْجَعِيُّ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الصُّحْبَةَ لِأَبِيهِ وَهُوَ مِنَ الثَّالِثَةِ (أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أَوَيْتُ) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ، أَيْ هَوَيْتُ (إِلَى فِرَاشِي، قَالَ: اقْرَأْ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، أَيْ إِلَى آخِرِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا (فَإِنَّهَا) ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ (بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ) ، أَيْ وَمُفِيدَةٌ لِلتَّوْحِيدِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
2162 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَيَقُولُ: " يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2162 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْجُحْفَةِ) وَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا وَأَهْلُ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَتُسَمَّى فِي هَذَا الزَّمَانِ رَابِغَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ السُّيُولَ أَجْحَفَتْهَا، وَهِيَ الَّتِي دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَقْلِ حِمَى الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا فَانْتَقَلَتْ إِلَيْهَا، وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِهَا طَائِرٌ إِلَّا حُمَّ، وَلِإِبْهَامِ مَوْضِعِهَا الْآنَ أَوْ قِلَّةِ مَائِهَا وَكَثْرَةِ الْخَوْفِ لِلْجَائِي إِلَيْهَا اسْتَبْدَلَ النَّاسُ الْإِحْرَامَ مِنْ رَابِغَ بِمَحَلٍّ مَشْهُورٍ قَبِيلَهَا لِأَمْنِهِ وَكَثْرَةِ مَائِهِ (وَالْأَبْوَاءِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَالْمَدِّ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: قَرْيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْفَرْعِ، وَبِهِ تُوُفِّيَتْ أُمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُمِّيَتْ بِهَا لِتَبَوُّئِ السُّيُولِ بِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُحْفَةِ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ مِيلًا (إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ) ، أَيْ طَفِقَ وَشَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، أَيِ الْخَلْقِ أَوْ بِئْرٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ (وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، أَيْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ (وَيَقُولُ) الظَّاهِرُ: وَقَالَ، وَعَدَلَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ أَوْ لِمُشَاكَلَةِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وُقُوعَ التَّكْرَارِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام حَثًّا لَهُ وَتَحْرِيضًا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ فَقَالَ: أَيْ، وَالْحَالُ إِنَّهُ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِمَا يَقُولُ (يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا) ، أَيْ بَلْ هُمَا أَفْضَلُ التَّعَاوِيذِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سُحِرَ عليه الصلاة والسلام مَكَثَ مَسْحُورًا سَنَةً حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِهِ أَنَّهُ يَتَعَوَّذُ بِهِمَا فَفَعَلَ فَزَالَ مَا كَانَ يَجِدُهُ مِنَ السِّحْرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
2163 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبِيبٍ قَالَ: «خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: " قُلْ " قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُصْبِحُ وَحِينَ تُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
2163 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبِيبٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ) ، أَيْ وَفِي ظُلْمَةٍ (شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ، أَيْ لِعَجَلَتِهِ فِي سَيْرِهِ الَّذِي هُوَ ذَاهِبٌ إِلَيْهِ (فَأَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ: قُلْ) أَيِ اقْرَأْ (قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟)، أَيْ مَا أَقْرَأُ (قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مَحَلُّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ نُصِبَ بِاقْرَأْ مُقَدَّرًا وَقَوْلُهُ (وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَتُفْتَحُ عَطْفًا عَلَيْهِ (حِينَ تُصْبِحُ وَحِينَ تُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ) بِالتَّأْنِيثِ، أَيِ السُّوَرُ الثَّلَاثُ، وَبِالتَّذْكِيرِ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِنَ الْقِرَاءَةِ أَوِ اللَّهِ - تَعَالَى - (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ تَدْفَعُ عَنْكَ كُلَّ سُوءٍ، فَمِنْ زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَذْهَبِ جَمَاعَةٍ وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا لِأَنَّ يَكْفِيكَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلنَّفْيِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَفْسِيرِهَا بِتَدْفَعُ وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، أَيْ تَدْفَعُ عَنْكَ مِنْ أَوَّلِ مَرَاتِبِ السُّوءِ إِلَى آخِرِهَا، أَوْ تَبْعِيضِيَّةً، أَيْ بَعْضُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّوءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: تُغْنِيكَ عَمَّا سِوَاهَا، وَيَنْصُرُ الْمَعْنَى الثَّانِي مَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهُوَ حَدِيثُ عُقْبَةَ لِقَوْلِهِ " فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهَا " وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ بِالْآتِي فَقَالَ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْآتِيَ فِي قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَحْدَهَا، وَالْفَضَائِلُ لَا قِيَاسَ فِيهَا، فَالْوَجْهُ مَا سَأَذْكُرُهُ ثَمَّةَ، فَتَأَمَّلْ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ صَدَرَ عَنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .
2164 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ سُورَةَ هُودٍ أَوْ سُورَةَ يُوسُفَ؟ قَالَ: " لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2164 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ أَقْرَأُ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ أَأَقْرَأُ؟ وَمُحْتَمَلٌ أَنْ يُقْرَأَ الْمَرْسُومُ بِالْمَدِّ فَيُفِيدُ الِاسْتِفْهَامَ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ (سُورَةَ هُودٍ) بِالصَّرْفِ وَغَيْرِهِ (أَوْ سُورَةَ يُوسُفَ)، أَيْ أَقْرَأُ إِحْدَاهُمَا لِدَفْعِ السُّوءِ عَنِّي (قَالَ: لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ) ، أَيْ أَتَمُّ فِي بَابِ التَّعَوُّذِ لِدَفْعِ السُّوءِ وَغَيْرِهِ (عِنْدَ اللَّهِ) ، أَيْ فِي سُوَرِ كَلَامِهِ أَوْ فِي حُكْمِهِ بِمُقْتَضَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (مِنْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، أَيْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَوَّذْ بِهِمَا إِلَخْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمُرَادُ التَّحْرِيضُ عَلَى التَّعَوُّذِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ اهـ. وَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ بِإِحْدَى الْقَرِينَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى وَلِيَتَّفِقَ الْحَدِيثَانِ وَيُطَابِقَا مَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلَهُنَّ، وَحِينَئِذٍ يُسْتَغْنَى عَمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ الزَّائِدَةِ والتَّعَسُّفَاتِ الْبَارِدَةِ وَجَعْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ بَعِيدًا (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .
2165 -
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ وَاتَّبِعُوا غَرَائِبَهُ، وَغَرَائِبُهُ فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ» ".
ــ
2165 -
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْرِبُوا) ، أَيْ أَيُّهَا الْعُلَمَاءُ (الْقُرْآنَ) ، أَيْ بَيِّنُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ غَرَائِبِ اللُّغَةِ وَبَدَائِعِ الْإِعْرَابِ وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ (وَاتَّبَعُوا غَرَائِبَهُ) ، أَيْ غَرَائِبُ اللُّغَةِ فِيهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ، وَالَّذِي فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ (وَغَرَائِبَهُ فَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ) وَالْمُرَادُ بِالْفَرَائِضِ الْمَأْمُورَاتُ وَبِالْحُدُودِ الْمَنْهِيَّاتُ أَوِ الْفَرَائِضُ الْمِيرَاثِيَّةِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مُطْلَقُ الْفَرَائِضِ الْقُرْآنِيَّةِ وَمَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُودِ أَعْنِي الدَّقَائِقُ وَالرُّمُوزُ الْعِرْفَانِيَّةُ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى بَيِّنُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَحْكَامِ وَبَدَائِعِ الْحِكَمِ وَخَوَارِقِ الْمُعْجِزَاتِ وَمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَمَاكِنِ الْمَوَاعِظِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَأَوْضِحُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْمُتَعَلِّمِينَ لِيَعْمَلُوا بِهِ وَيَبْلُغُوا سَوَابِقَ الْخَيِّرَاتِ وَسَوَابِقَ الْكَرَمَاتِ بِسَبَبِهِ، أَوْ بَيِّنُوا إِعْرَابَ مُشْكِلِ أَلْفَاظِهِ وَعِبَارَاتِهِ وَمَحَامِلِ مُجْمِلَاتِهِ وَمَكْنُونِ إِشَارَاتِهِ وَمَا يَرْتَبِطُ بِتِلْكَ الْإِعْرَبَاتِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِهَا لِأَنَّ الْمَعْنَى تَبَعٌ لِلْإِعْرَابِ كَمَا قِيلَ أَيْضًا لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لِمَنْ سَأَلَهُ عَمَّنْ يَتَعَلَّمُ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ لِيُقِيمَ بِهَا قِرَاءَتَهُ: حَسَنٌ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فَتَعَلَّمْهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْرَأُ الْآيَةَ فَيَعِيَ وَجْهَهَا فَيَهْلَكُ فِيهَا، وَأَوَّلُ وَاجِبٌ عَلَى مُعْرِبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى مَا يُرِيدُ إِعْرَابَهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بِحَسَبِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ فِيهَا، فَإِنَّ الْإِعْرَابَ فَرْعُ الْمَعْنَى وَلِهَذَا امْتَنَعَ إِعْرَابُ أَوَائِلِ السُّوَرِ الْمُتَشَابِهِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَشْهَرِ مِمَّا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ زَلَّتْ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُعْرِبِينَ رَاعَوْا ظَاهِرَ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَأَوْرَدَ فِي كِتَابِهِ الْمُغْنِي أَمْثِلَةً كَثِيرَةً، مِنْ جُمْلَتِهَا مَنْ جَعَلَ قَيِّمًا صِفَةَ عِوَجًا فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ، وَتَرَحَّمْ عَلَى حَفْصٍ حَيْثُ اخْتَارَ السَّكْتَ عَلَى عِوَجًا دَفَعًا لِفَهْمِ الْعِوَجِ.
2166 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ» ".
ــ
2166 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ) لِكَوْنِهَا مُنْضَمَّةً إِلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى أَوْ لِكَوْنِهَا فِيهَا بِالْأَدَبِ أَقْرَبُ وَبِالْحُضُورِ أَحْرَى (أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ) لِطُرُوءِ الْأَشْغَالِ الْمَانِعَةِ غَالِبًا (وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ) ، أَيْ وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ سَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَهُ وَفِيهِ حُكْمُهُ وَأَحْكَامُهُ (وَالتَّسْبِيحُ) ، أَيْ وَنَحْوُهُ (أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ) ، أَيْ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالْخَيِّرَاتِ ذِكْرُ اللَّهِ (وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ) ، أَيِ النَّفْلُ لِأَنَّهَا نَفْعٌ مُتَعَدٍّ وَهُوَ قَاصِرٌ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّمَا يُفِيدُ الصَّوْمُ إِذَا تَصَدَّقَ بِغِذَائِهِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يُمْسِكَ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَأْكُلُهُ وَحْدَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ كُلَّ مِنْ ابْنِ آدَمَ يُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمُ. الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَى نَفْسِ الْعِبَادَةِ كَانَتِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّوْمِ وَإِذَا نَظَرَ إِلَى كُلٍّ مِنْهَا وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهَا مِنَ الْخَاصَّةِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهَا غَيْرُهُ فِيهَا كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ (وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ) ، أَيْ وِقَايَةٌ مِنَ النَّارِ، أَيْ مِمَّا يَجُرُّ إِلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْعُقْبَى، وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ فَوَائِدِ الصَّوْمِ الْمَفْضُولِ فَمَا بَالُكَ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ؟
2167 -
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «قِرَاءَةُ الرَّجُلِ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ، وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَعَّفُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ» ".
ــ
2167 -
(وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قِرَاءَةُ الرَّجُلِ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ) ، أَيْ مِنْ حِفْظِهِ (أَلْفُ دَرَجَةٍ) ، أَيْ ذَاتِ أَلْفِ دَرَجَةٍ أَوْ ثَوَابُهَا أَلْفُ دَرَجَةٍ فِي كُلِّ دَرَجَةِ حَسَنَاتٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَلْفُ دَرَجَةٍ خَبَرٌ لِقَوْلِهِ قِرَاءَةُ الرَّجُلِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ ذَاتِ أَلْفِ دَرَجَةٍ لِيَصِحَّ الْحَمْلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] ، أَيْ ذَوُو دَرَجَاتٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَجَعَلَ الْقِرَاءَةَ عَنْ تِلْكَ الْأَلِفِ مَجَازًا كَرَجُلٍ عَدْلٍ، فَتَأَمَّلْ (وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَعَّفُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ مُشَدَّدُ الْعَيْنِ، أَيْ يُزَادُ (عَلَى ذَلِكَ)، أَيْ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ (إِلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: لِحَظِّ النَّظَرِ فِي الْمُصْحَفِ وَحَمْلِهِ وَمَسِّهِ وَتُمَكُّنِهِ مِنَ التَّفَكُّرِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطِ مَعَانِيهِ اهـ يَعْنِي أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّاتِ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَاهِرَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْبَرَرَةِ، وَرُبَّمَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ غَيْبًا عَلَى الْحَافِظِ حِفْظًا لِمَحْفُوظِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِلَى غَايَةٍ لِانْتِهَاءِ التَّضْعِيفِ أَلْفَيْ دَرَجَةٍ لِأَنَّهُ ضَمَّ إِلَى عِبَادَةِ الْقِرَاءَةِ عِبَادَةُ النَّظَرِ، أَيْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَلِاشْتِمَالِ هَذِهِ عَلَى عِبَادَتَيْنِ كَانَ فِيهَا أَلْفَانِ، وَمِنْ هَذَا أَخَذَ جَمْعٌ بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ نَظَرًا فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ غَيْبًا أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّهُ عَمَلًا بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَالْحَقُّ التَّوَسُّطُ فَإِنْ زَادَ خُشُوعُهُ وَتَدَبُّرُهُ وَإِخْلَاصُهُ فِي إِحْدَاهُمَا فَهُوَ الْأَفْضَلُ وَإِلَّا فَالنَّظَرُ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي الْمَقْرُوءِ أَكْثَرَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالْغَيْبِ.
2168 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جِلَاؤُهَا؟ قَالَ: " كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ» " رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2168 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ) ، أَيْ الَّتِي هِيَ مَرَايَا لِمُطَالَعَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ وَمُشَاهِدَةِ الْأَحْوَالِ وَالْغُيُوبِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ هَذِهِ الْقُلُوبُ الْمَعْلُومُ أَنَّهَا فِي غَايَةِ الرِّفْعَةِ تَارَةً وَالْخِسَّةِ أُخْرَى لِأَنَّهَا لِأَبْدَانِهَا بِمَنْزِلَةِ السَّلَاطِينِ، فَإِذَا صَلَحَتْ صَلَحَتْ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَتْ (تَصْدَأُ) بِالْهَمْزِ، أَيْ يَعْرِضُ لَهَا دَنَسٌ بِتَرَاكُمِ الْغَفَلَاتِ وَتَزَاحُمِ الشَّهَوَاتِ (كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ) ، أَيْ يَتَوَسَّخُ (إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ)، أَيِ اسْتِعْمَالُهُ الْمُشَبَّهُ بِاشْتِغَالِ الْقَوْلِ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَفِكْرِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الرَّانُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جِلَاؤُهَا؟) بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ آلَةُ جَلَاءِ صَدَأِ الْقُلُوبِ مِنْ وَسَخِ الْغُيُوبِ الْمَانِعِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمَحْبُوبِ وَمُطَالَعَةِ الْمَحْبُوبِ، فَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ:«الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» (قَالَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ) وَهُوَ الْوَاعِظُ الصَّامِتُ، وَيُوَافِقُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ:«أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ» بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ، أَيْ قَاطِعُهَا أَوْ مُزِيلُهَا مِنْ أَصْلِهَا، وَفَسَّرَ قَوْلَهُ - تَعَالَى - {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] بِأَكْثَرِ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ (وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ) بِالرَّفْعِ وَيَجُوزُ جَرُّهُ وَهُوَ الْوَاعِظُ النَّاطِقُ، فَهُمَا بِلِسَانِ الْحَالِ وَبَيَانِ الْقَالِ يَبْرُدَانِ عَنْ قُلُوبِ الرِّجَالِ أَوْسَاخَ مَحَبَّةِ الْغَيْرِ مِنَ الْجَاهِ وَالْمَالِ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ) ، أَيِ الْمُتَقَدِّمَةُ (فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
2169 -
وَعَنْ أَيْفَعَ بْنِ عَبْدٍ الْكَلَاعِيِّ قَالَ:
ــ
2169 -
(وَعَنْ أَيْفَعَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنِ عَبْدٍ) بِالتَّنْوِينِ (الْكَلَاعِيِّ) بِفَتْحِ الْكَافِ كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفَى بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِالضَّمِّ كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ، وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: أَيْفَعَ ابْنُ نَاكُورَ مِنَ الْيَمَنِ الْمَعْرُوفُ بِذِي الْكَلَاعِ بِفَتْحِ الْكَافِ، نَاكُورَ بِالنُّونِ وَضَمِّ الْكَافِ كَانَ رَئِيسًا فِي قَوْمِهِ، أَسْلَمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّعَاوُنِ عَلَى قَتْلِ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ، وَهَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ ذُو الْكَلَاعِ، فَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ لَهُ رِوَايَةً إِلَّا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ (قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ سُورَةِ الْقُرْآنِ) وَفِي نُسْخَةٍ: أَيُّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآن ِ (أَعْظَمُ) ، أَيْ فِي شَأْنِ التَّوْحِيدِ فَلَا يُنَافِي مَا مَرَّ فِي الْفَاتِحَةِ أَنَّهَا أَفْضَلُ سُورَةِ الْقُرْآنِ، وَفِي أُخْرَى أَعْظَمُ سُورَةٍ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ الْفَاتِحَةِ طُرُقُهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ بِخِلَافِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا أَعْظَمُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَأَيُّ آيَةٍ) ، أَيْ فِي الْقُرْآنِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (أَعْظَمُ؟)، أَيْ فِي بَيَانِ صِفَاتِهِ - تَعَالَى - (قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، أَيْ إِلَى آخِرِهَا (قَالَ: فَأَيُّ آيَةٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ (تُحِبُّ أَنْ تُصِيبَكَ وَأُمَّتَكَ) ثَوَابُهَا أَوْ فَائِدَتُهَا لَا نُزُولُهَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَمْ تَتْرُكْ خَيْرًا إِلَى آخِرِهِ (قَالَ: خَاتِمَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) ، أَيْ مِنْ آمَنَ الرَّسُولُ، أَيْ هِيَ الَّتِي أُحِبُّ أَنْ تَنَالَنِي وَأُمَّتِي فَائِدَتُهَا قَبْلَ بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ (فَإِنَّهَا) ، أَيْ نَتَائِجُهَا أَوْ نَزَلَتْ (مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ تَحْتِ عَرْشِهِ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيْ نُزُولُهَا مِنْ تَحْتِ عَرْشِهِ أَوِ التَّقْدِيرُ: مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَةِ اللَّهِ الْكَائِنَةِ أَوْ كَائِنَةٍ مِنْ تَحْتِ عَرْشِهِ وَهَذَا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَأَنَا عَلَى حَقِيقَةِ إِدْرَاكِهِ فِي حِجَابٍ (أَعْطَاهَا) ، أَيْ نَفْسُ الْآيَةِ أَوْ مَا فِيهَا مِنْ مَرَاتِبِ الْإِجَابَةِ (هَذِهِ الْأُمَّةُ) ، أَيْ بِخُصُوصِهَا تَشْرِيفًا لِكَاشِفِ الْغُمَّةِ (لَمْ تَتْرُكْ خَيْرًا مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا اشْتَمَلَتْ) ، أَيْ تِلْكَ الْخَاتِمَةُ (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ عِبَارَةً وَإِشَارَةً (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
2170 -
وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2170 -
(وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (مُرْسَلًا) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ الشَّعْبِيِّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ) ، أَيْ فِي آيَاتِهَا وَكَلِمَاتِهَا وَحُرُوفِهَا قِرَاءَةً وَكِتَابَةً لِلتَّعْلِيقِ وَلِلْحُسْنِ (شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ) دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ حِسِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَتَنَاوَلُ دَاءَ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَالْأَمْرَاضَ الْبَدَنِيَّةَ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) ، أَيْ مَوْقُوفًا لَكِنَّهُ مَرْفُوعٌ حُكْمًا، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ إِلَخْ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
2171 -
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ فِي لَيْلَةٍ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ.
ــ
2171 -
(وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ) ، أَيْ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (فِي لَيْلَةٍ) ، أَيْ أَوَّلُهَا أَوْ آخِرُهَا، وَقَدْ ثَبَتَ قِرَاءَتُهُ عليه الصلاة والسلام أَوَّلَ مَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ مِنَ اللَّيْلِ (كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ) ، أَيْ كُتِبَ مِنَ الْقَائِمِينَ بِاللَّيْلِ.
2172 -
وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُمَا الدَّارِمِيُّ.
ــ
2172 -
(وَعَنْ مَكْحُولٍ) تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، قِيلَ: مَوْقُوفٌ أَيْضًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ (قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ) ، أَيْ دَعَتْ لَهُ وَاسْتَغْفَرَتْ (إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُمَا) ، أَيِ الْحَدِيثَيْنِ (الدَّارِمِيُّ) .
2173 -
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أُعْطِيتُهُمَا مِنْ كَنْزِهِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُنَّ وَعَلِّمُوهُنَّ نِسَاءَكُمْ، فَإِنَّهَا صَلَاةٌ وَقُرْبَانٌ وَدُعَاءٌ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا.
ــ
2173 -
(وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) ، أَيِ الْخَضْرَمِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَهُوَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ، وَنُفَيْرٌ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَبِالرَّاءِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ فِي التَّابِعِينَ وَكَذَا ضَبَطَهُ الْمُغْنِي، فَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِاللَّامِ بَدَلَ الرَّاءِ فَمِنْ تَصْحِيفِ النَّاسِخِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَتَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِآيَتَيْنِ أُعْطِيتُهُمَا مِنْ كَنْزِهِ) ، أَيِ الْمَعْنَوِيِّ (الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَعَلَّمُوهُنَّ) ، أَيْ كَلِمَاتُهُمَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يُثَنَّ الضَّمِيرُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُهُمَا، فَلَمَّا عَدَلَ عَنِ التَّثْنِيَةِ إِلَى الْجَمْعِيَّةِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُهُمَا لَا مَجْمُوعُهُمَا وَهَذَا نَظِيرُ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19] وَ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] اهـ فِي دَعْوَى مُرَادِهِ مَعْنًى وَتَنْظِيرُهُ لَفْظًا نَظَرٌ لَا يَخْفَى (وَعَلِّمُوهُنَّ نِسَاءَكُمْ) وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُنَّ لِكَوْنِهِنَّ أَوْلَى بِتَعْلِيمِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ لَا لِأَنَّ غَيْرَهُنَّ لَا يَعْلَمُهُنَّ (فَإِنَّهَا) ، أَيْ كَلِمَاتُهُمَا أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ (صَلَاةٌ) ، أَيِ اسْتِغْفَارٌ أَوْ مَا يُصَلِّي بِهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ فَيَتَكَرَّرُ (وَقُرْبَانٌ) بِضَمِّ الْقَافِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ، أَيْ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِمَّا فِيهَا مِنَ الْأَذْكَارِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِظْهَارِ (وَدُعَاءٌ) إِمَّا بِلِسَانِ الْحَالِ وَإِمَّا بِبَيَانِ الْمَقَالِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] إِلَخْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهَا رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنَ الْكَلِمَاتِ وَالْحُرُوفِ فِي قَوْلِهِ بِآيَتَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وَلَمْ يُرَدْ بِالصَّلَاةِ الْأَرْكَانُ لِأَنَّهَا غَيْرُهَا وَلَا الدُّعَاءُ لِلتَّكْرَارِ، بَلْ أَرَادَ الِاسْتِغْفَارَ نَحْوَ غُفْرَانَكَ وَاغْفِرْ لَنَا، وَأَمَّا الْقُرْبَانُ فَإِمَّا إِلَى اللَّهِ كَقَوْلِهِ " وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ " وَإِمَّا إِلَى الرَّسُولِ كَقَوْلِهِ " {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] " (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا) ، أَيْ لِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا وَفِي رِوَايَتِهِ: قُرْآنٌ بَدَلُ قُرْبَانٍ، أَيْ فَإِنَّ جُمْلَةَ الْآيَتَيْنِ يُصَلِّي بِهِمَا وَيَتْلُو قُرْآنًا وَيَدْعِي بِهِمَا، وَزَادَ قَوْلُهُ وَأَبْنَاءَكُمْ بَعْدَ قَوْلِهِ نِسَاءَكُمْ.
2174 -
وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «اقْرَءُوا سُورَةَ هُودٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2174 -
(وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اقْرَؤُا سُورَةَ هُودٍ» ) يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْكُلِّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ.
2175 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ نُورٌ مَا بَيْنَ الْجُمْعَتَيْنِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ.
ــ
2175 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ أَضَاءَ لَهُ النُّورُ» ) ، أَيْ فِي قَلْبِهِ أَوْ قَبْرِهِ أَوْ يَوْمَ حَشْرِهِ فِي الْجَمْعِ الْأَكْبَرِ (مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ) ، أَيْ مِقْدَارُ الْجُمُعَةِ الَّتِي بَعْدَهَا مِنَ الزَّمَانِ وَهَكَذَا كُلُّ جُمْعَةٍ تَلَا فِيهَا هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَضَاءَ إِمَّا لَازِمٌ وَبَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ ظَرْفٌ، فَيَكُونُ إِشْرَاقُ ضَوْءِ النُّورِ فِيمَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ إِشْرَاقِ النُّورِ نَفْسِهِ مُبَالَغَةً، وَإِمَّا مُتَعَدٍّ فَيَكُونُ مَا بَيْنَ مَفْعُولًا بِهِ، وَبِهِمَا أُعْرِبَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] اهـ وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الْحَدِيثِيِّ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مُرْجَعًا، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ مِنْ قَوْلِهِ مَوْقُوفًا ( «مَنْ قَرَأَهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» ) وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَاللَّفْظُ لِلنَّسَائِيِّ وَقَالَ: رَفُعُهُ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ ( «مَنْ قَرَأَهَا كَمَا أُنْزِلَتْ كَانَتْ لَهُ نُورٌ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا فَخَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ» ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَاخْتَلَفَ أَيْضًا فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ ( «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ قَرَأَ بِعَشْرِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا ثُمَّ خَرَجَ الدَّجَّالُ لَمْ يَضُرُّهُ» ) وَرَوَى الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا ( «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ عِنْدَ مَضْجَعِهِ كَانَ لَهُ نُورًا يَتَلَأْلَأُ فِي مَكَّةَ، حَشْوُ ذَلِكَ النُّورِ مَلَائِكَةً يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَضْجَعُهُ بِمَكَّةَ كَانَ لَهُ نُورًا يَتَلَأْلَأُ فِي مَضْجَعِهِ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، حَشْوُ ذَلِكَ النُّورِ مَلَائِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلْيِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» ) وَفِي الْمَدَارِكِ بِلَفْظِ ( «مَنْ قَرَأَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إِلَخْ عِنْدَ مَضْجَعِهِ» ) وَذَكَرَ نَحْوَهُ، قُلْتُ: وَفِي هَذَا
الْحَدِيثُ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ وَبِشَارَةٌ شَرِيفَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ الْقَارِئُ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ فَبِقَدْرِ مَا يَنْقُصُ مِنَ الْمَسَافَةِ السُّفْلِيَّةِ لِامْتِلَاءِ النُّورِ يُزَادُ لَهُ مِنَ الْمَسَافَةِ الْعُلْوِيَّةِ، وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الرُّقِيُّ الْعُلْوِيُّ الزَّائِدُ حِسًّا وَشَرَفًا فَإِنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسَافَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، كَذَا مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَسَمَاءٍ، وَكَذَا غِلَظُ كُلِّ سَمَاءٍ وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَغْوِيُّ فِي الْمَعَالِمِ.
