الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2096 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي كُبْكُبَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُصَلُّونَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ قَائِمٍ أَوْ قَاعِدٍ يَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدِهِمْ - يَعْنِي يَوْمَ فِطْرِهِمْ - بَاهَى بِهِمْ مَلَائِكَتَهُ، فَقَالَ: يَا مَلَائِكَتِي مَا جَزَاءُ أَجِيرٍ وَفَّى عَمَلَهُ؟ قَالُوا: رَبَّنَا جَزَاؤُهُ أَنْ يُوَفَّى أَجْرَهُ، قَالَ: مَلَائِكَتِي، عَبِيدِي وَإِمَائِي قَضَوْا فَرِيضَتِي عَلَيْهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا يَعُجُّونَ إِلَى الدُّعَاءِ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكَرَمِي وَعُلُوِّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَأُجِيبَنَّهُمْ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَبَدَّلْتُ سَيِّئَاتِكُمْ حَسَنَاتٍ "، قَالَ:" فَيَرْجِعُونَ مَغْفُورًا لَهُمْ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2096 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام فِي كُبْكُبَةٍ ") بِضَمَّتَيْنِ، وَقِيلَ: بِفَتْحَتَيْنِ جَمَاعَةٌ مُتَضَامَّةٌ مِنَ النَّاسِ، وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ " مِنَ الْمَلَائِكَةِ " فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4] وَإِيمَاءٌ إِلَى تَفْسِيرِ الرُّوحِ بِجِبْرِيلَ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْمُشْعِرِ بِتَعْظِيمِهِ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ تَقْدِيمِهِ فِي الْحَدِيثِ وَتَأْخِيرِهِ فِي الْآيَةِ " يُصَلُّونَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ "، أَيْ يَدْعُونَ لِكُلِّ عَبْدٍ بِالْمَغْفِرَةِ، أَوْ يُثْنُونَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ " قَائِمٍ " كَمُصَلٍّ وَطَائِفٍ وَغَيْرِهِمَا " أَوْ قَاعِدٍ يَذْكُرُ اللَّهَ عز وجل " صِفَةً لِكُلٍّ " فَإِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدِهِمْ "، أَيْ وَقْتَ اجْتِمَاعِ أَسْيَادِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ " يَعْنِي يَوْمَ فِطْرِهِمْ " احْتِرَازًا مِنْ عِيدِ الْأَضْحَى " بَاهَى "، أَيِ اللَّهُ - تَعَالَى - " بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ " فِي النِّهَايَةِ: الْمُبَاهَاةُ الْمُفَاخَرَةُ، وَالسَّبَبُ فِيهَا اخْتِصَاصُ الْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ الصَّوْمُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ وَإِحْيَاؤُهُ بِالذِّكْرِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ غِبْطَةُ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُبَاهَاةَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي بَنِي آدَمَ فَيَكُونُ بَيَانًا لِإِظْهَارِ قُدْرَتِهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ " فَقَالَ: يَا مَلَائِكَتِي " إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ " مَا جَزَاءُ أَجِيرٍ وَفَّى " بِالتَّشْدِيدِ وَتُخَفَّفُ " عَمَلَهُ، قَالُوا: رَبَّنَا " بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ (جَزَاؤُهُ أَنْ يُوَفَّى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا وَمُخَفَّفًا (أَجْرَهُ) ، أَيْ أَجْرَ عَمَلِهِ بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ: تُوَفِّي بِالْخِطَابِ " قَالَ: مَلَائِكَتِي " بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ " عَبِيدِي وَإِمَائِي " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ أَمَةٍ بِمَعْنَى الْجَارِيَةِ " قَضَوْا "، أَيْ أَدَّوْا " فَرِيضَتِي "، أَيِ الْمُخْتَصَّةَ الْمَخْصُوصَةَ بِي وَهِيَ الصَّوْمُ الشَّاقُّ " عَلَيْهِمْ ثُمَّ خَرَجُوا "، أَيْ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِلَى مُصَلَّى عِيدِهِمْ " يَعُجُّوُنَ " بِضَمِّ الْعَيْنِ وَيُكْسَرُ، وَبِالْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ " إِلَى الدُّعَاءِ " أَوْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ مُتَوَجِّهِينَ أَوْ مُنْتَهِينَ إِلَى الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ لِذُنُوبِهِمْ " وَعِزَّتِي "، أَيْ ذَاتًا " وَجَلَالِي " صِفَةً " وَكَرَمِي " فِعْلًا " وَعُلُوِّي " فِي الْجَمِيعِ " وَارْتِفَاعِ مَكَانِي "، أَيْ مَكَانَتِي وَرُتْبَتِي مِنْ قُدْرَتِي