المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٤

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ تَحِلُّ لَهُ]

- ‌[بَابُ الْإِنْفَاقِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِمْسَاكِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ]

- ‌[باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم]

- ‌[بَابُ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[باب في توابع لصوم التطوع]

- ‌[بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ]

- ‌[كِتَابُ الدَّعَوَاتِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ]

- ‌[كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ]

- ‌[بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمَنَامِ]

- ‌[بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ]

الفصل: ‌[باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه]

(وَدَعْوَةُ الْحَاجِّ) : أَيِ: الْحَجُّ الْأَكْبَرُ أَوِ الْأَصْغَرُ (حَتَّى يَصْدُرَ) : بِضَمِّ الدَّالِّ أَيْ: إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ وَأَهْلِهِ، أَوْ يَنْصَرِفَ وَيَفْرُغَ عَنْ حَجِّهِ وَعَمَلِهِ، (وَدَعْوَةُ الْمُجَاهِدِ) : أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ الْمُجْتَهِدِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، (حَتَّى يَقْعُدَ) : بِسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الْعَيْنِ. أَيْ: عَنِ الْجِهَادِ أَوِ الْمُجَاهَدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: " يَفْقِدَ " مَا يَسْتَتِبُّ لَهُ مِنْ مُجَاهَدَتِهِ، أَيْ: حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا اهـ. وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ أَيْ: تَهَيَّأَ وَاسْتَقَامَ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الثَّانِي، وَقَالَ: هُوَ مِنْ: فَقَدَ يَفْقِدُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ أَيْ: إِلَى أَنْ يَجِدَ أُهْبَةَ جِهَادِهِ لِفَرَاغِهَا، أَوْ سَرِقَتِهَا، أَوْ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ جِهَادِهِ اهـ.

فَحِينَئِذٍ الصَّحِيحُ الْآخَرُ ; إِذِ الْأَوَّلَانِ لَا يَمْنَعَانِ الْإِجَابَةَ، بَلْ يُقَوِّيَانِهَا، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي هَامِشِ الْمِشْكَاةِ: حَتَّى يَقْفُلَ بِسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الْفَاءِ بِمَعْنَى: يَرْجِعَ، وَمِنْهُ الْقَافِلَةُ تَفَاؤُلًا، وَرَمَزَ عَلَيْهِ بِالظَّاءِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى الظَّاهِرِ، سِيَّمَا وَالرِّوَايَتَانِ ثَابِتَتَانِ، وَمَعْنَاهُمَا ظَاهِرَانِ (وَدَعْوَةُ الْمَرِيضِ حَتَّى يَبْرَأَ) : أَيْ: يَتَعَافَى أَوْ يَمُوتَ (وَدَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ) : أَيْ: فِي غَيْبَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَلْقَاهُ (ثُمَّ قَالَ: وَأَسْرَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِجَابَةً دَعْوَةُ الْأَخِ) : أَيْ: لِأَخِيهِ (بِظَهْرِ الْغَيْبِ) : لِدَلَالَتِهَا عَلَى خُلُوصِ النِّيَّةِ، وَصَفَاءِ الطَّوِيَّةِ، وَالْبَقِيَّةُ لَا تَخْلُو دَعْوَتُهُمْ عَنْ حُظُوظِهِمُ النَّفْسِيَّةِ وَأَغْرَاضِهِمُ الطَّبِيعِيَّةِ، وَلِذَا وَرَدَ: إِنَّ اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

ص: 1539

[بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2261 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنهما ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فَيْمَنْ عِنْدَهُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ــ

1 -

بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل

قَالَ الْجَزَرِيُّ: لَيْسَ فَضْلُ الذَّكَرِ مُنْحَصِرًا فِي التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، بَلْ كُلُّ مُطِيعٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عَمَلٍ، فَهُوَ ذَاكِرٌ، وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ الْقُرْآنُ، إِلَّا فِيمَا شُرِعَ لِغَيْرِهِ أَيْ: كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ ذِكْرٍ مَشْرُوعٌ أَيْ: مَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مُسْتَحَبًّا، لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ وَيُسْمِعَ بِهِ نَفْسَهُ اهـ. وَمَقْصُودُهُ الْحُكْمُ الْفِقْهِيُّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ فِي بَاطِنِهِ حَالَةَ الْقِرَاءَةِ، أَوْ سَبَّحَ بِلِسَانِ قَلْبِهِ حَالَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لَا يَكُونُ آتِيًا بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ وَسُنَّةِ التَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ الْأُخْرَوِيُّ، لِمَا أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَفَضْلُ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ سَبْعُونَ ضِعْفًا. إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَجَمَعَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ لِحِسَابِهِمْ، وَجَاءَتِ الْحَفَظَةُ بِمَا حَفِظُوا وَكَتَبُوا، قَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا هَلْ بَقِيَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَرَكْنَا شَيْئًا مِمَّا عَلِمْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَيْنَاهُ وَكَتَبْنَاهُ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لَكَ عِنْدِي حَسَنًا لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنَا أَجْزِيكَ بِهِ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ» " ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْبُدُورِ السَّافِرَةِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ (وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ) : أَيِ: التَّقَرُّبُ بِذِكْرِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، أَوِ التَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى هَذَا بَابٌ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي شَأْنِهِمَا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2261 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ» : إِنْ أُرِيدَ بِالْقُعُودِ ضِدُّ الْقِيَامِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ هَيْئَاتِ الذَّاكِرِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى جَمْعِيَّةِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَإِنْ كَانَ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِمْرَارِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مُدَاوَمَةِ الْأَذْكَارِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّعْبِيرُ بِهِ لِلْغَالِبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ مَعَ الدُّخُولِ فِي عِدَادِ الذَّاكِرِينَ لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَةُ أَنْفَاسِهِمْ وَلَحْظُ

ص: 1539

إِينَاسِهِمْ اهـ. فَلَا يُنَافِيهِ قِيَامُهُ لِطَاعَةٍ، كَطَوَافٍ وَزِيَارَةٍ وَصَلَاةِ جِنَازَةٍ وَطَلَبِ عِلْمٍ وَسَمَاعِ مَوْعِظَةٍ (إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ) : أَيْ: أَحَاطَتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ (وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ) : أَيْ: غَطَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْخَاصَّةُ بِالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، (وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ) : أَيْ: الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4](وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ) : أَيْ: مُبَاهَاةً وَافْتِخَارًا بِهِمْ بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَيْهِمْ، وَبِوَعْدِ الْجَزَاءِ الْجَزِيلِ لَهُمْ (فِيمَنْ عِنْدَهُ) : أَيْ: مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهِيَ عِنْدِيَّةُ مَكَانَةٍ لَا مَكَانٍ، لِتَعَالِيهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَسَائِرِ سِمَاتِ الْحَدَثَانِ وَالنُّقْصَانِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 1540

2262 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ، فَقَالَ: " سِيرُوا، هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ " قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: " الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ــ

2262 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ) : أَيْ: سَيْرًا ظَاهِرًا، وَفِي طَرِيقِ رَبِّ الْكَعْبَةِ سَيْرًا بَاطِنًا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَاهِبًا إِلَى مَكَّةَ، أَوْ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، (فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ) : عَلَى لَيْلَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ (يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَفِي آخِرِهِ نُونٌ، وَهُوَ مَعَ جَمَادِيَّتِهِ يَشْعُرُ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، وَيَسْتَبْشِرُ بِمَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَابِ الْعِرْفَانِ، كَمَا وَرَدَ:«أَنَّ الْجَبَلَ يُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ، أَيْ: فُلَانُ هَلْ مَرَّ بِكَ أَحَدٌ ذَكَرَ اللَّهَ؟ فَإِذَا قَالَ: نَعَمِ اسْتَبْشَرَ» ، الْحَدِيثَ. (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) .

وَفِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ صَبَاحٍ وَلَا رَوَاحٍ إِلَّا وَبِقَاعُ الْأَرْضِ يُنَادِي بَعْضُهَا بَعْضًا: هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ صَلَّى عَلَيْكَ أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ عَلَيْكَ؟ فَمِنْ قَائِلَةٍ نَعَمْ، وَمِنْ قَائِلَةٍ لَا. فَإِذَا قَالَتْ نَعَمْ عَلِمَتْ أَنَّ لَهَا بِذَلِكَ فَضْلًا عَلَيْهَا» . (فَقَالَ: " سِيرُوا) : أَيْ: سَيْرًا حَسَنًا مَقْرُونًا بِذِكْرٍ وَحُضُورٍ وَشُكْرٍ وَسُرُورٍ " هَذَا جُمْدَانُ ": مُتَحَرِّكٌ بِالسَّيَرَانِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَهُ سَاكِنًا كَالْحَيْرَانِ، سُئِلَ الْجُنَيْدُ، لِمَ تَرَكْتَ السَّمَاعَ؟ فَقَالَ: قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88](سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَسْكُورَةِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: الْمُفَرِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ أَقْرَانِهِمْ، الْمُمَيِّزُونَ أَحْوَالَهُمْ عَنْ إِخْوَانِهِمْ بِنَيْلِ الزُّلْفَى وَالْعُرُوجِ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى؛ لِأَنَّهُمْ أَفْرَادٌ بِذِكْرِ اللَّهِ عَمَّنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ أَوْ جَعَلُوا رَبَّهُمْ فَرْدًا بِالذِّكْرِ، وَتَرَكُوا ذِكْرَ مَا سِوَاهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّفْرِيدِ هُنَا. (قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ!) : قِيلَ: السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ أَعْنِي التَّفْرِيدَ، أَوِ الْإِفْرَادَ، لِأَنَّهُ مَا يُسْأَلُ بِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ يُسْأَلُ بِهِ عَنْ وَصْفِهِ أَيْضًا نَحْوَ سُؤَالِ فِرْعَوْنَ:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] وَجَوَابِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشعراء: 24] فِي وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا: وَمَنْ هُمْ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ التَّفْرِيدَ الْحَقِيقِيَّ الْمُعْتَدَّ لَهُ هُوَ تَفْرِيدُ النَّفْسِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَا صِفَةُ الْمُفَرِّدِينَ حَتَّى نَتَأَسَّى بِهِمْ فَنَسْبِقَ إِلَى مَا سَبَقُوا إِلَيْهِ وَنَطَّلِعَ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ؟ (قَالَ: " الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا) : أَيْ: ذِكْرًا كَثِيرًا. قِيلَ: فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا يَدُلُّ لَهُ تَفْسِيرُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ

ص: 1540

آخَرَ: (وَالذَّاكِرَاتُ) : أَيِ: اللَّهَ، وَحَذْفُهُ لِلِاكْتِفَاءِ، أَوْ لِأَنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ تُوجَدُ كَثِيرًا فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: الذَّاكِرَاتُهُ، فَحَذَفَ الْهَاءَ كَمَا حُذِفَ فِي التَّنْزِيلِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ، وَلِأَنَّهُ مَفْعُولٌ وَحَذْفُهُ شَائِعٌ اهـ. وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ صَحِيحٌ، وَالذَّاكِرُ الْكَثِيرُ هُوَ أَنْ لَا يَنْسَى الرَّبَّ تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا الذِّكْرُ بِكَثْرَةِ اللُّغَاتِ، وَالْمُرَادُ هُمُ الْمُسْتَخْلَصُونَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ، الْمُسْتَغْنُونَ لِذِكْرِهِ، الْمُولَعُونَ بِفِكْرِهِ، الْقَائِمُونَ بِوَظِيفَةِ شُكْرِهِ، الْمُعْتَزِلُونَ عَنْ غَيْرِهِ، هَجَرُوا الْخِلَّانَ، وَتَرَكُوا الْأَوْطَانَ، وَقَطَعُوا الْأَسْبَابَ، وَلَازَمُوا الْبَابَ، وَانْفَصَلُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَانْفَطَمُوا عَنِ اللَّذَّاتِ، لَا لَذَّةَ لَهُمْ إِلَّا بِذِكْرِهِ، وَلَا نِعْمَةَ لَهُمْ إِلَّا بِشُكْرِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ مَقَامُ التَّفْرِيدِ بَعْدَ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] أَيِ: انْقَطِعْ إِلَيْهِ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ " مَا " بِمَعْنَى " مِنْ "، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ " مَا " هَاهُنَا تَغْلِيبُ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى ذَوِي الْعُقُولِ لِقِلَّتِهِمْ، لِمَا عَرَفْتَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لَهَا حَظٌّ مِنَ الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَمَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَالْخَشْيَةِ مِنْهُ عَلَى مَا حَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا قَرُبُوا أَيِ: الصَّحَابَةُ مِنَ الْمَدِينَةِ اشْتَاقُوا إِلَى الْأَوْطَانِ، فَتَفَرَّدَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَسَبَقُوا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَخَلِّفِينَ:" سِيرُوا فَقَدْ قَرُبَ الدَّارُ، وَهَذَا جُمْدَانُ، وَسَبَقَكُمُ الْمُفَرِّدُونَ " يُقَالُ فَرَّدَ بِرَأْيِهِ وَأَفْرَدَ وَفَرَدَ بِمَعْنَى انْفَرَدَ بِهِ، وَيُقَالُ: فَرَّدَ نَفْسَهُ إِذَا تَبَتَّلَ لِلْعِبَادَةِ، وَأَمَّا جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ سُؤَالِهِمْ، فَمِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: دَعُوا سُؤَالَكُمْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ، وَسَلُوا عَنِ السَّابِقِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ الَّذِينَ أَفْرَدُوا أَنْفُسَهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَرَجٍّ لَا يُدْرَكُ أَهُوَ الْوَاقِعُ أَمْ لَا. حَيْثُ قَالَ: لَعَلَّهُمْ كَانُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَلَمَّا قَرَبُوا إِلَخْ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ فِي الْجَوَابِ: قَالَ الْمُسْتَهْتَرُونَ: بِفَتْحِ التَّاءَيْنِ أَيْ: الْمُبَالِغُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ: يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا.

