المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب فضل الصدقة] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٤

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ تَحِلُّ لَهُ]

- ‌[بَابُ الْإِنْفَاقِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِمْسَاكِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ]

- ‌[باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم]

- ‌[بَابُ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[باب في توابع لصوم التطوع]

- ‌[بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ]

- ‌[كِتَابُ الدَّعَوَاتِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ]

- ‌[كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ]

- ‌[بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمَنَامِ]

- ‌[بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ]

الفصل: ‌[باب فضل الصدقة]

1887 -

وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «بَادِرُوا بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّاهَا» " رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

1887 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " بَادِرُوا ") أَيِ: الْمَوْتَ أَوِ الْمَرَضَ أَوْ غَيْرَكُمْ " بِالصَّدَقَةِ " أَيْ: بِإِعْطَائِهَا لِلْمُسْتَحِقَّةِ " فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّاهَا " أَيْ: لَا يَتَجَاوَزُهَا بَلْ يَقِفُ دُونَهَا أَوْ يَرْجِعُ عَنْهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالْمُبَادَرَةِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ، قِيلَ: جُعِلَتِ الصَّدَقَةُ وَالْبَلَاءُ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ فَأَيُّهُمَا سَبَقَ لَمْ يَلْحَقْهُ الْآخَرُ وَلَمْ يُخَطِّهِ، وَالتَّخَطِّي تَفَعُّلٌ مِنَ الْخَطْوِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا تَدْفَعُ الصَّدَقَةُ الْبَلَاءَ الْوَاقِعَ وَهُوَ خِلَافُ إِطْلَاقِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَدْفَعُ الْبَلَاءَ، وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنَّهُ جَعَلَ الصَّدَقَةَ سِتْرًا وَحِجَابًا بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَصَدِّقِ وَلَا يَتَخَطَّاهَا الْبَلَاءُ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

ص: 1333

[بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1888 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ - فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

(بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ)

هِيَ مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ صِدْقِ رَغْبَةِ صَاحِبِهَا فِي مَرَاتِبِ الْجَنَّاتِ أَوْ تَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ تَصْدِيقِ صَاحِبِهَا فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

1888 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ» ") بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُكْسَرُ أَيْ: بِمِثْلِهَا صُورَةً أَوْ قِيمَةً " مِنْ كَسْبٍ " أَيْ: صِنَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَلَوْ إِرْثًا وَهِبَةً " طَيِّبٍ " أَيْ: حَلَالٍ " «وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ» " جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَلَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَأَنَّ الْحَلَالَ الْمُكْتَسَبَ يَقَعُ بِمَحَلٍّ عَظِيمٍ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْعَارِفُ بِاللَّهِ الْوَلِيُّ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمُتَّقِي رحمه الله يَحْكِي أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّالِحِينَ كَانَ يَكْتَسِبُ وَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ وَيُنْفِقُ الثُّلُثَ وَيَصْرِفُ الثُّلُثَ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَجَاءَهُ أَحَدٌ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا وَقَالَ: يَا شَيْخُ أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ فَدُلَّنِي عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَقَالَ: حَصِّلِ الْمَالَ مِنَ الْحَلَالِ ثُمَّ أَنْفِقْ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي يَدِ الْمُسْتَحِقِّ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْغَنِيُّ فَقَالَ: اخْرُجْ فَإِذَا لَقِيتَ أَحَدًا حَنَّ عَلَيْهِ قَلْبُكَ فَأَعْطِهِ، فَخَرَجَ فَرَأَى شَيْخًا كَبِيرًا أَعْمَى فَقِيرًا فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ مَرَّ عَلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ فَسَمِعَ أَنَّ الْأَعْمَى يَحْكِي إِلَى مَنْ بِجَنْبِهِ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى شَخْصٍ بِالْأَمْسِ فَأَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا، فَانْبَسَطْتُ وَصَرَفْتُ الْبَارِحَةَ فِي الشُّرْبِ مَعَ فُلَانَةَ الْمُغَنِّيَةِ، فَجَاءَ إِلَى الشَّيْخِ وَحَكَى لَهُ بِالْوَاقِعَةِ فَأَعْطَاهُ الشَّيْخُ مِنْ دَرَاهِمِ كَسْبِهِ دِرْهَمًا وَقَالَ لَهُ: إِذَا خَرَجْتَ مِنَ الْبَيْتِ فَأَوَّلُ مَنْ يَقَعُ نَظَرُكَ عَلَيْهِ فَادْفَعِ الدِّرْهَمَ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ فَرَأَى شَخْصًا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ يَظْهَرُ مِنْهُ آثَارُ الْغِنَى فَخَافَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِأَمْرِ الشَّيْخِ عَرَضَ عَلَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَخَذَهُ رَجَعَ مِنْ طَرِيقِهِ وَتَبِعَهُ الْغَنِيُّ إِلَى أَنْ رَآهُ دَخَلَ فِي خَرَابَةٍ وَخَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ وَرَجَعَ إِلَى الْبَلَدِ فَدَخَلَ وَرَاءَهُ فِي تِلْكَ الْخَرَابَةِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا إِلَّا حَمَامَةً مَيِّتَةً فَتَبِعَهُ وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَهُ بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْحَالِ، فَذَكَرَ أَنَّ مَعَهُ أَوْلَادًا صِغَارًا وَكَانُوا فِي غَايَةٍ مِنَ الْمَجَاعَةِ فَحَصَلَ لَهُ اضْطِرَابٌ، فَخَرَجَ دَائِرًا فَرَأَى الْحَمَامَةَ فَأَخَذَ بِهَا لَهُمْ، فَلَمَّا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْفُتُوحِ رَدَّ الْحَمَامَةَ إِلَى مَكَانِهَا فَعَرَفَ تَحْقِيقَ مَعْنَى كَلَامِ الشَّيْخِ، " «فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهُ بِيَمِينِهِ» " يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْقَبُولِ وَوُقُوعِ الصَّدَقَةِ مِنْهُ مَوْقِعَ الرِّضَا عَلَى أَكْمَلِ الْحُصُولِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَرْضِيَّ يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ فِي الْعَادَةِ " «ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا» " التَّرْبِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ أَيْ: يُزِيدُهَا وَيُعَظِّمُهَا حَتَّى تَثْقُلَ فِي الْمِيزَانِ " «كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ» " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَيُضَمُّ وَبِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيِ: الْمُهْرُ وَهُوَ وَلَدُ الْفَرَسِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَهُوَ لُغَةٌ، فَفِي الْقَامُوسِ الْفِلُوُّ بِالْكَسْرِ وَكَعَدُوٍّ وَسُمُوٍّ الْجَحْشُ وَالْمُهْرُ إِذَا فُطِمَا أَوْ بَلَغَا السَّنَةَ " حَتَّى تَكُونَ " بِالتَّأْنِيثِ أَيِ: الصَّدَقَةُ أَوْ ثَوَابُهَا أَوْ تِلْكَ التَّمْرَةُ " مِثْلَ

ص: 1333

الْجَبَلِ " أَيْ: فِي الثِّقَلِ، قِيلَ: هَذَا تَمْثِيلٌ لِزِيَادَةِ التَّفْهِيمِ وَخَصَّهُ بِالْفَلُوِّ ; لِأَنَّ زِيَادَتَهُ بَيِّنَةٌ وَفِي الْحَدِيثِ اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] فَالْمُرَادُ بِالرِّبَا جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالصَّدَقَاتُ تُقَيَّدُ بِالْحَلَالَاتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ:«إِلَّا أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ عز وجل بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ» ، وَلَعَلَّ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَحْمَتِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: لَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْتَضَى يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ اسْتُعْمِلَتِ الْيَمِينُ فِي مِثْلِ هَذَا، أَقُولُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ السَّلَفِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِحَقِيقَةِ الْحَالَاتِ مَعَ اعْتِقَادِنَا التَّنْزِيهَ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّشْبِيهِ.

ص: 1334

1889 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1889 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ» ") مَا نَافِيَةٌ وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: " مِنْ مَالٍ " زَائِدَةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ بَيَانِيَّةٌ أَيْ: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مَالًا أَوْ بَعْضَ مَالٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ مَالٍ بَلْ تَزِيدُ أَضْعَافَ مَا يُعْطَى مِنْهُ بِأَنْ يَنْجَبِرَ بِالْبَرَكَةِ الْخَفِيَّةِ أَوْ بِالْعَطِيَّةِ الْجَلِيَّةِ أَوْ بِالْمَثُوبَةِ الْعَلِيَّةِ، " «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ» " أَيْ: بِسَبَبِ عَفْوِهِ عَنْ شَيْءٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ " إِلَّا عِزًّا " قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّهُ إِذَا عُرِفَ بِالْعَفْوِ سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوبِ وَزَادَ عِزُّهُ، أَوِ الْمُرَادُ عِزُّ الثَّوَابِ وَكَذَا الْمُرَادُ مِنَ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ " «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ» " بِأَنْ أَنْزَلَ نَفْسَهُ عَنْ مَرْتَبَةٍ يَسْتَحِقُّهَا لِرَجَاءِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ دُونَ غَرَضٍ غَيْرِهِ " «إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» " إِمَّا رَفَعَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا رَفَعَهُ فِي الْأُخْرَى، قُلْتُ: وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1334

1890 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ:" نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1890 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ» ") أَيْ: شَفْعًا مِنْ جِنْسٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الزَّوْجُ يُطْلَقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَعَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا ; لِأَنَّهُ زَوْجٌ مِنْ آخَرَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا اهـ. فَالْمُرَادُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الِاثْنَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَا الصِّنْفَانِ كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ، فَتَدَبَّرْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَدِرْهَمَيْنِ أَوْ دِينَارَيْنِ أَوْ مُدَّيْنِ مِنَ الطَّعَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَسُئِلَ أَبُو ذَرٍّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: مَا الزَّوْجَانِ؟ قَالَ: فَرَسَانِ أَوْ عَبْدَانِ أَوْ بَعِيرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ التَّكْرِيرُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَشْفَعُ صَدَقَتَهُ بِأُخْرَى اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا صَدَقَتَانِ إِحْدَاهُمَا سِرٌّ وَالْأُخْرَى عَلَانِيَةٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] وَقِيلَ أَيْ: صَلَاتَيْنِ أَوْ صَوْمَيْنِ حَمْلًا لِلْحَدِيثِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْبِرِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ النَّافِلَةَ لِلْفُقَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ لِلْأَغْنِيَاءِ (مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ) أَيِ: الزَّوْجَانِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِصِنْفٍ مِنَ الْأَصْنَافِ وَنَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فِي مَرْضَاتِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ.