وَإِرَادَتِي عَنْ شَوَائِبِ النُّقْصَانِ وَحَوَادِثِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَهُوَ تَسْبِيحٌ بَعْدَ تَحْمِيدٍ، وَتَقْدِيسٌ بَعْدَ تَمْجِيدٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ارْتِفَاعُ الْمَكَانِ كِنَايَةٌ عَنْ عَظَمَةِ شَأْنِهِ، وَعُلُوِّ سُلْطَانِهِ، وَإِلَّا فَاللَّهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَمَا يُنْسَبُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ اهـ فَجَعَلَهُ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا، وَأَنْتَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ مَا أَلْقَيْتُ إِلَيْكَ أَقْرَبُ إِلَى التَّسْدِيدِ فَإِنَّ التَّأْسِيسَ أَنْسَبُ مِنَ الْعُلُوِّ بِالتَّأْكِيدِ " لَأُجِيبَنَّهُمْ "، أَيْ لَأَقْبَلَنَّ دَعْوَتَهُمْ " فَيَقُولُ "، أَيِ اللَّهُ - تَعَالَى - حِينَئِذٍ " ارْجِعُوا "، أَيْ مِنْ مُصَلَّاكُمْ إِلَى مَسَاكِنِكُمْ أَوْ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّكُمْ " فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ "، أَيِ التَّقْصِيرَاتِ " وَبَدَّلْتُ سَيِّئَاتِكُمْ حَسَنَاتٍ " بِأَنْ يَكْتُبَ بَدَلَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فِي صَحَائِفِ الْأَعْمَالِ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُمَّ الصَّائِمِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ لِلْعَاصِينَ، وَالتَّبْدِيلُ لِلْمُطِيعِينَ التَّائِبِينَ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وَلِذَا كَانَتْ تَقُولُ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ: تَاجُ الرِّجَالِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصُّلَحَاءِ، وَإِبْدَالُ حَسَنَاتِي أَكْثَرُ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ، إِشْعَارًا إِلَى كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنْهَا مِنَ الذُّنُوبِ، قَبْلَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى السُّلُوكِ وَتَتُوبَ " قَالَ "، أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " فَيَرْجِعُونَ، أَيْ جَمِيعُهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ " مَغْفُورًا لَهُمْ " وَفِيهِ إِشَارَةٌ جَسِيمَةٌ وَبِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إِلَى رَجَاءِ أَنْ يَغْفِرَ مُسِيئَهُمْ وَيَقْبَلَ مُحْسِنَهُمْ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكُلَّ مُحْتَاجٌ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَمُفْتَقِرٌ إِلَى تَوْبَتِهِ وَأَوْبَتِهِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
[بَابُ الِاعْتِكَافِ]
بَابُ الِاعْتِكَافِ
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2097 -
عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
(بَابُ الِاعْتِكَافِ)
هُوَ فِي اللُّغَةِ الْإِقَامَةُ عَلَى الشَّيْءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَقَوْلُهُ عز وجل {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125] وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ - " يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ " بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِهَا، وَفِي الشَّرْعِ: الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَصِحُ الِاعْتِكَافُ سَاعَةً وَاحِدَةً، فَيَنْبَغِي لِكُلِّ جَالِسٍ فِي الْمَسْجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أَوْ لِشُغْلٍ آخَرَ مِنْ آخِرَةٍ أَوْ دُنْيَا أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ، فَإِذَا خَرَجَ ثُمَّ دَخَلَ يُجَدِّدُ النِّيَّةَ اهـ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِكَافِ النَّفْلِ، فَيَنْبَغِي إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ: نَوَيْتُ الِاعْتِكَافَ مَا دُمْتُ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ الْقُدُورِيُّ: الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْحَقُّ خِلَافُ كُلٍّ مِنَ الْإِطْلَاقَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الِاعْتِكَافُ يَنْقَسِمُ إِلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْمَنْذُورُ تَنْجِيزًا، أَوْ تَعْلِيقًا، وَإِلَى سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ، أَيْ وَهُوَ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَى مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ مَا سِوَاهُمَا.