2176 -
وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: «اقْرَءُوا الْمُنْجِيَةَ وَهِيَ الم تَنْزِيلُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقْرَؤُهَا مَا يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَايَا فَنَشَرَتْ جَنَاحَهَا عَلَيْهِ، قَالَتْ: رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَتِي، فَشَفَّعَهَا الرَّبُّ - تَعَالَى - فِيهِ وَقَالَ: اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِّ خَطِيئَةٍ حَسَنَةٍ وَارْفَعُوا لَهُ دَرَجَةً، وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّهَا تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا فِي الْقَبْرِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ مِنْ كِتَابِكَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ مِنْ كِتَابِكَ فَامْحُنِي عَنْهُ، وَإِنَّهَا تَكُونُ كَالطَّيْرِ تَجْعَلُ جَنَاحَهَا عَلَيْهِ فَتَشْفَعُ لَهُ فَتَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَقَالَ فِي تَبَارَكَ مِثْلَهَا، وَكَانَ خَالُهُ لَا يَبِيتُ حَتَّى يَقْرَأَهُمَا» ، وَقَالَ طَاوُوسُ: فُضِّلَتَا عَلَى كُلِّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسِتِّينَ حَسَنَةً. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2176 -
(وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ (قَالَ: اقْرَءُوا) ، أَيْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ كَمَا يُشْعَرُ بِهِ آخِرِ الْحَدِيثِ (الْمُنْجِيَةَ) ، أَيْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعِقَابِ الْحَشْرِ (وَهِيَ الم تَنْزِيلُ فَإِنَّهُ) ، أَيِ الشَّأْنُ (بَلَغَنِي) ، أَيْ عَنِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ لَقِيَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَوَهَمَ ابْنُ حَجَرٍ فَظَنَّ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَعْدَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا اعْتُرِضَ عَلَى الطِّيبِيِّ فِي كَلَامِهِ الْآتِي (أَنَّ رَجُلًا)، أَيْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ " قَالَ " يَشْعُرُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ اقْرَءُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا إِلَخْ إِخْبَارٌ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام كَمَا أَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ شَفَعَتْ لِرَجُلٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي (كَانَ يَقْرَؤُهَا) ، أَيْ يَجْعَلُهَا وِرْدًا لَهُ (مَا يَقْرَأُ شَيْئًا غَيْرَهَا) ، أَيْ لَمْ يَجْعَلْ لِنَفْسِهِ وِرْدًا غَيْرَهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ مِمَّا عَدَا الْفَاتِحَةَ غَيْرَهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا (وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَايَا فَنُشِرَتْ) ، أَيْ بَعْدَمَا تُصُوِّرَتِ السُّورَةُ أَوْ ثَوَابُهَا عَلَى صُورَةِ طَيْرٍ (جَنَاحُهَا عَلَيْهِ) ، أَيْ لِتُظِلَّهُ أَوْ جَنَاحُ رَحْمَتِهَا عَلَى الرَّجُلِ الْقَارِئِ حِمَايَةً لَهُ (قَالَتْ) بِلِسَانِ الْقَائِلِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ وَهُوَ بَدَلُ بَعْضٍ أَوِ اشْتِمَالٍ مِنْ نُشِرَتْ لِأَنَّ النَّشْرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْحَاصِلَةِ بِقَوْلِهَا (رَبِّ اغْفِرْ لَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَتِي فَشَفَّعَهَا) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ قَبِلَ شَفَاعَتَهَا (الرَّبُّ - تَعَالَى - فِيهِ) ، أَيْ فِي حَقِّهِ (وَقَالَ) ، أَيِ الرَّبُّ (اكْتُبُوا لَهُ بِكُلِّ خَطِيئَةٍ) ، أَيْ بَدَلَهَا (حَسَنَةً) ، أَيْ فَضْلًا وَإِحْسَانًا وَكَرَمًا وَامْتِنَانًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، وَفِيهِ أَنَّ أُولَئِكَ هُمُ التَّائِبُونَ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ} [الفرقان: 70] الْآيَةَ (وَارْفَعُوا لَهُ دَرَجَةً، وَقَالَ) ، أَيْ خَالِدٌ (أَيْضًا) ، أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ مَوْقُوفًا (إِنَّهَا) ، أَيِ السُّورَةُ الم تَنْزِيلُ (تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا) ، أَيْ مَنْ يُكْثِرُ قِرَاءَتَهَا (فِي الْقَبْرِ) ، أَيِ الشَّفَاعَةُ فِي تَسْدِيدِ سُؤَالِهِ وَتَخْفِيفِ عَذَابِهِ، أَوْ رَفْعِهِ أَوْ تَوَسِيعِ قَبْرِهِ وَتَنْوِيرِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ (تَقُولُ) بَيَانُ الْمُجَادَلَةِ، وَهَذِهِ الْمُجَادَلَةُ وَنَشْرُ الْجَنَاحِ عَلَى قَارِئِهَا كَالْمُحَاجَّةِ وَالتَّظْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الزَّهْرَاوَيْنِ (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ) ، أَيْ إِذَا كُنْتُ (مِنْ كِتَابِكَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ الْمَكْتُوبُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (فَشَفِّعْنِي) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ فَاقْبَلْ شَفَاعَتِي (فِيهِ) ، أَيْ فِي حَقِّهِ (وَإِنْ لَمْ أَكُنْ فِي كِتَابِكَ) ، أَيْ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ (فَامْحُنِي) بِضَمِّ الْحَاءِ (عَنْهُ) ، أَيْ عَنْ كِتَابِكَ أَوْ عَنْ صَدْرِهِ فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَنَظِيرُ ذَلِكَ تَدَلُّلُ بَعْضُ خَوَاصِّ الْمَلِكِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ إِنْ كُنْتُ عَبْدَكَ فَشَفِّعْنِي فِي كَذَا، وَإِلَّا فَبِعْنِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كَمَا يَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ الَّذِي لَمْ يُرَاعِ حَقَّهُ: إِنْ كُنْتُ لَكَ أَبًا فَرَاعِ حَقِّي، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ لَكَ أَبًا فَلَنْ تُرَاعِيَ حَقِّي اهـ وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمُرَاعَاةَ لَازِمَةٌ وَاقِعَةٌ الْبَتَّةَ، فَلَا تَرْدِيدَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ مُرَاعَاةُ حَقِّ الْأَبِ أَلْزَمَ مِنْ مَرْعَاةِ الِابْنَ لَمْ يَقُلْ كَمَا يَقُولُ الِابْنُ لِأَبِيهِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَظْهَرَ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَأَبْيَنَ فِي الْمُشَابَهَةِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ تَنْظِيرَ الطِّيبِيُّ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ بِمَا نَظَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، ثُمَّ تَبَجَّحَ وَقَالَ فِي تَنْظِيرِهِ: هَذَا أَوْلَى مِمَّا نَظَرَ بِهِ شَارِحٌ كَمَا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ، فَتَأَمَّلْ (وَإِنَّهَا)، أَيْ وَقَالَ خَالِدٌ: إِنَّهَا (تَكُونُ) ، أَيْ فِي الْقَبْرِ (كَالطَّيْرِ) ، أَيْ كَمَا إِنَّهَا فِي الْمَوْقِفِ كَذَلِكَ الَّذِي مَرَّ أَوَّلًا، وَلَعَلَّ تَقْدِيمَهُ لِتَعْظِيمِهِ (تَجْعَلُ جَنَاحَهَا عَلَيْهِ) حِمَايَةً لَهُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هُنَا لِتَظُنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّ مَقَامَهُ فِي الْمَوْقِفِ فِي الْجُمْلَةِ (تَشْفَعُ لَهُ فَتَمْنَعُهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَقَالَ) ، أَيْ خَالِدٌ (فِي تَبَارَكَ) ، أَيْ فِي فَضِيلَةِ سُورَتِهِ (مِثْلَهُ) ، أَيْ مِثْلَ مَا قَالَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ (وَكَانَ خَالِدٌ لَا يَبِيتُ) ، أَيْ لَا يَرْقُدُ (حَتَّى يَقْرَأَهُمَا، وَقَالَ طَاوُوسُ) وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ (فُضِّلَتَا) بِالتَّشْدِيدِ، أَيِ السَّجْدَةُ وَالْمُلْكُ (عَلَى كُلِّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسِتِّينَ حَسَنَةً) وَهُوَ لَا يُنَافِي الْخَبَرَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْبَقَرَةَ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ ; إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَفْضُولِ مَزِيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ، أَوْ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِزَمَانٍ أَوْ حَالٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْكَمَالِ، أَمَا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ سَبِّحْ وَالْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصِ فِي الْوَتَرِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَذَا سُورَةُ السَّجْدَةِ وَالدَّهْرِ بِخُصُوصِ فَجْرِ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمَا، فَلَا يُحْتَاجُ فِي الْجَوَابِ إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ ذَاكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) ، أَيْ مَوْقُوفًا، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ الْمُرْسَلِ فَإِنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ.
2177 -
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ " يس " فِي صَدْرِ النَّهَارِ تَمَّتْ حَوَائِجُهُ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا.
ــ
2177 -
(وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كَانَ جَعْدَ الشَّعْرِ أَسْوَدَ أَفْطَسَ، أَشَلَّ أَعْوَرَ ثُمَّ عَمِيَ، وَكَانَ مِنْ أَجَلِّ الْفُقَهَاءِ، تَابِعِيٌّ مَكِّيٌّ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ أَرْضَى أَهْلِ الْأَرْضِ عِنْدَ النَّاسِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْعِلْمُ خَزَائِنٌ يُقَسِّمُهُ اللَّهُ لِمَنْ أَحَبَّ، لَوْ كَانَ يَخُصُّ بِالْعِلْمِ أَحَدًا لَكَانَ بِنَسَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى، كَانَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ حَبَشِيًّا (قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ قَرَأَ يس ") بِالسُّكُونِ وَقِيلَ بِالْفَتْحِ (فِي صَدْرِ النَّهَارِ) ، أَيْ أَوَّلَهُ (قُضِيَتْ حَوَائِجُهُ) ، أَيْ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ أَوْ آخِرَةٌ أَوْ مُطْلَقًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ مُرْسَلًا) .
2178 -
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ يس ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، فَاقْرَءُوهَا عِنْدَ مَوْتَاكُمْ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2178 -
(وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيِّ) قَالَ الْمُؤَلِّفَ: هُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، الْمُزَنِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ مُزْيَنَةٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنْ قَرَأَ يس ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى» ") ، أَيْ طَلَبًا لِرِضَاهُ لَا غَرَضًا سِوَاهُ " غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "، أَيِ الصَّغَائِرُ وَكَذَا الْكَبَائِرُ إِنْ شَاءَ " فَاقْرَءُوهَا عِنْدَ مَوْتَاكُمْ "، أَيْ مُشْرِفِي الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ قُبُورِ أَمْوَاتِكُمْ، فَإِنَّهُمْ أَحْوَجُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِذَا كَانَتْ قِرَاءَةُ يس بِالْإِخْلَاصِ تَمْحُو الذُّنُوبَ، فَاقْرَءُوهَا عِنْدَ مَنْ شَارَفَ الْمَوْتَ حَتَّى يَسْمَعَهَا وَيُجْرِيَهَا عَلَى قَلْبِهِ فَيُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ اهـ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَوْتَى الْجَهَلَةُ أَوْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
2179 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا، وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابًا، وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلِ " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2179 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامًا) بِفَتْحِ السِّينِ، أَيْ رِفْعَةً، مُسْتَعَارٌ مِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ (وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) إِمَّا بِطُولِهَا وَاحْتِوَائِهَا عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، أَوْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَبِهِ الرِّفْعَةُ الْكَبِيرَةُ (وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ) ، أَيْ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ لُبٌّ (لُبَابًا) بِضَمِّ اللَّامِ، أَيْ خُلَاصَةٌ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ (وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلِ) لِأَنَّهُ فُصِّلَ فِيهَا مَا أُجْمِلَ فِي غَيْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِاعْتِبَارِ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ لَهُ مُشَابَهَةٌ مَا، بِخِلَافِ الْمُفَصَّلِ كَمَا أَفَادَهُ حَدِيثُ ( «وَأُوتِيتُ الْمُفَصَّلِ نَافِلَةً» ) ، أَيْ زَائِدَةٌ عَلَى بَقِيَّةِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ اهـ وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ كَوْنِهِ لُبًّا إِلَّا بِمَا قَرَّرْنَاهُ مَعَ زِيَادَةِ وَجْهِ التَّسْمِيَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ مِنَ الْحُجُرَاتِ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَصَحِّ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) ، أَيْ مَوْقُوفًا وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِوُضُوحِهِ مَنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ.
2180 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لِكُلِّ شَيْءِ عَرُوسٌ، وَعَرُوسُ الْقُرْآنِ الرَّحْمَنُ» ".
ــ
2180 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لِكُلِّ شَيْءٍ عَرُوسٌ ") ، أَيْ جَمَالٌ وَقُرْبَةٌ وَبَهَاءٌ وَزِينَةٌ " وَعَرُوسُ الْقُرْآنِ الرَّحْمَنُ " لِاشْتِمَالِهَا عَلَى النَّعْمَاءِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْآلَاءِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَلِاحْتِوَائِهَا عَلَى أَوْصَافِ الْحُورِ الْعِينِ الَّتِي مِنْ عَرَائِسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَنُعُوتِ حُلِيِّهِنَّ وَحُلَلِهِنَّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَرُوسُ يُطْلَقُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عِنْدَ دُخُولِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَرَادَ الزِّينَةَ فَإِنَّ الْعَرُوسَ تُحَلَّى بِالْحُلِيِّ وَتُزَيَّنُ بِالثِّيَابِ، أَوْ أَرَادَ الزُّلْفَى إِلَى الْمَحْبُوبِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَطْلُوبِ.
2181 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» " وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَأْمُرُ بَنَاتَهُ يَقْرَأْنَ بِهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ. رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2181 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا» ") ، أَيْ لَمْ يَضُرُّهُ فَقْرٌ لِمَا يُعْطَى مِنَ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ وَالْوَعْدِ الْجَزِيلِ، أَوْ لَمْ يُصِبْهُ فَقْرٌ قَلْبِيٌّ لِمَا يُعْطَى مِنْ سِعَةِ الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالرَّبِّ وَالتَّوَكُّلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ لِمَا يَسْتَفِيدُ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَيَسْتَفِيضُ مِنْ بَيَانِ الْمَعَانِي فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَهَا، كَالْقَوَالِبِ فِي الصُّورَةِ، سِيَّمَا مَا يَتَعَلَّقُ فِيهَا بِخُصُوصِ ذِكْرِ الرِّزْقِ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] وَقَوْلِهِ عز وجل {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82](وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَأْمُرُ بَنَاتَهُ يَقْرَأْنَ بِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ) وَفِي نُسْخَةٍ: فِي كُلِّ لَيْلَةٍ (رَوَاهُمَا) ، أَيِ الْحَدِيثَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
2182 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبِّحِ اسْمِ رَبِّكَ الْأَعْلَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
2182 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» )، أَيْ مَحَبَّةٌ زَائِدَةٌ وَهِيَ نَظِيرُ مَا وَرَدَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا، قَالَ الْعَارِفُ الْجَامِعُ فِي شَمْسِ الْوُجُودِ: وَإِلَّا فَمَعْمُورَةُ الدُّنْيَا جَمِيعُهَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يَجِيئَ فِي نَظَرِ الْحَبِيبِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم ( «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» ) فَزِيَادَةُ الْمُحِبَّةِ فِي الْفَتْحِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِالْفَتْحِ، وَالْإِشَارَةِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَيْسِيرِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ مَعْسُورٍ، بِقَوْلِهِ " {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] " وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ رَكَعَاتِ الْوَتَرِ وَقِرَاءَةِ الْإِخْلَاصَيْنِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحَبَّتُهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: " كَانَتْ أَمْثَالًا كُلَّهَا، أَيُّهَا الْمَلَكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، سَاعَةً يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةً يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَسَاعَةً يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَكُونَ ظَاعِنًا إِلَّا لِثَلَاثٍ: تُزَوُّدٌ لِمُعَادٍ، أَوْ لِمَرَمَّةِ الْمَعَاشِ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ، وَمَنْ حَسَبَ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا كَانَ فِي صُحُفِ مُوسَى؟ قَالَ: " كَانَتْ عِبَرًا كُلَّهَا، عَحِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ هُوَ يَفْرَحُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ هُوَ يَضْحَكُ، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ، عَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا، عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لَا يَعْمَلُ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: " أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا رَأْسُ الْأَمْرِ كُلِّهِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " عَلَيْكَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " أَحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ تَحْتَكَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرِيَ نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَكَ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: " لِيَرُدَّكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَا تَجِدُ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي، وَكَفَى بِكَ عَيْبًا أَنَّ تَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا تَجْهَلُهُ مِنْ نَفْسِكَ، وَتَجِدُّ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي "، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ» " (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
2183 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: " اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ الر " فَقَالَ: كَبُرَتْ سِنِّي وَاشْتَدَّ قَلْبِي وَغَلُظَ لِسَانِي، قَالَ: " فَاقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم " فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، قَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرِئْنِي سُورَةً جَامِعَةً، فَأَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا زُلْزِلَتْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِ أَبَدًا، ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: " أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ» " مَرَّتَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
2183 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَقْرِئْنِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ عَلِّمْنِي (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: " اقْرَأْ ثَلَاثًا، أَيْ ثَلَاثَ سُوَرٍ - مِنْ ذَوَاتِ الر) وَفِي نُسْخَةٍ: مِنْ ذَوَاتِ الرَّاءِ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي صُدِّرَتْ بِالر " فَقَالَ: كَبُرَتْ " بِضَمِّ الْبَاءِ وَتُكْسَرُ (سِنِّي) ، أَيْ كَثُرَ عُمْرِي (وَاشْتَدَّ قَلْبِي) ، أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِ قِلَّةُ الْحِفْظِ وَكَثْرَةُ النِّسْيَانِ (وَغَلُظَ لِسَانِي) ، أَيْ ثَقُلَ بِحَيْثُ لَمْ يُطَاوِعْنِي فِي تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ لِأَتَعَلَّمَ السُّوَرَ الطِّوَالَ (قَالَ) ، أَيْ فَإِنْ كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ قِرَاءَتَهُنَّ (فَاقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم " فَإِنَّ أَقْصَرَ ذَوَاتِ حم أَقْصَرُ مِنْ أَقْصَرِ ذَوَاتِ الر (فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ)، أَيِ الْأُولَى (قَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرِئْنِي سُورَةً جَامِعَةً) ، أَيْ بَيْنَ وَجَازَةِ الْمَبَانِي وَغَزَارَةِ الْمَعَانِي (فَأَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا زُلْزِلَتْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا) ، أَيِ النَّبِيُّ أَوِ الرَّجُلُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُ طَلَبَهُ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَلَّاحُ إِذَا عَمِلَ بِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ سُورَةً جَامِعَةً، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ آيَةٌ زَائِدَةٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] إِلَخْ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ «قَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ:" لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ» "{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]" " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ لِبَيَانِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي عَرْضِ الْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47](فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِ أَبَدًا) ، أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَقْرَأَتَنِيهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ، وَلَعَلَّ الْقَصْدَ بِالْحَلِفِ تَأْكِيدُ الْعَزْمِ، وَتَأْيِيدُ الْجَزْمِ، لَا سِيَّمَا بِحُضُورِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بِمَنْزِلَةِ الْمُبَايَعَةِ وَالْعَهْدِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مُرَادَ الرَّجُلِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ عُمُومُهَا الْجِنْسِيُّ لَا شُمُولُهُمَا الِاسْتِغْرَاقِيُّ، وَأَمَّا تَقْيِيدُ ابْنِ حَجَرٍ الْخَيْرَ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ فَقَطْ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَهُوَ الْمُحَرَّمَاتُ فَقَطْ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَأَمَّا النَّوَافِلُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَقَدْ أَتْرُكُ لِكِبَرِ سِنِّي وَأَفْعَلُ هَذِهِ لِشِدَّةِ قَلْبِي، فَالْقَصْدُ مِنَ الْحَلِفِ إِنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُ الْحَرَامِ لَا غَيْرَ فَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَسْبِي مَا سَمِعْتُ، وَلَا أُبَالِي أَنْ لَا أَسْمَعَ غَيْرَهَا (ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، أَيْ وَلَّى دُبُرَهُ وَذَهَبَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أَفْلَحَ "، أَيْ فَازَ بِالْمَطْلُوبِ وَظَفِرَ بِالْمَحْبُوبِ " الرُّوَيْجِلُ " قَالَ الطِّيبِيُّ: تَصْغِيرُ تَعْظِيمٍ لِبُعْدِ غَوْرِهِ وَقُوَّةِ إِدْرَاكِهِ، وَهُوَ تَصْغِيرٌ شَاذٌّ إِذْ قِيَاسُهُ رُجَيْلٌ اهـ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرُ رَاجِلٍ بِالْأَلِفِ بِمَعْنَى الْمَاشِي (مَرَّتَيْنِ) إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ مَرَّةً لِلدُّنْيَا وَمَرَّةً لِلْأُخْرَى، وَقِيلَ: شِدَّةُ إِعْجَابِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
2184 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ " قَالُوا: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ قَالَ: " أَمَا يَسْتَطِعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْهَكُمُ التَّكَاثُرُ؟» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2184 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟ " قَالُوا: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ؟» )، أَيْ لَا يَسْتَطِعُ كُلُّ أَحَدٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَلَى جِهَةِ الْمُوَاظَبَةِ (قَالَ:" «أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ؟» ") ، أَيْ إِلَى آخِرِهَا أَوْ هَذِهِ السُّورَةَ فَإِنَّهَا كَقِرَاءَةِ أَلْفِ آيَةٍ فِي التَّزْهِيدِ عَنِ الدُّنْيَا وَالتَّرْغِيبِ فِي عِلْمِ الْيَقِينِ بِالْعُقْبَى، وَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ سِتَّةُ آلَافٍ وَكَسْرٍ، وَإِذَا تَرَكَ الْكَسْرَ كَانَتِ الْأَلْفُ سُدُسَهُ، وَمَقَاصِدُ الْقُرْآنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ سِتَّةٌ، ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ، وَثَلَاثَةٌ مُتِمَّةٌ، وَاحِدُهَا مَعْرِفَةُ الْآخِرَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا السُّورَةُ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِأَلْفِ آيَةٍ أَفْخَمُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِسُدُسِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ صَحَّ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
2185 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشَرَ مَرَّاتٍ بُنِيَ لَهُ بِهَا قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ عِشْرِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ قَصْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ بِهَا ثَلَاثَةُ قُصُورٍ فِي الْجَنَّةِ "، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا لَنُكَثِّرَنَّ قُصُورَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2185 -
(وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ) هُوَ مِنْ سَادَاتِ التَّابِعِينَ، بَلْ قِيلَ: أَجَلُّهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ (مُرْسَلًا) بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " «قَالَ مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ بُنِيَ لَهُ بِهَا قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَ عِشْرِينَ مَرَّةً بُنِي لَهُ بِهَا قَصْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا» ") ، أَيِ السُّورَةُ " ثَلَاثِينَ مَرَّةً بُنِيَ لَهُ بِهَا ثَلَاثَةَ قُصُورٍ فِي الْجَنَّةِ " وَلَعَلَّهُ كَرَّرَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْحَصْرُ فِي عَدَدِ الْعَشْرِ، وَيُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا زَادَ مِنَ الْأَعْدَادِ زِيدَ لَهُ مِنَ الْإِمْدَادِ (فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا) بِالتَّنْوِينِ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ (لَنُكَثِّرَنَّ قُصُورَنَا) مِنَ الْإِكْثَارِ وَيَجُوزُ التَّشْدِيدُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنَّ جَزَاءَ عَشْرِ مَرَّاتٍ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّا نُكَثِّرُ قُصُورَنَا بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَا حَدَّ لِلْقُصُورِ حِينَئِذٍ، وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الْجَنَّةِ شَيْءٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُ أَوْسَعُ ") ، أَيْ أَكْثَرُ عَطَاءً " مِنْ ذَلِكَ " أَوْ قُدْرَتُهُ وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ فَلَا تَعْجَبْ، وَمِنَ الْعَجِيبِ خَلْطُ ابْنِ حَجْرٍ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَتَلْفِيقِهِمَا حَيْثُ قَالَ: أَيْ قُدْرَتُهُ أَكْثَرُ عَطَاءً (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
2186 -
وَعَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَةَ آيَةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ الْقُرْآنُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَتَيْ آيَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ خَمْسَمِائَةً إِلَى الْأَلْفِ أَصْبَحَ وَلَهُ قِنْطَارٌ مِنَ الْأَجْرِ " قَالُوا: وَمَا الْقِنْطَارُ؟ قَالَ: " اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» " رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2186 -
(وَعَنِ الْحَسَنِ)، أَيِ الْبَصْرِيُّ (مُرْسَلًا) لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ حُذِفَ الصَّحَابِيُّ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَةَ آيَةٍ لَمْ يُحَاجِّهِ الْقُرْآنُ» ) ، أَيْ لَمْ يُخَاصِمْهُ فِي تَقْصِيرِهِ (تِلْكَ اللَّيْلَةَ) ، أَيْ مِنْ جِهَتِهَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَمْ يُخَاصِمْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ جِهَةِ التَّقْصِيرِ فِي تَعَهُّدِهِ، لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ فِيهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ إِنْ لَمْ يَعْمَلْ لِمَا فِي حَدِيثِ أَنَّهُ يَقُولُ فِي مُخَاصَمَتِهِ لِبَعْضِ حُفَّاظِهِ: نَامَ عَنِّي وَلَمْ يَعْمَلْ بِي، الْمَعْلُومُ مِنْهُ أَنَّهُ يُخَاصِمُ مِنْ جِهَتَيْنِ: التَّقْصِيرُ فِي تَعَهُّدِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نِسْيَانِهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِهْتَارًا بِحَقِّهِ اهـ وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْعَمَلِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ كَمَا هُوَ الْأَنْسَبُ الْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ لَازِمَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ خَاصَمَهُ اللَّهُ وَغَلَبَهُ بِالْحُجَّةِ، فَإِسْنَادُ الْمُحَاجَّةِ إِلَى الْقُرْآنِ مَجَازٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي جَمِيعِهِ نَظَرٌ أَمَّا قَوْلُهُ لَازِمَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَوَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَافِظٍ قَرَأَ مَا ذَكَرَ فَأَفْهَمُ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ لِحَافِظٍ لَمْ يَقْرَأْ مَا ذَكَرَ لَا لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ ذَلِكَ أَصْلًا وَلَا لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِالْكُلِّيَّةِ، قُلْتُ: مِنَ الْمَعْلُومِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ الْمَفْهُومِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ حِفْظُ الْقُرْآنِ مَعَ إِفَادَةِ زِيَادَةِ إِطْلَاقِهِ الْإِشَارَةَ إِلَى وُجُوبِ تَفَقُّدِ الْقُرْآنِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، كَمَا هُوَ مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَجُوزُ حَمْلُ الْمِائَةِ عَلَى تَكْرَارِهَا وَعَدَمِهِ، وَأَيْضًا فِي إِطْلَاقِهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِ الْأَئِمَّةِ: إِنَّ حَفِظَ الْقُرْآنِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَيُخَاطَبُ بِهِ كُلُّ الْأُمَّةِ فِي كُلِّ زَمَنٍ، نَعَمْ إِنْ حَفِظَهُ جَمْعٌ مِنْهُمْ يَقُومُ بِهِمُ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِلَّا أَثِمُوا كُلُّهُمْ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُخَاصِمُهُ فَقَدْ مَرَّ رَدُّهُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِالْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ أَلْفَاظَ الشَّارِعِ حَيْثُ أَمْكَنَ بَقَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا لَمْ تُصْرَفْ عَنْهُ، وَهَذَا يُمْكِنُ بَقَاءُ مُحَاجَّةِ الْقُرْآنِ عَلَى ظَاهِرِهَا بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ صُورَةً نَاطِقَةً، وَفِيهِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ صُورَةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فِي الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْحَقِيقَةِ إِمَّا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ، وَإِمَّا الْمَقْرُوءُ عَلَى أَلْسِنَتِنَا، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَقِيقَةِ، كَمَا أَنَّ الْكِنَايَةَ أَبْلَغُ مِنَ الصَّرِيحِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ وَأَصْحَابُ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، بَلْ قَالَتِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] نِسْبَةٌ مَجَازِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ عز وجل {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] هِيَ النِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، فَلَا مَعْنَى لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِهِ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى مَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلَيْلَةٌ
…
وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمُسَاوَيَا
أَيْ تُبْدِي الْمَحَاسِنَ مَسَاوِيًا، وَنَظَرَ إِلَى إِفْرَادِ عَيْنِ الرِّضَا وَجَمْعِ عُيُونِ السُّخْطِ فَإِنَّهُ يَفْتَحُ لَكَ نُكْتَةً لَطِيفَةً وَحِكْمَةً شَرِيفَةً ظَاهِرِيَّةً وَبَاطِنِيَّةً " «وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ مِائَتَيْ آيَةٍ كُتِبَ لَهُ قُنُوتُ لَيْلَةٍ» "، أَيْ طَاعَتُهَا أَوْ قِيَامُهَا " «وَمَنْ قَرَأَ فِي لَيْلَةٍ خَمْسمِائَةً إِلَى الْأَلْفِ أَصْبَحَ وَلَهُ قِنْطَارٌ» "، أَيْ ثَوَابٌ بِعَدَدِهِ أَوْ بِوَزْنِهِ " مِنَ الْأَجْرِ، قَالُوا: وَمَا الْقِنْطَارُ؟ قَالَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا "، أَيْ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله جل جلاله: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «الْقِنْطَارَ أَلْفًا وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ، وَالْأُوقِيَّةُ خَيْرٌ مِمَّا بَيْنُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، أَيْ مِنَ الْأَرْطَالِ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ أَوْ دَلِيلٍ صَرِيحٍ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2187 -
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهْوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
(بَابٌ)
بِالتَّنْوِينِ، وَيَسْكُنُ، وَهُوَ فِي تَوَابِعِ الْفَضَائِلِ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي مُرَاعَاتُهَا مِنَ الْفَوَاضِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2187 -
(عَنْ أَبَى مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ» ) ، أَيْ تَفَقَّدُوهُ وَرَاعُوهُ بِالْمُحَافَظَةِ وَدَاوِمُوهُ بِالتِّلَاوَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعَاهُدُ الْمُحَافَظَةُ وَتَجْدِيدُ الْعَهْدِ، أَيْ وَاظِبُوا عَلَى قِرَاءَتِهِ وَدَاوِمُوا عَلَى تَكْرَارِ دِرَاسَتِهِ لِئَلَّا يُنْسَى (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (أَشَدُّ تَفَصِّيًا)، أَيْ فِرَارًا وَذَهَابًا وَتَخَلُّصًا وَخُرُوجًا (مِنَ الْإِبِلِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّفَصِّي التَّخَلُّصُ، يُقَالُ: تُفُصِّيَتِ الدُّيُونُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهَا (فِي عُقُلِهَا) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْقَافِ جَمْعُ عِقَالٍ كَكُتُبٍ جَمْعُ كِتَابٍ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الْقَافِ لُغَةً، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى ضَمِّهَا وَهُوَ الْحَبَلُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ ذِرَاعُ الْبَعِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ " قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: عَقَلْتُ الْإِبِلَ إِذَا جَمَعْتَ وَظِيفَهُ إِلَى ذِرَاعِهِ فَتَشُدُّهَا مَعًا فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ، وَذَلِكَ الْعَقْلُ هُوَ الْحِبَالُ اهـ وَفِي فِيهِ بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ لَهُوَ أَشَدُّ ذَهَابًا مِنَ الْإِبِلِ إِذَا تَخَلَّصَتْ مِنَ الْعِقَالِ فَإِنَّهَا تَنْفَلِتُ حَتَّى لَا تَكَادُ تُلْحَقُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنَ الْإِبِلِ مِنْ عُقُلِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ بَلْ هُوَ كَلَامُ خَالِقِ الْقُوَى وَالْقَدَرِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَشَرِ مُنَاسَبَةٌ قَرِيبَةٌ لِأَنَّهُ حَادَثٌ وَهُوَ قَدِيمٌ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ - بِلُطْفِهِ الْعَمِيمِ وَكَرَمِهِ الْقَدِيمِ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَمَنَحَهُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَهُ بِالْحِفْظِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ.