وَقِيلَ: مَخْصُوصٌ بِالْجِهَادِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ يَعْنِي وَأَعَمَّ وَأَتَمَّ وَأَشْهَرَ فَتَدَبَّرْ " «دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» " أَيْ: دَعَتْهُ الْخَزَنَةُ مِنْ جَمِيعِ أَبَوَابِهَا، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلًا يُوَازِي الْأَعْمَالَ يَسْتَحِقُّ بِهَا الدُّخُولَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ عَلَى أَجْمَلِ الْأَحْوَالِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مِنْ أَحَدِ أَبَوَابِهَا لِمَا سَيَجِيءُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَهَا بَابٌ، وَيُقَوِّيهِ سُؤَالُ الصِّدِّيقِ " «وَلِلْجَنَّةِ أَبْوَابٌ» " أَيْ: ثَمَانِيَةٌ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا وَفِيهِ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ ظَاهِرَةٌ جِدًّا وَهُوَ أَنَّ كُلَّ بَابٍ مِنْهَا يُسَمَّى بِبَابِ عِبَادَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الطَّاعَةِ يَدْخُلُ مِنْهَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الْعِبَادَةُ وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا، كُلُّهَا بِوَصْفِ الزِّيَادَةِ، دُعِيَ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ الْوَارِدَةِ تَكْرِيمًا لِأَرْبَابِ الْوِفَادَةِ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ " «فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَوَاتِ» " أَيْ: مِمَّنْ يُكْثِرُ النَّفْلَ؛ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ أَوْ مِمَّنْ يُحْسِنُهَا " «دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ» " أَيْ: أَوَّلًا وَهُوَ أَفْضَلُ

ص: 1334

الْأَبْوَابِ يَعْنِي: قِيلَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ادْخُلِ الْجَنَّةَ مِنْ هَذَا الْبَابِ " «وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ» " أَيْ: يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ " «دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ» " أَيْ: مِنْ بَابِ الصِّيَامِ الْمُسَمَّى بَابَ الرَّيَّانِ ضِدَّ الْعَطْشَانِ، قِيلَ: وَهُوَ بَابٌ يَسْقِي الصِّيَامُ فِيهِ شَرَابًا طَهُورًا قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِيَزُولَ عَطَشُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ كَانَ اسْمًا لِلْبَابِ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ الرُّوَاءِ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يَرْوِي يُقَالُ: رَوَى يَرْوِي فَهُوَ رَيَّانٌ أَيِ: الصَّائِمُ بِتَعَطُّشِهِ فِي الدُّنْيَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ لِيَأْمَنَ الْعَطَشَ اهـ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ لِلْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ بَابُ الضُّحَى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُدَاوِمُونَ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى؟ هَذَا بَابُكُمْ فَادْخُلُوهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ» " ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ.

وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ بَابُ التَّوْبَةِ وَبَابُ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَبَابُ الرَّاضِينَ، وَجَاءَ فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مِنْ بَابِ الْأَيْمَنِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَلَعَلَّهُ الثَّامِنُ " «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ» " مَا نَافِيَةٌ وَمِنْ زَائِدَةٌ وَهِيَ اسْمُ مَا، أَيْ: لَيْسَ ضَرُورَةٌ وَاحْتِيَاجٌ عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ إِنْ لَمْ يُدْعَ مِنْ سَائِرِهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَهَذَا نَوْعُ تَمْهِيدِ قَاعِدَةِ السُّؤَالِ فِي قَوْلِهِ " «فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا» " أَيْ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِي بِأَنْ لَا ضَرُورَةَ وَلَا احْتِيَاجَ لِمَنْ يُدْعَى مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ إِلَى الدُّعَاءِ مِنْ سَائِرِ الْأَبْوَابِ إِذْ يَحْصُلُ مُرَادُهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ " قَالَ: نَعَمْ " أَيْ: يَكُونُ جَمَاعَةٌ يُدْعَوْنَ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا لَهُمْ ; لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ " «وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» " لِأَنَّهُ رضي الله عنه كَانَ جَامِعًا لِهَذِهِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي.

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَلِكَ الَّذِي لَا تَوَى» بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْقَصْرِ أَيْ: لَا ضَيَاعَ وَلَا هَلَاكَ وَلَا خَسَارَةَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ «دُعِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ» ، أَيْ: لَكَ، عَلَى زَعْمِهِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ تَعْظِيمِهِ وَتَفْخِيمِهِ.

ص: 1335

1891 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ:" فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جِنَازَةً؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ:" فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ:" فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1891 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا» ") مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَأَصْبَحَ بِمَعْنَى صَارَ وَخَبَرُهُ صَائِمًا أَوْ بِمَعْنَى دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ فَتَكُونُ تَامَّةً وَصَائِمًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِهِ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا " يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ وَأَمَّا وَقْفُهُ بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ فَلَحْنٌ عَامِّيٌّ، قَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ أَنَا هُنَا لِلتَّعْيِينِ فِي الْإِخْبَارِ لَا لِلِاعْتِدَادِ بِنَفْسِهِ كَمَا يُذْكَرُ فِي مَقَامِ الْمُفَاخَرَةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَرِهَهُ الصُّوفِيَّةُ، وَقَدْ وَرَدَ " {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] "، "{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا رَدُّهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى جَابِرٍ حَيْثُ أَجَابَ بَعْدَ دَقِّ الْبَابِ بِأَنَا قَائِلًا: أَنَا، فَلِعَدَمِ التَّعْيِينِ فِي مَقَامِ الْإِخْبَارِ اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ أَنَا مِنْ حَيْثُ هُوَ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَإِنَّمَا هُوَ يُذَمُّ بِاعْتِبَارِ إِخْبَارِهِ مِمَّا يَفْتَخِرُ بِهِ كَقَوْلِ إِبْلِيسَ:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ أَنَا الْعَالِمُ وَأَنَا الزَّاهِدُ وَأَنَا الْعَابِدُ، بِخِلَافِ أَنَا الْفَقِيرُ الْحَقِيرُ الْعَبْدُ الْمُذْنِبُ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ " قَالَ:«فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جِنَازَةً» ؟ " أَيْ: قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ:«فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا» ؟ " قَالَ " أَبُو بَكْرٍ أَنَا) فِيهِ جَوَازُ قَوْلِ أَنَا كَآيَةِ " {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] " وَحَدِيثِ " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» " فَفِيهِ رَدٌّ لِكَرَاهَةِ طَائِفَةٍ هَذَا الْقَوْلَ لَكِنَّ إِنَّمَا مَحَلُّهَا إِذَا صَدَرَ عَنْ إِثْبَاتِ النَّفْسِ وَرُعُونَتِهَا وَتَوَهُّمِ كَمَالِ ذَاتِهَا وَحَقِيقَتِهَا كَمَا صَدَرَ عَنْ إِبْلِيسَ حَيْثُ قَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] .

وَأَمَّا «حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحِ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقَالَ: " مَنْ ذَا؟ " فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: " أَنَا أَنَا " كَأَنَّهُ كَرِهَهَا» ، فَسَبَبُ كَرَاهَتِهِ لَهَا الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ تَعْرِيفِهِ نَفْسَهُ، ثُمَّ لَوْ عَرَفَهُ بِصَوْتِهِ لَمَا اسْتَفْهَمَهُ فَسَقَطَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ

ص: 1335

السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ هُنَا مِنْ أَصْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ:" «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا اجْتَمَعْنَ» ") أَيْ: هَذِهِ الْخِصَالُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؛ كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ؛ وَكَأَنَّ التَّرْتِيبَ أَخَذَهُ مِنَ الْفَاءِ التَّعْقِيبِيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ التَّعْقِيبِ عَلَى السُّؤَالِ كَمَا ذَكَرُوا فِي ثُمَّ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلتَّرَاخِي فِي السُّؤَالِ أَوِ التَّقْدِيرُ إِذَا ذَكَرْتُمْ هَذَا فَمَنْ فَعَلَ هَذَا؛ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مَا وُجِدَتْ وَحُصِّلَتْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ " فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " أَيْ: بِلَا مُحَاسَبَةٍ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْإِيمَانِ يَكْفِي لِمُطْلَقِ الدُّخُولِ أَوْ مَعْنَاهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1336

1892 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1892 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ» ") قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي إِعْرَابِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: نَصْبُ النِّسَاءِ وَجَرُّ الْمُسَلَّمَاتِ عَلَى الْإِضَافَةِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَيُقَدَّرُ عِنْدَ الْبَصْرِيَّةِ مَوْصُوفٌ أَيْ: نِسَاءُ الطَّوَائِفِ الْمُسَلَّمَاتِ، وَالثَّانِي: ضَمُّ النِّسَاءِ عَلَى النِّدَاءِ وَرَفْعُ الْمُسَلِّمَاتِ عَلَى لَفْظِهِ، وَالثَّالِثُ: نَصْبُهُ عَلَى مَحَلِّهِ " لَا تَحْقِرَنَّ " بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَبِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ أَيْ: لَا تَسْتَحْقِرْ إِهْدَاءَ شَيْءٍ أَوْ تَصَدُّقَهُ " جَارَةٌ " أَيْ: فَقِيرَةٌ أَوْ غَنِيَّةٌ مِنْكُنَّ أَوْ مِنْ غَيْرِكُنَّ وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْجَارِ، وَقِيلَ: جَارَةُ الْمَرْأَةِ مَرْأَةُ زَوْجِهَا " لِجَارَتِهَا " أَيْ: لِأَجْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَكَابِرِ " «وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» " بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالسِّينِ أَيْ: وَلَوْ أَنْ تُهْدِيَ أَوْ تَصَدَّقَ فِرْسِنَ شَاةٍ وَهُوَ لَحْمٌ بَيْنَ ظِلْفَيِ الشَّاةِ وَأُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ أَيْ: وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا وَأَمْرًا حَقِيرًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَلِأَمْرِهِ عز وجل بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْجَارِ بِقَوْلِهِ {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] وَالْمَعْنَى لَا تَمْتَنِعْ إِحْدَاكُنَّ مِنَ الْهَدِيَّةِ أَوِ الصَّدَقَةِ لِجَارَتِهَا احْتِقَارًا لِلْمَوْجُودِ عِنْدَهَا وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِمَنْ أَهْدَى إِلَيْهِنَّ، فَالْمَعْنَى لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ هَدِيَّةَ جَارَتِهَا بَلْ تَقْبَلُهَا وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَاسْتِجْلَابِ الْقُلُوبِ بِالْعَطِيَّةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1336

1893 -

وَعَنْ جَابِرٍ وَحُذَيْفَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1893 -

(وَعَنْ جَابِرٍ وَحُذَيْفَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ مَعْرُوفٍ ") أَيْ: مَا عُرِفَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرَاتِ مِنْ عَطِيَّةِ مَالٍ أَوْ خُلُقٍ حَسَنٍ أَوْ مَا عُرِفَ فِيهِ رِضَا اللَّهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ " صَدَقَةٌ " أَيْ: ثَوَابُهُ كَثَوَابِ الصَّدَقَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَحُذَيْفَةَ مَعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، فَحَدِيثُ جَابِرٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَتَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 1336

1894 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1894 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحْقِرَنَّ) أَيْ: أَنْتَ " «مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا» " قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْرُوفُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ أَيْ: أَمْرٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يُنْكِرُوهُ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ النَّصَفَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ وَتَلَقِّي النَّاسَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ " «وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ» " ضِدُّ الْعُبُوسِ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْبَشَاشَةُ وَالسُّرُورُ فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى قَلْبِهِ سُرُورٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيصَالَ السُّرُورِ إِلَى قَلْبِ مُسْلِمٍ حَسَنَةٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1336

1895 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: " فَلْيَعْمَلْ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعَ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقَ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: " يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ؟ قَالَ: " فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: " فَيُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ فَإِنَّهُ صَدَقَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1895 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ") أَيْ: يَجِبُ عَلَيْهِ " صَدَقَةٌ " أَيْ: شُكْرًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِ " قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ " أَيْ: مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ " قَالَ: فَلْيَعْمَلْ بِيَدَيْهِ " أَيْ: فَلْيَكْتَسِبْ مَالًا يَعْمَلُ بِيَدَيْهِ " فَيَنْفَعَ نَفْسَهُ " وَيَدْفَعَ ضَرَرَهُ عَنِ النَّاسِ " وَيَتَصَدَّقَ " أَيْ: إِنْ فَضَلَ عَنْ نَفْسِهِ " «قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ» " شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَمَلِ " قَالَ: «فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ» " صِفَةُ ذَا أَيِ: الْمُتَحَيِّرَ فِي أَمْرِهِ الْحَزِينَ أَوِ الضَّعِيفَ أَوِ الْمَظْلُومَ الْمُسْتَغِيثَ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَانَةُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْمَالِ أَوْ بِالْجَاهِ أَوْ بِالدَّلَالَةِ أَوِ النَّصِيحَةِ أَوِ الدُّعَاءِ " «قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ؟ قَالَ: فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ» " وَهُوَ يَشْمَلُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْإِفَادَةَ الْعِلْمِيَّةَ وَالنَّصِيحَةَ الْعَمَلِيَّةِ "«قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيُمْسِكُ» " أَيْ: نَفْسَهُ أَوِ النَّاسَ " عَنِ الشَّرِّ " بِالِاعْتِزَالِ وَغَيْرِهِ " فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ " أَيْ: فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الشَّرِّ لَهُ تَصَدُّقٌ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ كَانَ لَهُ أَجْرٌ كَالتَّصَدُّقِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1337