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2097 -
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ» ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذِهِ الْمُوَاظَبَةُ الْمَقْرُونَةُ بِعَدَمِ التَّرْكِ مَرَّةً لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَتْ دَلِيلَ السُّنِّيَّةِ، وَإِلَّا كَانَتْ دَلِيلَ الْوُجُوبِ، أَوْ نَقُولُ اللَّفْظُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّرْكِ ظَاهِرًا لَكِنْ وَجَدْنَا صَرِيحًا يَدُلُّ عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:«كَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدْوَةَ جَاءَ إِلَى مَكَانِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا، فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَدْوَةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ، فَقَالَ: " مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزَعُوهَا "، فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي أَحَدِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالَ» ، وَتَقَدَّمَ اعْتِكَافُهُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاسِطِ (ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ) ، أَيْ فِي بُيُوتِهِنَّ لِمَا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ رِضَائِهِ لِفِعْلِهِنَّ، وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَعْتَكِفْنَ فِي مَكَانِهِنَّ (مِنْ بَعْدِهِ) ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ إِحْيَاءً لِسُنَّتِهِ، وَإِبْقَاءً لِطَرِيقَتِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2098 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، كَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2098 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ) ، أَيْ دَائِمًا (بِالْخَيْرِ) اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ (وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ) بِرَفْعِ أَجْوَدَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، قَالَ الْمُظْهِرُ: مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَهُوَ جَمْعٌ، لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى جَمْعٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَانَ أَجْوَدَ أَوْقَاتِهِ وَقْتَ كَوْنِهِ (فِي رَمَضَانَ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْوَدُ مُبْتَدَأٌ وَفِي رَمَضَانَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَوْ يَكُونُ أَجْوَدُ اسْمَ كَانَ، وَفِي رَمَضَانَ حَالًا، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ حَاصِلًا، وَإِلَّا يَلْزَمُ وُقُوعُ الْمَصْدَرِ تَقْدِيرًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ (أَمَّا) مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْوَقْتُ مُقَدَّرٌ كَمَا فِي مَقْدِمِ الْحَاجِّ، وَالتَّقْدِيرُ: كَانَ أَجْوَدُ أَوْقَاتِهِ وَقْتَ كَوْنِهِ فِي رَمَضَانَ، فَإِسْنَادُ الْجُودِ إِلَى أَوْقَاتِهِ صلى الله عليه وسلم كَإِسْنَادِ الصَّوْمِ إِلَى النَّهَارِ، وَالْقِيَامِ إِلَى اللَّيْلِ (كَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ) ، أَيْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ (كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ يَعْرِضُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ يَقْرَأُ (عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ) قِيلَ: كَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ عَلَى جِبْرِيلَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، بِتَجْوِيدِ اللَّفْظِ وَتَصْحِيحِ إِخْرَاجِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا، لِيَكُونَ سُنَّةً فِي الْأُمَّةِ، فَيَعْرِضُ التَّلَامِذَةُ قِرَاءَتَهُمْ عَلَى الشُّيُوخِ اهـ وَهُوَ أَحَدُ
طَرِيقَيِ الْأَخْذِ، وَالْآخَرُ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الشَّيْخِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ عَلَى جِهَةِ الْمُدَارَسَةِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ تَقْرَأَ عَلَى غَيْرِكَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا، ثُمَّ يَقْرَؤُهُ عَلَيْكَ، أَوْ يَقْرَأُ قَدْرَهُ مِمَّا بَعْدَهُ، وَهَكَذَا اهـ فَيَتَحَصَّلُ الطَّرِيقَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ)، أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الَّتِي أُرْسِلَتْ بِالْبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِشُمُولِ رُوحِهَا وَعُمُومِ نَفْعِهَا، قَالَ - تَعَالَى - {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] فَأَحَدُ الْوُجُوهِ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الرِّيَاحَ الْمُرْسَلَاتِ لِلْإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ، وَيَكُونُ انْتِصَابُ عُرْفًا بِالْمَفْعُولِ لَهُ، يَعْنِي هُوَ أَجْوَدُ مِنْ تِلْكَ الرِّيحِ فِي عُمُومِ النَّفْعِ وَالْإِسْرَاعِ فِيهِ، فَالْجِهَةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا إِمَّا الْأَمْرَانِ، وَإِمَّا أَحَدُهُمَا، وَلَفْظُ الْخَيْرِ شَامِلٌ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا جَاءَتِ النَّاسُ بِهِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَجُودُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمَا يَسُدُّ خَلَّتَهُ وَيَشْفِي عِلَّتَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شُبِّهَ نَشْرُ جُودِهِ بِالْخَيْرِ فِي الْعِبَادِ بِنَشْرِ الرِّيحِ الْقَطْرَ فِي الْبِلَادِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْأَثَرَيْنِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يُحْيِيِ الْقُلُوبَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَالْآخَرَ يُحْيِيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فُضِّلَ جُودُهُ عَلَى جُودِ النَّاسِ، ثُمَّ فُضِّلَ جُودُهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى جُودِهِ فِي غَيْرِهِ، ثُمَّ فُضِّلَ جُودُهُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَعِنْدَ لِقَاءِ جِبْرِيلَ عَلَى جُودِهِ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ رَمَضَانَ، ثُمَّ شُبِّهَ بِالرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ فِي التَّعْمِيمِ وَالسُّرْعَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ الْوَقْتَ إِذَا كَانَ أَشْرَفَ يَكُونُ الْجُودُ فِيهِ أَفْضَلُ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ كَانَ أَجْوَدُ أَكْوَانِهِ حَاصِلًا فِي رَمَضَانَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَطْبُوعًا عَلَى الْجُودِ مُسْتَغْنِيًا بِالْبَاقِيَاتِ عَنِ الْفَانِيَاتِ، إِذْ لَوْ وَجَدَ جَادَ وَعَادَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ وَعَدَ وَلَمْ يُخْلِفِ الْمِيعَادَ وَكَانَ رَمَضَانُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ مَوْسِمُ الْخَيْرَاتِ، وَلِأَنَّهُ - تَعَالَى - يَتَفَضَّلُ فِيهِ عَلَى عِبَادِهِ مَا لَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِهِ، فَأَرَادَ مُتَابَعَةَ سُنَّةِ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يُصَادِفُ الْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ بِمُلَاقَاةِ أَمِينِ الْوَحْيِ، وَتَتَابُعِ أَمْدَادِ الْكَرَامَةِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ وَبَيَاضِ النَّهَارِ، فَيَجِدُ فِي مَقَامِ الْبَسْطِ حَلَاوَةَ الْوَجْدِ، وَبَشَاشَةَ الْوِجْدَانِ، فَيُنْعِمُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ شُكْرًا لِنِعَمِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْجَزَرِيَّ قَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قُلْتُ: وَلَعَلَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ بِمَعْنَاهُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قُلْتَ مَا وَجْهُ مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ لِهَذَا الْبَابِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ غَايَةَ الْأَجْوَدِيَّةِ فِيهِ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ أَفْضَلَ أَوْقَاتِ مُدَارَسَةِ جِبْرِيلَ لَهُ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ فِي مُعْتَكَفٍ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الْمُصَنِّفُ وَأَصْلُهُ يَقُولَانِ بِتَأْكِيدِ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ لِأَنَّ لَهُ غَايَاتٍ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ غَايَةَ جُودِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَتْ تَحْصُلُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ؟ وَأَبْدَى شَارِحٌ لِذَلِكَ مُنَاسَبَةً بَعِيدَةً جِدًّا فَقَالَ: قُلْتُ: مِنْ حَيْثُ إِتْيَانِ أَفْضَلِ مَلَائِكَةٍ إِلَى أَفْضَلِ خَلِيقَةٍ بِأَفْضَلِ كَلَامٍ مِنْ أَفْضَلِ مُتَكَلِّمٍ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتٍ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ بِقَاعٍ اهـ وَهُوَ كَذَا فِي أَصْلِ الشَّيْخِ، وَالصَّوَابُ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتٍ، أَقُولُ: الصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، فَتَأَمَّلْ! ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ: وَقَوْلُهُ مِنْ أَفْضَلِ مُتَكَلِّمٍ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ خَطَأٌ قَبِيحٌ إِذْ لَا يُوصَفُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ أَفْضَلُ، فَكَيْفَ مِنْ أَفْضَلِ؟ قُلْتُ: عَدَمُ جَوَازِ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مُتَكَلِّمٍ إِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ التَّوْقِيفِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ جَوَّزَ مِثْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ الطَّعْنُ فِيهِ حِينَئِذٍ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ، وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، لَا سِيَّمَا وَمَقَامُ الْمُشَاكَلَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ لِتَحْسِينِ الْعِبَارَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَكَيْفَ مِنْ أَفْضَلِ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ نَشَأَ مِنْ غَفْلَةٍ يَظُنُّ أَنَّ مِنْ هِيَ التَّبْعِيضِيَّةُ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِتْيَانٍ، وَالْمَعْنَى مِنْ عِنْدِ أَفْضَلِ مُتَكَلِّمٍ، فَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِأَخِيهِ وَقَعَ فِيهِ.
2099 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ، وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2099 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يُعْرَضُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هُوَ فِعْلٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ جِبْرِيلُ كَانَ يَعْرِضُ (عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً) ، أَيْ مِنَ الْخَتْمِ (فَعُرِضَ) ، أَيِ الْقُرْآنُ (عَلَيْهِ) ، أَيْ عَلَى النَّبِيِّ (مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ) ، أَيْ تُوُفِّيَ فِيهِ، وَفِيهِ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ الْحَدِيثِ فِي أُصُولِنَا، ثُمَّ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْحَدِيثِ قَالَ مِيرَكُ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الَّذِي تَوَفَّاهُ اللَّهُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي عَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقِيلَ: يُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْقَلْبِ لِيُوَافِقَ هَذَا الْمَرْوِيُّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ اهـ وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ كَانَتِ الْقِرَاءَةُ مُعَارَضَةً وَمُدَارَسَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمَرَّةً هَذَا يَقْرَأُ وَمَرَّةً هَذَا يَقْرَأُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ
جِبْرِيلَ كَانَ يَقْرَأُ أَوَّلًا بَعْضًا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ صلى الله عليه وسلم احْتِيَاطًا لِلْحِفْظِ، وَاعْتِمَادًا لِلضَّبْطِ، وَثَانِيهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْرَأُ عَشْرًا مَثَلًا وَالْآخَرُ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُدَارَسَةُ الْمُتَعَارَفَةُ بَيْنَ الْقُرَّاءِ، وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي النِّهَايَةِ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ، أَيْ يُدَارِسُهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الْمُقَابَلَةِ وَمِنْهُ عَارَضْتُ الْكِتَابَ بِالْكِتَابِ، أَيْ قَابَلْتُهُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَكَانَ) ، أَيْ غَالِبًا (يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا) ، أَيْ مِنْ آخِرِ رَمَضَانَ (فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ (فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ) ، أَيْ تُوُفِّيَ فِيهِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّضْعِيفِ فِي الْعَامِ الْآخِرِ مِنَ الْعَرْضِ وَالِاعْتِكَافِ إِعْلَامُهُ بِقُرْبِ وَفَاتِهِ، وَتَنْبِيهٌ لِأُمَّتِهِ أَنْ يَتَأَكَّدَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ فِي أَوَاخِرِ حَيَاتِهِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ تَعَالَى، وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ كُلُّ خَتْمٍ فِي عَشْرٍ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَدْ جَعَلَ الْمُؤَلِّفُ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ حَدِيثًا وَاحِدًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا حَدِيثَانِ، الْأَوَّلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ قَالَهُ الْجَزَرِيُّ.