ص: 1541

2263 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ــ

2263 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ ": أَيْ: رَبَّهُ سَوَاءٌ ذَكَرَ غَيْرَهُ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ " مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ": لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، فَالْحَيُّ يُزَيِّنُ ظَاهِرَهُ بِنُورِ الْحَيَاةِ وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ فِيمَا يُرِيدُ، وَبَاطِنَهُ بِنُورِ الْعِلْمِ وَالْإِدْرَاكِ، وَكَذَا الذَّاكِرُ مُزَيَّنٌ ظَاهِرُهُ بِنُورِ الطَّاعَةِ، وَبَاطِنُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ، وَغَيْرُ الذَّاكِرِ ظَاهِرُهُ عَاطِلٌ وَبَاطِنُهُ بَاطِلٌ، وَقِيلَ: مَوْقِعُ التَّشْبِيهِ النَّفْعُ لِمَنْ يُوَالِيهِ، وَالضُّرُّ لِمَنْ يُعَادِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: فِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُدَاوَمَةَ ذِكْرِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ تُورِثُ الْحَيَاةَ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي لَا فَنَاءَ لَهَا كَمَا قِيلَ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ وَلَكِنْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ:( «الْبَيْتُ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» ) فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَثَلُ بَيْتِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ الْقَلْبُ، فَإِنَّهُ بَيْتُ الرَّبِّ، فَطُوبَى لِمَنْ أَحْيَاهُ وَعَمَّرَهُ، وَيَا حَسْرَتَى عَلَى مَنْ أَخْرَبَهُ وَغَمَرَهُ.

ص: 1541

2264 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ــ

2264 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي ": أَيِ: الْمُؤْمِنِ (بِي) : وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: إِنْ ظَنَّ خَيْرًا، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَظُنَّ بِي إِلَّا خَيْرًا، وَالْمَعْنَى أَنِّي عِنْدَ يَقِينِهِ لِي فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى فَضْلِي، وَالِاسْتِيثَاقِ بِوَعْدِي، وَالرَّهْبَةِ مِنْ وَعِيدِي، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدِي. أُعْطِيهِ إِذَا سَأَلَنِي، وَأَسْتَجِيبُ لَهُ إِذَا دَعَانِي. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّنُّ لَمَّا كَانَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْيَقِينِ وَالشَّكِّ، اسْتُعْمِلَ تَارَةً بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَذَلِكَ إِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُهُ، وَبِمَعْنَى الشَّكِّ إِذَا ضَعُفَتْ عَلَامَاتُهُ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] أَيْ: يُوقِنُونَ وَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39]

ص: 1541

أَيْ: تَوَهَّمُوا. وَالظَّنُّ فِي الْحَدِيثِ يَجُوزُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَا أُعَامِلُهُ عَلَى حَسَبِ ظَنِّهِ بِي، وَأَفْعَلُ بِهِ مَا يَتَوَقَّعُهُ مِنِّي مِنْ ضُرٍّ أَوْ شَرٍّ، وَالْمُرَادُ الْحَثُّ عَلَى تَغْلِيبِ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ» " وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالظَّنِّ الْيَقِينُ، وَالْمَعْنَى، أَنَا عِنْدَ يَقِينِهِ بِي، وَعِلْمِهِ بِأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيَّ وَحِسَابَهُ عَلَيَّ، وَأَنَّ مَا قَضَيْتُ بِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا مَرَدَّ لَهُ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتُ. أَيْ: إِذَا رَسَخَ الْعَبْدُ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ، وَتَمَكَّنَ فِي الْإِيمَانِ وَالْوُثُوقِ بِاللَّهِ قَرُبَ مِنْهُ وَرَفَعَ لَهُ الْحِجَابَ بِحَيْثُ إِذَا دَعَاهُ أَجَابَ، وَإِذَا سَأَلَهُ اسْتَجَابَ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى:" «إِذَا عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لَهُ» ".

وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَحْلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَحْسَنَ عَبْدٌ ظَنَّهُ بِاللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَعْطَاهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، فَإِذَا أَعْطَاهُ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ، فَقَدْ أَعْطَاهُ مَا يَظُنُّهُ لِأَنَّ الَّذِي حَسُنَ ظَنُّهُ بِهِ هُوَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَهُ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: إِنْ لَمْ تُحْسِنْ ظَنَّكَ بِهِ لِأَجْلِ حُسْنِ وَصْفِهِ، حَسِّنْ ظَنَّكَ بِهِ لِأَجْلِ مُعَامَلَتِهِ مَعَكَ، فَهَلْ عَوَّدَكَ إِلَّا حَسَنًا؟ وَهَلْ أَسْدَى إِلَيْكَ إِلَّا مِنَنًا؟ .

قَالَ شَارِحٌ الْحَكَمُ بْنُ عَبَّادٍ: حُسْنُ الظَّنِّ يُطْلَبُ مِنَ الْعَبْدِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ، وَفِي أَمْرِ آخِرَتِهِ، أَمَّا أَمْرُ دُنْيَاهُ: فَأَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي إِيصَالِ الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا سَعْيٍ، أَوْ بِسَعْيٍ خَفِيفٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَمَأْجُورٍ عَلَيْهِ، وَبِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ فَرْضٍ وَلَا نَفْلٍ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ سُكُونًا وَرَاحَةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ، فَلَا يَسْتَفِزُّهُ طَلَبٌ وَلَا يُزْعِجُهُ سَبَبٌ، وَأَمَّا أَمْرُ آخِرَتِهِ: فَأَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الرَّجَاءِ فِي قَبُولِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ، وَتَوْفِيَةِ أُجُورِهِ عَلَيْهَا فِي دَارِ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ الْمُبَادَرَةَ لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالتَّكْثِيرِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ بِوِجْدَانِ حَلَاوَةٍ وَاغْتِبَاطٍ، وَلَذَاذَةٍ وَنَشَاطٍ، وَمِنْ مَوَاطِنِ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُفَارِقَهُ فِيهَا: أَوْقَاتُ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَحُلُولِ الْمَصَائِبِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْبَدَنِ، لِئَلَّا يَقَعَ بِسَبَبِ عَدَمِ ذَلِكَ فِي الْجَزَعِ وَالسُّخْطِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: مَنْ ظَنَّ انْفِكَاكَ لُطْفِهِ عَنْ قَدْرِهِ، فَذَاكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ.