1896 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1896 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلَامَى» ) وَهُوَ بِضَمِّ السِّينِ وَهُوَ عَظْمُ الْإِصْبَعِ " مِنَ النَّاسِ " أَيْ: مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ " عَلَيْهِ " أَيْ: عَلَى كُلِّ سُلَامَى، وَالْمَعْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ بِعَدَدِ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْ أَعْضَائِهِ " صَدَقَةٌ " أَوْجَبَ الصَّدَقَةَ عَلَى السُّلَامَى مَجَازًا وَفِي الْحَقِيقَةِ عَلَى صَاحِبِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: سُلَامَى جَمْعُ سُلَامِيَّةٍ وَهِيَ الْأُنْمُلَةُ مِنَ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ: وَاحِدَةٌ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ وَيُجْمَعُ عَلَى سُلَامَيَاتٍ وَهِيَ الَّتِي بَيْنَ كُلِّ مَفْصِلَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْنَى عَلَى كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْ أَعْضَائِهِ صَدَقَةٌ شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنْ جَعَلَ فِي أَعْضَائِهِ مَفَاصِلَ تَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، قِيلَ: وَخَصَّ مَفَاصِلَ الْأَصَابِعِ لِأَنَّهَا الْعُمْدَةُ فِي الْأَفْعَالِ قَبْضًا وَبَسْطًا " كُلَّ يَوْمٍ " بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيْ فِي كُلِّ يَوْمِ " تَطْلُعُ الشَّمْسُ " صِفَةٌ تَخُصُّ الْيَوْمَ عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ بِمَعْنَى النَّهَارِ " يَعْدِلُ " بِالْغَيْبَةِ وَالْخِطَابِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَعْدِلَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ " بَيْنَ الِاثْنَيْنِ " ظَرْفٌ لَهُ وَالْخَبَرُ " صَدَقَةٌ " أَيْ عَدْلُهُ وَإِصْلَاحُهُ بَيْنَ الْخِصْمَيْنِ وَدَفْعُهُ ظُلْمَ الظَّالِمِ عَنِ الْمَظْلُومِ صَدَقَةٌ " وَيُعِينُ الرَّجُلَ " أَيْ: إِعَانَتُهُ الرَّجُلَ " عَلَى دَابَّتِهِ " أَيْ: دَابَّةِ الرَّجُلِ أَوِ الْمُعَيَّنِ " فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا " أَيْ: نَفْسَهُ أَوْ مَتَاعَهُ " أَوْ يَرْفَعُ " شَكٌّ أَوْ تَنْوِيعٌ " «عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ» " أَيْ: مُطْلَقًا أَوْ مَعَ النَّاسِ " «صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ» " بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ وَبِالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ " «يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ» " أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الطَّوَافِ وَالْعِيَادَةِ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهَا " «صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى» " أَيْ: يُزِيلُهُ عَنِ الطَّرِيقِ كَالشَّوْكَةِ وَالْعَظْمِ وَالْقَذَرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَذَى النَّفْسِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنِ النَّاسِ " صَدَقَةٌ " أَيْ صَدَقَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1337

1897 -

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِمِائَةِ.

فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1897 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ» ") بَيَانٌ لِإِفَادَةِ التَّعْمِيمِ " «عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ» " بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ وَيُفْتَحُ مُلْتَقَى الْعَظْمَيْنِ فِي الْبَدَنِ " فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ " أَيْ: عَظَّمَهُ أَوْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ " وَحَمِدَ اللَّهَ " أَيْ: أَثْنَى عَلَيْهِ أَوْ شَكَرَهُ " وَهَلَّلَ اللَّهَ " أَيْ: وَحَّدَهُ أَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَسَبَّحَ اللَّهَ " أَيْ: نَزَّهَهُ عَنْ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ أَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ " وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ " أَيْ: بِالتَّوْبَةِ أَوْ بِاللِّسَانِ " وَعَزَلَ " أَيْ: بَعَّدَ وَنَحَّى " حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكًا أَوْ عَظْمًا " أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَلَعَلَّ فِي تَرْكِ ذِكْرِ نَحْوِ الرَّوْثِ حُسْنَ الْأَدَبِ " أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ " أَيْ: بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ بِالْجَنَانِ " عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ " أَيْ: بِعَدَدِهَا نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَذْكَارِ وَمَا بَعْدَهَا أَوْ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَعْنِي مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ " وَالثَّلَاثِمِائَةِ " قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أُضِيفَ الثَّلَاثُ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ إِلَى مِائَةٍ وَهِيَ نَكِرَةٌ وَاعْتُذِرَ بِأَنَّ اللَّامَ زَائِدَةٌ فَلَا اعْتِدَادَ بِهَا،

ص: 1337

وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ بَعْدَ الْإِضَافَةِ كَمَا فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ بَعْدَ التَّرْكِيبِ لَكَانَ وَجْهًا حَسَنًا اهـ. يَعْنِي فَمَنْ فَعَلَ الْخَيْرَ بِعَدَدِ تِلْكَ الْمَفَاصِلِ جَزَاؤُهُ " فَإِنَّهُ يَمْشِي " بِالْمُعْجَمَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ، قَالَ فِي الْأَزْهَارِ: وَكَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ يُمْسِي مِنَ الْإِمْسَاءِ أَوْ مِنَ الْمَشْيِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ " يَوْمَئِذٍ " أَيْ: وَقْتَ إِذْ فَعَلَ ذَلِكَ " وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ " أَيْ: أَبْعَدَهَا وَنَحَّاهَا " عَنِ النَّارِ " وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ وَرَفْعِ النَّفْسِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1338

1898 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ " قَالُوا " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1898 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ» ") بِالرَّفْعِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرُ " صَدَقَةٌ " قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ صَدَقَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَبِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ، وَعَلَى النَّصْبِ يَكُونُ كُلُّ تَكْبِيرَةٍ مَجْرُورًا فَيَكُونُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنَّ الْوَاوَ قَامَتْ مَقَامَ الْبَاءِ اهـ. وَكَذَا قَوْلُهُ " «وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ» " إِلَخْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ صَدَقَةً تَشْبِيهًا لَهَا بِالْمَالِ فِي إِثْبَاتِ الْجَزَاءِ وَعَلَى الْمُشَاكَلَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا صَدَقَةٌ عَلَى نَفْسِهِ " «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ» " أَسْقَطَ الْمُضَافَ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى مَا سَبَقَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ " «وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ» " وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُنْكَرِ " صَدَقَةٌ " أَيْ: صَدَقَةٌ عَلَى صَاحِبِ النَّصِيحَةِ وَإِرَادَةِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ قَبِلَهَا أَمْ لَا " «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ» " بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ الْفَرْجُ أَيْ: فِي مُجَامَعَةِ أَحَدِكُمْ حَلَالَهُ " صَدَقَةٌ " وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْبُضْعُ الْجِمَاعُ وَفِي إِعَادَةِ الظَّرْفِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً ثَابِتَةٌ وَهِيَ بِمَعْنَى فِي، وَإِنَّ نُزِعَتْ مِنْ بَعْضِ النُّسَخِ، وَإِنَّمَا أُعِيدَتْ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الصَّدَقَةِ أَغْرَبُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِبُضْعِ أَحَدِكُمْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ صَدَقَةً إِذَا نَوَى فِيهِ عَفَافَ نَفْسِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ حُصُولَ وَلَدٍ صَالِحٍ اهـ. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكِنَّ الْإِشَارَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ وَلِعَدَمِ ظُهُورِ هَذَا الْمَعْنَى " قَالُوا " أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ» ) أَيْ: أَيَقْضِيهَا وَيَفْعَلُهَا ( «وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ» ) وَالْأَجْرُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الْمُبَاحِ (" قَالَ ") : " أَرَأَيْتُمْ " أَيْ: أَخْبِرُونِي " لَوْ وَضَعَهَا " أَيْ: شَهْوَةَ بُضْعِهِ " فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ " أَيْ: فِي الْوَضْعِ " وِزْرٌ؟ " قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقْحَمَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ بَيْنَ لَوْ وَجَوَابِهَا تَأْكِيدًا لِلِاسْتِخْبَارِ فِي أَرَأَيْتُمْ " فَكَذَلِكَ " أَيْ: فَعَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ " «إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ» " وَعَدَلَ عَنِ الْحَرَامِ مَعَ أَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إِلَيْهِ وَتَسْتَلِذُّ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَلَالِ، فَإِنَّ لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةً، وَالنَّفْسُ بِالطَّبْعِ إِلَيْهَا أَمْيَلُ وَالشَّيْطَانُ إِلَى مُسَاعَدَتِهَا أَقْبَلُ وَالْمُؤْنَةُ فِيهَا عَادَةً أَقَلُّ " كَانَ لَهُ أَجْرٌ " وَفِي نُسْخَةٍ أَجْرًا بِالنَّصْبِ، فَالْأَجْرُ لَيْسَ فِي نَفْسِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ بَلْ فِي وَضْعِهَا فِي مَوْضِعِهَا كَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِفْطَارِ فِي الْعِيدِ وَكَأَكْلِ السَّحُورِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الشَّهَوَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِذَا قِيلَ: الْهَوَى إِذَا صَادَفَ الْهُدَى فَهُوَ كَالزُّبْدَةِ مَعَ الْعَسَلِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] هَذَا مَا سَنَحَ لِي وَخَطَرَ بِبَالِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1338

1899 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1899 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ» ") بِكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيِ: النَّاقَةُ ذَاتُ اللَّبَنِ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالنِّتَاجِ " الصَّفِيُّ " صِفَةُ اللِّقْحَةِ أَيِ: الْغَزِيرَةُ اللَّبَنِ " مِنْحَةً " بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: عَطِيَّةً بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَقِيلَ عَلَى الْحَالِ، وَالْمَنْحُ إِعْطَاءُ ذَاتِ لَبَنٍ فَقِيرًا لِيَشْرَبَ مُدَّةً ثُمَّ يَرُدَّهَا إِلَى صَاحِبِهَا إِذَا ذَهَبَ دَرُّهَا، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ» " قِيلَ: أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ فِي الْعَارِيَّةِ ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ كُلُّ عَطِيَّةٍ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ " «وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً تَغْدُو» " أَيْ: تَذْهَبُ مُلْتَبِسَةً " بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ " أَيْ: يُحْلَبُ مِنْ لَبَنِهَا مِلْءَ إِنَاءٍ وَقْتَ الْغَدْوَةِ وَمِلْءَ إِنَاءٍ آخَرَ وَقْتَ الرَّوَاحِ وَهُوَ الْمَسَاءُ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ مَادِحَةٌ لِمِنْحَةٍ أَوِ اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ

ص: 1338

عَنْ مَنْ سَأَلَ عَنْ سَبَبِ كَوْنِهَا مَمْدُوحَةً، وَلَعَلَّ بَعْضَ أَسْخِيَاءِ الْعَرَبِ كَانُوا يَذُمُّونَ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِطَبْعِ الْكِرَامِ عَلَى طَرِيقِ السَّجِيَّةِ فَمَدَحَهَا رَدًّا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، وَإِنَّ الْقَلِيلَ لَهُ أَجْرٌ جَزِيلٌ وَثَنَاءٌ جَمِيلٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1339

1900 -

وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1900 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ» ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: يَغْرِزُ " غَرْسًا " بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ " أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا " أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ وَنَصْبُهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ " فَيَأْكُلُ مِنْهُ " أَيْ: مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْمَغْرُوسِ أَوِ الْمَزْرُوعِ " إِنْسَانٌ " وَلَوْ بِالتَّعَدِّي " أَوْ طَيْرٌ أَوْ بَهِيمَةٌ " أَيْ: وَلَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ " إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ " قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّوَايَةُ بِرَفْعِ الصَّدَقَةِ عَلَى أَنَّ كَانَتْ تَامَّةٌ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَأْكُولِ وَأُنِّثَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ.