2188 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ، وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: بِعُقُلِهَا.
ــ
2188 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ) مَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَقَوْلُهُ (أَنْ يَقُولَ) مَخْصُوصٌ بِالذَّمِّ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 90] أَيْ بِئْسَ شَيْئًا كَائِنًا لِلرَّجُلِ قَوْلُهُ (نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ نُسِّيَ) بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بَلْ هُوَ نُسِّيَ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ حَدِيثٌ مُسْتَقِلٌّ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا تَلْقِينٌ وَتَعْلِيمٌ أَنْ يَقُولَ: نُسِّيتُ لَا نَسِيتُ كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا بَلْ هُوَ نُسِّيَ» ، قَالَ النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا بَلْ يَقُولُ أُنْسِيتُهَا اهـ وَفِي الْأَوَّلِ إِشْعَارٌ بِعَدَمِ التَّقْصِيرِ وَإِيمَاءٌ إِلَى فِعْلٍ يُخَالِفُ الْقَضَاءَ وَالتَّقْدِيرَ، وَفِي الثَّانِي نِسْبَةُ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ الَّذِي هُوَ الْعِصْيَانُ إِلَى ذَاتِهِ مَعَ الْإِبْهَامِ إِلَى عَدَمِ مُبَالَاتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَا تَقُولُ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا لِأَنَّهُ لَمْ
يَنْسَ، أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ فِي النِّسْيَانِ بِوَجْهٍ مُطْلَقًا اهـ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ بِإِطْلَاقٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ بَلْ نَسِيَ إِشَارَةً إِلَى عَدَمِ تَقْصِيرِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ لَكِنَّ اللَّهَ أَنْسَاهُ لِمَصْلَحَةٍ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] وَقَوْلُهُ نَسِيتُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَاهَدِ الْقُرْآنَ، وَقَالَ شَارِحٌ آخَرُ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِزَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ نَسِيَ، أَيْ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الضَّيَاعُ عَلَى مُحْكَمِ الْقُرْآنِ، فَأَعْلَمَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِمَا رَأَى فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ يَعْنِي نَسْخَ التِّلَاوَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - هُوَ الَّذِي أَنْسَاهَا لَهُ بِسَبَبٍ مِنْهُ تَارَةً بِأَنْ تَرَكَ تَعَهُّدَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ تَرْكَ تَعَهُّدِهِ سَبَبٌ فِي نِسْيَانِهِ عَادَةً لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ شَارِحَيْنِ قَرَّرَا هَذَا بِغَيْرِ مَا ذَكَرْتُهُ، لَكِنْ يَرُدُّهُ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا: يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَذَا، وَإِنَّمَا يَقُولُ: أُنْسِيتُهَا أَوْ أُسْقِطْتُهَا لِمَا صَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ بِاللَّيْلِ فَقَالَ: " يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَةً كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا» وَفِي رِوَايَةً صَحِيحَةً: كُنْتُ أُنْسِيتُهَا اهـ وَهُوَ رَدٌّ غَرِيبٌ وَوَجْهٌ عَجِيبٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمَّا الْحَرِيصُ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي يَدْأَبُ فِي تِلَاوَتِهِ لَكِنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ، بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: مَعْنَى نَسِيَ عُوقِبَ بِالنِّسْيَانِ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ سُوءِ تَعَهُّدٍ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126] وَمِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ( «عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ أَعْظَمَ ذَنْبًا مِنْ رَجُلٍ أُوتِيَ آيَةً فَنَسِيَهَا» ) ثُمَّ النِّسْيَانُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ سَوَاءٌ كَانَ حَافِظًا أَمْ لَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ) أَيِ اسْتَحْضِرُوهُ فِي الْقَلْبِ وَالْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَوْ لِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ أَيِ اطْلُبُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ذِكْرَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ " بِئْسَ " مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيْ لَا تُقَصِّرُوا فِي مُعَاهَدَةِ الْقُرْآنِ وَاسْتَذْكِرُوهُ (فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا) ، أَيْ تَشَرُّدًا (مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ) ، أَيِ الْحُفَّاظِ، وَمِنْ مُتَعَلِّقٌ بِتَفَصِّيًا (مِنَ النَّعَمِ) بِفَتْحَتَيْنِ، فِي الْقَامُوسِ: النَّعَمُ وَقَدْ يُكْسَرُ عَيْنُهُ الْإِبِلُ وَالشَّاةُ أَوْ خَاصٌّ بِالْإِبِلِ جَمْعُهُ أَنْعَامٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هِيَ الْمَالُ الرَّاعِيَةُ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْإِبِلِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَشَدَّ، أَيْ أَشَدُّ مِنْ تَفَصِّي النَّعَمِ الْمُعَقَّلَةِ، وَتَخْصِيصُ الرِّجَالِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ مِنْ شَأْنِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ مُسْلِمٌ: بِعُقُلِهَا) بِضَمَّتَيْنِ.
2189 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2189 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ) ، أَيْ صِفَتُهُ الْغَرِيبَةُ الشَّأْنِ الْعَجِيبَةُ الْبُرْهَانِ (كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيِ الْمَشْدُودَةِ بِالْعِقَالِ (إِنْ عَاهَدَ) ، أَيْ دَوَامَ وَتَفَقَّدْ وَحَافَظَ صَاحِبُهَا (عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا) ، أَيْ بِالْعِقَالِ وَنَحْوِهِ (وَإِنْ أَطْلَقَهَا) ، أَيْ أَرْسَلَهَا وَحَلَّهَا (ذَهَبَتْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2190 -
وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2190 -
(وَعَنْ جُنْدُبٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَيُفْتَحُ (ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ» ) ، أَيْ مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَخَوَاطِرُكُمْ مَجْمُوعَةً لِذَوْقِ قِرَاءَتِهِ ذَاتُ نَشَاطٍ وَسُرُورٍ عَلَى تِلَاوَتِهِ (فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ) أَيِ اخْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ وَمَلِلْتُمْ وَتَفَرَّقَتْ خَوَاطِرُكُمْ وَكَسِلْتُمْ (فَقُومُوا عَنْهُ) ، أَيْ فَاتْرُكُوهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ حُضُورِ الْقَلْبِ أَوِ الْمُرَادُ اقْرَءُوا مَا دُمْتُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَصْحِيحِ قِرَاءَتِهِ وَتَحْقِيقِ أَسْرَارِ مَعَانِيهِ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي ذَلِكَ فَاتْرُكُوهُ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ يُفْضِي إِلَى الْجِدَالِ وَالْجِدَالُ إِلَى الْجُحُودِ وَتَلَبُّسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ بِفَضْلِهِ مِنْ ذَلِكَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2191 -
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا. ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبَسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2191 -
(وَعَنْ قَتَادَةَ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ: كَانَتْ (قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ عَلَى التَّرْتِيلِ أَوِ الْحَدْرِ (فَقَالَ) ، أَيْ أَنَسٌ (كَانَتْ) ، أَيْ قِرَاءَتُهُ (مَدًّا) ، أَيْ ذَاتُ مَدٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ: مَدَّاءُ بِالْمَدِّ فَعْلَاءُ تَأْنِيثُ أَمَدَّ، أَيْ كَثِيرَةُ الْمَدِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَمُدُّ مَا كَانَ فِي كَلَامِهِ مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ بِالْقَدْرِ الْمَعْرُوفِ وَبِالشَّرْطِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْوُقُوفِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ ذَاتُ مَدٍّ، وَفِي الْبُخَارِيِّ: يَمُدُّ مَدًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ مَدًّا، أَيْ كَانَ يَمُدُّهُ مَدًّا، وَفَى أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: مَدَّاءُ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوْلٌ عَلَى التَّخْمِينِ، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَفُسِّرَتْ بِأَنَّ قِرَاءَتَهُ كَانَتْ كَثِيرَةَ الْمَدِّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حُرُوفُ الْمَدِّ ثَلَاثَةٌ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ يُمَدُّ بِقَدْرِ أَلِفٍ، وَقِيلَ بِقَدْرِ أَلِفَيْنِ إِلَى خَمْسِ أَلِفَاتٍ، وَالْمُرَادُ بِقَدْرِ الْأَلِفِ قَدَرُ صَوْتِكَ إِذَا قُلْتَ يَا أَوْتَارُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا تَشْدِيدٌ يُمَدُّ بِقَدْرِ أَرْبَعِ أَلِفَاتٍ اتِّفَاقًا مِثْلُ دَابَّةٍ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا يُمَدُّ بِقَدْرِ أَلِفَيْنِ اتِّفَاقًا نَحْوَ صَادٍ وَيَعْمَلُونَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا غَيْرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ لَمْ يُمَدُّ إِلَّا بِقَدْرِ خُرُوجِهَا مِنَ الْفَمِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَقُولُ: الْمُعْتَمَدُ هُوَ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ حَرْفُ الْمَدِّ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْمَدِّ وَلَمْ يُوجَدْ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ الْمُوجِبَيْنِ لِلزِّيَادَةِ وَهُمَا الْهَمْزُ وَالسُّكُونُ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَدِّ بِقَدْرِ أَلِفٍ اتِّفَاقًا، وَقُدِّرَ بِمِقْدَارِ قَوْلِكَ أَلِفٌ أَوْ كِتَابِكَ أَلِفًا أَوْ عَقْدِ أُصْبُعٍ، وَيُسَمَّى طَبِيعِيًّا وَذَاتِيًّا وَأَصْلِيًّا، وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ وَيُسَمَّى فَرَعِيًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْهَمْزُ فَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ خِلَافٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْقُرَّاءِ فِي مَرَاتِبِ الْمُتَّصِلِ أَوِ الْمُنْفَصِلِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مُطْلَقِ الْمَدِّ فِي الْمُتَّصِلِ وَخِلَافِ بَعْضِهِمْ فِي الْمُنْفَصِلِ، وَأَقَلُّ الزِّيَادَةِ أَلِفٌ وَنِصْفٌ وَأَكْثَرُهُمْ أَرْبَعٌ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ السُّكُونُ فَإِنْ كَانَ لَازْمِيًّا سَوَاءٌ كَانَ يَكُونُ مُشَدَّدًا أَوْ مُخَفَّفًا نَحْوَ دَابَّةٍ وَصَادٍ فَكُلُّهُمْ يَقْرَءُونَ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ أَلِفَاتٍ، وَإِنْ كَانَ عَارِضِيًّا نَحْوَ يَعْمَلُونَ فَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَهُوَ قَدْرُ أَلِفٍ وَالتَّوَسُّطُ وَهُوَ أَلِفَانِ وَالْمَدُّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ يَجُرُّ بَسْطُهَا إِلَى مَلَالَةٍ وَتَثْقِيلٍ (ثُمَّ قَرَأَ) ، أَيْ أَنَسٌ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبَسْمِ اللَّهِ) ، أَيْ فِي أَلِفِ الْجَلَالَةِ مَدًّا أَصْلِيًّا قَدْرَ أَلِفٍ (وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ) ، أَيْ فِي أَلِفِهِ كَذَلِكَ (وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ) ، أَيْ فِي يَائِهِ مَدًّا أَصْلِيًّا أَوْ عَارِضِيًّا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي نَحْوِهِ حَالَةَ الْوَقْفِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الطُّولُ وَالتَّوَسُّطُ وَالْقَصْرُ مَعَ الْإِسْكَانِ، وَوَجْهٌ آخَرُ بِالْقَصْرِ وَالرَّوْمِ، أَيْ هُوَ إِتْيَانُ بَعْضِ الْحَرَكَةِ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2192 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2192 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ) مَا الْأُولَى نَافِيَةٌ وَالثَّانِيَةُ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ مَا اسْتَمَعَ لِشَيْءٍ كَاسْتِمَاعِهِ لِصَوْتِ نَبِيٍّ، أَيِ اسْتِمَاعُ مَحَبَّةٍ وَرَحْمَةٍ لِتَنَزُّهِهِ - تَعَالَى - عَنِ السَّمْعِ بِالْحَاسَّةِ (يَتَغَنَّى) ، أَيْ يُحَسِّنُ صَوْتَهُ (بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ بِتِلَاوَتِهِ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ أَوِ الْمَقْرُوءِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقُرْآنِ مَا يُقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ نَبِيٍّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُقَالُ: أَذِنَ إِذْنًا اسْتَمَعَ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَقْرِيبُهُ وَإِجْزَالُ ثَوَابِهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّغَنِّي تَحْسِينُ الصَّوْتِ تَرْقِيقُهُ وَتَحْزِينُهُ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنِ النَّاسِ، وَقِيلَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْكُتُبِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يَتَغَنَّى بِهِ يَجْهَرُ بِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، وَالْحَمْلُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ اهـ وَقَدْ أَخْطَأَ فِي التَّخْطِئَةِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ إِذْ فِي النِّهَايَةِ رَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا، أَيِ اسْتِغْنَاءً بِهَا عَنِ الطَّلَبِ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: أَرَادَ مَنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ وَتَرْقِيقُهَا، وَفِي الْقَامُوسِ: تَغَنَّيْتُ اسْتَغْنَيْتُ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ لُغَةً، أَيْ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِ بِاللُّغَةِ بَلْ لَهُ لُغَةٌ مَخْصُوصَةٌ اهـ وَهُوَ مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَقَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعْنًى يَتَغَنَّى يَسْتَغْنِي لَقَالَ يَتَغَانَى، فَزَعَمَ عِيَاضُ أَنَّ يَتَغَنَّى وَيَتَغَانَى بِمَعْنَى يَسْتَغْنِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ يَتَغَنَّى مِنْ مَادَّةٍ مُغَايِرَةٍ لِمَادَّةِ يَتَغَانَى صِنَاعَةً وَمَعْنًى اهـ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ عِلْمِهِ بِالْمَادَّةِ لُغَةً وَصِنَاعَةً وَلَفْظًا وَمَعْنًى، فَإِنَّ مِنَ الْوَاضِحَاتِ أَنَّ مَادَّةَ يَتَقَطَّعُ وَيَتَقَاطَعُ وَاحِدَةٌ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ بِالْبَابِ كَمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2193 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسِنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2193 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ) ، أَيْ مَا اسْتَمَعَ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَبُولِ (مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسِنِ الصَّوْتِ) صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) ، أَيْ فِي صَلَاتِهِ أَوْ تِلَاوَتِهِ أَوْ حِينَ تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2194 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2194 -
(وَعَنْهُ)، أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مِنَّا) ، أَيْ خُلُقًا وَسِيرَةً أَوْ مُتَّصِلًا بِنَا وَمُتَابِعًا لَنَا فِي طَرِيقَتِنَا الْكَامِلَةِ، وَنَظِيرُ مَنِ الِاتِّصَالِيَّةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] وَحَدِيثُ " لَسْتُ مِنْ دَدٍّ وَلَا الدَّدُ مِنِّي "، أَيْ لَسْتُ مُتَّصِلًا بِاللَّهْوِ وَلَا اللَّهْوُ مُتَّصِلًا بِي (مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ لَمْ يُحَسِّنْ صَوْتَهُ بِهِ أَوْ لَمْ يَجْهَرْ أَوْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَتَرَنَّمْ أَوْ لَمْ يَتَحَزَّنْ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ بِهِ غِنَى النَّفْسِ أَوْ لَمْ يَرْجُ بِهِ غِنَى الْيَدِ، فَهَذِهِ سَبْعَةُ مَعَانٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي اسْتَخْرَجَهَا عَلَى الْقَارِئِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ لَمْ يَتَغَنَّ هُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّغَنِّي لِمَا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِلسَّابِقِ وَمُبَيِّنًا لِلَاحِقٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَالتُّورِبِشْتِيُّ رَجَّحَ جَانِبَ مَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ وَقَالَ: الْمَعْنَى: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَمِمَّنْ تَبِعَنَا فِي أَمْرِنَا وَهُوَ وَعِيدٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَارِئَ الْقُرْآنِ مُثَابٌ عَلَى قِرَاءَتِهِ مَأْجُورٌ مِنْ غَيْرِ تَحْسِينِ صَوْتِهِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعِيدِ وَهُوَ مُثَابٌ مَأْجُورٌ؟ اهـ وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2195 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " اقْرَأْ عَلَيَّ " قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي " فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ " {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] " قَالَ: " حَسْبُكَ الْآنَ " فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2195 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي) دَلَّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: اقْرَأْ عَلَيَّ)، أَيْ حَتَّى أَسْتَمِعَ إِلَيْكَ (قُلْتُ: أَقْرَأُ) ، أَيْ أَأَقْرَأُ (عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ يَعْنِي جَرَيَانُ الْحِكْمَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ أَحْلَى، وَكَلَامُ الْمَحْبُوبِ عَلَى لِسَانِ الْحَبِيبِ أَوْلَى، وَهَذَا طَرِيقُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ، وَالطَّلَبَةُ يَسْتَمِعُونَ مِنْهُمْ وَيَأْخُذُونَ عَنْهُمْ بِالْوَجْهِ الْحَثِيثِ (قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ) ، أَيْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَحْصُلُ لِلْعَارِفِ فِيهِ الْكَلَالُ، كَمَا قِيلَ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ كَلَّ لِسَانُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: كَلِّمِينِي يَا حُمَيْرَاءُ، وَلَهُ حَالٌ أُخْرَى يُقَالُ فِيهَا: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ طَالَ لِسَانُهُ (أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) جَمْعًا بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ الِاسْتِمَاعَ أَفْضَلُ، وَلَكِنْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلتَّعْلِيمِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَبِهَذَا أَخَذَ الْخَلَفُ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ حَيْثُ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ مِنَ التَّلَامِذَةِ وَالطَّالِبِينِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْأَوَّلُونَ حَيْثُ كَانُوا فِي مَرْتَبَةِ الْأَعْلَى فَكَانُوا يُدْرِكُونَ بِالسَّمَاعِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ وَالنَّصِيبَ الْأَعْلَى، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ:" قَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ وَإِنْ كَانَ أُنْزِلَ عَلَيَّ فَإِنِّي أُحِبُّ " مُوهِمٌ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْفَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ بِلَا فَاءٍ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (فَقَرَأَتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ " فَكَيْفَ ")، أَيْ يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ مِنَ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِدٍ} [النساء: 41] ، أَيْ أَحْضَرْنَا مِنْهُمْ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ بِمَا فَعَلُوا وَهُوَ نَبِيُّهُمْ {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 41] ، أَيْ أُمَّتِكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ الْمُكَذِّبِينَ (شَهِيدًا، قَالَ: حَسْبُكَ) ، أَيْ كَافِيكَ مَا قَرَأَتَهُ (الْآنَ) ، أَيْ لَا تَقْرَأْ شَيْئًا آخَرَ فَإِنِّي مَشْغُولٌ بِالتَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَجَاءَنِي الْبُكَاءُ وَالْحَالَةُ الْمَانِعَةُ مِنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ (فَالْتَفَتُّ) ، أَيْ إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ تَدْمَعَانِ وَتُسِيلَانِ دَمْعًا إِمَّا لِرَحْمَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَإِمَّا خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ عَظْمَتِهِ - تَعَالَى - وَجَلَالَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَصُعِقَ جَمَاعَاتٌ مِنَ السَّلَفِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ وَمَاتَ جَمَاعَةٌ بِسَبَبِهَا، وَلِمَا حُكِيَ فِي التِّبْيَانِ عَنْ جَمْعٍ إِنْكَارُ الصِّيَاحِ وَالصَّعْقِ قَالَ: الصَّوَابُ عَدَمُ الْإِنْكَارِ إِلَّا عَلَى مَنِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ تَصَنُّعًا، وَقَالَ فِي الْأَذْكَارِ: فَإِنْ عَزَّ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ تَبَاكَى لِخَبَرِ أَحْمَدَ وَالْبَيْهَقِيِّ ( «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ وَكَآبَةٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» ) . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2196 -
ــ
2196 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» )، أَيْ بِالْخُصُوصِ مِنْ بَيْنِ الْأَقْرَانِ (قَالَ: آللَّهُ) بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ وَقُلِبَتِ الثَّانِيَةُ أَلِفًا إِبْقَاءً لِلِاسْتِفْهَامِ وَيَجُوزُ تَسْهِيلُهَا وَيَجُوزُ الْحَذْفُ لِلْعِلْمِ بِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ: آللَّهُ بِالْمَدِّ بِلَا حَذْفٍ وَبِالْحَذْفِ بِلَا مَدٍّ (سَمَّانِي لَكَ؟) ، أَيْ ذَكَرَنِي بِاسْمِي لَكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَقْصُودُ التَّعَجُّبُ إِمَّا هَضْمًا، أَيْ أَنَّى لِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ، وَإِمَّا اسْتِلْذَاذًا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرْتُ) ، أَيْ أَوَقَعَ ذَلِكَ وَالْحَالُ أَنِّي قَدْ ذُكِرْتُ عَلَى الْخُصُوصِ أَوْ بِهَذَا الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَقْرِيرٌ لِلتَّعَجُّبِ (عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟) ، أَيْ مَعَ عَظَمَتِهِ وَحَقَارَتِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَعِنْدَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الَّذَّاتِ وَعَظَمَتِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ قُرْبِهِ وَمَزِيدِ رَحْمَتِهِ (قَالَ: نَعَمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ) ، أَيْ جَرَى دَمْعُ عَيْنَيْهِ، أَيْ سُرُورًا وَفَرَحًا بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ فِي أَمْرِ الْقِرَاءَةِ أَوْ خَوْفًا مِنَ الْعَجْزِ عَنْ قِيَامِ شُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي حِفْظِ الْقُرْآنِ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ حَتَّى قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «أَقَرَؤُكُمْ أُبَيُّ» " وَلِمَا قَيَّضَ لَهُ مِنَ الْإِمَامَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ لِيَأْخُذَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم التِّلَاوَةَ كَمَا أَخَذَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ جِبْرِيلَ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْآخَرِ عَنِ الْأَوَّلِ وَالْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْ أُبَيٍّ بَشَرٌ كَثِيرُونَ مِنَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ عَنْهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَكَذَا فَسَرَى فِيهِ سِرُّ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ حَتَّى سَرَى سِرُّهُ فِي الْأُمَّةِ إِلَى السَّاعَةِ (وَفِي رِوَايَةٍ:«إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» ") قِيلَ: لِأَنَّ فِيهِ قِصَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ أُبَيٌّ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعَلِّمَهُ حَالَهُمْ وَخِطَابَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَيَتَقَرَّرُ إِيمَانُهُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَنُبُوَّتُهُ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ تَقَرُّرًا، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْقُرْآنِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَضِيَّةً أُخْرَى، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ جَمَّةٌ مِنْهَا اسْتِحْبَابُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحُذَّاقِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ أَفْضَلَ مِنَ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا الْمَنْقَبَةُ الشَّرِيفَةُ لِأُبَيٍّ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا شَارَكَهُ فِيهَا، وَأَمَّا تَخْصِيصُ قِرَاءَةٍ لَمْ يَكُنْ فَلِأَنَّهَا وَجِيزَةٌ جَامِعَةٌ لِقَوَاعِدَ كَثِيرَةٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَمُهِمَّاتٍ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ، وَكَانَ الْوَقْتُ يَقْتَضِي الِاخْتِصَارَ اهـ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ إِذْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ (قَالَ: وَسَمَّانِي؟)، أَيْ لَكَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: نَعَمْ، فَبَكَى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2197 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» ".