وَإِنَّمَا بَسَطْتُ الْكَلَامَ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنَامِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْغُرُورِ وَحُسْنِ الظَّنِّ. (وَأَنَا مَعَهُ) : أَيْ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْحِفْظِ وَالْمَعُونَةِ أَوْ أَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ، أَوْ عَالِمٌ بِحَالِهِ لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ مَقَالِهِ (إِذَا ذَكَرَنِي) : أَيْ: بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ (فَإِنْ ذَكَرَنِي) : تَفْرِيعٌ يُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَ الذَّاكِرِ، سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ (فِي نَفْسِهِ) : أَيْ: سِرًّا وَخُفْيَةً أَوْ تَثْبِيتًا وَإِخْلَاصًا (ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي) : أَيْ: أُسِرُّ بِثَوَابِهِ عَلَى مِنْوَالِ عَمَلِهِ، وَأَتَوَلَّى بِنَفْسِي إِثَابَتَهُ لَا أَكِلْهُ إِلَى غَيْرِي (وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ) : أَيْ: مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ فِي حَضْرَتِهِمْ (ذَكَرْتُهُ) : أَيْ: بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ وَإِعْطَاءِ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ وَحُسْنِ الْقَبُولِ وَتَوْفِيقِ الْوُصُولِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مُجَازَاةُ الْعَبْدِ بِأَحْسَنِ مِمَّا فَعَلَهُ وَأَفْضَلِ مِمَّا جَاءَ بِهِ (فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ) : أَيْ: مِنْ مَلَأِ الذَّاكِرِينَ مِنْ حَيْثُ عِصْمَتُهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَشِدَّةُ قُوَّتِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَكَمَالُ إِطِّلَاعِهِمْ عَلَى أَسْرَارِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَمُشَاهَدَتُهُمْ أَنْوَاعَ أَنْوَارِ الْمَلَكُوتِيَّةِ، وَلَفْظُ الْحِصْنِ: خَيْرٌ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْمَلَأِ.

قَالَ مِيرَكُ فِي حَاشِيَةِ الْحِصْنِ: كَذَا وَقَعَ فِي أَصْلِ السَّمَاعِ وَجَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ مِنْهُ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ، وَالَّذِي فِي الْأُصُولِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْهُمْ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَرْوَاحِ الْمُرْسَلِينَ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلَ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اخْتُلِفَ هَلِ الْبَشَرُ خَيْرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ رَجَّحَ كُلًّا مُرَجِّحُونَ، قِيلَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ خَوَاصَّ الْبَشَرِ كَالْأَنْبِيَاءِ خَيْرٌ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ كَجِبْرِيلَ، وَأَمَّا عَوَامُّ الْبَشَرِ فَلَيْسُوا بِخَيْرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَصْلًا، فَقَوْلُهُ:" فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ " أَيْ: خَيْرٌ مِنْهُمْ حَالًا: فَإِنَّ حَالَ الْمَلَائِكَةِ خَيْرٌ مِنْ حَالِ الْإِنْسِ فِي الْجِدِّ وَالطَّاعَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] وَأَحْوَالُ الْمُؤْمِنِينَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ طَاعَةٍ، وَمَعْصِيَةٍ، وَجِدٍّ، وَفَتْرَةٍ اهـ.

ص: 1542

وَمُرَادُ الطِّيبِيِّ أَنَّ جِنْسَ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يُنَافِيهِ التَّفْصِيلُ الْمَشْهُورُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَالْمَلَأُ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ الَّذِينَ تَقَرَّرَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّنَا، وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافٍ مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ رَدُّ قَوْلِ الشَّارِحِ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّ مَلَأَ الذَّاكِرِ قَدْ يَكُونُ فِيهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ الطِّيبِيِّ، أَوْ مِنْ حَمْلِ الْخَيْرِيَّةِ عَلَى الْأَمْرِ الْإِضَافِيِّ أَوِ الِاسْتِغْرَاقِيِّ أَوِ الْغَالِبِيِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ:" «قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا ذَكَرْتَنِي خَالِيًا ذَكَرْتُكَ خَالِيًا وَإِذَا ذَكَرْتَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنَ الَّذِينَ تَذْكُرُنِي فِيهِمْ» " وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

ص: 1543

2265 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاءُهُ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ــ

2265 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ " أَيْ: غَيْرَ مُبْطَلَةٍ، وَلِذَا لَمْ يَقُلْ مَنْ فَعَلَ الْحَسَنَةَ، وَالْحَسَنَةُ الْمَعْهُودَةُ هُنَا الْمُرَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] أَيْ: بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا أَيَّ فَرْدٍ كَانَ (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالٍ) : أَيْ ثَوَابُ عَشْرِ حَسَنَاتٍ أَمْثَالِهَا حُذِفَ الْمُمَيَّزُ الْمَوْصُوفُ، وَأُقِيمَ الصِّفَةُ مَقَامَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَهُ عَشْرَ مَثُوبَاتٍ كُلٌّ مِنْهَا مِثْلُ تِلْكَ الْحَسَنَةِ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَهَذَا أَقَلُّ الْمُضَاعَفَةِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ، وَلِذَا قَالَ:(وَأَزِيدُ) : أَيْ: لِمَنْ أُرِيدُ الزِّيَادَةَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ عَلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةٍ ضِعْفٍ، وَإِلَى مِائَةِ أَلْفٍ، وَإِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ (وَمَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ) : أَيْ: غَيْرَ مُكَفَّرَةٍ وَهِيَ الْمَعْهُودَةُ كَمَا سَبَقَ (فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا) أَيْ: عَدْلًا (أَوْ أَغْفِرُ) : فَضْلًا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: اخْتَصَّ ذِكْرَ الْجَزَاءِ بِالثَّانِيَةِ، لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ كُلُّهُ إِفْضَالٌ وَإِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ، وَمَا يُقَابِلُ السَّيِّئَةَ فَهُوَ عَدْلٌ وَقِصَاصٌ، فَلَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ كَالثَّوَابِ، فَخُصَّ بِالْجَزَاءِ. وَأَمَّا إِعَادَةُ السَّيِّئَةِ نَكِرَةً فَلِتَنْصِيصِ مَعْنَى الْوَحْدَةِ الْمُبْهَمَةِ فِي السَّيِّئَةِ الْمُعَرَّفَةِ الْمُطْلَقَةِ وَتَقْرِيرِهَا، وَأَمَّا مَعْنَى الْوَاوِ فِي (وَأَزِيدُ) ، فَلِمُطْلَقِ الْجَمْعِ إِنْ أُرِيدَ بِالزِّيَادَةِ الرُّؤْيَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَضْعَافُ، فَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوِ التَّنْوِيعِيَّةِ، كَمَا هِيَ قَوْلُهُ:" أَوْ أَغْفِرُ " وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ أَنَّ الْعَشْرَ وَالزِّيَادَةَ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا، بِخِلَافِ جَزَاءِ مِثْلِ السَّيِّئَةِ وَمَغْفِرَتِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَوَجَبَ ذِكْرُ " أَوْ " الدَّالُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ (وَمَنْ تَقَرَّبَ) : أَيْ: طَلَبَ الْقُرْبَةَ (مِنِّي) : أَيْ: بِالطَّاعَةِ (شِبْرًا) : أَيْ: مِقْدَارًا قَلِيلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: شِبْرًا وَذِرَاعًا وَبَاعًا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ مِقْدَارَ شِبْرٍ تَقَرَّبْتُ) أَيْ: الرَّحْمَةُ (مِنْهُ ذِرَاعًا) قِيلَ: أَيْ: أَوْصَلْتُ رَحْمَتِي إِلَيْهِ مِقْدَارًا أَزْيَدَ مِنْهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مُجَازَاتُهُ وَإِثَابَتُهُ بِأَضْعَافِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَسُمِّيَ الثَّوَابُ تَقَرُّبًا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُشَاكَلَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ، وَقِيلَ: تَقَرُّبُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ وَشَرْحِ صَدْرِهِ لِمَا تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْمَعْنَى إِذَا قَصَدَ ذَلِكَ وَعَمِلَهُ أَعَنْتُهُ عَلَيْهِ وَسَهَّلْتُهُ لَهُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَيَسْتَحِيلُ إِرَادَةُ ظَاهِرِهِ، فَمَعْنَاهُ مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِطَاعَتِي تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بِرَحْمَتِي (وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا) : وَهُوَ قَدْرُ مَدِّ الْيَدَيْنِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَدَنِ، وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَ الْعَبْدُ قُرْبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى زَادَ اللَّهُ رَحْمَتَهُ بِهِ، فَذِكْرُ الذِّرَاعِ لِلتَّمْثِيلِ وَالتَّصْوِيرِ لِإِفْهَامِهِمْ لِمُجَازَاةِ الْعَبْدِ فِيمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ بِمُضَاعَفَةِ لُطْفِهِ وَإِحْسَانِهِ (وَمَنْ أَتَانِي) : حَالَ كَوْنِهِ (يَمْشِي) : أَيْ: فِي طَاعَتِي (أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) : وَهِيَ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ دُونَ الْعَدْوِ، أَيْ: صَبَبْتُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةَ، وَقِيلَ: أَيْ: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي بِسُهُولَةٍ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَتِي بِسُرْعَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهِيَ حَالٌ أَيْ: مُهَرْوِلًا، أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ؛ لِأَنَّ الْهَرْوَلَةَ نَوْعٌ مِنَ الْإِتْيَانِ، فَهُوَ كَرَجَعْتُ الْقَهْقَرَى، لَكِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْحَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ قَرِينَةَ يَمْشِي حَالٌ لَا مَحَالَةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا كَالشَّرْحِ لِمَا أَفْهَمَهُ إِعْطَاءُ الْعَشْرِ، وَالزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَسَنَةِ مِنْ أَنَّ سِعَةَ تَفَضُّلِهِ عَلَى عِبَادِهِ بَلَغَتِ الْغَايَةَ الَّتِي مَا وَرَاءَهَا غَايَةٌ.