2100 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ أَدْنَى إِلَيَّ رَأَسَهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ،» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2100 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ أَدْنَى)، أَيْ قَرَّبَ (إِلَيَّ رَأْسَهُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى حُجْرَتِي (وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ (فَأُرَجِّلُهُ) التَّرْجِيلُ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْمُشْطِ فِي الرَّأْسِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَوْ أَخْرَجَ بَعْضَ أَجْزَائِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَعَلَى أَنَّ التَّرْجِيلَ مُبَاحٌ لِلْمُعْتَكِفِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنْ غَسَلَهُ فِي إِنَاءٍ فِي الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ لَا يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ لَا بَأْسَ بِهِ (وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ) ، أَيْ بَيْتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ (إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) ، أَيْ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيسْ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا يُضْطَرُّ إِلَيْهِ، كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، أَقُولُ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، إِذْ يُتَصَوَّرُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الْمَسْجِدِ بِخِلَافِهِمَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَدَفْعِ الْأَخْبَثَيْنِ اهـ وَهُوَ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْوَاقِعِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافُ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ ابْنُ الْخَطَّابِيِّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ، وَعَلَى مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فِيهِ فَقَطْ لَا يَحْنَثُ، وَعَلَى أَنَّ بَدَنَ الْحَائِضِ طَاهِرٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَعَلَّهُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ حَائِضًا، وَمَعَ هَذَا لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، نَعَمْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُنَاوِلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الْخُمْرَةُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، وَهِيَ حَائِضٌ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْخُمْرَةُ شَيْءٌ مَنْسُوجٌ يُعْمَلُ مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ، وَتُزْمَلُ بِالْخُيُوطِ، وَهُوَ صَغِيرٌ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، فَإِنْ عَظُمَ كَفَى الرَّجُلَ لِجَسَدِهِ كُلِّهِ، فَهُوَ حَصِيرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَتَيْتُ بِخُمْرَةٍ، أَيْ سُتْرَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَاهُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْهَا.