ــ
2197 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَافَرَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ يُسَافِرُ أَحَدٌ (بِالْقُرْآنِ) ، أَيْ بِالصُّحُفِ الَّتِي كُتِبَ عَلَيْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ الَّذِي نَابَ عَنِ الْفَاعِلِ وَلَيْسَتْ هِيَ كَمَا فِي قَوْلِهِ " لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ " فَإِنَّهَا حَالٌ، أَيْ حَالُ كَوْنِكُمْ مُصَاحِبِينَ لَهُ (إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) ، أَيْ دَارُ الْحَرْبِ، وَقِيلَ: نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام عَنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ كَانَ مَحْفُوظًا عِنْدَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَلَوْ ذَهَبَ بَعْضٌ مِمَّنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَمَاتَ لَضَاعَ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذِهِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمُصْحَفَ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَنَقُولُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرْآنِ بَعْضُ مَا نُسِخَ وَكُتِبَ فِي عَهْدِهِ أَوْ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَمْلُ الْمُصْحَفِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا إِذَا كَتَبَ كِتَابًا إِلَيْهِمْ فِيهِ آيَةٌ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ " {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] " الْآيَةُ تَمَامُهَا "{أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] " وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِقُلْ فِي صَدْرِ الْآيَةِ وَلِوُجُوبِ التَّبْلِيغِ عَلَيْهِ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: الشَّيْخُ فِي قَوْمِهِ كَالنَّبِيِّ فِي أُمَّتِهِ فَيَكُونُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ أَنْ يُكَاتِبُوهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا
يَقْتَضِي الْمَقَامُ وَالْحَالُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الْمَآلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ: مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ، وَجَعَلَهُ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ (وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:«لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي لَا آمَنُ» ) ، أَيْ لَيْسَتُ فِي أَمْنٍ (مِنْ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ) ، أَيْ يُصِيبُهُ الْكَافِرُ فَيُحَقِّرُهُ أَوْ يَحْرُقُهُ أَوْ يُلْقِيهِ فِي مَكَانٍ غَيْرِ لَائِقٍ بِهِ أَوْ لَا يَرُدُّوهُ إِلَيْكُمْ فَيَضِيعَ، فَلَا يَصِحُّ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ فِيهِ أَبْلَغُ رَدٍّ عَلَى مَا زَعَمَهُ شَارِحٌ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ مَكْتُوبًا مُفَرَّقًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ، فَلَوْ ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُعَوَّضْ اهـ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ مُشْتَرِكَةٌ شَامِلَةٌ لَهُ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2198 -
ــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2198 -
(عَنْ أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَلَسْتُ فِي عِصَابَةٍ) بِالْكَسْرِ، أَيْ جَمَاعَةٌ (مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُهَاجِرِينَ) يَعْنِي أَصْحَابَ الصُّفَّةِ (وَإِنَّ بَعْضَهُمْ لِيَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِنَ الْعُرْيِ) ، أَيْ مِنْ أَجْلِهِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، أَيْ مَنْ كَانَ ثَوْبُهُ أَقَلَّ مِنْ ثَوْبِ صَاحِبِهِ كَانَ يَجْلِسُ خَلْفَ صَاحِبِهِ تَسَتُّرًا بِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ الْعُرْيِ مِمَّاعَدَا الْعَوْرَةَ فَالتَّسَتُّرُ لِمَكَانِ الْمُرُوءَةِ لَا تَسْمَحُ بِانْكِشَافِ مَا لَا يُعْتَادُ كَشْفُهُ (وَقَارِئٌ يَقْرَأُ عَلَيْنَا) حَالٌ أَيْضًا لِنَسْتَمِعْ وَنَتَعَلَّمْ (إِذْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) إِذْ لِلْمُفَاجَأَةِ (فَقَامَ) ، أَيْ وَقَفَ (عَلَيْنَا) ، أَيْ عَلَى رُءُوسِنَا، أَيْ كُنَّا غَافِلِينَ عَنْ مَجِيئِهِ فَنَظَرنَا فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَوْقَ رُءُوسِنَا يَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ (فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَكَتَ الْقَارِئُ) ، أَيْ تَأَدُّبًا لِحُضُورِهِ وَانْتِظَارًا لِمَا يَقَعُ مِنْ أُمُورِهِ (فَسَلَّمَ)، أَيِ الرَّسُولُ (ثُمَّ قَالَ) النَّبِيُّ (مَا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟) إِنَّمَا سَأَلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ لِيُجِيبَهُمْ بِمَا أَجَابَهُمْ مُرَتَّبًا عَلَى حَالِهِمْ وَكَمَالِهِمْ (قُلْنَا: نَسْتَمِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ) ، أَيْ إِلَى قِرَاءَتِهِ أَوْ إِلَى قَارِئِهِ (فَقَالَ:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِيَ مَعَهُمْ» ) ، أَيْ جُعِلَ مِنْ جُمْلَةِ زُمْرَةِ الْفُقَرَاءِ الْمُلَازِمِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ مُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ بِحَيْثُ أَمَرَنِي بِالصَّبْرِ مَعَهُمْ فِي قَوْلِهِ عز وجل {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] شُكْرًا لِصَنِيعِهِمْ وَرَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ عَنْكَ حَتَّى نُجَالِسَكَ وَنُؤْمِنَ بِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَمِلْتُ إِلَى مَا قَالُوا مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَذَا إِلَّا مِنْ قِبَلِهِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم بَلْ لَوْ وَرَدَ لَكُنَّا نَحْمِلُ عَلَى أَنِّي قَارَبْتُ أَنْ أَمِيلَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ قَوْلُهُ " وَاصْبِرْ " لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الدَّوَامُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ كَمَالِ الصَّبْرِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] (قَالَ) ، أَيِ الرِّوَايَ (فَجَلَسَ) ، أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (وَسْطَنَا) بِسُكُونِ السِّينِ وَقَدْ يُفْتَحُ، أَيْ بَيْنَنَا لَا بِجَنْبِ أَحَدٍ مِنَّا (لِيَعْدِلَ بِنَفْسَهُ فِينَا) ، أَيْ يَكُونُ عَادِلًا بِإِجْلَاسِ نَفْسِهِ الْأَنْفُسَ فِينَا عَلَى وَجْهِ التَّسْوِيَةِ بِالْقُرْبِ إِلَى كُلٍّ مِنَّا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِيَجْعَلَ نَفْسَهُ عَدِيلًا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: بِجُلُوسِهِ فِينَا تَوَاضُعًا وَرَغْبَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (ثُمَّ قَالَ) ، أَيْ أَشَارَ (بِيَدِهِ هَكَذَا) أَيِ اجْلِسُوا حِلَقًا (فَتَحَلَّقُوا) ، أَيْ قُبَالَةَ وَجْهِهِ عليه الصلاة والسلام دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَبَرَزَتْ)، أَيْ ظَهَرَتْ (وُجُوهُهُمْ) لَهُ بِحَيْثُ يَرَى عليه الصلاة والسلام وَجْهَ أَحَدٍ مِنْهُمُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] أَيْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مُمِيلًا لِسَاعِدِهَا وَكُوعِهَا حَتَّى تَصِيرَ مُعْوَجَّةً عَلَى هَيْئَةِ الْحَلْقَةِ اهـ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ (فَقَالَ: أَبْشِرُوا) أَيِ افْرَحُوا (يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ) ، أَيْ جَمَاعَةُ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ جَمْعِ صُعْلُوكٍ (بِالنُّورِ التَّامِّ) ، أَيِ الْكَامِلِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نُورَ الْأَغْنِيَاءِ لَا يَكُونُ
تَامًّا، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، فَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» . (تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ (قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ)، أَيِ: الشَّاكِرِينَ (بِنِصْفِ يَوْمٍ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُقَرَاءِ هُمُ الصَّالِحُونَ الصَّابِرُونَ، وَبِالْأَغْنِيَاءِ الصَّالِحُونَ الشَّاكِرُونَ الْمُؤَدُّونَ حُقُوقَ أَمْوَالِهِمْ بَعْدَ تَحْصِيلِهَا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَتَوَقَّفُونَ فِي الْعَرَصَاتِ لِلْحِسَابِ مِنْ أَيْنَ حَصَّلُوا الْمَالَ؟ وَفَى أَيْنَ صَرَفُوهُ فِي الْمَآلِ؟ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَظَّ الْفُقَرَاءِ فِي الْقِيَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ حَظِّ الْأَغْنِيَاءِ ; لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا لَذَّةً وَرَاحَةً فِي الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ حَالُهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى وَأَغْلَى لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:( «أَجْوَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْبَعُكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ) وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ (وَذَلِكَ)، أَيْ: نِصْفُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وَلَعَلَّ هَذَا الْمِقْدَارَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُخَفَّفُ عَلَى بَعْضِهِمْ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخَوَاصِّ كَوَقْتِ صَلَاةٍ أَوْ مِقْدَارِ سَاعَةٍ، وَوَرَدَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَأَفَادَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] أَنَّ غَايَةَ مَا يَطُولُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى الزَّوَالِ وَهُوَ نِصْفُ يَوْمٍ مِنْ أَيْامِ الْآخِرَةِ الْمُعَادِلِ لِأَلْفِ سَنَةٍ، الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فَمَخْصُوصٌ بِالْكَافِرِينَ، فَهُوَ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
2199 -
وَعَنِ الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2199 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (زَيِّنُوا الْقُرْآنَ)، أَيْ: قِرَاءَتَهُ (بِأَصْوَاتِكُمْ)، أَيِ: الْحَسَنَةُ أَوْ أَظْهِرُوا زِينَةَ الْقُرْآنِ بِحُسْنِ أَصْوَاتِكُمْ، قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ مِنَ الْقَلْبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِىَ عَنِ الْبَرَاءَ أَيْضًا عَكْسُهُ، وَقِيلَ الْمُرَادُ تُزَيُّنُهُ بِالتَّرْتِيلِ وَالتَّجْوِيدِ وَتَلْيِينِ الصَّوْتِ وَتَحْزِينِهِ، وَأَمَّا التَّغَنِّي بِحَيْثُ يُخِلُّ بِالْحُرُوفِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا فَهُوَ حَرَامٌ يَفْسُقُ بِهِ الْقَارِئُ وَيَأْثَمُ بِهِ الْمُسْتَمِعُ وَيَجِبُ إِنْكَارُهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْوَأِ الْبِدَعِ وَأَفْحَشِ الْإِبْدَاعِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) . وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَزَادَ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ (حُسْنُ الصَّوْتِ زِينَةُ الْقُرْآنِ) وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ ( «لِكُلِّ شَيْءٍ حِلْيَةٌ وَحِلْيَةُ الْقُرْآنِ الصَّوْتُ الْحَسَنُ» ) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْحُلَلَ وَالْحُلِيَّ يُزِيدُ الْحَسْنَاءَ حُسْنًا وَهُوَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ الْعَكْسِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقَلْبِ لَا الْعَكْسِ فَتَدَبَّرْ. وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ وَقَدْ ذَكَرَ سَيِّدُنَا وَسَنَدُنَا وَمَوْلَانَا الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ، وَالْغَوْثُ الصَّمَدَانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - وَرَزَقَنَا فُتُوحَهُ فِي كِتَابِهِ الْغَنِيَّةُ الَّذِي لِلسَّالِكِينَ فِيهِ الْمُنْيَةُ، أَنَّهُ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ نَوَاحِي الْكُوفَةِ وَإِذَا الْفُسَّاقُ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَمَعَهُمْ مُغَنٍّ يُقَالُ لَهُ زَاذَانُ، كَانَ يَضْرِبُ بِالْعُودِ وَيُغَنِّي بِصَوْتٍ حَسَنٍ فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الصَّوْتَ لَوْ كَانَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَحْسَنَ، وَجَعَلَ رِدَاءَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَمَضَى فَسَمِعَ ذَلِكَ الصَّوْتَ زَاذَانُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا قَالُوا: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَايِشُ: قَالَ، قَالُوا: قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الصَّوْتَ لَوْ كَانَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِ اللَّهِ كَانَ أَحْسَنُ، فَدَخَلَتِ الْهَيْبَةُ فِي قَلْبِهِ فَقَامَ وَضَرَبَ بِالْعُودِ فَكَسَرَهُ ثُمَّ أَدْرَكَهُ، وَجَعَلَ الْمَنْدِيلَ عَلَى عُنُقِ نَفْسِهِ، وَجَعَلَ يَبْكِي بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ، فَاعْتَنَقَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجَعَلَ يَبْكِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَيْفَ لَا أُحِبُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ؟ فَتَابَ مَنْ ضَرْبِهِ بِالْعُودِ، وَجَعَلَ مُلَازِمًا عَبْدَ اللَّهِ حَتَّى تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَأَخَذَ الْحَظَّ الْوَافِرَ مِنَ الْعِلْمِ، حَتَّى صَارَ إِمَامًا فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِأَبِي مُوسَى (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» ) وَأَنَّهُ قَالَ:(لَقَدْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ) وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ «لَلَّهُ أَشَدُّ أُذْنًا، أَيْ إِقْبَالًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِمْ» ) وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ ( «أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَتَحَزَّنُ فِيهِ» ) وَأَبُو يَعْلَى ( «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِالْحُزْنِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِالْحُزْنِ» ) وَهُوَ مَا يُنَافِي خَبَرَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: (نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ) فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّعْظِيمُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجْرٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ الرِّجَالِ وَلَا يُخْضِعُ الصَّوْتَ فَيَكُونَ مِثْلَ كَلَامِ النِّسَاءِ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنَ الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2200 -
وَعَنْ سَعْدِ ابْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «مَا مِنِ امْرِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2200 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَا مِنَ امْرِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ "، أَيْ بِالنَّظَرِ عِنْدَنَا، وَبِالْغَيْبِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، أَوِ الْمَعْنَى ثُمَّ يَتْرُكُ قِرَاءَتَهُ نَسِي أَوْ مَا نَسيَ (إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ)، أَيْ: سَاقِطُ الْأَسْنَانِ، أَوْ عَلَى هَيْئَةِ الْمَجْذُومِ، أَوْ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ، أَوْ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي عُذْرِ النِّسْيَانِ، أَوْ يُنَكِّسُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَيَاءً وَخَجَالَةً مِنْ نِسْيَانِ كَلَامِهِ الْكَرِيمِ وَكِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَقْطُوعُ الْيَدِ مِنَ الْجَذْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ: وَقِيلَ: مَقْطُوعُ الْأَعْضَاءِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَجْذَمُ إِذَا تَسَاقَطَتْ أَعْضَاؤُهُ مِنَ الْجُذَامِ، وَقِيلَ: أَجْذَمُ الْحُجَّةِ، أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا لِسَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَقِيلَ: خَالِيَ الْيَدِ عَنِ الْخَيْرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ آيَةٍ أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا» ) .
2201 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2201 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَمْ يَفْقَهْ)، أَيْ: لَمْ يَفْهَمْ فَهْمًا تَامًّا (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ)، أَيْ: خَتَمَهُ (فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ) ، أَيْ لَيَالٍ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ مِنَ الْأَيْامِ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّدَبُّرِ لَهُ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ بِسَبَبِ الْعَجَلَةِ وَالْمَلَالَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَمْ يَفْهَمْ ظَاهِرَ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَأَمَّا فَهْمُ دَقَائِقِهِ فَلَا تَفِي الْأَعْمَارُ بِأَسْرَارِ أَقَلِّ أَيْةٍ بَلْ كَلِمَةٍ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْفَهْمِ لَا نَفْيَ الثَّوَابِ، ثُمَّ يَتَفَاوَتُ الْفَهْمُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَفْهَامِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا الثَّوَابُ عَلَى قِرَاءَتِهِ فَهُوَ حَاصِلٌ لِمَنْ فَهِمَ وَلِمَنْ لَمْ يَفْهَمْ بِالْكُلِّيَّةِ لِلتَّعَبُّدِ بِلَفْظِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ فَهِمَ وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ نَفْيَ الثَّوَابِ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ مِنْ حَدِيثٍ، أَوْ كِتَابٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الثَّوَابِ وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوُتٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ مَنْ فَهِمَ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الصُّلَحَاءِ مِنْ جَعْلِ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ وَغَيْرِهَا أَوْرَادًا وَيُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا، وَمَا حَسَّنَ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ، ثُمَّ جَرَى عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ فَكَانُوا يَخْتِمُونَ الْقُرْآنَ فِي ثَلَاثٍ دَائِمًا وَكَرِهُوا الْخَتْمَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ آخَرُونَ نَظَرًا إِلَى أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، فَخَتَمَهُ جَمَاعَةٌ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مُرَّةً وَآخَرُونَ مَرَّتَيْنِ، وَآخَرُونَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخَتَمَهُ فِي رَكْعَةٍ مَنْ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَزَادَ آخَرُونَ عَلَى الثَّلَاثِ، وَخَتَمَهُ جَمَاعَةٌ مَرَّةً فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ، وَآخَرُونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَآخَرُونَ فِي كُلِّ عَشْرٍ، وَآخَرُونَ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: (اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» ) وَيُسَمَّى خَتْمُ الْأَحْزَابِ، وَتَرْتِيبُهُ الْأَصَحُّ ; بَلِ الْوَارِدُ فِي الْأَثَرِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلٍ مَنْسُوبٍ إِلَى عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - (فَمِي بِشَوْقٍ) أَشَارَ بِالْفَاءِ إِلَى الْفَاتِحَةِ الْمَفْتُوحَةِ بِهَا الْجُمُعَةُ، وَإِلَى مِيمِ الْمَائِدَةِ، ثُمَّ إِلَى يَاءِ يُونُسَ، ثُمَّ إِلَى بَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ إِلَى شِينِ الشُّعَرَاءِ، ثُمَّ إِلَى ق، ثُمَّ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ ; فَمَنْ كَانَ يَظْهَرُ لَهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ اللَّطَائِفُ وَالْمَعَارِفُ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ يُحَصِّلُ كَمَالَ فَهْمِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِنَشْرِ الْعِلْمِ، أَوْ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى قَدْرٍ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلْيَسْتَكْثِرْ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى حَدِّ الْمَلَالَةِ، أَوِ الْهَذْرَمَةِ وَهِيَ سُرْعَةُ الْقِرَاءَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: كَانَ السَّيِّدُ الْجَلِيلُ ابْنُ كَاتِبٍ الصُّوفِيُّ يَخْتِمُ بِالنَّهَارِ أَرْبَعًا وَاللَّيْلِ أَرْبَعًا، أَقُولُ: يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَبَادِي طَيِّ اللِّسَانِ وَبَسْطِ الزَّمَانِ، وَقَدْ رُوِىَ عَنِ الشَّيْخِ مُوسَى السَّدْرَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ الْمَغْرِبِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سَبْعِينَ أَلْفَ خَتْمَةً، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ ابْتَدَأَ بَعْدَ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ وَخَتَمَ فِي مُحَاذَاةِ الْبَابِ بِحَيْثُ سَمِعَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ حَرْفًا حَرْفًا، وَبَسْطُ هَذَا الْمَبْحَثِ فِي كِتَابِ نَفَحَاتِ الْأُنْسِ فِي حَضَرَاتِ الْقُدْسِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) .
2202 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
2202 -
(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الْجَاهِرُ) : أَيِ الْمُعْلِنُ (بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ وَالْمُسِرِّ) :، أَيِ الْمَخْفِيِّ (بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: جَاءَ آثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ وَآثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْإِسْرَارِ بِهِ وَالْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ الْإِسْرَارُ أَفْضَلُ لِمَنْ يَخَافُ الرِّيَاءَ وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ لِمَنْ لَا يَخَافُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ غَيْرَهُ مِنْ مُصَلٍ، أَوْ نَائِمٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْجَهْرِ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ، أَيْ: مِنِ اسْتِمَاعٍ، أَوْ تَعَلُّمٍ، أَوْ ذَوْقٍ، أَوْ كَوْنِهِ شِعَارًا لِلدِّينِ، وَلِأَنَّهُ يُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ، وَيَجْمَعُ هَمَّهُ، وَيَطْرُدُ النَّوْمَ عَنْهُ، وَيَنْشَطُ غَيْرُهُ لِلْعِبَادَةِ، فَمَنْ حَضَرَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَسَنٌ) .
2203 -
وَعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقُوَيِّ.
ــ
2203 -
(وَعَنْ صُهَيْبَ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ)، أَيْ: بِحُكْمِهِ أَوْ فِي الْحَقِيقَةِ (مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ) جَمْعُ مَحْرَمٍ، بِمَعْنَى: الْحَرَامُ الَّذِي هُوَ الْمُحَرَّمُ، وَالضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ فَرْدًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَنِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ مُطْلَقًا وَخُصَّ الْقُرْآنُ لِجَلَالَتِهِ، قُلْتُ: أَوْ لِكَوْنِهِ قَطْعِيًّا، أَوْ لِأَنَّ غَيْرَهُ بِهِ يَعْرِفُ دَلِيلًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) .
2204 -
وَعَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مَلْكِيَّةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُمَلَّكٍ أَنَّهُ «سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هِيَ تَنْعَتُ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
2204 -
(وَعَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى وَاللَّامِ (أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هِيَ) أُمُّ سَلَمَةَ (تَنْعَتُ)، أَيْ: تَصِفُ (قِرَاءَةً مُفَسِّرَةً)، أَيْ: مُبَيِّنَةً (حَرْفًا حَرْفًا)، أَيْ: كَانَ يَقْرَأُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ عَدُّ حُرُوفِ مَا يَقْرَأُ، وَالْمُرَادُ حُسْنُ التَّرْتِيلِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَى نَعْتِ التَّجْوِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ تَقُولَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَالثَّانِي أَنْ تَقْرَأَ مُرَتِّلَةً كَقِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةً أُرَتِّلُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِغَيْرِ تَرْتِيلٍ، وَرَوَى أَبُو يَعْلَى:( «فِي أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ نَثْرَ الدَّقَلِ» ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي النَّشْرِ وَأَحْسَنَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا فَقَالَ: ثَوَابُ قِرَاءَةِ التَّرْتِيلِ أَجَّلُ قَدْرًا، وَثَوَابُ الْكَثْرَةِ أَكْثَرُ عَدَدًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكَيْفِيَّةِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ؛ إِذْ جَوْهَرَةٌ وَاحِدَةٌ تَعْدِلُ الْوَفَاءَ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .
2205 -
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ يَقِفُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ لِأَنَّ اللَّيْثَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَحَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ.
ــ
2205 -
(وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ مِنَ التَّقْطِيعِ)، أَيْ: يَقْرَأُ بِالْوَقْفِ عَلَى رُؤُوسِ الْآيَاتِ (يَقُولُ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يُقَطِّعُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، أَوِ اسْتِئْنَافًا، أَوْ حَالًا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقِفُ) قِيلَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَتْ بِسَدِيدَةٍ، بَلْ هَذِهِ لَهْجَةٌ لَا يَرْتَضِيهَا أَهْلُ الْبَلَاغَةِ، وَالْوَقْفُ التَّامُّ عِنْدَ مَالِكٍ يَوْمِ الدِّينِ، وَلِهَذَا اسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَحَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَقْفَ الْمُسْتَحْسَنَ عَلَى أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ: الْحَسَنُ، وَالْكَافِي، وَالتَّامُّ، فَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ عِنْدَ الْقُرَّاءِ الْعِظَامِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الْجَزَرِيُّ بِقَوْلِهِ.