ص: 1543

قُلْتُ: كَمَا يَدُلُّ عَلَى سِعَةِ مَغْفِرَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: " أَوْ أَغْفِرُ " قَوْلُهُ: " وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ ": بِضَمِّ الْقَافِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: بِمِثْلِهَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْقُرْبِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: بِمَا يَقْرُبُ مِلْأَهَا مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ (خَطِيئَةً) : تَمْيِيزٌ (لَا يُشْرِكُ بِي) : حَالٌ مِنْ فَاعِلِ لَقِيَنِي الْعَائِدِ إِلَى مَنْ، (شَيْئًا) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116](لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً) : أَيْ: إِنْ أَرَدْتُ ذَلِكَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] وَنُكْتَةُ حَذْفِهِ فِي الْحَدِيثِ اسْتِغْنَاءٌ بِعِلْمِهِ مِنْهَا، وَمُبَالَغَةٌ فِي سِعَةِ بَابِ الرَّجَاءِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ دَفْعُ الْيَأْسِ بِكَثْرَةِ الذُّنُوبِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرَّ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَطَايَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَيِّهِمْ اهـ. أَيْ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنَبِ الْكَبِيرِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى الذَّنْبِ الْحَقِيرِ، أَوْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّنُوبَ الْكَثِيرَةَ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ عَلَى السَّيِّئَةِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ آخِرِ الْحَدِيثِ، وَأَمَّا أَوَّلُهُ: فَفِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْثِيثُ عَلَى الْمُجَاهَدَةِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ دَفْعًا لِلْفُتُورِ وَالتَّكَاسُلِ وَالْقُصُورِ، فَالْحَدِيثُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ نَافِعٌ لِأَمْرَاضِ قُلُوبِ السَّالِكِينَ، وَمُحَرِّكٌ لِشَوْقِ الطَّالِبِينَ، وَمُقَوٍّ لِصُدُورِ الْمُذْنِبِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَحَادِيثِ حَدِيثٌ أَرْجَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَتَّبَ قَوْلَهُ:" لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً " عَلَى عَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَغْتَرَّ وَيَقُولَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أُكْثِرُ الْخَطِيئَةَ حَتَّى يُكْثِرَ اللَّهُ الْمَغْفِرَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ كَيْلَا يَيْأَسَ الْمُذْنِبُونَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلَّهِ مَغْفِرَةً وَعُقُوبَةً، وَمَغْفِرَتُهُ أَكْثَرُ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَنَّهُ مِنَ الْمَغْفُورِينَ، أَوْ مِنَ الْمُعَاقَبِينَ لِإِبْهَامِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] فَإِذًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى، وَصَارَ كَالْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - وَلِذَا كَفَرَ مُنْكِرُهُ أَنَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ جَمَاعَةٍ مِنْ مُوَحِّدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ النَّارَ، ثُمَّ خُرُوجُهُمْ عَنْهَا، مَعَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَهِيَ حَالَةٌ مُبْهَمَةٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، كَمَا فِي النُّسْخَةِ الْمُعْتَمَدَةِ: وَاغْتَرَّ شَارِحٌ بِنُسْخَةٍ سَقِيمَةٍ وَحْدَهَا مُخَالِفَةٍ لِذَلِكَ، فَاعْتَرَضَ بِسَبَبِهَا عَلَى الْمَصَابِيحِ بِمَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ اهـ. وَلَمْ يَعْرِفِ الشَّارِحُ وَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ فَهُوَ تَجْهِيلُ مَجْهُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، إِذْ لَيْسَ تَحْتَهُ مَحْصُولٌ.