ص: 1339

1901 -

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ " «وَمَا سُرِقَ لَهُ صَدَقَةٌ» ".

ــ

1901 -

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ " «وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ» ") أَيْ: يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ تَصَدُّقِ الْمَسْرُوقِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بِأَيِّ سَبَبٍ يُؤْكَلُ مَالُ الْمُسْلِمِ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى نُقْصَانِ الْمَالِ فَإِنَّ أَجْرَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

ص: 1339

1902 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ فَنَزَعَتْ خُفَّهَا فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَغُفِرَ لَهَا " بِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: " فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1902 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ» ) بِكَسْرِ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ وَفَتْحِهَا أَيِ: الْفَاجِرَةُ مِنَ الْوَمْسِ وَهُوَ الْحِكَاكُ " مَرَّتْ بِكَلْبٍ " أَيْ: عَلَى كَلْبٍ كَائِنٍ " عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ " أَيْ: بِئْرٌ وَقِيلَ: بِئْرٌ لَمْ تُطْوَ " يَلْهَثُ " يُقَالُ: لَهَثَ الْكَلْبُ إِذَا خَرَجَ لِسَانُهُ مِنَ الْعَطَشِ وَالتَّعَبِ " كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ " أَيْ: قَارَبَ أَنْ يُهْلِكَهُ " فَنَزَعَتْ خُفَّهَا " أَيْ: خَلَعَتْهُ " فَأَوْثَقَتْهُ " أَيْ: شَدَّتْهُ " بِخِمَارِهَا " بَدَلًا مِنَ الْحَبْلِ وَالدَّلْوِ " فَنَزَعَتْ " أَيْ: جَذَبَتْ بِهِمَا " لَهُ " أَيْ: لِلْكَلْبِ " مِنَ الْمَاءِ " أَيْ: مَاءِ الْبِئْرِ " فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ " تَأْكِيدٌ لِلْخَبَرِ " قِيلَ: إِنَّ " أَيْ: أَئِنَّ " لَنَا فِي الْبَهَائِمِ " أَيْ: فِي إِحْسَانِهَا " أَجْرًا، قَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ " أَيْ: حَيَوَانٍ " أَجْرٌ " قِيلَ إِنَّ الْكَبِدَ إِذَا ظَمِئَتْ تَرَطَّبَتْ وَكَذَا إِذَا أُلْقِيَتْ عَلَى النَّارِ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ بَابِ وَصْفِ الشَّيْءِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ، أَيْ: كَبِدٍ يُرَطِّبُهَا السَّقْيُ وَيُصَيِّرُهَا رَطْبَةً، وَقَدْ وَرَدَ:" كَبِدٍ حَرَّى " تَأْنِيثُ حَرَّانَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: فِي إِطْعَامِ كُلِّ حَيَوَانٍ وَسَقْيِهِ أَجْرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِقَتْلِهِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى غُفْرَانِ الْكَبِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، قِيلَ: وَفِي الْحَدِيثِ تَمْهِيدُ فَائِدَةِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1339

1903 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ أَمْسَكَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ مِنَ الْجُوعِ، فَلَمْ تَكُنْ تُطْعِمُهَا وَلَا تُرْسِلُهَا فَتَأْكُلَ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1903 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ» ") أَيْ: فِي شَأْنِهَا وَبِسَبَبِهَا وَلِأَجْلِهَا فَفِي تَعْلِيلِيَّةٌ سَبَبِيَّةٌ " أَمْسَكَتْهَا " أَيْ: رَبَطَتْهَا الْمَرْأَةُ وَمَنَعَتْهَا مِنَ الصَّيْدِ " حَتَّى مَاتَتْ " أَيِ: الْهِرَّةُ " مِنَ الْجُوعِ " قِيلَ: هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةٌ وَإِنَّمَا صَارَتْ كَبِيرَةً بِإِصْرَارِهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى إِصْرَارِهَا وَيَجُوزُ التَّعْذِيبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَمَا فِي الْعَقَائِدِ سَوَاءٌ اجْتَنَبَ مُرْتَكِبُهَا الْكَبِيرَةَ أَمْ لَا لِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -:{وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبِيرَةُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ

ص: 1339

تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] وَعَنْهُ أَجْوِبَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَيْسَ هُنَا مَحَلُّهَا " «فَلَمْ تَكُنْ تُطْعِمُهَا وَلَا تُرْسِلُهَا فَتَأْكُلَ» " بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ " «مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» " بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَضَمُّهَا أَيْ: هَوَامِّهَا وَحَشَرَاتِهَا وَفِيهِ تَفْخِيمُ أَمْرِ الذَّنْبِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1340

1904 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ: لِأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ بِهِ الْجَنَّةَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

1904 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ» ") أَيْ: ظَاهِرِهِ لَا فِي جَنْبَيْهِ " فَقَالَ: لِأُنَحِّيَنَّ " بِتَشْدِيدِ الْحَاءِ أَيْ: لَأُبْعِدَنَّ " هَذَا عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ أَيْ: لِكَيْلَا يُؤْذِيَهُمْ " فَأُدْخِلَ " مَاضٍ مَجْهُولٌ " الْجَنَّةَ " بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ أَيْ: فَنَحَّاهُ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ كَذَا قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُمْكِنُ أَنَّ إِدْخَالَهُ الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَإِنْ لَمْ يُنَحِّهِ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ نَحَّاهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1340

1905 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

1905 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ» ") أَيْ: يَمْشِي وَيَتَبَخْتَرُ أَيْ يَتَرَدَّدُ وَيَتَنَعَّمُ " «فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ» " فِي تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ لِأَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا " «كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» " أَيْ يَتَأَذَّوْنَ بِهَا وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ عَلَى قَتْلِ الْمُؤْذِي وَإِزَالَتِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1340

1906 -

وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: قُلْتُ: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «اتَّقُوا النَّارَ» فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.

ــ

1906 -

(وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعْ بِهِ» ) رُوِيَ مَجْزُومًا جَوَابًا لِلْأَمْرِ وَمَرْفُوعًا صِفَةً لِشَيْءٍ أَيْ: أَنْتَفِعْ بِعَمَلِهِ (قَالَ: " «اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ» ") قِيلَ: هُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ فَنَبَّهَ بِأَدْنَى شُعَبِ الْإِيمَانِ عَلَى أَعْلَاهَا أَيْ: لَا تَتْرُكْ بَابًا مِنَ الْخَيْرِ، قُلْتُ: هُوَ فِي الْمَعْنَى كَحَدِيثِ " «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» " وَكَحَدِيثِ " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» "، وَلِذَا قِيلَ: أَيْ: أَذَى نَفْسِكَ أَوِ الْأَذَى هُوَ هَوَى النَّفْسِ فَإِنَّهَا مَعْدِنُهُ وَمَنْبَعُهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وُجُودُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسِ بِهِ ذَنْبٌ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الِاحْتِمَاءَ أَوْلَى مِنِ اسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ، وَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، بَلْ مُقَدِّمَةٌ لِلتَّحْلِيَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه اتَّقُوا النَّارَ) تَمَامُهُ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ أَيْ: بِنِصْفِهَا، وَالْمَعْنَى ادْفَعُوهَا عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِالْخَيْرَاتِ وَلَوْ كَانَ الِاتِّقَاءُ بِتَصَدُّقِ بَعْضِ تَمْرَةٍ يَعْنِي لَا تَسْتَقِلُّوا شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ أَيْ: يَطِيبُ بِهَا قَلْبُ الْمُسْلِمِ أَوْ بِكَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْأَذْكَارِ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ الْفَقِيرِ (فِي بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -) أَيْ: فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ لِعَدِيٍّ مَذْكُورٍ فِي الْبَابِ لَكِنَّ لَفْظَهُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، وَكَانَ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ أَتَى بِبَعْضِ الْحَدِيثِ أَوْ بِحَدِيثٍ مُسْتَقِلٍّ هُنَا مُنَاسَبَةً لِهَذَا الْبَابِ فَعَدَّهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ بَابِ التَّكْرَارِ فَأَسْقَطَهُ وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

ص: 1340

الْفَصْلُ الثَّانِي

1907 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ جِئْتُ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ

أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ فَكَانَ أَوَّلُ مَا قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

1907 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ جِئْتُ» ) أَيْ: إِلَيْهِ لِأَطَّلِعَ عَلَيْهِ وَأُسْلِمَ لَدَيْهِ " «فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ» ) أَيْ: أَبْصَرْتُ وَجْهَهُ ظَاهِرًا وَقِيلَ: تَأَمَّلْتُ وَتَفَرَّسْتُ بِأَمَارَاتٍ لَائِحَةٍ فِي سِيمَاهُ، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ تَكَلَّفْتُ فِي الْبَيَانِ ( «عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ» ) بِالْإِضَافَةِ وَيُنَوَّنُ أَيْ: بِوَجْهٍ ذِي كَذِبٍ فَإِنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ (فَكَانَ أَوَّلُ مَا قَالَ) بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ " خِطَابٌ عَامٌّ بِكَلِمَاتٍ جَامِعَةٍ لِلْمُعَامَلَةِ مَعَ

ص: 1340

الْخَلْقِ وَالْحَقِّ " «أَفْشُوا السَّلَامَ» " أَيْ: أَظْهِرُوهُ وَأَكْثِرُوهُ عَلَى مَنْ تَعْرِفُونَهُ وَمَنْ لَا تَعْرِفُونَهُ " «وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ» " أَيْ: لِنَحْوِ الْمَسَاكِينِ وَالْأَيْتَامِ " «وَصِلُوا الْأَرْحَامَ» " أَيْ: وَلَوْ بِالسَّلَامِ " «وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ» " أَيْ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ " وَالنَّاسُ نِيَامٌ " لِأَنَّهُ وَقْتُ الْغَفْلَةِ، فَلِأَرْبَابِ الْحُضُورِ مَزِيدُ الْمَثُوبَةِ أَوْ لِبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ( «تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» ) أَيْ مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْ مَلَائِكَتِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ تَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) .