وَهِيَ لَمَّا تَمَّ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ تَعَلُّقٌ أَوْ كَانَ مَعْنًى فَابْتَدِ
فَالتَّامُّ فَالْكَافِي وَلَفَظًا فَامْنَعْنَ إِلَّا رُءُوسَ الْآيِ جُوِّزَفَالْحَسَنُ
وَشَرْحُهُ يَطُولُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْوُقُوفِ فِي الْوَقْفِ عَلَى رَأْسِ الْآيَةِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ تَعَلُّقٌ لَفْظِيٌّ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ: بِأَنَّ وَقْفَهُ كَانَ لِيُبَيِنَ لِلسَّامِعِينَ رُءُوسَ الْآيِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصْلَ أَوْلَى فِيهَا، وَالْجَزَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالِانْفِصَالِ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا قَالَ حَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ إِذْ لَا دَخْلَ لِلْمَبْحَثِ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَصَحَّ مِنْ بَعْضٍ مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ أَصَحُّ بِالِاتِّصَالِ يَقْوَى الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ بِالِانْفِصَالِ فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ) لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ لَمْ يَرَ أُمَّ سَلَمَةَ فَيَكُونُ حَدِيثُهُ مُنْقَطِعًا لِتَرْكِ الْوَاسِطَةِ (لِأَنَّ اللَّيْثَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى ابْنِ مَمْلَكٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ اللَّيْثِ)، أَيْ: إِسْنَادُهُ، لِكَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِذِكْرِ ابْنِ مَمْلَكٍ (أَصَحُّ)، أَيْ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ لِكَوْنِهِ مُنْقَطِعًا، قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: هُوَ لَيْثُ ابْنُ سَعْدٍ فَقِيهُ أَهْلِ مِصْرَ رُوِىَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ وِلَايَةَ مِصْرَ فَأَبَى وَاسْتَعْفَاهُ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَسْتَغِلُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَيَعْلَى بْنُ مَمْلَكٍ تَابِعِيٌّ، وَرَوَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَنْهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، هَذَا وَقَدْ تَبِعَ ابْنُ الْمَلَكِ الطِّيبِيُّ حَيْثُ قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ، أَيِ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَصَحُّ مِنَ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِسَدِيدَةٍ سَنَدًا وَلَا مُرْضِيَةٍ لَهْجَةً ; لِأَنَّ فِيهَا فَصْلًا بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْوَقْفَ يُسَمَّى حَسَنًا، فَقَوْلُهُ غَيْرُ مُرْضِيَةٍ لَهْجَةً يَكُونُ قَبِيحًا، ثُمَّ لَيْسَ هُنَا رِوَايَتَانِ بَلْ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ مُسْنَدَةٌ بِسَنَدَيْنِ أَحَدُهُمَا مُنْقَطِعٌ وَالْآخَرُ مُتَّصِلٌ وَالثَّانِي أَصَحُّ وَيُقَابَلُ الْأَصَحُّ بِالصَّحِيحِ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ اتِّفَاقًا، فَقَوْلُهُ لَيْسَتْ بِسَدِيدَةٍ لَيْسَ بِسَدِيدٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَالذُّهُولُ عَنِ اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْقُرَّاءِ أَوْقَعَهُمَا فِي خَطَأِ الْجَوَابِ، وَخَبْطِ الْعُجَابِ لَا يُقَالُ مُرَادُهُ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّا نَقُولُ يَدْفَعُهُ قَوْلُهُ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ احْتِرَازًا عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2206 -
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ( «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِينَا الْأَعْرَابِيُّ وَالْأَعْجَمِيُّ. فَقَالَ اقْرَءُوا فَكُلٌّ حَسَنٌ، وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ يَتَعَجَّلُونَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2206 -
(عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِينَا)، أَيْ: مَعْشَرُ الْقُرَّاءِ (الْأَعْرَابِيُّ)، أَيِ: الْبَدَوِيُّ (وَالْعَجَمِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ وَالْأَعْجَمِيُّ، أَيْ: غَيْرُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْفَارِسِيِّ، وَالرُّومِيِّ، وَالْحَبَشِيِّ كَسُلَيْمَانَ وَصُهَيْبَ وَبِلَالٍ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَفِينَا إِلَخْ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّهُمْ مُنْحَصِرُونَ فِي هَذَيْنِ النِّصْفَيْنِ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ فِينَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ فِيمَا بَيْنَنَا تَانِكَ الطَّائِفَتَانِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَرَّقَ بَيْنَ الْأَعْرَابِيِّ وَالْعَرَبِيِّ بِمِثْلِ مَا فِي خُطْبَتِهِ كُلُّ مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيٍّ حَيْثُ جَعَلَ الْمُهَاجِرَ ضِدَّ الْأَعْرَابِيِّ، وَالْأَعْرَابُ سَاكِنُو الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَارِ وَلَا يَدْخُلُونَهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ، وَالْعَرَبُ اسْمٌ لِهَذَا الْجِيلِ الْمَعْرُوفِ مِنَ النَّاسِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ سَوَاءٌ أَقَامَ بِالْبَادِيَةِ أَوِ الْمُدُنِ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَرَبَ أَعَمُّ مِنَ الْأَعْرَابِ وَهُمْ أَخَصُّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] .
(فَقَالَ اقْرَءُوا)، أَيْ: كُلُّكُمْ (فَكُلٌّ حَسَنٌ)، أَيْ: فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ قِرَاءَتِكُمْ حَسَنَةٌ مَرْجُوَّةٌ لِلثَّوَابِ إِذَا آثَرْتُمُ الْآجِلَةَ عَلَى الْعَاجِلَةِ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُقِيمُوا أَلْسِنَتَكُمْ إِقَامَةَ الْقِدْحِ وَهُوَ السَّهْمُ قَبْلَ أَنْ يُرَاشَ (وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ) : أَيْ يُصْلِحُونَ أَلْفَاظَهُ وَكَلِمَاتِهِ وَيَتَكَلَّفُونَ فِي مُرَاعَاةِ مَخَارِجِهِ وَصِفَاتِهِ (كَمَا يُقَامُ الْقِدْحُ) : أَيْ يُبَالِغُونَ فِي عَمَلِ الْقِرَاءَةِ كَمَالَ الْمُبَالَغَةِ لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالشُّهْرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ رَفْعُ الْحَرَجِ، وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْمُسَاهَمَةِ فِي الظَّاهِرِ، وَتَحَرِّى الْحِسْبَةِ، وَالْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ، وَالتَّفْكِيرُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَالْغَوْصُ فِي عَجَائِبِ أَمْرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ مَذْمُومُونَ لِأَنَّهُمْ رَاعَوْا هَذَا الْأَمْرَ السَّهْلَ، وَزَادُوا فِي الْقُبْحِ أَنَّهُمْ ضَمُّوا إِلَى هَذِهِ الْغَفْلَةِ أَنَّهُمْ يَقْرَؤُونَهُ لِأَجْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا فَغَيْرُ مَحْمُودٍ إِذْ لَيْسَ الذَّمُّ عَلَى مُبَالَغَتِهِمْ فِي مُرَاعَاةِ الْأَمْرِ السَّهْلِ بَلِ الذَّمُّ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ (يَتَعَجَّلُونَهُ)، أَيْ: ثَوَابَهُ فِي الدُّنْيَا (وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ) بِطَلَبِ الْأَجْرِ فِي الْعُقْبَى; بَلِ الذَّمُّ يُؤْثِرُونَ الْعَاجِلَةَ عَلَى الْآجِلَةِ وَيَتَوَكَّلُونَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
2207 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْعِشْقِ وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَسَيَجِيءُ بِعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرْآنِ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَهٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ.
ــ
2207 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، أَيْ: بِلَا تَكَلُّفِ النَّغَمَاتِ مِنَ الْمَدَّاتِ وَالسَّكَنَاتِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ بِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ السَّاذَجَةِ عَنِ التَّكَلُّفَاتِ (وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْعِشْقِ) : أَيْ: أَصْحَابُ الْفِسْقِ (وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ)، أَيْ: أَرْبَابُ الْكُفْرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: اللُّحُونُ جَمْعُ لَحْنٍ وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ، قَالَ صَاحِبُ جَامِعِ الْأُصُولِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا يَفْعَلُهُ الْقُرَّاءُ فِي زَمَانِنَا بَيْنَ يَدَيِ الْوُعَّاظِ مِنَ اللُّحُونِ الْعَجَمِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ مَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَسَيَجِيءُ) : أَيْ سَيَأْتِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ يُرَدِّدُونَ (بِالْقُرْآنِ) : أَيْ يُحَرِّفُونَهُ (تَرْجِيعَ الْغَنَاءِ) بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ بِمَعْنَى النَّغْمَةِ (وَالنَّوْحِ) بِفَتْحِ النُّونِ مِنَ النِّيَاحَةِ، وَالْمُرَادُ تَرْدِيدًا مُخْرِجًا لَهَا عَنْ مَوْضِعِهَا إِذَا لَمْ يَأْتِ تَلْحِينُهُمْ عَلَى أُصُولِ النَّغَمَاتِ إِلَّا بِذَلِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّرْجِيعُ فِي الْقُرْآنِ تَرْدِيدُ الْحُرُوفِ كَقِرَاءَةِ النَّصَارَى (لَا يُجَاوِزُ) : أَيْ قِرَاءَتُهُمْ (حَنَاجِرَهُمْ) : أَيْ طَوْقُهُمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ عَنْ مَقَامِ الْوُصُولِ، وَالتَّجَاوُزُ يَحْتَمِلُ الصُّعُودَ وَالْحُدُورَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا يَصْعَدُ عَنْهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَلَا يَتَحَدَّرُ عَنْهَا إِلَى قُلُوبِهِمْ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ (مَفْتُونَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَيُرْفَعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ أُخْرَى لِقَوْمٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ: أَيْ مُبْتَلَى بِحُبِّ الدُّنْيَا وَتَحْسِينِ النَّاسِ لَهُمْ (قُلُوبُهُمْ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ) بِالْهَمْزِ وَيَعْدِلُ: أَيْ يَسْتَحْسِنُونَ قِرَاءَتَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ تِلَاوَتَهُمْ (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَزِينٌ فِي كِتَابِهِ) وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ.
2208 -
وَعَنِ الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا» ) . رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2208 -
(وَعَنِ الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: حَسِّنُوا الْقُرْآنَ) : أَيْ زَيِّنُوهُ (بِأَصْوَاتِكُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ بِالتَّرْتِيلِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالتَّلْيِينِ وَالتَّحْزِينِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَحْتَمِلُ الْقَلْبَ كَمَا احْتَمَلَهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ لِقَوْلِهِ (فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يُزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا) رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
2209 -
وَعَنْ طَاوُوسٍ مُرْسَلًا قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ صَوْتًا لِلْقُرْآنِ وَأَحْسَنُ قِرَاءَةً قَالَ: (مَنْ إِذَا سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ أُرِيتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ» ) قَالَ طَاوُوسٌ: وَكَانَ طَلْقٌ كَذَلِكَ، رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
ــ
2209 -
وَعَنْ طَاوُوسٍ مُرْسَلًا قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَحْسَنُ صَوْتًا لِلْقُرْآنِ) قِيلَ: اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ (وَأَحْسَنُ قِرَاءَةً)، أَيْ: تَرْتِيلًا وَأَدَاءً (قَالَ: مَنْ إِذَا سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ أُرِيتَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: حَسِبْتَهُ وَظَنَنْتَهُ (أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ) وَتَأَثَّرَ قَلْبَكَ مِنْهُ، أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ الْخَشْيَةِ كَتَغَيُّرِ لَوْنِهِ، وَكَثْرَةِ بُكَائِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَانَ الْجَوَابُ مِنْ أُسْلُوبِهِ الْحَكِيمِ حَيْثُ اشْتَغَلَ فِي الْجَوَابِ عَنِ الصَّوْتِ الْحَسَنِ بِمَا يُظْهِرُ الْخَشْيَةَ فِي الْقَارِيءِ وَالْمُسْتَمِعِ (قَالَ طَاوُوسٌ: وَكَانَ طَلْقٌ كَذَلِكَ) : أَيْ بِهَذَا الْوَصْفِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو عَلِيٍّ طَلْقُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ عَمْرٍو النَّخَعِيُّ الْيَمَامِيُّ، وَيُقَالُ أَيْضًا: طَلْقُ بْنُ يَمَامَةَ وَهُوَ وَالِدُ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ الْيَمَامِيِّ اهـ. وَذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ قَيْسٌ (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
2210 -
وَعَنْ عُبَيْدَةَ الْمُلَيْكِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ لَا تَتَوَسَّدُوا الْقُرْآنَ وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَفْشُوهُ وَتَغَنُّوهُ وَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَلَا تَعْجَلُوا ثَوَابَهُ فَإِنَّ لَهُ ثَوَابًا» ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2210 -
(وَعَنْ عَبِيدَةَ) بِفَتْح أَوَّلِهِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفَى نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (الْمُلَيْكِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ (وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ)، أَيْ: بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ مِنْ كَلَامِ الْبَيْهَقِيِّ، أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ) خُصُّوا بِالْخِطَابِ لِأَنَّهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْمُبَالَغَةُ فِي أَدَاءِ حُقُوقِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ لِاخْتِلَاطِهِ بِلَحْمِهِمْ وَدَمِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ لِأَنَّهُمْ مَا يَخْلُونَ عَنْ بَعْضِ الْقُرْآنِ، أَوِ الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام يَا أَهْلَ الْبَقَرَةِ (لَا تَتَوَسَّدُوا الْقُرْآنَ) : أَيْ لَا تَجْعَلُوهُ وِسَادَةً لَكُمْ تَتْلُونَ وَتَنَامُونَ عَلَيْهِ وَتَغْفَلُونَ عَنْهُ وَعَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَتَتَكَاسَلُونَ فِي ذَلِكَ; بَلْ قُومُوا بِحَقِّهِ لَفْظًا، وَفَهْمًا، وَعَمَلًا، وَعِلْمًا (وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) : أَيِ اقْرَؤُوهُ حَقَّ قِرَاءَتِهِ أَوِ اتَّبِعُوه حَقَّ مُتَابَعَتِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَأَقَرَّهُ: لَوْ قَرَأَ نَسْتَعِينُ بِوَقْفَةٍ لَطِيفَةٍ بَيْنَ السِّينِ وَالثَّاءِ حَرُمَ عَلَيْهِ؟ ! لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَقْفٍ، وَلَا مُنْتَهَى آيَةٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى اعْتِبَارِهِ مِنْ مَخْرَجٍ وَمَدٍّ وَغَيْرِهِمَا وَجَبَ تَعَلُّمُهُ وَحَرُمَ مُخَالَفَتُهُ (مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) : أَيِ اتْلُوهُ تِلَاوَةً كَثِيرَةً مُسْتَوْفِيَةً لِحُقُوقِهَا فِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ حَالَ كَوْنِهَا فِي سَاعَاتِ هَذَا وَهَذَا، قَالَ الطِّيبِيُّ:(لَا تَتَوَسَّدُوا) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنِ التَّكَاسُلِ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوهُ وِسَادَةً تَنَامُونَ عَنْهُ بَلْ قُومُوا وَاتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(فَاتْلُوهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ)، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً تَلْوِيحِيَّةً عَنِ التَّغَافُلِ فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْقُرْآنَ وِسَادَةً يَلْزَمُ مِنْهُ النُّوَّمُ فَلْيَلْزَمَ مِنْهُ الْغَفْلَةُ، يَعْنِي: لَا تَغْفُلُوا عَنْ تَدَبُّرِ مَعَانِيهِ، وَكَشْفِ أَسْرَارِهِ، وَلَا تَتَوَانَوْا فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ حَقَّ تِلَاوَتِهِ " {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29] لِلْمَعْنَيَيْنِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: أَقَامُوا وَأَنْفَقُوا مَاضِيَانِ عَطْفًا عَلَى يَتْلُونَ، وَهُوَ مُضَارِعٌ دَلَالَةً عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ فِي التِّلَاوَةِ الْمُثْمِرَةِ لِتَجَدُّدِ الْعَمَلِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُ التِّجَارَةُ الْمُرْبِحَةُ اهـ. كَلَامُهُ رحمه الله. وَقَدْ أَطْنَبَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا بِذِكْرِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُرْآنِ مِنْ تَحْرِيمِ تَوَسُّدِ الْمُصْحَفِ وَمُسْتَثْنَيَاتِهِ، وَتَحْرِيمِ مَدِّ الرِّجْلِ، وَوَضْعِ الشَّيْءِ فَوْقَهُ، وَاسْتِدْبَارِهِ، وَتَخَطِّيهِ، وَرَمْيهِ، وَتَصْغِيرِ لَفْظِهِ، وَجَوَازِ تَقْبِيلِهِ، وَكَرَاهَةِ أَخْذِ الْفَأْلِ مِنْهُ، وَنُقِلَ تَحْرِيمُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَإِبَاحَتُهُ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَحَلُّهُ فِي كُتُبِ الْفَتَاوَى وَالْخِلَافِيَّاتِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا، أَنَّهُ قَالَ
عَجِيبٌ مِنَ الشَّارِحِ; فَإِنَّهُ لِعَدَمِ اسْتِحْضَارِهِ لِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ تَرَدَّدَ فِي الْمُرَادِ بِلَا تَتَوَسَّدُوا تَرَدُّدًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ; فَإِنَّهُ لَمْ يُعَوِّلْ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِمُجَرَّدِ فَهْمِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَسَنٍ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ فَهْمِهِ كَلَامَ الطِّيبِيِّ وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ فِي الْفِقْهِ الْفَرْعِيِّ، وَالْمَرْءُ لَا يَزَالُ عَدُوًّا لِمَا جَهِلَ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ، وَكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وَكُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، (وَأَفْشَوْهُ) : أَيْ بِالْجَهْرِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَبِالْعَمَلِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالتَّعْظِيمِ (وَتَغَنَّوْهُ)، أَيِ: اسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (وَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ) : أَيْ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالزَّوَاجِرِ الْبَالِغَةِ وَالْمَوَاعِيدِ الْكَامِلَةِ (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : أَيْ لِكَيْ تُفْلِحُوا أَوْ حَالَ كَوْنِهِمْ رَاجِينَ الْفَلَاحَ وَهُوَ الظُّفْرُ بِالْمَطْلُوبِ (وَلَا تُعَجِّلُوا) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلُوا ثَوَابَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَا تَجْعَلُوهُ مِنَ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ (فَإِنَّ لَهُ ثَوَابًا) : أَيْ مَثُوبَةً عَظِيمَةً آجِلَةً (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
(بَابٌ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2211 -
ــ
(بَابٌ)
بِالرَّفْعِ وَالْوَقْفِ، أَيْ فِي تَوَابِعَ أُخْرَى.
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2211 -
(عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ قَبْلَ الزَّايِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قُرَشِيٌّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى عَامِ الْفَتْحِ، وَأَوْلَادُهُ صَحِبُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا) : أَيْ مِنَ الْقِرَاءَةِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا) : أَيْ سُورَةُ الْفُرْقَانِ (فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: قَارَبْتُ أَنْ أُخَاصِمَهُ وَأُظْهِرَ بَوَادِرَ غَضَبِي عَلَيْهِ بِالْعَجَلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ (ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ) : أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ (ثُمَّ لَبَّبْتُهُ) بِالتَّشْدِيدِ (بِرِدَائِهِ) : أَيْ جَعَلْتُهُ فِي عُنُقِهِ وَجَرَرْتُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَبَّبْتُ الرَّجُلَ تَلْبِيبًا إِذَا جَمَعْتُ ثِيَابَهُ عِنْدَ صَدْرِهِ فِي الْخُصُومَةِ ثُمَّ جَرَرْتُهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِنَائِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى لَفْظِهِ كَمَا سَمِعُوهُ بِلَا عُدُولٍ إِلَى مَا تُجَوِّزُهُ الْعَرَبِيَّةُ (فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ)، أَيْ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا) قِيلَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ فَلَمَّا عَسُرَ عَلَى غَيْرِهِمْ أُذِنَ فِي الْقِرَاءَةِ بِسَبْعِ لُغَاتٍ لِلْقَبَائِلِ الْمَشْهُورَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافَى زِيَادَةَ الْقِرَآتِ عَلَى سَبْعٍ لِلِاخْتِلَافِ فِي لُغَةِ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَلِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ فِي اللُّغَاتِ، وَقِيلَ جَمِيعُ الْقِرَآتِ الْمَوْجُودَةِ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَسِتَّةٌ مِنْهَا قَدْ رُفِضَتْ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقِيلَ هُوَ الْقَوْلُ وَالْمُرَادُ بِالْحَرْفِ الْوَاحِدِ نَوْعٌ مُلَمَّعٌ مُجَمَّعٌ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ مُخْتَارٌ مِمَّا بَيْنَهَا مَنْسُوخٌ مَا عَدَاهَا وَهُوَ الَّذِي جُمِعَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ وَالْأَوَّلُ يُوَافِقُ جَمْعَ أَبَى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهم (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْهُ) : أَيْ يَا عُمَرُ، وَإِنَّمَا سُومِحَ فِي فِعْلِهِ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ لُحْظَةَ نَفْسِهِ; بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّ عُمَرَ كَانَ بِالنِّسْبَةِ لِهِشَامٍ كَالْمُعَلِّمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَعَلِّمِ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعَلِّمِ ابْتِدَاءٌ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَعَ الْمُتَعَلِّمِ (اقْرَأْ) : أَيْ يَا هِشَامُ (فَقَرَأَ) : أَيْ هِشَامٌ (الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ) : أَيْ سَمِعْتُ هِشَامًا إِيَّاهَا عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي (يَقْرَأُ) : أَيْ يَقْرَؤُهَا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا أُنْزِلَتْ) : أَيِ السُّورَةُ أَوِ الْقِرَاءَةُ (ثُمَّ قَالَ
لِي اقْرَأْ فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ) : أَيْ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ هَكَذَا عَلَى التَّخْيِيرِ أُنْزِلَتْ (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ) : أَيْ جَمِيعُهُ (أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) : أَيْ لُغَاتٍ، أَوْ قِرَاءَاتٍ، أَوْ أَنْوَاعٍ، قِيلَ: اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ قَوْلًا مِنْهَا أَنَّهُ مِمَّا لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْحَرْفَ يَصْدُقُ لُغَةً عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ، وَعَلَى الْكَلِمَةِ، وَعَلَى الْمَعْنَى وَعَلَى الْجِهَةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الْقِرَاءَاتِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى سَبْعٍ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ الْأُوَلِ: اخْتِلَافُ الْكَلِمَةِ فِي نَفْسِهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَنْشِزُهَا، وَنُنْشِزُهَا، وَقَوْلِهِ: سَارَعُوا، وَسَارِعُوا، الثَّانِي: التَّغْيِيرُ بِالْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ كَكُتُبِهِ، وَكِتَابِهِ، الثَّالِثُ: بِالِاخْتِلَافِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ كَمَا فِي يَكُنْ، وَتَكُنْ، الرَّابِعُ: الِاخْتِلَافُ التَّصْرِيفِيُّ كَالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ نَحْوَ يَكْذِبُونَ، وَيُكَذِّبُونَ، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ نَحْوَ يَقْنُطُ، وَيَقْنَطُ، الْخَامِسُ: الِاخْتِلَافُ الْإِعْرَابِيُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ بِرَفْعِ الدَّالِ، وَجَرِّهَا، السَّادِسُ: اخْتِلَافُ الْأَدَاةِ نَحْوَ لَكِنَّ الشَّيَاطِينَ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وَتَخْفِيفِهَا، السَّابِعُ: اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ كَالتَّفْخِيمِ وَالْإِمَالَةِ، وَإِلَّا فَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا الْقَلِيلُ مِثْلُ عَبْدِ الطَّاغُوتِ، وَلَا تَقُلْ أُفٍّ لَهُمَا، وَهَذَا كُلُّهُ تَيْسِيرٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) : أَيْ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَعَمُّ مِنَ الْمِقْدَارِ، وَالْجِنْسِ، وَالنَّوْعِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَجَازَ بِأَنْ يَقْرَؤُا مَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم بِالتَّوَاتُرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ " أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ " وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعَةِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ; فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ; لِأَنَّهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ كَيْفِيَّةُ النُّطْقِ بِكَلِمَاتِهَا مِنْ إِدْغَامٍ، وَإِظْهَارٍ، وَتَفْخِيمٍ، وَتَرْقِيقٍ، وَإِمَالَةٍ، وَمَدٍّ، وَقَصْرٍ، وَتَلْيِينٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ اللُّغَاتِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَقْرَأَ كُلٌّ بِمَا يُوَافِقُ لُغَتَهُ وَيَسْهُلُ عَلَى لِسَانِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَإِنَّ الْإِدْغَامَ مَثَلًا فِي مَوَاضِعَ لَا يَجُوزُ الْإِظْهَارُ فِيهَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ اخْتِلَافَ اللُّغَاتِ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِوُجُوهِ إِشْبَاعِ مِيمِ الْجَمْعِ وَقَصْرِهِ، وَإِشْبَاعِ هَاءِ الضَّمِيرِ وَتَرْكِهِ، مِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى بَعْضِهِ وَمُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهِ كَاخْتِلَافِ الْبُخْلِ وَالْبَخْلِ، وَيَحْسَبُ وَيَقْنَطُ، وَالصِّرَاطُ وَالسِّرَاطُ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَنَسَبَهُ إِلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ رحمهم الله أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ نَحْوَ أَقْبِلْ، وَتَعَالَ، وَعَجِّلْ، وَهَلُمَّ، وَأَسِرْ، فَيَجُوزُ إِبْدَالُ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ لَا بِضِدِّهِ، وَحَدِيثُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ صَرِيحٍ فِيهِ وَعِنْدَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا» " وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَهُ لِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَيْضًا " «الْقُرْآنُ كُلُّ صَوَابٍ مَا لَمْ يَجْعَلْ مَغْفِرَةً عَذَابًا، أَوْ عَذَابًا مَغْفِرَةً» " وَلِهَذَا كَانَ أُبَيُّ يَقْرَأُ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ سَعَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] ، بَدَلَ مَشَوْا فِيهِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ أَمْهِلُونَا أَخِّرُونَا، بَدَلَ انْظِرُونَا، وَفِيهِ أَنَّهُ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا مِنْ أُبَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا يُبْدِلَانِ لَفْظًا مِنْ عِنْدِهِمَا بَدَلًا مِمَّا سَمِعَاهُ مِنْ لَفَظَ النُّبُوَّةِ وَأَقَامَاهُ مَقَامَهُ مِنَ التِّلَاوَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمَا، أَوْ سَمِعَا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام الْوُجُوهَ فَقَرَأَ مَرَّةً كَذَا وَمَرَّةً كَذَا كَمَا هُوَ الْآنَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الشَّأْنِ وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِمَا كَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمُ التِّلَاوَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ وَالضَّبْطِ وَإِتْقَانِ الْحِفْظِ، ثُمَّ نُسِخَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ، وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَاقِلَّانِيُّ، وَآخَرُونَ، هَذَا وَكَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كُشِفَ لَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ تَسْتَقِرُّ فِي أُمَّتِهِ عَلَى سَبْعٍ، وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَوَاتُرِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَهَا شَاذٌّ لَا يَحِلُّ الْقِرَاءَةُ بِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : أَيْ مَعْنًى (وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) . وَحَدِيثُ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ادَّعَى أَبُو عُبَيْدَةَ تَوَاتُرَهُ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: ( «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيُزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ( «فَرَدَّدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ أَنِ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَسَبَبُ إِنْزَالِهِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ التَّخْفِيفُ وَالتَّسْهِيلُ؛ وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم " هَوِّنَ عَلَى أُمَّتِي " وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ آخِرَ الْحَدِيثِ " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ".