2101 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: " فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2101 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) ، أَيْ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ قَبْلَ بِعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا مَا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ نَذْرَ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ لِشِدَّةِ شَوْكَةِ قُرَيْشٍ وَمَنْعِهِمْ مِنْهُ (أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً) ، أَيْ بِيَوْمِهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَالَ: " فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ ") وَفِي رِوَايَةٍ: وَصُمْ، وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ إِنْ كَانَ نَذْرُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ فِي عُمْرِهِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ حَنِثَ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِذَا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَخْرُجُ عَنْ نَذْرِهِ بِالِاعْتِكَافِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ اهـ وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الصَّوْمِ فَقَالَ الشُّمُنِّيُّ: أَمَّا اعْتِكَافُ عُمَرَ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ: «أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " اعْتَكِفْ وَصُمْ» "، وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَصُومَ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا: عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا، فَقَالَ: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ "، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ اللَّيْلَةُ مَعَ يَوْمِهَا، أَوِ الْيَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ فَيَجِبُ قَبُولُهَا اهـ مُخْتَصَرًا، وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِاعْتِكَافِ لَيْلَةٍ أَوْضَحُ تَصْرِيحٍ بِأَنَّهُ
(لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ صَوْمٌ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ بَلْ قِيلَ: إِنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنِ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ، وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا رَوَدَ: لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صَوْمٌ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ فَأَوْفِ، أَيْ نَدْبًا لَا وُجُوبًا لِاسْتِلْزَامِهِ الصِّحَّةَ، وَنَذْرُ الْكَافِرِ لَا يَصِحُّ، وَأَمَّا قَوْلُ شَارِحٍ تَقْلِيدًا لِلْكِرْمَانِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ نَذْرَ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عُمِلَ بِهِ، وَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ الْكَافِرَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَيَصِحُّ ظِهَارُهُ وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ اهـ فَهُوَ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِهِمَا بِالنِّسْبَةِ لِمَسْأَلَةِ النَّذْرِ وَغَيْرُ صَحِيحٍ فِيمَا بَعْدَهَا لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا بِالْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ الضَّعِيفِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْأَخِيرَيْنِ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَصَحَّا مِنْهُ بِخِلَافِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2102 -
عَنْ أَنَسٍ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ،» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2102 -
(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا» ) لَعَلَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ (فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِقْبَالِ (اعْتَكَفَ عِشْرِينَ) بِالضَّبْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَفْسِيرٌ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُؤَقَّتَةَ تُقْضَى إِذَا فَاتَتْ كَمَا تُقْضَى الْفَرَائِضُ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ لِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْفَوَاتِ وَإِلَّا فَقَضَاءُ الْفَرَائِضِ فَرْضٌ، وَقَضَاءُ النَّوَافِلِ نَفْلٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) ، أَيْ عَنْ أَنَسٍ.
2103 -
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
ــ
2103 -
(وَرَوَاهُ أَبُو دُوَادَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) .
2104 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ فِي مُعْتَكَفِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2104 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ) ، أَيْ إِذَا نَوَى مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ أَنْ يَعْتَكِفَ وَبَاتَ فِي الْمَسْجِدِ (صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ فِي مُعْتَكَفِهِ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، أَيْ مَكَانِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: دَلَّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الِاعْتِكَافِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَمَا قَالَ بِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِنْ أَرَادَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ أَوْ عَشْرٍ، وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمُعْتَكَفَ وَانْقَطَعَ وَتَخَلَّى بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَتَخَلَّى عَنِ النَّاسِ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَتِرُ بِهِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ اتَّخَذَ فِي الْمَسْجِدِ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الِاعْتِكَافِ كَانَ فِي النَّهَارِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ أَيْضًا مُطَوَّلًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي الصِّحَاحِ، وَقَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَفَاتَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ، أَقُولُ: بَلْ وَقَعَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ حَيْثُ عَزَا الْحَدِيثَ إِلَيْهِمَا مَعَ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
2105 -
وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُ الْمَرِيضَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ فَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2105 -
(وَعَنْهَا)، أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) ، أَيْ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ (يَعُودُ الْمَرِيضَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ)، أَيْ وَالْمَرِيضُ خَارِجٌ عَنِ الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ (فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْكَافُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَمَا مَوْصُولَةٌ وَلَفْظُ هُوَ مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ صِلَةُ مَا، أَيْ يَمُرُّ مُرُورًا مِثْلَ الْهَيْئَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، فَلَا يَمِيلُ إِلَى الْجَوَانِبِ وَلَا يَقِفُ، وَقَوْلُهَا (فَلَا يُعَرِّجُ) ، أَيْ لَا يَمْكُثُ، بَيَانٌ لِلْمُجْمَلِ ; لِأَنَّ التَّعْرِيجَ الْإِقَامَةُ وَالْمَيْلُ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى جَانِبٍ، وَقَوْلُهَا (يَسْأَلُ عَنْهُ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَعُودُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِئْنَافِ، قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إِذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَاتَّفَقَ لَهُ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنِ الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَقِفْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلِ الِاعْتِكَافُ، وَإِلَّا بَطَلَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَكَأَنَّهُمْ قَاسُوهَا عَلَى الْعِيَادَةِ بِجَامِعِ أَنَّهُمَا فَرْضَا كِفَايَةٍ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ الْعِيَادَةَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ بِلَا وُقُوفٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَلِذَا يَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالصَّلَاةِ خِلَافًا لِصَاحِبِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَوُادَ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي سَنَدِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، رَوَى لَهُ الْأَرْبَعَةُ وَمُسْلِمٌ مَقْرُونًا، وَهُوَ ثِقَةٌ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِسُوءِ حِفْظِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ لَكِنَّ فِيهِ مَنِ اخْتَلَفُوا فِي تَوْثِيقِهِ، وَبِتَقْدِيرِ ضَعْفِهِ وَهُوَ مُنْجَبِرٌ بِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ:«إِنِّي كُنْتُ لَأَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَفِيهِ الْمَرِيضُ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ» .