ص: 1341

1908 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

1908 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «اعْبُدُوا الرَّحْمَنَ» ") أَيِ الَّذِي عَلَّمَكُمُ الْقُرْآنَ ( «وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ» ) أَيْ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ ( «وَأَفْشُوا السَّلَامَ» ) أَيْ لِلْأَنَامِ ( «تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» ) أَيْ فِي خَيْرِ مَقَامٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 1341

1909 -

وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

1909 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ» ) أَيْ لَتَمْنَعُ مَوْتَةَ فَقُلِبَتْ وَاوُهَا يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَهِيَ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْتِ، وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ وَيُضَمُّ، وَالْمُرَادُ مَا لَا تُؤْمَنُ غَائِلَتُهُ وَلَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ كَالْفَقْرِ الْمُدْقِعِ وَالْوَصَبِ الْمُوجِعِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي تُفْضِي بِهِ إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَنِسْيَانِ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: مَوْتُ الْفَجْأَةِ وَالْحَرْقِ وَالْغَرَقِ وَالتَّرَدِّي وَالْهَدْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي حَاشِيَةِ مِيرَكَ قَالَ الشَّارِحُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْمِيتَةِ السَّوْءِ الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمَوْتِ كَالْفَقْرِ الْمُدْقِعِ وَالْوَصَبِ الْمُوجِعِ وَالْأَلَمِ - الْمُرَادُ الْمُفْلِقُ - وَالْأَغْلَالِ الَّتِي تُفْضِي إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْأَهْوَالِ الَّتِي تَشْغَلُهُ عَمَّا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَمَوْتِ الْفَجْأَةِ الَّتِي هُوَ أَخْذَةُ الْآسِفِ وَنَحْوِهَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُظْهِرِ: أَرَادَ بِهِ مَا تَعَوَّذَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَائِهِ " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي وَمِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» " ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ إِطْفَاءُ الْغَضَبِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَكْرُوهِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا وَرَدَ: لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الصَّدَقَةُ، وَمَوْتُ السَّوْءِ عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ وَوَخَامَةِ الْعَاقِبَةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا وَرَدَ: الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ نَفْيَ الْمَكْرُوهِ لِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ أَبْلَغُ مِنَ الْعَكْسِ، فَكَأَنَّهُ نَفَى الْغَضَبَ وَأَرَادَ الرِّضَا وَنَفَى الْمِيتَةَ السَّوْءَ وَأَرَادَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْجَزَاءَ الْحَسَنَ فِي الْعُقْبَى، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1341

1910 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

1910 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ» ") أَيِ الْمُسْلِمَ (بِوَجْهٍ) بِالتَّنْوِينِ (طَلْقٍ) بِفَتْحِ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ الثَّانِي، وَقِيلَ: بِتَثْلِيثِ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ وَبِفَتْحٍ وَكَسْرٍ، وَيُقَالُ: طَلِيقٌ أَيْ ضَاحِكٌ مُسْتَبْشِرٌ (وَأَنْ تُفْرِغَ) مِنَ الْإِفْرَاغِ أَيْ تَصُبَّ (مِنْ دَلْوِكَ) أَيْ عِنْدَ اسْتِقَائِكَ (فِي إِنَاءِ أَخِيكَ) لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى الِاسْتِقَاءِ أَوْ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الدَّلْوِ وَالدِّلَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، كَذَا نَقَلَهُ الْجَزَرِيُّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ نُسَخِ التِّرْمِذِيِّ حَسَنٌ فَقَطْ وَلَيْسَ فِي سَنَدِهِ غَيْرُ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: فِيهِ لِينٌ، وَقَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

ص: 1341

1911 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ

بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَنَصْرُكَ الرَّجُلَ الرَّدِيءَ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ فِي الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

1911 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ» ) أَيْ عَلَى وَجْهِ الِانْبِسَاطِ (صَدَقَةٌ) أَيْ إِحْسَانٌ إِلَيْهِ أَوْ لَكَ فِيهِ ثَوَابُ صَدَقَةٍ ( «وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ» ) وَالصَّدَقَاتُ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ

ص: 1341

( «وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ» ) أُضِيفَتْ إِلَى الضَّلَالِ كَأَنَّهَا خُلِقَتْ لَهُ، وَهِيَ الَّتِي لَا عَلَامَةَ فِيهَا لِلطَّرِيقِ فَيَضِلُّ فِيهَا الرَّجُلُ (لَكَ صَدَقَةٌ) زِيدَ لَكَ فِي هَذِهِ الْقَرْنِيَّةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا لِمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ (وَنَصْرُكَ) أَيْ إِعَانَتُكَ ( «الرَّجُلَ الرَّدِيءَ الْبَصَرِ» ) بِالْهَمْزِ وَيُدْغَمُ أَيِ الَّذِي لَا يُبْصِرُ أَصْلًا أَوْ يُبْصِرُ قَلِيلًا (لَكَ صَدَقَةٌ) وَضَعَ النَّصْرَ مَوْضِعَ الْقِيَادِ مُبَالَغَةً فِي الْإِعَانَةِ كَأَنَّهُ يَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيهِ (وَإِمَاطَتُكَ) أَيْ إِزَالَتُكَ ( «الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ» ) أَيْ وَنَحْوَهَا (عَنِ الطَّرِيقِ) أَيْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ( «لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ» ) أَيْ صَبُّكَ ( «مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ» ) أَيْ بَعْضَ الْمَاءِ (لَكَ صَدَقَةٌ) فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَخِيكَ دَلْوٌ أَوْ أَعْطَيْتَهُ مَاءً مِنْ دَلْوِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 1342

1912 -

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " الْمَاءُ " فَحَفَرَ بِئْرًا وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

1912 -

(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ) أَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ ( «مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ» ؟) أَيْ لِرُوحِهَا (قَالَ: الْمَاءُ) إِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَعَمُّ نَفْعًا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ خُصُوصًا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَلِذَلِكَ مَنَّ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِي الْأَزْهَارِ: الْأَفْضَلِيَّةُ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، وَكَانَ هُنَاكَ أَفْضَلَ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَالْحَاجَةِ وَقِلَّةِ الْمَاءِ (فَحَفَرَ) أَيْ سَعْدٌ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ - أَيِ الرَّاوِي -: عَنْ سَعْدٍ، فَحَفَرَ (بِئْرًا) بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ (وَقَالَ) أَيْ سَعْدٌ (هَذِهِ) أَيْ هَذِهِ الْبِئْرُ صَدَقَةٌ (لِأُمِّ سَعْدٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَرَوَى هُوَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:«إِنَّ سَعْدًا وَهُوَ ابْنُ عُبَادَةَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " الْمَاءُ» "، وَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ، ثُمَّ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ نَحْوَهُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّ سَعِيدًا وَالْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكَا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ.

ص: 1342

1913 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

1913 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا مُسْلِمٍ» ) مَا زَائِدَةٌ وَأَيُّ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ (كَسَا) أَيْ أَلْبَسَ (مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ عَلَى حَالَةِ عُرْيٍ أَوْ لِأَجْلِ عُرْيٍ أَوْ لِدَفْعِ عُرْيٍ وَهُوَ يَشْمَلُ عُرْيَ الْعَوْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ( «كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ» ) أَيْ مِنْ ثِيَابِهَا، الْخُضْرُ جَمْعُ أَخْضَرَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - " {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف: 31] " وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ "«مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ» " بِذِكْرِهِ الْمُنْذِرِيَّ وَلَا مُنَافَاةَ ( «وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ» ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَثْمَارَهَا أَفْضَلُ أَطْعِمَتِهَا ( «وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَأٍ» ) بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورًا وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ عَطَشٍ ( «سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» ) أَيْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ أَوْ شَرَابِهَا. وَالرَّحِيقُ صَفْوَةُ الْخَمْرِ وَالشَّرَابُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا غِشَّ فِيهِ، وَالْمَخْتُومُ هُوَ الْمَصُونُ الَّذِي لَمْ يُبْتَذَلْ لِأَجْلِ خِتَامِهِ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ غَيْرُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاسَتِهِ، وَقِيلَ: الَّذِي يُخْتَمُ بِالْمِسْكِ مَكَانَ الطِّينِ وَالشَّمْعِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الَّذِي يَخْتِمُ أَوَانِيَهُ لِنَفَاسَتِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ آخِرُ مَا يَجِدُونَ مِنْهُ فِي الطَّعْمِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ مِنْ قَوْلِهِمْ خَتَمْتُ الْكِتَابَ أَيِ: انْتَهَيْتُ إِلَى آخِرِهِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ - خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 25 - 26] وَالْمَعْنَى الْأَخِيرُ هُوَ الَّذِي عِنْدَ أَرْبَابِ الذَّوْقِ فَإِنَّ خَتْمَ الْأَوَانِي بِمَعْنَى مَنْعِهَا لَا يُلَائِمُ مَقَامَ الْجَنَّةِ الَّتِي لَا مَقْطُوعَةٌ وَلَا مَمْنُوعَةٌ، وَفِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1342

1914 -

وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ فِي الْمَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ " ثُمَّ تَلَا {لَيْسَ الْبَرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الْآيَةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

1914 -

(وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ فِي الْمَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» ") وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ لَا يَحْرِمَ السَّائِلَ وَالْمُسْتَقْرِضَ وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مَتَاعَ بَيْتِهِ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ كَالْقِدْرِ وَالْقَصْعَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا الْمَاءَ وَالْمِلْحَ وَالنَّارَ؛ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا غَيْرُ الزَّكَاةِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمُسَافِرِ وَالسَّائِلِ وَتَخْلِيصِ رِقَابِ الْمَمْلُوكِ بِالْعِتْقِ وَنَحْوِهِ (ثُمَّ تَلَا) أَيْ: قَرَأَ اعْتِضَادًا أَوِ اسْتِشْهَادًا {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177] بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]- الْآيَةَ) أَيْ: {وَلَكِنَّ الْبَرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّاَئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177] قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَبِهِ الِاسْتِشْهَادُ أَنَّهُ - تَعَالَى - ذَكَرَ إِيتَاءَ الْمَالِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ثُمَّ قَفَّاهُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، قِيلَ: الْحَقُّ حَقَّانِ حَقٌّ يُوجِبُهُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى عِبَادِهِ وَحَقٌّ يَلْتَزِمُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الْمُوَقَّاةِ مِنَ الشُّحِّ الْمَجْبُولِ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ اهـ. وَهَذَا مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] يَعْنِي: إِذَا عَاهَدُوا اللَّهَ بِطْرِيقِ النَّذْرِ الْمُوجِبِ لِلْوَفَاءِ بِهِ شَرْعًا وَبِالِالْتِزَامِ الْعُرْفِيِّ السُّلُوكِيِّ الْمُقْتَضِي وَفَاءَهُ مُرُوءَةً وَعُرْفًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ بِقَطْعِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ.

ص: 1343

1915 -

«وَعَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا قَالَتْ: قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: " الْمَاءُ "، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: " الْمِلْحُ "، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: " أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

1915 -

(وَعَنْ بُهَيْسَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ، لَهَا صُحْبَةٌ؛ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (عَنْ أَبِيهَا قَالَتْ: قَالَ) أَيْ: أَبُوهَا ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: " الْمَاءُ» ") أَيْ: عِنْدَ عَدَمِ احْتِيَاجِ صَاحِبِ الْمَاءِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ بِنَاءً عَلَى وُسْعِهِ عَادَةً (قَالَ:" يَا نَبِيَّ اللَّهِ ") تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ (مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟) أَيْ: بَعْدَ الْمَاءِ (قَالَ: " الْمِلْحُ ") لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَبَذْلِهِ عُرْفًا (قَالَ: " يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ ") أَيْ: بَعْدَهُ (قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ: فِعْلُ الْخَيْرِ جَمِيعِهِ " خَيْرٌ لَكَ " لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَالْخَيْرُ لَا يَحِلُّ لَكَ مَنْعُهُ، فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ " لَا يَحِلُّ " بِمَعْنَى لَا يَنْبَغِي (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ مِيرَكُ: وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ الْمُنْذِرِيُّ، فَالْحَدِيثُ حَسَنٌ صَالِحٌ عِنْدَهُ.

ص: 1343

1916 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَافِيَةُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ» " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدِّرَامِيُّ.

ــ

1916 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً» ) أَيْ: زَرَعَ أَرْضًا يَابِسَةً " فَلَهُ فِيهَا " أَيْ: فِي نَفْسِ إِحْيَائِهَا " أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَافِيَةُ " وَهِيَ كُلُّ طَالِبِ رِزْقٍ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ طَائِرٍ مِنْ عَفَوْتُهُ أَيْ: أَتَيْتُهُ أَطْلُبُ مَعْرُوفَهُ، وَعَافِيَةُ الْمَاءِ وَارِدَتُهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: الْعَوَافِي أَيْ: طَوَالِبُ الرِّزْقِ (مِنْهُ) أَيْ: مِنْ حَاصِلِ الْأَرْضِ وَرِيعِهَا أَوْ مِنَ الْمَأْكُولِ أَوْ مِنَ النَّبَاتِ (فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ) أَيْ: إِذَا كَانَ لَهُ رَاضِيًا وَشَاكِرًا أَوْ مُحْتَمِلًا صَابِرًا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِ مِيرَكَ: كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ.