ص: 1544

2266 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: " مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ» " (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ــ

2266 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى) : أَيْ: آذَى (لِي وَلِيًّا) : أَيْ: وَاحِدًا مِنْ أَوْلِيَائِي فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ: مَنْ تَوَلَّى اللَّهُ أَمْرَهُ فَلَا يَكِلْهُ إِلَى نَفْسِهِ لَحْظَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] أَوْ لِمُبَالَغَةِ فَاعِلٍ، وَهُوَ الْمُتَوَلِّي عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ عَلَى التَّوَالِي بِلَا تَخَلُّلِ عِصْيَانٍ، وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى: مُرَادًا وَمَجْذُوبًا سَالِكًا، وَالثَّانِي: مُرِيدًا وَسَالِكًا مَجْذُوبًا، وَاخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كُلُّ مُرَادٍ مُرِيدٌ، وَكُلُّ مُرِيدٍ مُرَادٌ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ، وَالْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ (فَقَدْ آذَنْتُهُ) : بِالْمَدِّ أَيْ: أَعْلَمْتُهُ (بِالْحَرْبِ) : أَيْ: بِمُحَارَبَتِي إِيَّاهُ لِأَجْلِ وَلِيِّي، أَوْ بِمُحَارَبَتِهِ أَيْ يَعْنِي: فَكَأَنَّهُ مُحَارِبٌ لِي، قَالَ تَعَالَى:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ مِنْ عِظَمِ الْخَطَرِ، إِذْ مُحَارَبَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى سُوءِ خَاتِمَتِهِ، لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا. (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي) : أَيِ: الْمُؤْمِنُ وَآثَرَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَبْدِ التَّقَرُّبَ إِلَى سَيِّدِهِ لِأَنْوَاعِ خِدْمَتِهِ وَأَصْنَافِ طَاعَتِهِ (بِشَيْءٍ) : مِنَ الْأَعْمَالِ (أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ) : أَيْ: مِنْ أَدَاءِ مَا أَوْجَبْتُ (عَلَيْهِ)

ص: 1544

أَيْ: مِنَ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ، وَقَوْلُهُ:(أَحَبَّ) يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ وَسَائِلُ الْقُرْبِ كَثِيرَةً، وَأَحَبُّهَا إِلَى اللَّهِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا النَّوَافِلُ وَلِذَا قَالَ:(وَمَا يَزَالُ عَبْدِي) : أَيِ: الْقَائِمُ بِقُرْبِ الْفَرَائِضِ (يَتَقَرَّبُ) : أَيْ: يَطْلُبُ زِيَادَةَ الْقُرْبِ (إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ) أَيْ: بِقُرْبِ الطَّاعَاتِ الزَّوَائِدِ عَلَى الْفَرَائِضِ (حَتَّى أَحْبَبْتُهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: حَتَّى أُحِبَّهُ، أَيْ: حُبًّا كَامِلًا لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، خِلَافَ مَا يُوهِمُ كَلَامُ الطِّيبِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا يَزَالُ بَيَانُ أَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ النَّافِلَةُ هَذِهِ الْمَثَابَةُ، فَمَا الظَّنُّ بِالْمُفَضَّلِ الَّذِي هُوَ الْفَرَائِضُ؟ (فَكُنْتُ سَمْعَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِي فِي الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ: حَتَّى أَحْبَبْتُهُ فَكُنْتُ سَمْعَهُ، (الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ) : بِضَمِّ الْيَاءِ (وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ: يَأْخُذُ (بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا) .

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَيْ: يَسَّرْتُ عَلَيْهِ أَفْعَالَهُ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى هَذِهِ الْآلَاتِ، وَوَفَّقْتُهُ فِيهَا، حَتَّى كَأَنِّي نَفْسُ هَذِهِ الْآلَاتِ، وَقِيلَ: أَيْ: يَجْعَلُ اللَّهُ حَوَاسَّهُ وَآلَاتِهِ وَسَائِلَ إِلَى رِضَائِهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، فَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ بِهِ إِلَخْ. وَقِيلَ: أَيْ: يَجْعَلُ اللَّهُ سُلْطَانَ حُبِّهِ غَالِبًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَرَى إِلَّا مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ، وَلَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ، وَيَكُونُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ لَهُ يَدًا وَعَوْنًا وَوَكِيلًا يَحْمِي سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ عَمَّا لَا يَرْضَاهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُنْتُ أَسْرَعَ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ مِنْ سَمْعِهِ فِي الِاسْتِمَاعِ، وَبَصَرِهِ فِي النَّظَرِ، وَيَدِهِ فِي اللَّمْسِ، وَرِجْلِهِ فِي الْمَشْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِذَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَزَادَ فِي التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ الْمُكَمِّلَاتِ لِلْفَرَائِضِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا دَوَامُ الذِّكْرِ الْمُوَصِّلِ إِلَى حُضُورِ الْوُصُولِ، وَسُرُورِ الْحُصُولِ، وَمَقَامِ الْفَنَاءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْبَقَاءِ بِرَبِّهِ، ظَهَرَ لَهُ آثَارُ مَحَبَّتِهِ الْأَزَلِيَّةُ وَانْكَشَفَ لَهُ أَنْوَارُ قُرْبَتِهِ الْأَبَدِيَّةُ، فَرَأَى أَنَّ مَا بِهِ مِنَ الْكَمَالِ مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَقُوَّةِ الْقُوَى إِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَأَمَّا هُوَ فَعَدَمٌ مَحْضٌ فَلَا يُرَى فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَلَا يَسْمَعُ شَيْئًا وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَبْطِشُ وَلَا يَمْشِي، إِلَّا وَشَهِدَ أَنِّي الْمُوجِدُ لِذَلِكَ وَالْمُقَدِّرُ لَهُ، فَيَصْرِفُ جَمِيعَ مَا أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْهِ إِلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ طَاعَتِي، فَلَا يَسْتَعْمِلُ سَمْعَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشَاعِرِهِ إِلَّا فِيمَا يُرْضِينِي وَيُقَرِّبُهُ مِنِّي، فَلَا يَتَوَجَّهُ لِشَيْءٍ إِلَّا وَأَنَا مِنْهُ بِمَرْأًى وَمَسْمَعٍ، فَأَنَا لَهُ عَيْنٌ وَيَدٌ وَرِجْلٌ وَعَوْنٌ وَوَكِيلٌ وَحَافِظٌ وَنَصِيرٌ، كَمَا هُوَ جَلِيٌّ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْعِرْفَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، إِذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِمْ لِضِيقِ الْعِبَادَةِ عَمَّا يُوهِمُ لِغَيْرِ ذَوِي الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَغَالِيطِ الَّتِي هِيَ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ وَالِانْحِلَالُ عَنْ رَابِطَةِ الشَّرْعِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى مَضَايِقِ الضَّلَالِ.

وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ لَكَ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ وَهِيَ: أَنَّ مَا أُشْكِلَ عَلَيْكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهَا فَبَادِرْ إِلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي يَزِيدَ: لَيْسَ فِي الْجُبَّةِ غَيْرُ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَإِنْ صَدَرَتْ فِي مَقَامِ غَيْبَةٍ فَلَا حَرَجَ عَلَى قَائِلِهَا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلِّفٍ حِينَئِذٍ، وَكَذَا إِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ صَدَرَتْ مَعَ تَحَقُّقِ صَحْوِهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ حُكْمُهَا الشَّرْعِيُّ، إِذِ الْوَلِيُّ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، وَالْمَحْفُوظُ رُبَّمَا فَرَطَ مِنْهُ مَا عُوتِبَ بِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ حَالُهُ (وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ) : بِالتَّأْكِيدِ، وَفِي التَّعْبِيرِ (بِأَنْ) دُونَ (إِذَا) إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَقَامٍ يَتْرُكُ فِيهِ السُّؤَالَ اتِّكَالًا عَلَى عِلْمِهِ بِالْحَالِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ غَيْرَ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ (وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي) : قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ الْأَشْهُرُ بِالنُّونِ بَعْدَ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَالثَّانِي بِالْمُوَحَّدَةِ (لَأُعِيذَنَّهُ) : أَيْ: مِمَّا يَخَافُ مِنَ الْبُعْدِ (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ قَبْضِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَمَا فِي رِوَايَةٍ قِيلَ: التَّرَدُّدُ هُوَ التَّخَيُّرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَصْلَحُ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَأَوَّلُوهُ عَلَى تَرْدِيدِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِطِ، وَجَعَلُوا قِصَّةَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ سَنَدًا لِقَوْلِهِمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ التَّرَدُّدِ إِزَالَةُ كَرَاهَةِ الْمَوْتِ عَنِ الْمُؤْمِنِ. مِمَّا يَبْتَلِيهِ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَاقَةِ وَغَيْرِهَا، فَأَخْذُهُ الْمُؤْمِنَ عَمَّا تَشَبَّثَ بِهِ مِنْ حُبِّ الْحَيَاةِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِالْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا يُشْبِهُ فِعْلَ الْمُتَرَدِّدِ مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّرَدُّدِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: التَّرَدُّدُ تَعَارُضُ الرَّأْيَيْنِ وَتَرَادُفُ الْخَاطِرَيْنِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُحَالًا فِي حَقِّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ أُسْنِدَ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ وَمُنْتَهَاهُ الَّذِي هُوَ التَّوَقُّفُ وَالتَّأَنِّي فِي الْأَمْرِ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ مَا يُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ صِفَاتٍ

ص: 1545

الْمَخْلُوقِينَ كَالْغَضَبِ وَالْحَيَاءِ وَالْمَكْرِ، وَالْمَعْنَى مَا أَخَّرْتُ وَمَا تَوَقَّفْتُ تَوَقُّفَ الْمُتَرَدِّدِ فِي أَمْرٍ أَنَا فَاعِلُهُ إِلَّا فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، أَتَوَقَّفُ فِيهِ وَأُرِيهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مِنَ النِّعَمِ وَالْكَرَامَاتِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهِ وَيَمِيلَ قَلْبُهُ إِلَيْهِ شَوْقًا إِلَى أَنْ يَنْخَرِطَ فِي سِلْكِ الْمُقَرَّبِينَ، وَيَتَبَوَّأَ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ (يَكْرَهُ الْمَوْتَ) : اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ: مَا سَبَبُ التَّرَدُّدِ؟ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ الْبَشَرِيِّ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمَوْتِ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ يُوصِلُهُ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَكْرَهُهُ الْمُؤْمِنُ؟ (وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: إِيذَاءُهُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ صُعُوبَةِ الْمَوْتِ وَكَرْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أَكْرَهُ مَا يَسُوءُهُ؛ لِأَنِّي أَرْحَمُ بِهِ مِنْ وَالِدَيْهِ، لَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِيَنْتَقِلَ مِنْ دَارِ الْهُمُومِ وَالْكُدُورَاتِ إِلَى دَارِ النَّعِيمِ وَالْمَسَرَّاتِ، فَعَلْتُهُ بِهِ إِيثَارًا لِتِلْكَ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَالْمَسَرَّةِ الْكُبْرَى، كَمَا أَنَّ الْأَبَ الشَّفُوقَ يُكَلِّفُ الِابْنَ بِمَا يُكَلِّفُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ نَظَرًا لِكَمَالِهِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اهـ. وَهُوَ خُلَاصَةُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ.

وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ إِضَافَةَ الْمُسَاءَةِ مَزْجُ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَرِهَهُ تَعَالَى لَمَا وُجِدَ فِي الْخَارِجِ، إِذْ وُجُودُ الْأَشْيَاءِ بِقُدْرَتِهِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا مُكْرِهَ لَهُ تَعَالَى فِي إِبْدَاءِ مَصْنُوعَاتِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِسَاءَةَ مُضَافَةٌ إِلَى فَاعِلِهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي إِرَادَتَهُ، كَمَا حَقَّقَ فِي مَحَلِّهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالرِّضَا وَالْكَرَاهَةِ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُرَادِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، بِالْمَعْنَى أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ لِكَرَاهَتِهِ الْمَوْتَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْرَهَ الْمَوْتَ بَلْ يُحِبُّهُ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ. وَكَذَا فِي أَصْلِ مِيرَكَ، وَهُوَ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ لِابْنِ الْمَلَكِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ: وَالْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَوْتِ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ وَلِهَذَا لَا أَدْفَعُ عَنْهُ الْمَوْتَ، قَالَ تَعَالَى:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19](رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : قِيلَ: آخِرُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ فِيهَا:(فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ) كَمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَلَا زِيَادَةُ لِفْظِ (قَبْضِ) عِنْدَ قَوْلِهِ: عَنْ قَبْضِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، وَلَا قَوْلُهُ: وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، وَالْمَذْكُورَاتُ وَرَدَتْ فِي حَدِيثٍ رَوَى أَنَسٌ نَحْوَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

ص: 1546

2267 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ ": قَالَ: " فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا " قَالَ: " فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: " يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُحَمِّدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ " قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ: " فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ " قَالَ: فَيَقُولُونَ: " لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا " قَالَ: فَيَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ:" يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ: " فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ " قَالَ ": " يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَعُوذُونَ؟ " قَالَ: " يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ " قَالَ: " يَقُولُ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ " قَالَ: " يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا؟ " قَالَ: " يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً " قَالَ: فَيَقُولُ: " فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ ". قَالَ: " يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ» "(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ:" «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً فُضْلًا يَبْتَغُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ، حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادِكَ فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ. قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا، أَيْ رَبِّ قَالَ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ. قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: يَسْتَغْفِرُونَكَ " قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا قَالَ: يَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، وَإِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» ".