2106 -
وَعَنْهَا قَالَتْ: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً وَلَا يَمَسُّ الْمَرْأَةَ وَلَا يُبَاشِرُهَا وَلَا يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2106 -
(وَعَنْهَا)، أَيْ عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتِ: السُّنَّةُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيِ الدِّينُ وَالشَّرْعُ اهـ وَالْأَظْهَرُ، أَيِ الطَّرِيقَةُ اللَّازِمَةُ (عَلَى الْمُعْتَكِفِ) وَلَفْظُ الشُّمُنِّيِّ: مَضَتِ السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ، أَيِ اعْتِكَافًا مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا (أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا) ، أَيْ بِالْقَصْدِ وَالْوُقُوفِ (وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً) ، أَيْ خَارِجَ مَسْجِدِهِ مُطْلَقًا (وَلَا يَمَسَّ الْمَرْأَةَ) ، أَيْ جِنْسَهَا بِشَهْوَةٍ (وَلَا يُبَاشِرَهَا) ، أَيْ لَا يُجَامِعُهَا وَلَوْ حُكْمًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْمُجَامَعَةُ وَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلِاعْتِكَافِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ قِيلَ: تُبْطِلُ، وَقِيلَ: لَا تُبْطِلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَقِيلَ: إِنْ أَنْزَلَ يَبْطُلُ وَإِلَّا فَلَا اهـ وَمَذْهَبُنَا التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ (وَلَا يَخْرُجُ لِحَاجَةٍ) ، أَيْ دُنْيَوِيَّةٍ وَأُخْرَوِيَّةٍ (إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ) ، أَيْ إِلَّا لِحَاجَةٍ لَا فِرَاقَ فِيهَا وَلَا مَحِيصَ مِنَ الْخُرُوجِ لَهَا، وَهُوَ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِعْلُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلِذَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْ لِأَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ وَالطَّهَارَةِ (وَلَا اعْتِكَافَ) قِيلَ: أَيْ لَا اعْتِكَافَ كَامِلًا أَوْ فَاضِلًا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَعِنْدَنَا، أَيْ لَا اعْتِكَافَ صَحِيحٌ (إِلَّا بِصَوْمٍ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ اهـ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَحَادِيثُ ذَكَرَهَا ابْنُ الْهُمَامِ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ» " وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ» ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَذَكَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ، قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ، قَالَ الشُّمُنِّيُّ: وَأَيْضًا لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ بِلَا صَوْمٍ، فَإِنْ قِيلَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ صَائِمًا أَوْ مُفْطِرًا اهـ وَالْعَشْرُ يُطْلَقُ عَلَى التِّسْعِ، كَمَا يُقَالُ: صَامَ عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ وَعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّهْرُ نَاقِصًا فَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ جُمْلَةِ الْعَشْرِ، وَيَحْرُمُ صَوْمُهُ ( «وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» )