ص: 1343

1917 -

وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ مَنَحَ مِنْحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ هَدَى زُقَاقًا كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

1917 -

(وَعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ مَنَحَ ") أَيْ: أَعْطَى " مِنْحَةَ لَبَنٍ " تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا وَالْإِضَافَةُ فِيهَا بَيَانِيَّةٌ؛ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فِي الْمِنْحَةِ تَجْرِيدًا بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْعَطِيَّةِ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ بِقَوْلِهِ " أَوْ وَرِقٍ " بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا وَهِيَ قَرْضُ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ مَرْدُودَةٌ، وَقِيلَ: الصِّلَةُ أَيْ: مَنْ أَعْطَى عَطِيَّةً، وَلَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ ذِكْرِ الذَّهَبِ أَنَّهُ ذَهَبُ أَهْلِ الْكَرَمِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ أَوْ يُعْلَمُ حُكْمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى " أَوْ هَدَى " بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ دَلَّ السَّائِلَةَ (زُقَاقًا) بِضَمِّ الزَّايِ أَيْ سِكَّةً وَطَرِيقًا أَيْ: عَرَّفَ ضَالًّا أَوْ ضَرِيرًا طَرِيقًا، وَقِيلَ: إِلَى سَكَنِهِ أَوْ بَيْتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنْ هَدَى مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولَيْنِ أَوْ إِلَى مَفْعُولٍ، وَيُرْوَى بِتَشْدِيدِ الدَّالِ إِمَّا مُبَالَغَةً فِي الْهِدَايَةِ أَوْ مِنَ الْهَدِيَّةِ أَيْ: تَصَدَّقَ بِزُقَاقٍ مِنَ النَّخْلِ وَهُوَ السِّكَّةُ وَالصَّفُّ مِنْ أَشْجَارِهِ أَوْ جَعَلَهُ وَقْفًا " كَانَ لَهُ " أَيْ: ثَبَتَ لَهُ " مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ " أَيْ: كَانَ مَا ذُكِرَ لَهُ مِثْلَ إِعْتَاقِ رَقَبَةٍ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ نَفْعُ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: كَعَدْلِ رَقَبَةٍ أَوْ نَسَمَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ:«كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ» ، قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ: كَمِثْلِ عَبْدٍ وَأَمَةٍ، وَأَوْ لِلشَّكِّ، وَالنَّسَمَةُ الْإِنْسَانُ، أَوْ عَدْلُ رَقَبَةٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَالنَّسَمَةُ أَنْ يُعِينَ فِي فَكَاكِهَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَالَ: صَحِيحٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ص: 1344

1918 -

«وَعَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ، لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ: قَالَ: " لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ، عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ "

قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي إِنْ أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ أَوْ فَلَاةٍ فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ " قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ، قَالَ:" لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا "، قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا وَلَا عَبْدًا وَلَا بَعِيرًا وَلَا شَاةً. قَالَ: " وَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ ; إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ. وَارْفَعْ إِزَاَرَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ

ذَلِكَ عَلَيْهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ حَدِيثَ السَّلَامِ، وَفِي رِوَايَةٍ "«فَيَكُونَ لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ» ".

ــ

1918 -

(وَعَنْ أَبِي جُرَيٍّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ (جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَصْدُرُ النَّاسُ) أَيْ: يَرْجِعُونَ (عَنْ رَأْيِهِ) وَيَعْمَلُونَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَيَجْتَنِبُونَ عَمَّا يَنْهَاهُمْ عَنْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَنْصَرِفُونَ عَمَّا رَآهُ وَيَسْتَصْوِبُونَهُ، شَبَّهَ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْهُ بَعْدَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَيْهِ لِسُؤَالِ مَصَالِحِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ بِالْوَارِدَةِ إِذَا صَدَرُوا عَنِ الْمَنْهَلِ بَعْدَ الرِّيِّ (لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ) : أَيْ: عَمِلُوا بِهِ، صِفَةٌ كَاشِفَةٌ مُوَضِّحَةٌ لِلْمَقْصُودِ (قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ. قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ) إِمَّا لِعَدَمِ سَمَاعِهِ أَوْ لِعَدَمِ جَوَابِهِ تَأْدِيبًا لَهُ (قَالَ: لَا تَقُلْ) نَهْيُ تَنْزِيهٍ (عَلَيْكَ السَّلَامُ) أَيِ: ابْتِدَاءً (عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ) أَيْ: فِي زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُحَيَّا بِهِ الْأَحْيَاءُ لِأَنَّهُ شُرِعَ لَهُ أَنْ يُحَيِّيَ صَاحِبَهُ، وَشُرِعَ لَهُ أَنْ يُجِيبَهُ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُوضَعَ مَا وُضِعَ لِلْجَوَابِ مَوْضِعَ التَّحِيَّةِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُحَيَّوْا بِتَقْدِيمِ السَّلَامِ كَقَوْلِهِ عليه السلام:«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» اهـ. وَيُوَضِّحُهُ كَلَامُ بَعْضِ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّهُ يُحَيَّا الْمَيِّتُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، إِذْ قَدْ سَلَّمَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَمْوَاتِ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ تَحِيَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ يُحَيَّا بِهَا الْمَيِّتُ لَا الْحَيُّ، وَذَلِكَ لِمَعْنَيَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ شُرِعَتْ لِجَوَابِ التَّحِيَّةِ، وَمِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَيِّيَ صَاحِبَهُ بِمَا شُرِعَ لَهُ مِنَ التَّحِيَّةِ فَيُجِيبَ صَاحِبُهُ بِمَا شُرِعَ لَهُ مِنَ الْجَوَابِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْجَوَابَ مَكَانَ التَّحِيَّةِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَيِّتِ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ أَنْ تَشْمَلَهُ بَرَكَةُ السَّلَامِ، وَالْجَوَابُ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ هُنَالِكَ، فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ بِكِلْتَا الصِّيغَتَيْنِ، وَالْآخَرُ أَنَّ إِحْدَى فَوَائِدِ السَّلَامِ أَنْ يُسْمِعَ الْمُسَلِّمُ الْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لَفْظَ السَّلَامِ لِيَحْصُلَ الْأَمْنُ مِنْ قِبَلِ قَلْبِهِ، فَإِذَا بَدَأَ بِعَلَيْكَ لَمْ يَأْمَنْ حَتَّى يُلْحِقَ بِهِ السَّلَامَ بَلْ يَسْتَوْحِشُ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِ، فَأُمِرَ بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى إِينَاسِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ بِتَقْدِيمِ السَّلَامِ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَطْلُوبٍ فِي الْمَيِّتِ فَسَاغَ لِلْمُسَلِّمِ أَنْ يَفْتَتِحَ بِالْكَلِمَتَيْنِ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ، وَقِيلَ: إِنَّ عُرْفَ الْعَرَبِ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى قَبْرٍ أَنْ قَالُوا: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:" «عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ» " عَلَى وَفْقِ عُرْفِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ ; لَا لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ عَلَى الْأَمْوَاتِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ اهـ. فَعَلَى الْأَخِيرِ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفٍ خَاصٍّ أَوْ عَلَى جَهْلِ الرَّجُلِ بِالْعُرْفِ، وَالْجَاهِلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، فَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ كَلَامِهِ - عَلَيْهِ

ص: 1344

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " «عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ» " وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ السَّلَامُ جَوَابًا لَهُ، وَتَحِيَّةُ الْمَيِّتِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ هَذَا وَهَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ) أَيْ: إِذَا سَلَّمْتَ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ (قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ هُوَ: هُوَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ الْآتِيَيْنِ، أَوْ صِفَةٌ لِلَّهِ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ عَلَى نُسْخَةِ الضَّمِّ بِنَاءً عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي " دَعَوْتَهُ " فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْآتِيَةِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ " مَقْرُونًا بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ وَإِنْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ وَظُهُورِ أَنْوَاعِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَأَصْنَافِ شَمَائِلِ الرِّسَالَةِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ سُؤَالِهِ مَعْرِفَةَ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بِوَصْفِ الرِّسَالَةِ الْمَوْصُوفِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ لَا إِثْبَاتَهَا بِالْمُعْجِزَةِ، وَهَذَا مَحْمَلُ فَتْحِ التَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ " بِي " بَعْدَ " دَعَوْتَهُ " أَيْ: بِالتَّوَسُّلِ إِلَيَّ أَوْ بَعْدَ كَشْفِهِ أَيْ: بِسَبَبِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ( «إِنْ أَصَابَكَ ضُرٌّ» ) بِضَمِّ الضَّادِ وَيُفْتَحُ " فَدَعَوْتَهُ " أَيْ: أَنْتَ بِوَسِيلَتِي أَوْ أَنَا " كَشَفَهُ " أَيْ: أَزَالَ اللَّهُ ذَلِكَ الضُّرَّ " عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ " أَيْ: سَنَةُ قَحْطٍ لَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا " فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ " أَيْ: صَيَّرَهَا ذَاتَ نَبَاتٍ لَكَ " وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ " وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ أَيْ: فَلَاةٍ خَالِيَةٍ مِنَ الْمَاءِ وَالشَّجَرِ فَهِيَ الْمَفَازَةُ الْمُهْلِكَةُ " أَوْ فَلَاةٍ " أَيْ: مَفَازَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُمْرَانِ فَهِيَ الْمَفَازَةُ الْخَطِرَةُ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلشَّكِّ " فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ " أَيْ: فَحَادَتْ وَمَالَتْ عَنِ الطَّرِيقِ أَوْ غَابَتْ عَنْكَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ " فَدَعَوْتَهُ رَدَّهَا عَلَيْكَ، قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ " أَيْ: أَوْصِنِي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] " قَالَ: «لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا» " أَيْ: لَا تَشْتُمْهُ، وَإِنَّمَا عَهِدَ عليه الصلاة والسلام عَدَمَ السَّبِّ، بِعِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِهِ ذَلِكَ فَنَهَاهُ عَنْهُ " فَقَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ " أَيْ: بَعْدَ عَهْدِهِ أَحَدًا " حُرًّا وَلَا عَبْدًا وَلَا بَعِيرًا وَلَا شَاةً " أَيْ: لَا إِنْسَانًا وَلَا حَيَوَانًا سَدًّا لِلْبَابِ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ سَبُّ إِنْسَانٍ مَخْصُوصٍ عُلِمَ مَوْتُهُ بِالْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي عَدَمِ سَبِّهِ، وَالْأَفْضَلُ الِانْشِغَالُ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ حَتَّى عَنْ لَعْنِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ خُطُورَ مَا سِوَى اللَّهِ فِي الْخَاطِرِ نُقْصَانٌ " قَالَ " أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "«وَلَا تَحْقِرَنَّ شِيئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ» " أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَوْ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا أَوْ صَغِيرًا ( «وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ» ) قِيلَ أَيْ: وَكَلِّمْ أَخَاكَ تَكْلِيمًا فَحُذِفَ الْفِعْلُ الْعَامِلُ وَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: تَكْلِيمُكَ أَخَاكَ، ثُمَّ وُضِعَ الْفِعْلُ مَعَ أَنْ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى النَّهْيِ، كَذَا فِي الشَّرْحِ، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: قَوْلُهُ: وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى شَيْءٍ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ مُسْتَأْنَفٌ عِلَّةٌ لَهُ أَوْ مُبْتَدَأٌ وَإِنَّ ذَلِكَ خَبَرُهُ " وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ " أَيْ: بَشَّاشٌ " إِلَيْهِ وَجْهُكَ " بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ " مُنْبَسِطٌ " وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ تَتَوَاضَعُ لَهُ وَتَطْلُبُ الْكَلَامَ حَتَّى يَفْرَحَ قَلْبُهُ بِحُسْنِ خُلُقِكَ " إِنَّ ذَلِكَ " بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ التَّغْلِيبِيِّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا لِلْعِلَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّكْلِيمِ مَعَ انْبِسَاطِ الْوَجْهِ مِنْ جُمْلَةِ " الْمَعْرُوفِ " «الَّذِي لَا يُنْكَرُ وَلَا يُحَقَّرُ فَلَا يُتْرَكُ» " وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ " أَيْ: لِيَكُنْ سِرْوَالُكَ وَقَمِيصُكَ قَصِيرَيْنِ " فَإِنْ أَبَيْتَ " رَفْعَ إِزَارِكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَارْفَعْهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَتَجَاوَزْ عَنْهُمَا " وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ " أَيِ: اجْتَنِبْهُ " فَإِنَّهَا " أَيْ: هَذِهِ الْفَعْلَةُ أَوِ الْخَصْلَةُ الَّتِي هِيَ الْإِسْبَالُ مِنْ إِرْسَالِ الثَّوْبِ وَإِرْخَائِهِ " مِنَ الْمَخِيلَةِ " بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْخَاءِ أَيِ: الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ "«وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ» " أَيْ: سَبَّكَ وَلَعَنَكَ " وَعَيَّرَكَ " أَيْ: لَامَكَ وَعَيَّرَكَ " بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ " أَيْ: مِنْ