2212 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلَافَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهَةَ، فَقَالَ: (كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فَلَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا» ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2212 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَرَأَ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلَافَهَا) : أَيْ غَيْرَ قِرَاءَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَرَأَ (فَجِئْتُ بِهِ) : أَيْ أَحْضَرْتُهُ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ) : أَيْ بِمَا سَمِعْتُ مِنَ الْخِلَافِ (فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ: أَيْ آثَارَ الْكَرَاهِيَةِ خَوْفًا مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُتَشَابِهِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ عُدُولٌ وَنَقْلُهُمْ صَحِيحٌ فَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ (فَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ) : أَيْ فِي رِوَايَةِ الْقِرَاءَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا الرَّجُلُ فَفِي قِرَاءَتِهِ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَفِي سَمَاعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْكَرَاهَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِدَالِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قِرَاءَتِهِ ثُمَّ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اهـ.
وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ عَلَى قِرَاءَتِهِ لَمَا كَانَ مُتَوَاتِرًا بَلْ شَاذًّا آحَادًا، وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِالشَّوَاذِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا كَرِهَ اخْتِلَافَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَعَ ذَلِكَ الرَّجُلِ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَتَهُ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ جَائِزَةٍ ; فَإِنْكَارُ بَعْضِ تِلْكَ الْوُجُوهِ إِنْكَارٌ لِلْقُرْآنِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، قُلْتُ: هَذَا وَقَعَ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ الْعِلْمِ بِجَوَازِهِ الْوُجُوهَ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِلَّا فَحَاشَاهُ أَنْ يُنْكِرَ بَعْدَ الْعِلْمِ مَا يُوجِبُ إِنْكَارَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الصَّحَابَةِ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ وَأَفْقَهِهِمْ بِأَحْكَامِ الْفُرْقَانِ، وَهَذَا مِنْهُ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ قِرَاءَتِهِ أَمْهِلُونَا وَأَخِّرُونَا بَدَلَ انْظُرُونَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ ظُهُورِ الْكَرَاهِيَةِ فِي وَجْهِهِ عليه الصلاة والسلام إِحْضَارُهُ الرَّجُلَ، فَإِنَّهُ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِ وَيَسْأَلَ - النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَمَّا وَقَعَ لَهُ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ ظَهَرَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ عليه الصلاة والسلام عِنْدَمَا صَنَعَ عُمَرُ أَيْضًا، لَكِنَّ عُمَرَ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ مَا شَعَرَ أَوْ حَلَمَ عليه الصلاة والسلام لِمَا رَأَى بِهِ مِنَ الشِّدَّةِ، أَوْ تَعْظِيمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجِلَّةِ أَصْحَابِهِ وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ خِدْمَتِهِ عَلَى بَابِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِمَالِ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الطِّيبِيِّ فِي قَوْلِهِ إِنَّ الْكَرَاهَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجِدَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ (فَلَا تَخْتَلِفُوا) : أَيْ أَيُّهَا الصَّحَابَةُ أَوْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ وَصَدِّقُوا بَعْضَكُمْ بَعْضًا فِي الرِّوَايَةِ بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الدِّرَايَةِ (فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) : أَيْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (اخْتَلَفُوا) بِتَكْذِيبِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا (فَهَلَكُوا) بِتَضْيِيعِ كِتَابِهِمْ وَإِهْمَالِ خِطَابِهِمْ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2213 -
ــ
2213 -
(وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي) اسْتِئْنَافٌ، أَوْ حَالٌ (فَقَرَأَ قِرَاءَةً) : أَيْ فِي صَلَاتِهِ، أَوْ بَعْدَهَا (أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ) : أَيْ بِالْجَنَانِ، أَوْ بِاللِّسَانِ (ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ) : أَيْ فَأَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ أَيْضًا (فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ) دَلَّ عَلَى أَنَّ أُبَيًّا أَيْضًا كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى، أَوْ نَحْوُهَا مِنَ النَّوَافِلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَلَمَّا قَضَيْنَا جَمِيعًا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي حَضَرْنَا لِأَجْلِهَا، وَيُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ مَا فِي نُسَخِةٍ (فَلَمَّا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ) : أَيْ فَرَغْنَا عَنْهَا (دَخَلْنَا جَمِيعًا) : أَيْ كُلُّنَا أَوْ مُجْتَمِعُونَ (عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ لِصَلَاتِهِ، أَوْ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجُرَاتِهِ (فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، وَدَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ) : أَيْ أَنْكَرَتُهَا عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ (فَأَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَآ) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ: أَيْ كِلَاهُمَا (فَحَسَّنَ شَأْنَهُمَا، فَسَقَطَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَلَكِنْ فِي سَمَاعِنَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْرُوفِ، قُلْتُ: يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا نَقَلَ شُرَّاحُ الْمَصَابِيحِ كَابْنِ الْمَلَكِ وَغَيْرِهِ: أَيْ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَعْنَى كَمَا سَيَظْهَرُ لَكَ فَتَكُونُ مُطَابِقَةً بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَجَرٍ إِلَى الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: أَيْ وَقَعَ فِي خَاطِرِي أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا أَقْدِرُ
عَلَى وَصْفِهِ، وَحَذْفُ الْفَاعِلِ الْمَعْلُومِ جَائِزٌ، وَكَنَّى عَنْ خَطَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْمَعَانِي بِسَقَطَ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْأَجْسَامِ إِشْعَارًا بِشِدَّةِ هَذَا الْخَاطِرِ وَثِقَلِهِ اهـ. وَلَوْ زِيدَ وَقِيلَ لِسُقُوطِ هَذَا الْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَلَسَقَطَ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ اعْتِبَارٍ لَكَانَ حَسَنًا عِنْدَ أُولِي الْأَبْصَارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي بَعْضِ النُّسَخِ سَقَطَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ: أَيْ نَدِمَ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ اهـ. فَكَأَنَّهُ وَهِمَ أَنَّ قَوْلَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ يَأْبَاهُ فَتَدَبَّرْ (وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي وَقَعَ فِي خَاطِرِي مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِتَحْسِينِهِ بِشَأْنِهِمَا تَكْذِيبًا أَكْثَرَ تَكْذِيبِي إِيَّاهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ غَافِلًا، أَوْ مُشَكِّكًا، وَإِنَّمَا اسْتَعْظَمَ هَذِهِ الْحَالَةَ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ الَّذِي دَاخَلَهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى مَوْرِدِ الْيَقِينِ، وَقِيلَ: فَاعِلُ سَقَطَ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ مَا لَمْ أَقْدِرْ عَلَى وَصْفِهِ وَلَمْ أَعْهَدْ بِمِثْلِهِ وَلَا وَجَدْتُ مِثْلَهُ إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ أُبَيٌّ مَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مَا وَقَعَ لَهُ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، فَلَمَّا نَالَهُ بَرَكَةُ يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زَالَ عِنْدَ الْغَفْلَةِ وَالْإِنْكَارِ وَصَارَ فِي مَقَامِ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ اهـ. وَتَبِعَهُ فِي هَذَا ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ: وَتَبِعَتُهُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ آثَمُ وَآثَمُ أَيْ أَكْثَرُ إِثْمًا، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمَا - نَعُوذُ بِاللَّهِ - تَكْفِيرُهُ رضي الله عنه وَهَذِهِ نَزْغَةٌ جَسِيمَةٌ وَجُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ عِبَارَةَ آحَادِ النَّاسِ إِذَا احْتَمَلَتْ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَجْهًا مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْكُفْرِ وَوَجْهًا وَاحِدًا عَلَى خِلَافِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يُحْكَمَ بِارْتِدَادِهِ فَضْلًا عَمَّا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ الصَّحَابَةِ عُمُومًا وَمِنْ أَكْمَلِهِمْ فِي أَمْرِ الْقِرَاءَةِ خُصُوصًا، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَبِيَدِهِ أَزِمَّةُ التَّحْقِيقِ: إِنَّ لَفْظَ سَقَطَ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] بِالْقِرَاءَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى الضَّمِّ، فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ؛ مُطَابَقَةً بَيْنِهِمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَيْدِيهِمْ وَقَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ " فِي نَفْسِي " بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُعَبَّرُ عَنِ النَّفْسِ بِالْأَيْدِي، إِلَّا أَنَّ الْبَلَاغَةَ الْقُرْآنِيَّةَ وَالْفَصَاحَةَ الْفُرْقَانِيَّةَ بَلَغَتْ غَايَةَ الْعُلْيَا فَعَبَّرَتْ بِالْعِبَارَةِ الْحُسْنَى، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ اشْتِدَادِ نَدَمِهِمْ، قَالَ: الْمُتَحَسِّرُ يَعَضُّ يَدَهُ غَمًّا ; فَتَصِيرُ يَدُهُ مَسْقُوطًا فِيهَا، وَقُرِئَ: سَقَطَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ بِمَعْنَى وَقَعَ الْعَضُّ فِيهَا، وَقِيلَ: سَقَطَ النَّدَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ اهـ. وَهُوَ غَايَةُ الْمُنَى، وَفِي الْقَامُوسِ سَقَطَ: وَقَعَ، وَبِالضَّمِّ: ذَلَّ وَنَدِمَ وَتَحَيَّرَ، فَعَلَى رِوَايَةِ الضَّمِّ مَعْنَاهُ: نَدِمْتُ مِنْ تَكْذِيبِي، وَإِنْكَارِ قِرَاءَتِهَا نَدَامَةً مَا نَدِمْتُ مِثْلَهَا لَا فِي الْإِسْلَامِ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ مَعْنَاهُ: أَوْقَعَ النَّدَمُ فِي نَفْسِي مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِ قِرَاءَتِهِمَا نَدَمًا لَمْ أَنْدَمْ مِثْلَهُ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ وَلَا حِينَ كُنْتُ فِي أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَالْعَاقِلُ لَا يُكَذِّبُ إِلَّا مَا يُنَافِي الْعَقْلَ أَوِ النَّقْلَ، وَقِرَاءَتُهُمَا مَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْسِينِ الْقِرَاءَتَيْنِ فَسَادُ إِحْدَاهِمَا عَقَلًا وَنَقَلًا سِيَّمَا، وَأَخْبَرَ الصَّادِقُ: أَنَّهُمَا صَحِيحَتَانِ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلشَّكِّ فِي النُّبُوَّةِ الثَّابِتَةِ، لَا بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَالْبَرَاهِينِ اللَّامِعَةِ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَالدَّقَائِقِ النَّقْلِيَّةِ، فَضْلًا عَنِ التَّكْذِيبِ مِمَّنْ هُوَ مَوْصُوفٌ بِجَمَالِ التَّهْذِيبِ وَكَمَالِ التَّأْدِيبِ! ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ وَافَقَنِي وَقَالَ: أَيْ مِنْ أَجْلِ تَكْذِيبِي لِكُلٍّ مِنَ الرَّجُلَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِمَا. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا قَرَأَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْقُرْآنِ كُفْرٌ، فَلِذَا عَظُمَ عَلَيَّ الْأَمْرُ الْآنَ مَا لَمْ يَعْظُمْ عَلَيَّ غَيْرُهُ فِي زَمَنٍ مَضَى. " وَلَا إِذْ كُنْتُ " أَيْ: وَلَا فِي الزَّمَنِ الَّذِي كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا يُفْعَلُ فِيهَا مَرْفُوعٌ بِالْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا يُفْعَلُ بَعْدَهَا لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِيهِ تَكْذِيبٌ بِالْقُرْآنِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، وَأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مَنْفِيٌّ، وَأَنَّ لَا لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّفْيِ كَهِيَ فِي " وَلَا غَرْبِيَّةٍ " وَهِيَ أَسَدُّ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جَعَلَ، " وَلَا إِذْ كُنْتُ " صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ مَانِعَةٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا لِلْحَالِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ مُوهِمٌ بِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ تَكْذِيبٌ بِالْقُرْآنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً بِالتَّوَاتُرِ فَإِنْكَارُهَا لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبًا لِلْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ صُورَةَ التَّكْذِيبِ لَا حَقِيقَتَهُ، مَعَ أَنَّهُ خُطُورٌ لَيْسَ فِيهِ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ فِي وُقُوعِهِ مَعْذُورٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّوَوِيِّ: مَعْنَاهُ وَسْوَسَ إِلَيَّ الشَّيْطَانُ تَكْذِيبًا أَشَدَّ مِمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ غَافِلًا، أَوْ مُتَشَكِّكًا، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ الشَّكُّ فِي الْيَقِينِ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِدُخُولِ الشَّكِّ دُخُولًا عَلَى وَجْهِ الْوَسْوَسَةِ لِيُلَائِمَ أَوَّلَ كَلَامِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ دُخُولُ الشَّكِّ عَلَى وَجْهِ الْحُصُولِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ إِدْرَاجُهُ مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرَّاحِ فِي الِاعْتِرَاضِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ (فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَدْ غَشِيَنِي) : أَيْ أَتَانِي مِنْ آثَارِ الْخَجَالَةِ وَعَلَامَاتِ النَّدَامَةِ، أَوْ لَمَّا عَلِمَ مَا فِي خَاطِرِي بِالْمُعْجِزَةِ مِنْ حُصُولِ الْوَسْوَسَةِ (ضَرَبَ صَدْرِي) إِمَّا لِلتَّأْدِيبِ، وَإِمَّا
لِإِخْرَاجِ الْوَسْوَسَةِ بِبَرَكَةِ يَدِهِ، وَإِمَّا لِلتَّلَطُّفِ، وَإِمَّا لِإِرَادَةِ الْحِفْظِ، أَوْ لِتَذَكُّرِ الْقَضِيَّةِ وَعَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهَا (فَفِضْتُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ الثَّانِيَةِ (عَرَقًا) تَمْيِيزٌ: أَيْ فَجَرَى عَرَقِي مِنْ جَمِيعِ بَدَنِي اسْتِحْيَاءً مِنْهُ عليه الصلاة والسلام وَنَدَامَةً عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَفَنَاءً عَنْ نَفْسِهِ وَإِغْمَاءً عَنْ حَالِهِ (وَكَأَنَّمَا) وَفَى نُسْخَةٍ فَكَأَنَّمَا (أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فَرَقَا) : أَيْ خَوْفًا قِيلَ: تَمْيِيزٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ نَصْبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ: أَيْ فَكَأَنِّي لِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى مَا فَعَلْتُ أُحْضِرْتُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْحُكْمِ فِيَّ بِمَا أَرَادَ (فَقَالَ لِي يَا أُبَيُّ) : أَيْ تَسْكِينًا وَتَبْيِينًا (أُرْسِلَ إِلَيَّ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ: أَيْ أَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، وَفَى نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ: أَيْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيَّ (أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَفَى نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ الْمُتَكَلِّمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْ مُفَسِّرَةٌ، وَجَوَّزَ كَوْنَهَا مَصْدَرِيَّةً عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى الْأَمْرِ (عَلَى حَرْفٍ) : أَيْ قِرَاءَةً وَاحِدَةً (فَرَدَدْتُ) : أَيْ جِبْرِيلُ (إِلَيْهِ) أَوْ فَرَاجَعْتُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (أَنْ هَوِّنْ) : أَيْ سَهِّلْ وَيَسِّرْ (عَلَى أُمَّتِي) أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ مَدْخُولِهَا أَمْرًا؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، أَوْ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي رَدَدْتُ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، يُقَالُ رَدَّ إِلَيْهِ إِذَا رَجَعَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ فَقُلْتُ لَهُ قَوْلًا مُتَكَرِّرًا، فَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً (فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ) مَاضٍ مَجْهُولٌ، أَوْ مَعْلُومٌ رَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ الرِّسَالَةَ الثَّانِيَةَ (اقْرَأْهُ) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، أَوِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ بِدُونِ أَنْ كَمَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ خِلَافًا لِمَا تَوَهِمُهُ عِبَارَةُ ابْنِ حَجَرٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ رَدَّ وَرَدَّ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ مَسْبُوقًا لِسُؤَالِهِ عليه الصلاة والسلام عَنْ كَيْفِيَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّدِّ رَجْعُ الْكَلَامِ وَرَدُّ الْجَوَابِ (عَلَى حَرْفَيْنِ) : أَيْ نَوْعَيْنِ (فَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي) : أَيْ بِزِيَادَةِ التَّهْوِينِ (فَرَدَّ) بِالْوَجْهَيْنِ (إِلَيَّ الثَّالِثَةِ اقْرَأْهُ) بِالضَّبْطَيْنِ (عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا) : أَيْ لَكَ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دَفْعَةٍ رَجَعَتْ إِلَيَّ وَرَدَدْتُكَهَا بِمَعْنَى أَرْجَعْتُكَ إِلَيْهَا بِحَيْثُ مَا هَوَّنْتُ عَلَى أُمَّتِكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ (مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ يَعْنِي مَسْأَلَةً مُسْتَجَابَةً قَطْعًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَنْبَغِي أَنْ تَسْأَلْنِيهَا فَأُجِيبَكَ إِلَيْهَا (فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي) لَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي) : أَيْ لِأَهْلِ الصَّغَائِرِ، وَعَكَسَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ شَارِحٌ: لَمَّا انْقَسَمَ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْمَغْفِرَةِ مِنْ أُمَّتِهِ إِلَى مُفَرِّطٍ وَمُفْرِطٍ فِي اسْتَغْفَرَ صلى الله عليه وسلم لِلْمُقْتَصِدِ الْمُفَرِّطِ فِي الطَّاعَةِ، وَأُخْرَى لِلظَّالِمِ فِي الْمَعْصِيَةِ، أَوِ الْأُولَى لِلْخَوَاصِّ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ مَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ:{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] وَالثَّانِيَةُ لِلْعَوَامِّ، أَوِ الْأُولَى فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى فِي الْعُقْبَى (وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ) : أَيِ الْمَسْأَلَةَ الثَّالِثَةَ وَهِيَ الشَّفَاعَةُ الْكُبْرَى (لِيَوْمٍ) : أَيْ لِأَجْلِ يَوْمٍ، أَوْ إِلَى يَوْمٍ (يَرْغَبُ) : أَيْ يَحْتَاجُ (إِلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (الْخَلْقُ) : أَيِ الْمُكَلَّفُونَ (كُلُّهُمْ) حِينَ يَقُولُونَ نَفْسِي نَفْسِي (حَتَّى إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام) بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَلْقِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى رِفْعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَفْضِيلِ نَبِيِّنَا عَلَى الْكُلِّ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2214 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» ) قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ تَكُونُ وَاحِدًا لَا تَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2214 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ) : أَيْ أَوَّلًا (فَرَاجَعْتُهُ) : أَيِ اللَّهَ، أَوْ جِبْرِيلَ (فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ) : أَيْ أَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ الزِّيَادَةَ، أَوْ أَطْلُبُ مِنْ جِبْرِيلَ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ الزِّيَادَةَ بَعْدَ الْإِجَابَةِ (وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى) : أَيْ طَلَبُ الزِّيَادَةِ وَالْإِجَابَةِ، أَوْ أَمْرُ الْقُرْآنِ (إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) : أَيْ إِلَى إِعْطَائِهَا (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) : أَيِ الزُّهْرِيُّ (بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، وَقِيلَ بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ (إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ) أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَفَى الْحَقِيقَةِ (تَكُونُ) بِالتَّأْنِيثِ وَيُذَكَّرُ (وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ) بِالْوَجْهَيْنِ (فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ) يَعْنِي أَنَّ مَرْجِعَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ فِي هَيْئَتِهِ وَأَمَّا
الِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَصِيرَ الْمُثْبَتُ مَنْفِيًّا، وَالْحَلَالُ حَرَامًا، فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وَهَذَا لَمَّا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا يَسِيرًا، وَكَأَنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَصَدَ بِذَلِكَ رَدًّا لِقَوْلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ فَقِيلَ: أَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَحَلَالٌ، وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ، وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْحَاكِمِ، وَالْبَيْهَقِيِّ " «كَانَتِ الْكُتُبُ الْأُوَلُ تَنْزِلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٌ، وَآمِرٌ، وَحَلَالٌ، وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ، وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ» " وَأَجَابَ عَنْهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ الَّتِي فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ ; لِأَنَّ سِيَاقَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ يَأْبَى حَمْلَهَا عَلَى هَذَا إِذْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ يُقْرَأُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَثَلَاثَةٍ إِلَى سَبْعَةٍ تَيْسِيرًا وَتَهْوِينًا، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ حَلَالًا وَحَرَامًا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِهِ جَزَمَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: مَنْ أَوَّلَ تِلْكَ بِهَذِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَمِمَّنْ ضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّوْسِعَةَ لَمْ تَقَعْ فِي تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ وَلَا تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: زَاجِرٌ إِلَخْ اسْتِئْنَافٌ: أَيِ الْقُرْآنُ زَاجِرٌ وَآمِرٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ زَاجِرًا بِالنَّصْبِ: أَيْ نَزَلَ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ حَالَ كَوْنِهِ زَاجِرًا إِلَخْ. وَقَالَ أَبُو شَامَةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ لِلْأَبْوَابِ لَا لِلْأَحْرُفِ، أَيْ: سَبْعَةُ أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ أَيْ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَقْتَصِرْ مِنْهَا عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ اهـ. وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَأَمَّا مَا قَالَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْأَصْنَافِ الْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ، وَالْعَامُّ، وَالْخَاصُّ، وَالنَّصُّ، وَالْمُؤَوَّلُ، وَالنَّاسِخُ، وَالْمَنْسُوخُ، وَالْمُجْمَلُ، وَالْمُفَسَّرُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَأَقْسَامُهُ، فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْقُرْآنِ مُنَزَّلَةً فِيهِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّخْيِيرَ وَلَا التَّبْدِيلَ الْمَفْهُومَ مِنْ سَبَبِ الْوُرُودِ فِي الْحَدِيثِ وَمِنْ مَنْطُوقِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ اللُّغَوِيُّونَ مَنْ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْحَذْفُ، وَالصِّلَةُ، وَالتَّقْدِيمُ، وَالتَّأْخِيرُ، وَالِاسْتِعَارَةُ، وَالتَّكْرَارُ، وَالْكِنَايَةُ، وَالْحَقِيقَةُ، وَالْمَجَازُ، وَالْمُجْمَلُ، وَالْمُفَسَّرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْغَرِيبُ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ مَا حَكَى النُّحَاةُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّذْكِيرُ، وَالتَّأْنِيثُ، وَالشَّرْطُ، وَالْجَزَاءُ، وَالتَّصْرِيفُ، وَالْإِعْرَابُ، وَالْأَقْسَامُ وَجَوَابُهَا، وَالْجَمْعُ، وَالْإِفْرَادُ، وَالتَّصْغِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَاخْتِلَافُ الْأَدَوَاتِ، فَإِنَّ بَعْضَهَا ثَابِتٌ جَازَ تَغَيُّرُهَا عَلَى مَا وَرَدَ مِنَ التَّذْكِيرِ، وَالتَّأْنِيثِ، وَالْجَمْعِ، وَالْإِفْرَادِ، وَالْإِعْرَابِ، وَاخْتِلَافِ الْأَدَوَاتِ، وَأَمَّا سَائِرُ الصِّفَاتِ فَمَا وَرَدَ شَيْءٌ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ قَوْلِهِ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20] ، وَكَذَا مَا حُكِيَ عَنِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَنَّهَا الزُّهْدُ وَالْقَنَاعَةُ مَعَ الْيَقِينِ، وَالْحُرْمَةُ وَالْخِدْمَةُ مَعَ الرِّضَا، وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ مَعَ الْمُحَاسَبَةِ، وَالْمَحَبَّةُ وَالشَّوْقُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ، لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ مَعَ زِيَادَةِ تَبْلُغُ أَلْفًا كَمَا حَقَّقَ فِي مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَمُقَدِّمَاتِ الْعَارِفِينَ، وَلَكِنَّ تَنْزِيلَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى كَوْنِهَا مُرَادَةً مِنَ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّخْفِيفِ بِالتَّخْيِيرِ مِمَّا لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلًّا عُرِفَ بِمَذْهَبِهِ وَعُرِفَ مِنْ مَشْرَبِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةٍ لِلَفْظِ بَاقِي الْحَدِيثِ، وَلِسَبَبِ وُرُودِهِ فَتَكَلَّمُوا عَلَى مَعْنَى الْقُرْآنِ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2215 -
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ فَقَالَ: (يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَالْغُلَامُ، وَالْجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ، قَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» :) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ: ( «لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ» ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ قَالَ: ( «إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِي وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِي، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، فَكُلُّ حَرْفٍ شَافٍ كَافٍ» ) .
ــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2215 -
(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ فَقَالَ: (يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ) : أَيْ لَا يُحْسِنُونَ الْقِرَاءَةَ وَلَوْ أَقْرَأْتُهُمْ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ جَرَى لِسَانُهُ عَلَى الْإِمَالَةِ أَوِ الْفَتْحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى لِسَانِهِ الْإِدْغَامُ أَوِ الْإِظْهَارُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا (مِنْهُمُ الْعَجُوزُ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ) وَهُمَا عَاجِزَانِ عَنِ التَّعَلُّمِ لِلْكِبَرِ (وَالْغُلَامُ، وَالْجَارِيَةُ) وَهُمَا غَيْرُ مُتَمَكِّنَيْنِ مِنَ الْقِرَاءَةِ لِلصِّغَرِ (وَالرَّجُلُ) : أَيْ وَمِنْهُمُ الرَّجُلُ الْمُتَوَسِّطُ (الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ قَالَ) : أَيْ بَعْدَ الْمُرَاجَعَاتِ (يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) : أَيْ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ فَلْيَقْرَأْ كُلٌّ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ جَوَازُ التَّرْكِيبِ وَالتَّلْفِيقِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَكِنِ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَنْعِهِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ مَنْعَ تَنْزِيهٍ، وَكَذَا قَالُوا بِمَنْعِ مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْمَعْنَى مَنْعَ تَحْرِيمٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ رِوَايَةَ
أُبَيٍّ عَنْ جِبْرِيلَ هَذَا الْإِجْمَالَ رِوَايَةٌ عَنْهُ بِالْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُبَيًّا سَمِعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي عَنْ جِبْرِيلَ مَا مَرَّ عَنْهُ مِنَ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَسْتَزِيدُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّبْعَةِ فَرَوَى هُنَا حَاصِلُ ذَلِكَ فَهُوَ أَنَّهُ بَعْدَ تِلْكَ الِاسْتِزَادَةِ نَزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا ذَكَرَ لِجِبْرِيلَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ:( «إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لَكِنَّهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى سُؤَالِكَ فَسَلْهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى تُعْطَاهَا كُلَّهَا» ) . (وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَ) : أَيْ جِبْرِيلُ بَعْدَ الْأَحْرُفِ (لَيْسَ مِنْهَا) : أَيْ لَيْسَ حَرْفٌ مِنْ تِلْكَ الْأَحْرُفِ (إِلَّا شَافٍ) : أَيْ لِلْعَلِيلِ فِي فَهْمِ الْمَقْصُودِ (كَافٍ) لِلْإِعْجَازِ فِي إِظْهَارِ الْبَلَاغَةِ وَقِيلَ: أَيْ شَافٍ لِصُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ لِلِاتِّفَاقِ فِي الْمَعْنَى، وَكَافٍ فِي الْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ أَتَيَانِي فَقَعَدَ جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِي وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِي فَقَالَ) أَيْ لِي (جِبْرِيلُ: اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِيدُهْ) : أَيِ اطْلُبْ زِيَادَةَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى حَرْفٍ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنْ جِبْرِيلَ لِيَعْرِضَ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ بِقَوْلِهِ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ وَيُجَابُ (حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، فَكُلُّ حَرْفٍ شَافٍ) : أَيْ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ لِلْمُؤْمِنِينَ (كَافٍ) فِي الْحُجَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ.
2216 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَاصٍّ يَقْرَأُ، ثُمَّ يَسْأَلُ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
2216 -
(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَاصٍّ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ: أَيْ يَحْكِي الْقِصَصَ وَالْأَخْبَارَ (يَقْرَأُ) : أَيِ الْقُرْآنَ حَالٌ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ (ثُمَّ يَسْأَلُ) : أَيْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ (فَاسْتَرْجَعَ) : أَيْ عِمْرَانُ يَعْنِي قَالَ: " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَظُهُورُ مَعْصِيَةٍ وَأَمَارَةُ الْقِيَامَةِ (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ عِمْرَانُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ بِهِ) : أَيْ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ مَا شَاءَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا مِنَ النَّاسِ، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ فَلْيَسْأَلْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِآيَةِ عُقُوبَةٍ فَيَتَعَوَّذُ إِلَيْهِ بِهَا مِنْهَا، وَإِمَّا بِأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عَقِيبَ الْقِرَاءَةِ بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَإِصْلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ (فَإِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنُ (سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ) : أَيْ بِلِسَانِ الْقَالِ أَوْ بِبَيَانِ الْحَالِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) .
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2217 -
عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَتَأَكَّلُ بِهِ النَّاسَ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لَيْسَ عَلَيْهِ لَحْمٌ» ) . رَوَاهُ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2217 -
(عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَتَأَكَّلُ بِهِ النَّاسَ) أَيْ يَطْلُبُ بِهِ الْأَكْلَ مِنَ النَّاسِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي يَسْتَأْكِلُ كَتَعَجَّلَ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ، وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلْآلَةِ أَيْ: أَمْوَالَهُمْ (جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لَيْسَ عَلَيْهِ لَحْمٌ) لَمَّا جَعَلَ أَشْرَفَ الْأَشْيَاءِ وَأَعْظَمَ الْأَعْضَاءِ وَسِيلَةً إِلَى أَدْنَاهَا وَذَرِيعَةً إِلَى أَرْدَئِهَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ وَأَسْوَأِ حَالَةٍ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اسْتِجْرَارُ الْجِيفَةِ بِالْمَعَازِفِ أَهْوَنُ مِنَ اسْتِجْرَارِهَا بِالْمَصَاحِفِ، وَفَى الْأَخْبَارِ مَنْ طَلَبَ بِالْعِلْمِ الْمَالَ كَانَ كَمَنْ مَسَحَ أَسْفَلَ مَدَاسِهِ وَنَعْلِهِ بِمَحَاسِنِهِ لِيُنَظِّفَهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْبَهْلَوَانُ الَّذِي يَلْعَبُ فَوْقَ الْحِبَالِ أَحْسَنُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَمِيلُونَ إِلَى الْمَالِ ; لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا، وَهَؤُلَاءِ يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، فَيَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] وَقَدْ مَدَحَ الشَّاطِبِيُّ الْقُرَّاءَ السَّبْعَةَ وَرُوَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ: تَخَيَّرَهُمْ نُقَّادُهُمْ كُلُّ بَارِعٍ وَلَيْسَ عَلَى قُرْآنِهِ مُتَأَكِّلَا
(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
2218 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2218 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ) بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ: أَيِ انْفِصَالَهَا وَانْقِضَاءِهَا، أَوْ فَصْلَهَا عَنْ سُورَةٍ أُخْرَى (حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تَعَلَّقَ بِهِ أَصْحَابُنَا حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِنْزَالَ مُكَرَّرٌ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهَا لِتَكْرَارِ نُزُولِ الْفَاتِحَةِ عَلَى قَوْلٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَالَّذِي سَيَرِدُ فِي آخِرِ الْبَابِ دَلِيلَانِ ظَاهِرَانِ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ جُزْءٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ مُكَرَّرَةً لِلْفَصْلِ، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْجُزْئِيَّةِ وَلَا عَلَى وَجْهِ الْكُلِّيَّةِ، بَلْ فِيهَا دَلَالَةٌ إِجْمَالِيَّةٌ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ الْفُرْقَانِيَّةِ، بَلْ قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ قُرْآنًا وَإِنَّمَا هِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّهَا آيَةٌ لِوَصْفِهَا بِالْإِنْزَالِ، وَلَعَلَّ الْغَزَالِيَّ لِهَذَا قَالَ: مَا مِنْ مُنْصِفٍ إِلَّا وَيَسْتَرِدُّهُ وَيُضْعِفُهُ لَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِسُورَةٍ سِوَى مَا فِي النَّمْلِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ كِتَابَتِهَا فِي أَوَّلِ التَّوْبَةِ بِنَاءً عَلَى التَّوْقِيفِ فِي مَحَلِّهَا، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ مِنَ النُّكْتَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ إِشَارَةِ الشَّارِعِ إِلَى كِتَابَتِهَا فِي أَوَّلِهَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةُ رَحْمَةٍ وَالسُّورَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْبَرَاءَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّاطِبِيِّ: وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً لِتَنْزِيلِهَا بِالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلَا
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَذْهَبِنَا أَنَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةٌ كَامِلَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا غَيْرَ بَرَاءَةَ إِجْمَاعًا خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: (بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا مَا أَضْحَكَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ أَنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ إِلَى آخِرِهَا) وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ بِالْبَسْمَلَةِ إِظْهَارًا بِفَصْلِ السُّورَةِ، أَوْ تَبَرُّكًا بِالتَّسْمِيَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا جُزْءُ السُّورَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً كَامِلَةً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَخَبَرُ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ» ) اهـ. وَهَذَا أَبْعَدُ دَلَالَةً لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمِثَالَ مَعَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ فِي النَّمْلِ إِجْمَاعًا، وَلِلْفَصْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُ الْبَسْمَلَةِ وَلَا مُثْبِتُهَا إِجْمَاعًا خِلَافًا لِمَنْ غَلَطَ فِيهِ فِي الْجَانِبَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
2219 -
وَعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: «كُنَّا بِحِمْصَ فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَقَرَأْتُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، فَبَيْنَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2219 -
(وَعَنْ عَلْقَمَةَ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ كُنَّا بِحِمْصَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، بَلْدَةٌ بِالشَّامِ (فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ) : أَيِ السُّورَةُ أَوِ الْقُرْآنُ (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَقَرَأْتُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ فِي زَمَانِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَيَّ لِأَنِّي قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَلَى عَهْدِهِ: أَيْ حَضْرَتِهِ، وَهُوَ يَسْمَعُ (فَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَحْسَنْتَ) : أَيْ أَنْتَ الْقِرَاءَةَ بِالتَّرْتِيلِ وَالتَّجْوِيدِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا افْتِخَارًا بَلْ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَاحْتِجَاجًا عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ (فَبَيْنَا) وَفَى نُسْخَةٍ فَبَيْنَمَا (هُوَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (يُكَلِّمُهُ) : أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ (إِذْ وَجَدَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (رِيحَ الْخَمْرِ، فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ) : أَيْ أَتُخَالِفُ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَحُكْمَهُ (وَتُكَذِّبُ الْكِتَابَ) : أَيْ بِقِرَاءَتِهِ، أَوْ أَدَائِهِ (فَضَرَبَهُ الْحَدَّ) : أَيْ لِكَوْنِهِ مُتَوَلِّيًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا تَغْلِيظٌ لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْكِتَابِ كُفْرٌ، وَإِنْكَارُ الْقِرَاءَةِ فِي جَوْهَرِ الْكَلِمَةِ كُفْرٌ دُونَ الْأَدَاءِ، وَلِذَا أَجْرَى عَلَيْهِ حَدَّ الشَّارِبِ لَا حَدَّ الرِّدَّةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ، إِنَّ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَدَاءِ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ مُتَوَاتِرٌ مُطْلَقًا فَيَكْفُرُ مُنْكِرُهُ، نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الَّذِي أَنْكَرَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا حِينَئِذٍ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ فَهُوَ لَا كُفْرَ بِهِ وَإِنْ صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَرَأَ بِهِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ ضَرَبَهُ حَدَّ الْخَمْرِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ شُرْبِهِ بِالرَّائِحَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ، وَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ ; لِأَنَّ رِيحَ نَحْوِ التُّفَّاحِ الْحَامِضِ وَكَذَا السَّفَرْجَلِ يُشْبِهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا إِكْرَاهًا، أَوِ اضْطِرَارًا، وَقَدْ صَحَّ الْخَبَرُ:( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبَهَاتِ» ) وَلَعَلَّهُ حَصَلَ مِنْهُ إِقْرَارٌ، أَوْ قَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْحَدِّ التَّعْزِيرُ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ لَمْ يُعَزِّرْهُ عَلَى قَوْلِهِ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِابْنِ مَسْعُودٍ لِكَوْنِهِ نَسَبَهُ إِلَى قِرَاءَةٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَعَفَا عَنْهُ فِي حَقِّهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2220 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنِ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ يَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ، وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ سُورَةَ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2220 -
(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ) أَيْ أَحَدًا (أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ) نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ: عَقِيبَ زَمَانِ قَتْلِهِمْ وَهِيَ بِلَادٌ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْيَمَامَةُ: الْقَصْدُ كَالْيَمَامِ، وَجَارِيَةٌ زَرْقَاءُ كَانَتْ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبِلَادُ الْجَوِّ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا؛ لِأَنَّهَا اكْثَرُ نَخِيلًا مِنْ سَائِرِ الْحِجَازِ، وَبِهَا تَنَبَّأَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، وَهِيَ دُونَ الْمَدِينَةِ فِي وَسَطِ الشَّرْقِ عَنْ مَكَّةَ عَلَى سِتَّ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً مِنَ الْبَصْرَةِ وَعَنِ الْكُوفَةِ نَحْوَهَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: وَالْيَمَامَةُ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطَّائِفِ يَوْمَانِ أَوْ يَوْمٌ كَذَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مَعَ جَيْشٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَمَامَةِ فَقَاتَلَهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ قِتَالًا لَمْ يَرَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهُ، وَقُتِلَ مِنَ الْقُرَّاءِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةٍ، قِيلَ: وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفٌ وَمِائَتَانِ، ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ حَمَلُوا عَلَى أَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ فَانْكَشَفُوا وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَقَتَلُوا مُسَيْلِمَةَ وَأَصْحَابَهُ، قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ قَاتِلُ حَمْزَةَ، فَقَالُوا لَهُ: هَذِهِ بِتِلْكَ (فَإِذَا عُمَرُ) : أَيْ قَالَ زَيْدٌ: فَجِئْتُهُ فَإِذَا عُمَرُ (ابْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، قِيلَ: وَسَبَبُ مَجِيئِهِ لِطَلَبِ جَمْعِهِ مَا جَاءَ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ آيَةٍ فَقِيلَ لَهُ كَانَتْ مَعَ فُلَانٍ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، وَأَتَى بِجَمْعِ الْقُرْآنِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ فِي الْمُصْحَفِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَسَبَّبَ فِي جَمْعِهِ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : أَيْ لِزَيْدٍ (إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ) : أَيْ عُمَرُ (إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ) مِنَ الْحَرِّ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ أَيِ: اشْتَدَّ وَكَثُرَ (يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى إِنِ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ) بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنْ، وَتُكْسَرُ (بِالْقُرَّاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ، أَوِ الْقَتْلِ.
(بِالْمَوَاطِنِ) ظَرْفِيَّةٌ أَيْ: فِي الْمَوَاطِنِ الْأُخَرِ مِنَ الْحُرُوبِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا لِدَفْعِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ الْكَثِيرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ أَخْشَى اسْتِحْرَارَهُ، وَالْمُرَادُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا كَانَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْخَشْيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمَكَارِهِ، فَقَوْلُهُ إِنِ اسْتَحَرَّ: مَفْعُولُ أَخْشَى، وَالْفَاءُ فِي فَيَذْهَبُ: لِلتَّعْقِيبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنْ بِالْكَسْرِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى مَفْعُولِ أَخْشَى (فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى عَطْفًا عَلَى اسْتَحَرَّ، عَلَى أَنَّ أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمَقْرُوَءَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ بِالرَّفْعِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي أَنْ، فَقِيلَ: رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَإِذَا اسْتَحَرَّ فَيَذْهَبُ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ إِنِّي أَخْشَى، أَيْ: فَيَذْهَبُ حِينَئِذٍ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ بِذَهَابِ كَثِيرٍ مِنْ قُرَّاءِ الزَّمَانِ (وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ) مِنَ الرَّأْيِ أَيْ: أَذْهَبُ إِلَى أَنْ تَأْمُرَ كَتَبَةَ الْوَحْيِ (بِجَمْعِ الْقُرْآنِ) قَبْلَ تَفَرُّقِ قُرَّاءِ الدُّوَرَانِ (قُلْتُ) : أَيْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قُلْتُ (لِعُمَرَ كَيْفَ تَفْعَلُ) بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، وَقِيلَ بِالتَّكَلُّمِ: أَيْ: أَنْتَ، أَوْ نَحْنُ (شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ جُمِعَ الْقُرْآنُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهَا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَخْرَجَ بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ زَيْدٍ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ فِي الرِّقَاعِ، الْحَدِيثَ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ غَيْرُ الْجَمْعِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَأْلِيفَ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُفَرَّقَةِ فِي سُوَرِهَا وَجَمْعَهَا فِيهَا بِإِشَارَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ) : أَيْ هَذَا الْجَمْعُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لَكِنْ لِأَجْلِ الْحِفْظِ خَيْرٌ مَحْضٌ (فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي) : أَيْ يُرَاوِدُنِي فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ (حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ) : أَيْ لِذَلِكَ الْجَمْعِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ (وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذَكَرَ مِنَ الْجَمْعِ، أَوِ الشَّرْحِ (الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : أَيْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ تَوْطِئَةٌ لِلْأَمْرِ بِالْجَمْعِ (إِنَّكَ رَجُلٌ) كَامِلٌ فِي الرُّجُولِيَّةِ (شَابٌّ عَاقِلٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ: إِشَارَةً إِلَى الْقُوَّةِ، وَحِدَّةِ النَّظَرِ، وَقُوَّةِ الضَّبْطِ، وَالْحِفْظِ، وَالْأَمَانَةِ، وَالدِّيَانَةِ (لَا نَتَّهِمُكَ) : أَيْ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، أَيْ: لَا نُدْخِلُ عَلَيْكَ التُّهْمَةَ لِعَدَالَتِكَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَنْقُلُهُ، فِي الْقَامُوسِ: اتَّهَمَهُ بِكَذَا اتِّهَامًا وَاتَّهَمَهُ كَافْتَعَلَهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِ التُّهَمَةَ كَهُمَزَةٍ: أَيْ مَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ فَاتُّهِمْ هُوَ (وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ غَالِبًا لِأَنَّ كُتَّابَهُ عليه الصلاة والسلام بَلَغُوا أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مِنْهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ كَمَا
فِي الْمَوَاهِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ فِي جَمْعِهِ وَكِتَابَتِهِ مُؤْتَمَنٌ (فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنِ) أَمْرٌ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ: أَيْ بَالِغْ فِي تَحْصِيلِهِ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُتَفَرِّقَةِ (فَاجْمَعْهُ) : أَيْ جَمْعًا كُلِّيًّا فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ مُحَافَظَةً لِلْمُرَاجَعَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ (فَوَاللَّهِ) : أَيْ قَالَ زَيْدٌ فَوَاللَّهِ (لَوْ كَلَّفُونِي) : أَيْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَالْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ (نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ) : أَيْ وَكَانَ مِمَّا يُمْكِنُ نَقْلُهُ (مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقِرْآنِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَعَبُ الْجُثَّةِ وَهَذَا فِيهِ تَعَبُ الرُّوحِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُبَاحٌ، وَكَانَ هَذَا بِزَعْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلِهَذَا (قَالَ) : أَيْ زَيْدٌ (فَقُلْتُ) : أَيْ لِأَبِي بَكْرٍ، أَوْ مَعَ عُمَرَ (كَيْفَ تَفْعَلُونَ) وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغْلِيبِ الْخِطَابِ (شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ أَيْضًا، فَكَأَنَّهُ مَا اكْتَفَى بِمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَنْشَرِحْ صَدْرُهُ بَعْدُ، وَلَمْ يَرْضَ بِالتَّقْلِيدِ، مَعَ اسْتِصْعَابِهِ الْقَضِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ (قَالَ) : أَيْ أَبُو بَكْرٍ (هُوَ) : أَيِ الْجَمْعُ (وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي) : أَيْ يَذْكُرُ أَبُو بَكْرٍ السَّبَبَ وَأَنَا أَدْفَعُ (حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ) : أَيِ اللَّهُ (لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) ، قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَجْمَعْ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ لِمَا كَانَ يَتَرَقَّبُهُ مِنْ وُرُودِ نَاسِخٍ لِبَعْضِ أَحْكَامِهِ أَوْ تِلَاوَتِهِ، فَلَمَّا انْقَضَى نُزُولُهُ بِوَفَاتِهِ، أَلْهَمَ اللَّهُ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ ذَلِكَ وَفَاءً بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ بِضَمَانِ حِفْظِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الصِّدِّيقِ بِمَشُورَةِ عُمَرَ، وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ» " الْحَدِيثَ فَلَا يُنَافَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي كِتَابَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ كَانَ كُلُّهُ كُتِبَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ غَيْرَ مَجْمُوعٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَا مُرَتَّبِ السُّوَرِ، وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ: كِتَابَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ بِمُحْدَثَةٍ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الْوُقُوعِ وَنَحْوِهَا، وَإِنَّمَا أَمَرَ الصِّدِّيقُ بِنَسْخِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ مُجْتَمِعًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَوْرَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا الْقُرْآنُ مُنْتَشِرًا فَجَمَعَهَا جَامِعٌ وَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ كَذَا فِي الْإِتْقَانِ (فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ) حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَوِ الْمَفْعُولِ (مِنَ الْعُسُبِ) بِضَمَّتَيْنِ، جَمْعُ عَسِيبٍ جَرِيدَةٌ مِنَ النَّخْلِ وَهِيَ السَّعَفَةُ مِمَّا لَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَزَادَ فِي الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: جَرِيدَةٌ مِنَ النَّخْلِ مُسْتَقِيمَةٌ دَقِيقَةٌ مُكْشَطٌ خُوصُهَا، وَالَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْخُوصُ مِنَ السَّعَفِ وَالسَّعَفُ مُحَرَّكَةٌ جَرِيدُ النَّخْلِ، أَوْ وَرَقُهُ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ إِذَا يَبِسَ (وَاللِّخَافِ) بِكَسْرِ اللَّامِ جَمْعُ لَخِفَةٍ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْبِيضُ الرِّقَاقُ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيْدِي الْقُرَّاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَفَّى رِوَايَةٍ: وَالرِّقَاعِ وَهِيَ جَمْعُ رُقْعَةٍ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ جِلْدٍ، أَوْ وَرَقٍ، وَفَى أُخْرَى وَقِطَعِ الْأَدِيمِ، وَفَى أُخْرَى وَالْأَكْتَافِ، وَفَى أُخْرَى وَالْأَضْلَاعِ، وَهُوَ جَمْعُ كَتِفٍ أَوْ ضِلْعٌ يَكُونُ لِلْبَعِيرِ وَالشَّاةِ كَانُوا إِذَا جَفَّ كَتَبُوا عَلَيْهِ، وَفِي أُخْرَى وَالْأَقْتَابِ جَمْعُ قَتَبٍ وَهُوَ الْخَشَبُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ لِيُرْكَبَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي ذَلِكَ لِعِزَّةِ الْوَرَقِ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، أَوْ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَلْوَاحِ لِيَحْفَظُوهَا ثُمَّ يَغْسِلُوهَا وَيَمْحُوهَا (وَصُدُورِ الرِّجَالِ) أَيْ: الْحُفَّاظِ مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَتِ الثِّقَةُ بِأَصْحَابِ الرِّقَاعِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانَ يُبْدُونَ عَنْ تَأْلِيفٍ مُعْجِزٍ وَمُنَظَّمٍ مَعْرُوفٍ وَقَدْ شَاهَدُوا تِلَاوَتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ سَنَةً فَكَانَ تَزْوِيرُ مَا لَيْسَ مِنْهُ مَأْمُونًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْ صَحِيحِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ بِأَنْ حَفِظُوهُ كُلَّهُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ هَذَا، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَفَّى رِوَايَةٍ ذِكْرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْهُمْ (حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ (الْأَنْصَارِيِّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَذْكُورُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنَ الصَّحَابَةِ: خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، وَأَبُو خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ الْخَزْرَجِيُّ فَتَأَمَّلْ اهـ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ إِلَّا خُزَيْمَةَ، وَلَعَلَّهُ يُقَالُ لَهُ خُزَيْمَةُ وَأَبُو خُزَيْمَةَ أَيْضًا (لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلَيَّةِ أَيْ: لَمْ أَجِدْهَا مَكْتُوبَةً مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتَفِي بِالْحِفْظِ دُونَ الْكِتَابَةِ، قَالَهُ الْحَافِظُ أَبُو شَامَةَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً حَفِظُوا
الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، لِجَوَازِ النِّسْيَانِ بَعْدَ الْحِفْظِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْمُنَسَّى مِنْ غَيْرِهِمْ تَذَكَّرُوا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الْأَحْزَابِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ} [التوبة: 128] بَدَلٌ مِنْ " آخِرِ "{رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ) قَالَ فِي الْإِتْقَانِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: قَدِمَ عُمَرُ فَقَالَ: مَنْ كَانَ تَلَقَّى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَأْتِ بِهِ وَكَانُوا يَكْتُبُونَ ذَلِكَ فِي الصُّحُفِ وَالْأَلْوَاحِ وَالْعُسُبِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَيْدًا كَانَ لَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ وِجْدَانِهِ مَكْتُوبًا حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ مَنْ تَلَقَّاهُ سَمَاعًا، مَعَ كَوْنِ زِيدٍ كَانَ يَحْفَظُهُ، فَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الِاحْتِيَاطِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي جَمَالِ الْقُرَّاءِ: الْمُرَادُ إِنَمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ كُتِبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوِ الْمُرَادُ يُشْهِدَانِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَكَانَ غَرَضُهُمْ أَنْ لَا يُكْتَبَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ مَا كُتِبَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَتَبَهُ زَيْدٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَكَانَ لَا يَكْتُبُ آيَةً إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَإِنَّ آخِرَ سُورَةِ بَرَاءَةَ لَمْ يُوجَدْ إِلَّا مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، فَقَالَ: اكْتُبُوهَا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، فَكَتَبَ، وَإِنَّ عُمَرَ أَتَى بِآيَةِ الرَّجْمِ فَلَمْ يَكْتُبْهَا لِأَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ مَا جَمَعُوا إِلَّا بَعْدَ مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ لَفْظُهُ، وَبِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ كِتَابَتُهُ (فَكَانَتِ الصُّحُفُ) أَيْ: بَعْدَ الْجَمْعِ (عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ: ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ فِي حَيَاتِهِ) أَيْ: أَيَّامَهُمَا (ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) أَيْ: إِلَى أَنْ أَخَذَ مِنْهَا عُثْمَانُ فَجَمَعَ جَمْعًا ثَانِيًا، أَوْ ثَالِثًا لِلْقُرْآنِ، وَسَبَبُ وَضْعِ الصُّحُفِ عِنْدَهَا عَدَمُ خَلِيفَةٍ مُتَعَيِّنٍ فِي حَيَاتِهِ وَهِيَ بِنْتُهُ وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَخَصَّهَا بِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَجَاءَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَعْظَمُ النَّاسِ فِي الْمَصَاحِفِ أَجْرًا أَبُو بَكْرٍ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا مَا فِي أَثَرٍ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آلَيْتُ أَنْ لَا آخُذَ عَلَيَّ رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمُعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَ الْقُرْآنَ، فَجَمَعَهُ، لِأَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَمُرَادُهُ بِجَمْعِهِ حَفِظُهُ فِي صَدْرِهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِجَمْعِهِ جَمْعُهُ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ النُّقْصَانَ، وَالْمُرَادُ بِجَمْعِ أَبِي بَكْرٍ جَمْعُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِهَذَا الْجَمْعِ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ لَهُ الْأَوَّلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ أَنَّهُ بَعْدَ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ قَدْ كَرِهَ بَيْعَتَكَ فَأَرْسِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كَرِهْتَ بَيْعَتِي، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: مَا أَقْعَدَكَ عَنِّي، قَالَ، رَأَيْتُ كِتَابَ اللَّهِ يُزَادُ فِيهِ فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنْ لَا أَلْبَسَ رِدَائِي إِلَّا لِصَلَاةِ جُمُعَةٍ حَتَّى أَجْمَعَهُ، قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ، وَكَذَا مَا جَاءَ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي مُصْحَفٍ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، أَقْسَمَ لَا أَرْتَدِي بِرِدَاءٍ حَتَّى أَجْمَعَهُ، فَجَمَعَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ رِجَالُهَا ثِقَاتٌ لَكِنْ فِي سَنَدِهَا انْقِطَاعٌ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ وَلِزَيْدٍ: اقْعُدَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَمَنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَاكْتُبَاهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَانَ الْمُرَادُ بِشَاهِدَيْنِ الْحِفْظَ وَالْكِتَابَةَ، قَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ فِي فَهْمِ السُّنَنِ: كِتَابَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مُحْدَثَةً لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فَجَمَعَهُ الصِّدِّيقُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَوْرَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا الْقُرْآنُ مُنْتَشِرًا فَجَمَعَهَا جَامِعٌ وَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الثِّقَةُ بِهَذِهِ الرِّقَاعِ وَنَحْوِهَا وَصُدُورِ الرِّجَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبْدُونَ عَنْ تَأْلِيفٍ مُعْجِزٍ وَنَظْمٍ مَعْرُوفٍ، قَدْ شَاهَدُوا تِلَاوَتَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِشْرِينَ سَنَةً، فَكَانَ تَزْوِيرُ مَا لَيْسَ مِنْهُ مَأْمُونًا وَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْهُ، اهـ مُلَخَّصًا.