ص: 1345

عَيْبِكَ سَوَاءٌ يَكُونُ فِيكَ أَمْ لَا " فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ " أَيْ: فَضْلًا عَمَّا لَا تَعْلَمُ فِيهِ " فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ " أَيْ: إِثْمُ مَا ذُكِرَ مِنَ الشَّتْمِ وَالتَّعْيِيرِ " عَلَيْهِ " أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الْمَرْءِ وَلَا يَضُرُّكَ شَيْءٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) قَالَ الْجِذْرِيُّ وَالْمُنْذِرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الْحَدِيثِ (حَدِيثَ السَّلَامِ) أَيْ: صَدْرَ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّلَامِ، قَالَ مِيرَكُ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُنْذِرِيِّ وَالشَّيْخِ الْجِذْرِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا لَكِنَّ اللَّفْظَ لِأَبِي دَاوُدَ (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لِلتِّرْمِذِيِّ " «فَيَكُونَ لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ» " قَالَ مِيرَكُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لِلتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْمُؤَلِّفُ: وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، قُلْتُ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِي التِّرْمِذِيِّ بِكَمَالِهِ.

ص: 1346

1919 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ " قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: " بَقِيَتْ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

ــ

1919 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً) أَيْ: أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، أَوْ أَهْلُ الْبَيْتِ رضي الله عنهم وَهُوَ الْأَظْهَرُ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ ") عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ مِنَ الشَّاةِ " قَالَتْ: مَا بَقِيَ " أَيْ: مِنْهَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ " إِلَّا كَتِفُهَا " أَيِ: الَّتِي لَمْ يُتَصَدَّقْ بِهَا " قَالَ: بَقِيَتْ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا " بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ أَيْ: مَا تَصَدَّقْتِ بِهِ فَهُوَ بَاقٍ، وَمَا بَقِيَ عِنْدَكِ فَهُوَ غَيْرُ بَاقٍ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .

ص: 1346

1920 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا، إِلَّا كَانَ فِي حِفْظٍ مِنَ اللَّهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ مِنْهُ خِرْقَةٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

1920 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا» ) أَيْ: إِزَارًا أَوْ رِدَاءًا أَوْ غَيْرَهَا " إِلَّا كَانَ فِي حِفْظٍ " قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فِي حِفْظٍ أَيِّ حِفْظٍ " مِنَ اللَّهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ " أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِ " مِنْهُ " أَيْ: مِنَ الثَّوْبِ " خِرْقَةٌ " أَيْ: قِطْعَةٌ يَسِيرَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فِي حِفْظِ اللَّهِ لِيَدُلَّ التَّنْكِيرُ عَلَى نَوْعِ تَفْخِيمٍ وَشُيُوعٍ، وَهَذَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا حَصْرَ وَلَا عَدْلَ لِثَوَابِهِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحِفْظِ مَعْنَى السِّتْرِ فَيُوَافِقَ مَا وَرَدَ " «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» " وَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لِأَنَّهُ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الثَّوْبِ وَقَدْرِهِ وَحَالِ مُعْطِيهِ وَآخِذِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) أَيْ مِنْ طَرِيقِ حُصَيْنِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اهـ. كَلَامُهُ وَحُصَيْنُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.

ص: 1346

1921 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، يَرْفَعُهُ، قَالَ:" «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ " رَجُلٌ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ، وَرَجُلٌ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا " أُرَاهُ قَالَ: " مِنْ شِمَالِهِ، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ

فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، فَاسْتَقْبَلَ الْعَدُوَّ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، أَحَدُ رُوَاتِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، كَثِيرُ الْغَلَطِ.

ــ

1921 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، يَرْفَعُهُ) أَيْ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (يُحِبُّهُمُ اللَّهُ) فَإِنْ ظَهَرَ عَلَامَةُ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ أَوْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ أَنْتَجَتْ لَهُمُ التَّوْفِيقَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ (رَجُلٌ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ وَالنَّاسُ نَائِمُونَ (يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ) فَكَأَنَّهُ يُكَلِّمُ اللَّهَ وَيُكَلِّمُهُ فِي خَلْوَةٍ وَهَذَا عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ (وَرَجُلٌ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ) أَيْ صَدَقَةِ نَفْلٍ (بِيَمِينِهِ) وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْأَدَبِ فِي الْعَطَاءِ بِأَنْ يَكُونَ بِالْيَمِينِ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ وَتَفَاؤُلًا بِالْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ أَوْ بِمَنْ يَكُونُ عَلَى يَمِينِهِ (يُخْفِيهَا) أَيْ يُخْفِي تِلْكَ الصَّدَقَةَ غَايَةَ الْإِخْفَاءِ خَوْفًا مِنَ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ مُبَالَغَةً فِي قَصْدِ ابْتِغَاءِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا (أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مِنَ الْإِرَاءَةِ أَيْ أَظُنُّهُ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوِ ابْنُ مَسْعُودٍ (مِنْ شِمَالِهِ) أَيْ يُخْفِيهَا مِنْ

ص: 1346

شِمَالِهِ أُرِيدَ بِهِ كَمَالُ الْمُبَالَغَةِ أَوْ مِمَّنْ فِي جِهَةِ شِمَالِهِ (وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ) أَيْ فِي جَيْشٍ صَغِيرٍ (فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فَاسْتَقْبَلَ الْعَدُوَّ) أَيْ وَقَاتَلَهُمْ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَمُنَاسَبَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُمْ مُجَاهِدُونَ، فَالْأَوَّلُ يُجَاهِدُ فِي نَفْسِهِ وَيَمْنَعُهَا عَنِ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ وَالرَّاحَةِ وَيُخَالِفُ أَقْرَانَهُ بِالسَّهَرِ وَالتِّلَاوَةِ، وَالثَّانِي يُجَاهِدُ فِي مَالِهِ وَيُخْرِجُهُ وَيُعْطِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِهِ إِخْوَانُهُ وَيُخَالِفُ غَالِبَ أَهْلِ زَمَانِهِ فِي أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَ، وَالثَّالِثُ يُجَاهِدُ فِي بَذْلِ رُوحِهِ حَيْثُ لَا طَمَعَ لِلنَّفْسِ فِي الْغَنِيمَةِ وَمَدْحِ النَّاسِ لَهُ بِالشَّجَاعَةِ وَيُخَالِفُ أَصْحَابَهُ فِي الِانْهِزَامِ، وَالْمُنَاسَبَةُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ تُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْغَازِينَ» ، وَالثَّانِي دَخِيلٌ بَيْنَهُمَا يَلْحَقُ بِهِمَا؛ حَيْثُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ وَالنَّاسُ عَنْهُ غَافِلُونَ وَعَنْ طَرِيقِهِ عَادِلُونَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ ضَعِيفٌ (أَحَدُ رُوَاتِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ كَثِيرُ الْغَلَطِ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ مَعَ كَوْنِهِ إِمَامًا فِي رِوَايَةِ الْمِقْرَاءَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقٍ مَحْفُوظٍ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ كَثِيرُ الْغَلَطِ، هَكَذَا عِبَارَةُ التِّرْمِذِيِّ فِي جَامِعِهِ، وَتَطْبِيقُ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمُؤَلِّفُ لَا تَخْلُو عَنْ تَكَلُّفِ تَأَمُّلٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَقْصُودَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 1347

1922 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلَاثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْيَانِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ الشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالْغَنِيُّ الظَّلُومُ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

1922 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلَاثَةٌ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ فَرَجُلٌ» ) أَيْ مُعْطِي رَجُلٍ (أَتَى قَوْمًا) وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ صَاحِبُ قَوْمٍ (فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ) أَيْ مُسْتَعْطِفًا بِاللَّهِ قَائِلًا: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَعْطُونِي (وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ لِقَرَابَةٍ) أَيْ وَلَمْ يَقُلْ أَعْطُونِي بِحَقِّ قَرَابَةٍ (بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ) أَيِ الرَّجُلَ الْعَطَاءَ (فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْيَانِهِمْ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ بِأَشْخَاصِهِمْ وَتَقَدَّمَ (فَأَعْطَاهُ سِرًّا) وَقِيلَ: أَيْ تَأَخَّرَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَى جَانِبٍ حَتَّى لَا يَرَوْهُ الْأَعْيَانُ الْأَشْخَاصُ أَيْ سَبَقَهُمْ بِهَذَا الْخَيْرِ فَجَعَلَهُمْ خَلْفَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ " فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ عَنْ أَعْيَانِهِمْ " وَهَذَا أَشَدُّ مَعْنًى وَالْأَوَّلُ أَوْثَقُ سَنَدًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى خَلَا بِالسَّائِلِ فَأَعْطَاهُ سِرًّا، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِأَعْيَانِهِمْ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ أَيْ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ مُسْتَتِرًا بِظِلَالِهِمْ، وَأَعْيَانِهِمْ أَيْ أَشْخَاصِهِمْ، قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنَّمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ لِتَعْظِيمِ اسْمِهِ وَتَصَدُّقِهِ حِينَ خَالَفَهُ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ اهـ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ سَبَبَ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ وَلِصَاحِبَيْهِ الْآتِيَيْنِ مُخَالَفَةُ الْخَلْقِ وَمُوَافَقَةُ الْحَقِّ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ " لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ) تَقْرِيرٌ لِمَعْنَى السِّرِّ (وَقَوْمٌ) أَيْ وَقَائِمُ قَوْمٍ (سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ " أَيْ أَطْيَبَ وَأَلَذَّ (مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ) أَيْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُقَابَلُ وَيُسَاوَى بِالنَّوْمِ (فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ) أَيْ فَنَامُوا (فَقَامَ) أَيْ مِنَ النَّوْمِ أَوْ عَنْهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ (يَتَمَلَّقُنِي) أَيْ يَتَوَاضَعُ لَدَيَّ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيَّ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْمَلَقُ بِالتَّحْرِيكِ زِيَادَةٌ فِي التَّوَدُّدِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، قِيلَ: دَلَّ أَوَّلُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم وَآخِرُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ - تَعَالَى - وَوُجِّهَ بِأَنَّ مَقَامَ الْمُنَاجَاةِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْرَارٍ وَمُنَاجَاةٍ بَيْنَ الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ، فَحَكَى اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ، فَحَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لَا بِمَعْنَاهُ إِذْ لَا يُقَالُ يَتَمَلَّقُ اللَّهَ وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الِالْتِفَاتِ فِي شَيْءٍ (وَيَتْلُو آيَاتِي) أَيْ يَقْرَأُ أَلْفَاظَهَا وَيُتْبِعُهَا بِالتَّأَمُّلِ فِي مَعَانِيهَا (وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ) أَيْ جَيْشٍ (فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا) أَيْ أَصْحَابُهُ (فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ) أَيْ خِلَافَ مَنْ وَلَّى دُبُرَهُ بِتَوَلِّيهِ ظَهْرَهُ (حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ) أَيْ حَتَّى يَفُوزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ (وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمُ اللَّهُ الشَّيْخُ الزَّانِي) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْخِ الشَّيْبَةُ ضِدُّ الشَّابِّ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُحْصَنُ ضِدُّ الْبِكْرِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "(وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ) أَيِ الْمُتَكَبِّرُ فَإِنَّهُ صَدَقَةٌ (وَالْغَنِيُّ الظَّلُومُ) أَيْ كَثِيرُ الظُّلْمِ فِي الْمَطْلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّيْخَ وَأَخَوَيْهِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ فِيهِمْ أَشَدُّ مَذَمَّةً وَأَكْثَرُ نُكْرَةً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 1347

1923 -

وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَقَالَ: بِهَا عَلَيْهَا، فَاسْتَقَرَّتْ فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ شِدَّةِ الْجِبَالِ، فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنِ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الْحَدِيدُ. فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمِ، النَّارُ. فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الْمَاءُ. فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الرِّيحُ. فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمِ، ابْنُ آدَمَ تَصَدَّقَ صَدَقَةً بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا عَنْ شِمَالِهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَذُكِرَ حَدِيثُ مُعَاذٍ " «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ» " فِي كِتَابِ " الْإِيمَانِ ".