وَفَى مُوَطَّأِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِسَنَدِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الْقُرْآنَ فِي قَرَاطِيسَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدٍ: أَمَرَنِي أَبُو بَكْرٍ فَكَتَبْتُهُ فِي قِطَعِ الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ، فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ عُمَرُ كُتِبَ ذَلِكَ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَتْ عِنْدَهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْأَوَّلُ أَصَحُّ إِنَّمَا كَانَ فِي الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يُجْمَعَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جُمِعَ فِي الْمُصْحَفِ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَرَادِفَةُ، قُلْتُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ أَوَّلًا مُتَفَرِّقًا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرَ مُرَتَّبٍ فَجُمِعَ جَمْعًا مُرَتَّبًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالسُّوَرِ، غَيْرَ أَنَّهُ كُتِبَ فِي قِطَعِ الْأَدِيمِ وَالْعُسُبِ عَلَى وَجْهِ التَّعْقِيبِ وَكَانَ الْمَجْمُوعُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جُمِعَ فِي صَحِيفَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي صُحُفٍ بِالْكِتَابَةِ عَلَى الْوَرَقِ أَوِ الرَّقِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2221 -
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2221 -
(وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ) أَيْ: حُذَيْفَةُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (يُغَازِي) أَيْ: يُحَارِبُ (أَهْلَ الشَّامِ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفَى نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، فَيَكُونُ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَهُوَ الصَّوَابُ ; لِمَا قَالَ السَّخَاوِيُّ فِي شَرْحِ الرَّائِيَّةِ فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ رضي الله عنه اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ أَرْمِينِيَّةَ فِي بِلَادِ الْغَرْبِ، جُنْدُ الْعِرَاقِ وَجُنْدُ الشَّامِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ، يَسْمَعُ هَؤُلَاءِ قِرَاءَةَ هَؤُلَاءِ فَيُنْكِرُونَهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ صَوَابٌ، وَنَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ (فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ ابْنِ سَمْعَانَ، وَبِكَسْرِهَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: مُثَلَّثٌ، وَبِسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُونٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ يَاءٌ خَفِيفَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وَقَدْ تُثَقَّلُ، بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَبِيرَةٌ كَذَا فِي الْمُقَدِّمَةِ، وَفَى الْقَامُوسِ بَلَدٌ بِأَذْرَبِيجَانَ، فَقَوْلُهُ (وَأَذْرَبِيجَانَ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَهُوَ عَلَى مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ وَفَتْحُ الذَّالِ وَسُكُونُ الرَّاءِ وَكَسْرُ الْبَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ جِيمٌ ; لَكِنْ قَالَ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ: هِيَ هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ غَيْرُ مَمْدُودَةٍ، ثُمَّ ذَالٌ مُعْجَمَةٌ، ثُمَّ رَاءٌ مَفْتُوحَةٌ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٌ مَكْسُورَةٌ، ثُمَّ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتٍ، ثُمَّ جِيمٌ، ثُمَّ أَلِفٌ، ثُمَّ نُونٌ، هَكَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَكْثَرُ فِي ضَبْطِهَا، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَدْ تُمَدُّ الْهَمْزَةُ، وَقَدْ تُكْسَرُ، وَقَدْ تُحْذَفُ، وَقَدْ تُفْتَحُ الْمُوَحَّدَةُ، وَقَدْ يُزَادُ بَعْدَهَا أَلِفٌ مَعَ مَدِّ الْأُولَى، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ بِفَتْحَتَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ، ثُمَّ جِيمٌ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَضَبْطُهَا الْأَصِيلِيُّ بِالْمَدِّ، وَحَكَى أَيْضًا فَتْحَ الْمُوَحِّدَةِ (مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ) عَطْفٌ عَلَى كَانَ (حُذَيْفَةَ) بِالنَّصْبِ (اخْتِلَافُهُمْ) بِالرَّفْعِ، أَيْ: أَوْقَعَ فِي الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ اخْتِلَافُ النَّاسِ، أَوْ أَهْلُ الْعِرَاقِ الَّذِينَ كَانَ يُغَازِي مَعَهُمْ (فِي الْقِرَاءَةِ) أَيْ: قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حُذَيْفَةُ، مِثْلَ أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا اللَّفْظُ مِنَ الْقُرْآنِ أَمْ لَا، وَضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِرَفْعِ حُذَيْفَةَ وَنَصْبِ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهٌ، وَحَمْلُهُ عَلَى الْقَلْبِ لَمْ يَقْبَلْهُ الْقَلْبُ (فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ) أَمْرٌ مِنَ الْإِدْرَاكِ بِمَعْنَى التَّدَارُكِ (قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ) أَيِ الْقُرْآنِ (اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) بِالنَّصْبِ، أَيْ: كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّوُرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَى أَنْ حَرَّفُوا وَزَادُوا وَنَقَصُوا، زَادَ السَّخَاوِيُّ: فَمَا كُنْتَ صَانِعًا إِذَا قِيلَ قِرَاءَةُ فُلَانٍ وَقِرَاءَةُ فُلَانٍ كَمَا صَنَعَ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَاصْنَعْهُ الْآنَ فَجَمَعَ عُثْمَانُ رضي الله عنه النَّاسَ وَعِدَّتُهُمْ حِينَئِذٍ خَمْسُونَ أَلْفًا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، قَالُوا: مَا تَرَى، قَالَ: أَرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا يَكُونُ فُرْقَةً وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافٌ، قَالُوا: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ، فَعَزَمَ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ حُذَيْفَةُ وَالْمُسْلِمُونَ (فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخْهَا) بِالْجَزْمِ وَيُرْفَعُ (فِي الْمَصَاحِفِ) أَيْ: الْمَجْمُوعَةُ (ثُمَّ نَرُدُّهَا) بِضَمِّ الدَّالِّ، وَفَتْحِهَا (إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ) أَيْ: مِنَ الْأَنْصَارِ (وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ) أَيْ: مِنْ قُرَيْشٍ (فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ) أَيْ: الْمُتَعَدِّدَةُ (وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَ) أَيْ: مَاعَدَا زَيْدًا (إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ) أَيْ: بِلُغَاتِهِمْ (فَإِنَّمَا نَزَلَ) أَيْ: غَالِبًا (بِلِسَانِهِمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ نَزَلَ أَوَّلًا بِلِسَانِهِمْ، ثُمَّ رَخَّصَ أَنْ يُقْرَأَ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ: فَاخْتَلَفُوا فِي التَّابُوتِ، فَقَالَ زَيْدٌ: التَّابُّوهُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: التَّابُوتُ، فَرَجَعُوا إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: اكْتُبُوهُ بِالتَّاءِ فَإِنَّهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، وَسَأَلُوا عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِهِ لَمْ يَتَسَنَّ، فَقَالَ: اجْعَلُوا فِيهَا الْهَاءَ، فَإِنْ قِيلَ، فَلِمَ أَضَافَ عُثْمَانُ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ إِلَى زَيْدٍ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ؟ قُلْتُ: كَانَ غَرَضُ
الصِّدِّيقِ جَمْعُ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِ أَحْرُفِهِ وَوُجُوهِهِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا وَذَلِكَ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ غَرَضُ عُثْمَانَ تَجْرِيدُ لُغَةِ قُرَيْشٍ مِنْ تِلْكَ الْقُرْآنِ، فَجَمْعُ أَبِي بَكْرٍ غَيْرُ جَمْعِ عُثْمَانَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا قَصَدَ بِإِحْضَارِ تِلْكَ الصُّحُفِ وَقَدْ كَانَ زَيْدُ وَمَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ حَفَظَةٌ، قُلْتُ: الْغَرَضُ بِذَلِكَ سَدُّ بَابِ الْمَقَالِ وَأَنْ يَزْعُمَ زَاعِمٌ أَنَّ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنًا لَمْ يُكْتَبْ، وَلِئَلَّا يَرَى إِنْسَانٌ فِيمَا كَتَبُوهُ شَيْئًا مِمَّا لَمْ يُقْرَأْ بِهِ فَيُنْكِرُهُ، فَالصُّحُفُ شَاهِدَةٌ بِصِحَّةِ جَمِيعِ مَا كَتَبُوهُ (فَفَعَلُوا) أَيْ: الْجَمْعُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (حَتَّى إِذَا نَسَخُوا) أَيْ: كَتَبُوا (الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ) بِضَمَّتَيْنِ، أَيْ: طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الْآفَاقِ (بِصُحُفٍ مِمَّا نَسَخُوا) قَالَ السَّخَاوِيُّ: سَيَّرَ مِنْهَا مُصْحَفًا إِلَى الْكُوفَةَ، وَمُصْحَفًا إِلَى الْبَصْرَةَ، وَمُصْحَفًا إِلَى الشَّامِ، وَأَبْقَى فِي الْمَدِينَةِ مُصْحَفًا، ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه سَيَّرَ أَيْضًا إِلَى الْبَحْرِينِ مُصْحَفًا، وَإِلَى مَكَّةَ مُصْحَفًا، وَإِلَى الْيَمَنِ مُصْحَفًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ سَبْعَةُ مَصَاحِفَ، وَالرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ تَخْتَلِفُ، فَقِيلَ: أَنَّهُ كَتَبَ خَمْسَ نُسَخٍ، الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ وَمُصْحَفُ مَكَّةَ، وَأَمَّا مُصْحَفُ الْبَحْرِينِ، وَمُصْحَفُ الْيَمَنِ فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمَا خَبَرٌ، قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ مِنَ الْمَصَاحِفِ كُتِبَتْ أَوَّلًا عَلَى أَيْدِي الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْكِتَابِ فَأَرْسَلَ الثَّلَاثَةَ إِلَى الْبُلْدَانِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرَكَ وَاحِدًا فِي الْمَدِينَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الَّذِي كَتَبَهُ زَيْدٌ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَجَلِّ كَتَبَةِ الْوَحْيِ، فَخَطُّهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ أَصْلًا مَحْفُوظًا فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ اسْتَكْتَبَهَا عُثْمَانُ رضي الله عنه مَصَاحِفَ أُخَرَ فَأَرْسَلَ إِلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ، حَتَّى قِيلَ: أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى كُلِّ جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ مُصْحَفًا (وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ) أَيْ: الْمَنْسُوخُ (فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ، أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، مِنَ الْإِحْرَاقِ، قَدْ يُرْوَى بِالْمُعْجَمَةِ، أَيْ: يَنْقَضُّ وَيُقْطَعُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ أَنْ يُخْرَقَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَلِلْمَرْوَزِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ، وَرَوَاهُ الْأَصِيلِيُّ بِالْوَجْهَيْنِ، وَفَّى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُهْمِلَةِ، قَالَ السَّخَاوِيُّ: فَلَمَّا فَرَغَ عُثْمَانُ مِنْ أَمْرِ الْمَصَاحِفِ حَرَقَ مَا سِوَاهَا، وَرَدَّ تِلْكَ الصُّحُفَ الْأُولَى إِلَى حَفْصَةَ فَكَانَتْ عِنْدَهَا، فَلَمَّا وَلِيَ مَرْوَانُ الْمَدِينَةَ طَلَبَهَا لِيَحْرِقَهَا فَلَمْ تُجِبْهُ حَفْصَةُ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ تَبْعَثْ بِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَتْ حَضَرَ مَرْوَانُ فِي جِنَازَتِهَا وَطَلَبَ الصُّحُفَ مِنْ أَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهَا، فَسَيَّرَهَا إِلَيْهِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ فَحَرَقَهَا خَشْيَةَ أَنْ تَظْهَرَ فَيَعُودُ النَّاسُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَرَقِ الْمُصْحَفِ الْبَالِي إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَفْعٌ أَنَّ الْأَوْلَى هُوَ الْغَسْلُ، أَوِ الْإِحْرَاقُ؟ فَقِيلَ: الثَّانِي لِأَنَّهُ يَدْفَعُ سَائِرَ صُوَرِ الِامْتِهَانِ، بِخِلَافِ الْغَسْلِ فَإِنَّهُ تُدَاسُ غُسَالَتَهُ، وَقِيلَ الْغَسْلُ وَتُصَبُّ الْغُسَالَةُ فِي مَحَلٍّ طَاهِرٍ لِأَنَّ الْحَرْقَ فِيهِ نَوْعُ إِهَانَةٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِعْلُ عُثْمَانُ يُرَجِّحُ الْإِحْرَاقَ، وَحَرْقُهُ بِقَصْدِ صِيَانَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا امْتِهَانَ فِيهِ بِوَجْهٍ، وَمَا وَقَعَ لِأَئِمَّتِنَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ حُرْمَةِ الْحَرْقِ يُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ فِيهِ إِضَاعَةُ مَالٍ بِأَنْ كَانَ الْمَكْتُوبُ فِيهِ لَهُ قِيمَةٌ يُذْهِبُهَا الْحَرْقُ، قُلْتُ: هَذَا تَأْوِيلٌ غَرِيبٌ وَتَفْرِيعٌ عَجِيبٌ فَإِنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ وَالْقِيَاسُ عَلَى فِعْلِ عُثْمَانَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ صَنِيعَهُ كَانَ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِمَّا اخْتَلَطَ بِهِ اخْتِلَاطًا لَا يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْإِحْرَاقَ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الشَّكَّ فِي كَوْنِهِ تَرَكَ بَعْضَ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَمْ يُجَوِّزْ مُسْلِمٌ أَنَّهُ يَحْرِقُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِحِفْظِ رَمَادِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي النَّجَاسَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الِاسْتِحَالَةِ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِيمَا هُوَ الثَّابِتُ قَطْعًا فَمَعَ وُجُودِ الْفَرْقِ وَحُصُولِ ظَاهِرِ الْإِهَانَةِ يَتَعَيَّنُ الْغَسْلُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَبَ مَاؤُهُ فَإِنَّهُ دَوَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَاقٍ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، فَمَا دَعْوَاكُمُ الِاتِّفَاقُ؟ قُلْتُ: الْقِرَآتُ الَّتِي نُعَوِّلُ عَلَيْهَا الْآنَ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْمَصَاحِفِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إِلَى شَكْلٍ أَوْ نَقْطٍ فَلَا يَخْرُجُ أَيْضًا عَنْهَا، لِأَنَّ خُطُوطَ الْمَصَاحِفِ كَانَتْ مُهْمَلَةً مُحْتَمِلَةً لِجَمِيعِ ذَلِكَ، كَمَا يُقْرَأُ فَصُرْهُنَّ: بِضَمِّ الصَّادِ وَكَسْرِهَا، وَكُلُّهُ لِلَّهِ: بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، وَيَضُرُّكُمْ وَبِضُرِّكُمْ، وَيَقُضُّ وَيَقُصُّ الْحَقَّ، وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ: فِي الرَّائِيَةِ الْمَعْمُولَةِ فِي رَسْمِ الْمَصَاحِف الْعُثْمَانِيَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: الْقُرْآنُ يُكْتَبُ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ لَا مُسْتَحْدَثًا مُسَطَّرًا، قَالَ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِي عُقَيْبَ قَوْلِ مَالِكٍ: وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) أَيِ الزُّهْرِيِّ (فَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً
مِنَ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا) أَيْ: أَنَا وَالْقُرَشِيُّونَ (الْمُصْحَفَ) أَيْ: الْمَصَاحِفُ (قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا، فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ) أَيْ: مَكْتُوبَةً لِمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو عِمَارَةَ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي صِفِّينَ، فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ جَرَّدَ سَيْفَهُ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] أَيْ: الْآيَةَ (فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ) فِيهِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْمُصْحَفِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، فَالصَّوَابُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُصْحَفِ الصُّحُفُ الْأُولَى الَّتِي كُتِبَتْ فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ بِالنُّونِ تَعْظِيمًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم جَمَعُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ أَنْ زَادُوا أَوْ نَقَصُوا مِنْهُ شَيْئًا بِاتِّفَاقٍ مِنْ جَمِيعِهِمْ خَوْفَ ذَهَابِ بَعْضِهِ بِذَهَابِ حَفَظَتَهُ، وَكَتَبُوهُ كَمَا جَمَعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُلَقِّنُ أَصْحَابَهُ وَيُعَلِّمُهُمْ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي هُوَ الْآنَ فِي مَصَاحِفِنَا بِتَوْقِيفٍ مِنْ جِبْرِيلَ عليه السلام إِيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِعْلَامِهِ عِنْدَ نُزُولِ كُلِّ آيَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُكْتَبُ عَقِبَ آيَةَ كَذَا فِي سُورَةِ كَذَا، رُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه.
2222 -
ــ
2222 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ) أَيْ: مَا الْبَاعِثُ وَالسَّبَبُ لَكُمْ (عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ، أَيْ: قَصَدْتُمْ (إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي) أَيْ: مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي، وَهِيَ السَّبْعُ الطُّوَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمَثَانِي مِنَ الْقُرْآنِ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنَ الْمَئِينَ، وَيُسَمَّى جَمِيعُ الْقُرْآنِ مَثَانِيَ ; لِاقْتِرَانِ آيَةِ الرَّحْمَةِ بِآيَةِ الْعَذَابِ، وَتُسَمَّى الْفَاتِحَةُ مَثَانِيَ أَيْ: لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ، أَوْ ثُنِّيَتْ فِي النُّزُولِ (وَإِلَى بَرَاءَةَ) أَيْ: سُورَتِهِمَا (وَهِيَ) لِكَوْنِهَا مِائَةً وَثَلَاثِينَ آيَةً (مِنَ الْمَئِينَ) جَمْعُ الْمِائَةِ، وَأَصْلُ الْمِائَةِ: مَائِيٌّ كَمَعِيٍّ، وَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ، وَإِذَا جَمَعْتَ الْمِائَةَ قُلْتَ: مِئُونَ، وَلَوْ قُلْتَ مِئَاتٍ جَازَ (فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟) وَفَى نُسْخَةٍ عَلَى ذَلِكُمْ، وَهُوَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَوْجِيهُ السُّؤَالِ: إِنَّ الْأَنْفَالَ لَيْسَ مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ لِقَصَرِهَا عَنِ الْمَئِينَ؛ لِأَنَّهَا سَبْعٌ وَسَبْعُونَ آيَةً، وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا لِعَدَمِ الْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَرَاءَةَ (قَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ) أَيِ: الزَّمَانُ الطَّوِيلُ وَلَا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَرُبَّمَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ (وَهُوَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (تَنْزِلُ) بِالتَّأْنِيثِ مَعْلُومًا، وَبِالتَّذْكِيرِ مَجْهُولًا (عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْقَصَصِ (دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ) أَيِ: الْوَحْيَ، كَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَغَيْرِهِمَا (فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) كَقِصَّةِ هُودٍ، وَحِكَايَةِ يُونُسَ (فَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ: صُفُّوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا) كَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ، وَهَذَا زِيَادَةُ جَوَابٍ تَبَرَّعَ بِهِ رضي الله عنه لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْآيَاتِ تَوْقِيفِيٌّ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَالنُّصُوصُ الْمُتَرَادِفَةُ، وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا فِي الْإِتْقَانِ (وَكَانَ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَتْ) وَفَى نُسْخَةٍ نَزَلَ (بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا) أَيْ: فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ أَيْضًا وَبَيْنَهُمَا النِّسْبَةُ التَّرْتِيبِيَّةُ بِالْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ، فَهَذَا أَحَدُ وُجُوهِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ
فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، وَكَانَ هَذَا مُسْتَنَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ دَوْقٍ، وَأَبُو يَعْلَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ وَابْنِ لَهِيعَةَ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ بَرَاءَةَ مِنَ الْأَنْفَالِ، وَلِهَذَا لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ اشْتِبَاهِ طُرُقِهِمَا، وَرُدَّ بِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَاسِمٍ مُسْتَقِلٍّ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَنْزِلْ بِهَا فِيهَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تُكْتَبِ الْبَسْمَلَةُ فِي بَرَاءَةَ ; لِأَنَّهَا أَمَانٌ، وَبَرَاءَةُ نَزَلَتْ بِالسَّيْفِ، وَعَنْ مَالِكٍ: أَنَّ أَوَّلَهَا لَمَّا سَقَطَ سَقَطَتْ مَعَهُ الْبَسْمَلَةُ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ لِطُولِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا ثَابِتَةٌ، أَوَّلُهَا فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى ذَلِكَ (وَكَانَتْ قِصَّتُهَا) أَيِ: الْأَنْفَالِ (شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا) أَيْ: بَرَاءَةَ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ، وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ مَعْنَوِيٌّ، وَلَعَلَّ الْمُشَابَهَةَ فِي قَضِيَّةِ الْمُقَاتَلَةِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 14] وَنَحْوِهِ، وَفِي نَبْذِ الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ فِي الْأَنْفَالِ: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ لِأَنَّ الْأَنْفَالَ بَيَّنَتْ مَا وَقَعَ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَبَرَاءَةُ بَيَّنَتْ مَا وَقَعَ لَهُ مَعَ مُنَافِقِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِمَّا ظَهَرَ لِي فِي أَمْرِ الِاقْتِرَانِ بَيْنَهُمَا (فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا) أَيِ: التَّوْبَةُ (مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْأَنْفَالِ، أَوْ لَيْسَتْ مِنْهَا (فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أَيْ: لِمَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ تَبْيِينِهِ وُجُوهَ مَا ظَهَرَ لَنَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا (قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ سَطْرَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَيْ: لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا سُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ ; لِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لِلْفَصْلِ وَلَمْ تَنْزِلْ، وَلَمْ أَكْتُبْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنَ الْحِكْمَةِ فِي عَدَمِ نُزُولِ الْبَسْمَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ عَلِيًّا رضي الله عنه لِمَ لَمْ تَكْتُبْ؟ قَالَ: لِأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ أَمَانٌ وَلَيْسَ فِيهَا أَمَانٌ أُنْزِلَتْ بِالسَّيْفِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَكْتُبُهَا أَوَّلَ مُرَاسَلَاتِهِمْ فِي الصُّلْحِ وَالْأَمَانِ وَالْهُدْنَةِ، فَإِذَا نَبَذُوا الْعَهْدَ وَنَقَضُوا الْأَمَانَ لَمْ يَكْتُبُوهَا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ فَصَارَتْ عَلَامَةُ الْأَمَانِ وَعَدَمُهَا عَلَّامَةَ نَقْضِهِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَمَانٌ: وَقَوْلُهُمْ: آيَةُ رَحْمَةٍ، وَعَدَمُهَا عَذَابٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْجَعْبَرِيُّ (وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُمَا نُزِّلَتَا مَنْزِلَةَ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُمِّلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ بِهَا، ثُمَّ قِيلَ السَّبْعُ الطُّوَلُ هِيَ: الْبَقَرَةُ وَبَرَاءَةُ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ ; لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا الْبَقَرَةُ وَالْأَعْرَافُ وَمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ الرَّاوِي: وَذَكَرَ السَّابِعَةَ فَنَسِيتُهَا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْفَاتِحَةَ فَإِنَّهَا مِنَ السَّبْعِ الْمَثَانِي، أَوْ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَنَزَلَتْ سَبْعَتُهَا مَنْزِلَةَ الْمَئِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْأَنْفَالُ بِانْفِرَادِهَا أَوْ بِانْضِمَامِ مَا بَعْدَهَا إِلَيْهَا، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا يُونُسُ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْأَنْفَالَ وَمَا بَعْدَهَا مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِهَا مِنَ الْمَثَانِي، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُورَةٌ، أَوْ هُمَا سُورَةٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لَا تَقُولُوا فِي عُثْمَانَ إِلَّا خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا، قَالَ: أَيْ عُثْمَانُ: فَمَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ، وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا؟ قُلْتُ: فَمَا تَرَى، قَالَ: أَرَى أَنْ يُجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا يَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، قُلْنَا: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: الْفَرْقُ بَيْنَ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ وَجَمْعِ عُثْمَانَ أَنَّ جَمْعَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يَذْهَبَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لِذَهَابِ حَمَلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَجْمُوعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَجَمْعُهُ فِي صَحَائِفِهِ مُرَتَّبًا لِآيَاتِ سُوَرِهِ عَلَى مَا وَقَّفَهُمْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَجَمْعُ عُثْمَانَ كَانَ لَمَّا كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِي وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ حِينَ قَرَءُوا بِلُغَاتِهِمْ عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَاتِ ; فَأَدَّى ذَلِكَ بَعْضَهُمْ إِلَى تَخْطِئَةِ بَعْضٍ ; فَخَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