ــ

1923 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ) أَيْ أَرْضَ الْكَعْبَةِ وَدُحِيَتْ وَبُسِطَتْ مِنْ جَوَانِبِهَا وَبَقِيَتْ كَلَوْحَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ (جَعَلَتْ) أَيْ شَرَعَتْ (تَمِيدُ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ تَمِيلُ وَتَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ شَدِيدَةً وَلَا تَسْتَقِرُّ حَتَّى قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: لَا يَنْتَفِعُ الْإِنْسُ بِهَا (فَخَلَقَ الْجِبَالَ) وَقِيلَ: أَوَّلُهَا أَبُو قَيْسٍ (فَقَالَ: بِهَا عَلَيْهَا) أَيْ أَمَرَ وَأَشَارَ بِكَوْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا عَلَيْهَا (اسْتَقَرَّتْ) أَيِ: الْجِبَالُ عَلَيْهَا فَثَبَتَتِ الْأَرْضُ فِي مَكَانِهَا أَوْ مَا مَادَتْ عَنْ حَالِهَا وَمَحَلِّهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْأَمْرُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظَةِ كُنْ فَيَكُونُ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ عِنْدِي دَقِيقٌ وَبِالْقَبُولِ حَقِيقٌ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَدْ مَرَّ مِرَارًا أَنَّ الْقَوْلَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ، وَقَرِينَةُ اخْتِصَاصِهِ اقْتِضَاءُ الْمَقَامِ، فَالتَّقْدِيرُ أَلْقَى بِالْجِبَالِ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] فَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَإِيثَارُ الْقَوْلِ عَلَى الْإِلْقَاءِ وَالْإِرْسَالِ لِبَيَانِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ يَتَأَتَّى مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَقِيلَ: ضُمِّنَ الْقَوْلُ مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ أَمَرَ الْجِبَالَ قَائِلًا: ارْسِي عَلَيْهَا، وَقِيلَ: أَيْ ضَرَبَ بِالْجِبَالِ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ، وَقِيلَ: الْقَوْلُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمَلَائِكَةَ بِوَضْعِ الْجِبَالِ عَلَى الْأَرْضِ اهـ وَالْأَخِيرُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْمَنْقُولِ حَيْثُ وَرَدَ " فَأَصْبَحَتِ الْمَلَائِكَةُ فَرَأَوُا الْجِبَالَ عَلَيْهَا " يَرُدُّهُ قَوْلُهُ ( «فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ شِدَّةِ الْجِبَالِ فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنِ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الْحَدِيدُ» ) فَإِنَّهُ يَكْسَرُ الْحَجَرَ وَيُقْلَعُ بِهِ الْجِبَالُ ( «فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمِ، النَّارُ» ) فَإِنَّهَا تُلَيِّنُ الْحَدِيدَ وَتُذِيبُهُ ( «فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الْمَاءُ» ) لِأَنَّهُ يُطْفِئُهَا ( «فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمِ، الرِّيحُ» ) مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تُفَرِّقُ الْمَاءَ وَتُنَشِّفُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ الرِّيحَ تَسُوقُ السَّحَابَ الْحَامِلَ لِلْمَاءِ ( «فَقَالُوا: يَا رَبِّ! هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمِ، ابْنُ آدَمَ تَصَدَّقَ صَدَقَةً بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شِمَالِهِ» ) قِيلَ: أَشَدِّيَّتُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَخَّرَ نَفْسَهُ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَى غَرَائِزَ لَا تَدْفَعُهَا النَّارُ وَالْمَاءُ وَالرِّيحُ وَلَا تُحْمَلُ عَلَى مَا تَأْبَاهُ بِالتَّشَدُّدِ وَلَا تَنْقَلِبُ عَمَّا تَرُومُهُ بِالِاحْتِيَالِ، فَهِيَ أَشَدُّ مِنْ كُلِّ شَدِيدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ سَخَّرَهَا حَيْثُ مَنَعَهَا مِنْ إِظْهَارِ الصَّدَقَةِ إِيثَارًا لِلسُّمْعَةِ وَحُبًّا لِلثَّنَاءِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَدْ قَهَرَ الشَّيْطَانَ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَصَّلَ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَتِ الصَّدَقَةُ أَشَدَّ مِنَ الرِّيحِ الْأَشَدِّ مِمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ فِي الصُّعُوبَةِ وَالشِّدَّةِ، فَإِذَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ عَمَلًا تَوَسَّلَ إِلَى إِطْفَائِهِ كَانَ أَشَدَّ وَأَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأَجْرَامِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ مِنْ جِبِلَّةِ ابْنِ آدَمَ الْقَبْضَ وَالْبُخْلَ الَّذِي هُوَ مِنْ طَبِيعَةِ الْأَرْضِ، وَمِنْ جِبِلَّتِهِ الِاسْتِعْلَاءَ وَطَلَبَ انْتِشَارَ الصِّيتِ وَهُمَا مِنْ طَبِيعَتَيِ النَّارِ وَالرِّيحِ، فَإِذَا رَغَمَ بِالْإِعْطَاءِ جِبِلَّتَهُ الْأَرْضِيَّةَ أَوْ بِالْإِخْفَاءِ جِبِلَّتَهُ النَّارِيَّةَ وَالرِّيحِيَّةَ كَانَ أَشَدَّ الْكُلِّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَذُكِرَ حَدِيثُ مُعَاذٍ «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ» ) أَيْ تُزِيلُ الذُّنُوبَ وَتَمْحُوهَا كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114](فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ) أَيْ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ هُنَاكَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ.

ص: 1348

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

1924 -

عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُنْفِقُ مِنْ كُلِّ مَالٍ لَهُ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا اسْتَقْبَلَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ، كُلُّهُمْ يَدْعُوهُ إِلَى مَا عِنْدَهُ " قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: " إِنْ كَانَتْ إِبِلًا فَبَعِيرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً فَبَقَرَتَيْنِ» ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)

1924 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُنْفِقُ» ) أَيْ يَتَصَدَّقُ (مِنْ كُلِّ مَالٍ لَهُ) أَيْ مِنْ كُلِّ مَالِهِ (زَوْجَيْنِ) أَيِ اثْنَيْنِ أَوْ صِنْفَيْنِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ فِي ابْتِغَاءِ وَجْهِهِ وَمَرْضَاةِ رَبِّهِ أَوْ يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْحَجِّ وَالْغَزْوِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهَا (إِلَّا اسْتَقْبَلَتْهُ حَجَبَةُ الْجَنَّةِ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ حَاجِبٍ أَيْ بَوَّابُو أَبْوَابِهَا (كُلُّهُمْ يَدْعُوهُ) أَفْرَدَ الضَّمِيرَ لِلَفْظِ كُلِّ أَوِ الْمَعْنَى: كُلٌّ مِنْهُمْ يَدْعُوهُ (إِلَى مَا عِنْدَهُ) أَيْ مِنَ النِّعَمِ الْعِظَامِ وَالْمِنَحِ الْفِخَامِ أَوْ إِلَى بَابٍ هُوَ وَاقِفٌ عِنْدَهُ بِالِاسْتِدْعَاءِ وَالْعَرْضِ، وَالْغَرَضُ أَنْ يَتَشَرَّفَ بِدُخُولِهِ مِنْهُ (قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟) أَيْ كَيْفَ يُنْفِقُ زَوْجَيْنِ مِمَّا يَتَمَلَّكُهُ بِالْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ (قَالَ: إِنْ كَانَتْ إِبِلًا) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ مَالٍ بِاعْتِبَارِ الْجَمَاعَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ فَإِنَّ الْإِبِلَ مُؤَنَّثٌ (فَبَعِيرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً) أَيْ بَقَرًا (فَبَقَرَتَيْنِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

ص: 1349

1925 -

وَعَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ ظِلَّ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَدَقَتُهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

1925 -

(وَعَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو الْخَيْرِ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ الْمِصْرِيُّ سَمِعَ ابْنَ عَامِرٍ وَأَبَا أَيُّوبَ وَابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " إِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَالظِّلِّ فِي أَنَّهَا تَحْمِيهِ عَنْ أَذَى الْحَرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَدَقَتُهُ أَيْ: إِحْسَانُهُ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ إِمَّا هُوَ أَنْ تُجَسَّدَ صَدَقَتُهُ أَوْ يُجَسَّمَ ثَوَابُهَا وَقَدْ تُخَصَّصُ الصَّدَقَةُ بِمَا لَهَا ظِلٌّ حَقِيقِيٌّ كَثَوْبِ الْخَيْمَةِ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 1349

1926 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ فِي النَّفَقَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ» " قَالَ سُفْيَانُ: إِنَّا قَدْ جَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ. رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

1926 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِيَالِهِ فِي النَّفَقَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ» ) أَيْ بَاقِيَهَا أَوْ جَمِيعَهَا (قَالَ سُفْيَانُ) أَيِ الثَّوْرِيُّ فَإِنَّهُ الْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ (إِنَّا) أَيْ نَحْنُ وَأَصْحَابُنَا (قَدْ جَرَّبْنَاهُ) أَيِ الْحَدِيثَ لِنَعْلَمَ صِحَّتَهُ أَوْ جَرَّبْنَاهُ الْوُسْعَ (فَوَجَدْنَاهُ) أَيْ جَزَاءَهُ (كَذَلِكَ) أَيْ عَلَى تَوْسِيعِ الْعَامِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) أَيْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحْدَهُ.

ص: 1349

1927 -

(وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ وَضَعَّفَهُ) .

ــ

1927 -

(وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ) أَيْ عَنِ الْأَرْبَعَةِ كُلِّهِمْ، وَأَعَادَ لَفَظَ عَنْ لِئَلَّا يَعْطِفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْجَارِّ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْصَحُ (وَضَعَّفَهُ) أَيِ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَهُ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْمُنْذِرِيِّ فِي التَّرْغِيبِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْأَسَانِيدُ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً فَهِيَ إِذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَحْدَثَتْ قُوَّةً اهـ قَالَ الْعِرَاقِيُّ: لَهُ طُرُقٌ صُحِّحَ بَعْضُهَا وَبَعْضُهَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَشْيَاءِ الْعَشَرَةِ مَا عَدَا الصَّوْمَ وَالتَّوْسِيعَ.

ص: 1349