ــ

2267 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ ": أَيْ: يَدُورُونَ فِي الطُّرُقِ) : أَيْ: طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي نُسْخَةٍ. بِالطُّرُقِ (يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ) : أَيْ: يَطْلُبُونَهُمْ لِيَزُورُوهُمْ وَيَسْتَمِعُوا ذِكْرَهُمْ (فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ) : بِأَيِّ ذِكْرٍ كَانَ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّمْجِيدُ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّهْلِيلَ لِدَلَالَةِ التَّمْجِيدِ عَلَيْهِ، وَيَنْصُرُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ التَّهْلِيلَ بَدَلَ التَّمْجِيدِ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَعَمُّ وَالْمَذْكُورَاتُ تَمْثِيلَاتٌ، أَوْ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَعْنَى الْأَذْكَارِ إِلَى الْمَوْرُودَاتِ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ ذِكْرٍ أَفْضَلُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَذْكَارِ الْأَدْعِيَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ مَزِيَّةً وَمَرْتَبَةً (تَنَادَوْا) : أَيْ: نَادَى بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ بَعْضًا قَائِلِينَ: (هَلُمُّوا) : أَيْ: تَعَالَوْا مُسْرِعِينَ (إِلَى حَاجَتِكُمْ) : أَيْ: مِنَ اسْتِمَاعِ الذِّكْرِ وَزِيَارَةِ الذَّاكِرِ وَإِطَاعَةِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَعْمَلَ (هَلُمَّ) هُنَا عَلَى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ أَنَّهَا تُثَنَّى وَتُجْمَعُ وَتُؤَنَّثُ، وَلُغَةُ الْحِجَازِيِّينَ بِنَاءُ لَفْظِهَا عَلَى الْفَتْحِ وَبَقَاؤُهُ بِحَالِهِ مَعَ الْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] .

(قَالَ: أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ ": قِيلَ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: يُدِيرُونَ أَجْنِحَتَهُمْ حَوْلَ الذَّاكِرِينَ، وَقِيلَ لِلِاسْتِعَانَةِ أَيْ: يَطُوفُونَ وَيَدُورُونَ حَوْلَهُمْ لِأَنَّ حَقَّهُمُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى السَّمَاءِ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِالْأَجْنِحَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِيَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ فَيَحُفُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِاسْتِعَانَتِهَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُمْ يَحُفُّونَ الذَّاكِرِينَ ثُمَّ يَحُفُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَوَجَّهُونَ (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: يَقِفُ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَتَسْبِقُ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ، فَيُحِيطُونَ بِهِمْ وَيَسْتُرُونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ، ثُمَّ تَلْحَقُهَا فِرْقَةٌ أُخْرَى فَتَحُفُّهُمْ

ص: 1546

وَتَسْتُرُهُمْ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِلُوا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَمَوْقُوفٌ صِحَّتُهُ عَلَى نَقْلٍ مَرْفُوعٍ، وَإِلَّا فَهُوَ مَدْفُوعٌ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ فِي صِحَّةِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَنَقَلَ عَنِ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ لِلِاسْتِعَانَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَكَوْنُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيهِ وَقْفَةٌ انْتَهَى. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجَرٍ (وَيَسْتُرُونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ) صَرِيحٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِعَانَةِ دُونَ التَّعْدِيَةِ فَفِي مُعَارَضَتِهِ مُنَاقَضَةٌ. (قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ) : أَيْ: مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: (وَهُوَ أَعْلَمُ) : حَالٌ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً أَوْ تَتْمِيمًا صِيَانَةً عَنِ التَّوَهُّمِ، يَعْنِي لِتَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ الْحَالُ مُنْتَقِلَةً، وَالْحَالُ أَنَّهَا مُؤَكِّدَةٌ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّدْقِيقِ وَغَايَةٍ فِي التَّحْقِيقِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلَا عِبْرَةَ بِهَذَا التَّوَهُّمِ لَوْ سَلِمَ، كَيْفَ وَالْمَقْصُودُ رَفْعُ إِيهَامٍ فَيَسْأَلُهُمْ، انْتَهَى فَتَأَمَّلْ.

(مَا يَقُولُ عِبَادِي؟) الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ، وَفَائِدَةُ السُّؤَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمَسْئُولِ التَّعْرِيضُ لِلْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِمْ:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] الْآيَةَ قَالَ: أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُونَ) : أَيِ: الْمَلَائِكَةُ: (يُسَبِّحُونَكَ) : أَيْ: عِبَادُكَ يُسَبِّحُونَكَ (وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ) : بِالتَّخْفِيفِ (وَيُمَجِّدُونَكَ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يَذْكُرُونَكَ بِالْعَظَمَةِ أَوْ يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْمَجْدِ، وَهُوَ الْكَرَمُ، وَقِيلَ: ذِكْرُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِيَةِ: ذَكَرَ التَّهْلِيلَ بَدَلَ التَّمْجِيدِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ لَيْسَ لِلِاشْتِرَاطِ، بَلْ لِلتَّمْثِيلِ بِهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِبَعْضِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَالْغَرَضُ مِنَ الْكُلِّ إِفَادَةُ التَّهْلِيلِ الَّذِي هُوَ لُبُّ التَّوْحِيدِ وَخُلَاصَةُ التَّفْرِيدِ (قَالَ: فَيَقُولُ) : أَيِ: اللَّهُ (هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ) : أَقْسَمُوا زِيَادَةً فِي مَدْحِ الذَّاكِرِينَ (مَا رَأَوْكَ) : فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَسْبِيحَ بَنِي آدَمَ وَتَقْدِيسَهُمْ أَعْلَى وَأَشْرَفُ؛ لِأَنَّهُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مَعَ وُجُودِ الْمَوَانِعِ وَتَقْدِيسُ الْمَلَائِكَةِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ بِلَا صَارِفٍ (قَالَ: فَيَقُولُ) : أَيِ: اللَّهُ (كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ !) : تَعَجُّبٌ وَتَعْجِيبٌ وَجَوَابٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَيْفَ؟ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ أَيْ: لَوْ رَأَوْنِي مَا يَكُونُ حَالُهُمْ فِي الذِّكْرِ؟ (قَالَ: فَيَقُولُونَ) : وَفِي نُسْخَةٍ، يَقُولُونَ:(لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا) : أَيْ: تَعْظِيمًا (وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا) : فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَحَمُّلَ مَشَقَّةِ الْخِدْمَةِ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ (قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونَ؟) : أَيْ: مِنِّي (قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ سُؤَالَ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ فَإِنَّهَا دَارُ الْجَزَاءِ وَاللِّقَاءِ، وَإِنَّمَا ذُمَّ مَنْ لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إِلَّا لِرَجَاءِ الْجَنَّةِ أَوْ لِخَوْفِ النَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِذَاتِهِ. (قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ : فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ حِسِّيَّةٌ (فَيَقُولُونَ) : وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: فَيَقُولُونَ (لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا: قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: (لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا) وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً) لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْمُعَايَنَةِ (قَالَ) : أَيِ: اللَّهُ (فَمِمَّ) : أَيْ: فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ (يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ مِنَ النَّارِ) : لِأَنَّهَا أَثَرُ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابُهُ وَمَحِلُّ أَصْحَابِ بُعْدِهِ وَحِجَابِهِ (قَالَ: فَيَقُولُ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: (يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا) : بِفِرَارِهِمْ عَمَّا يَجُرُّ إِلَيْهَا (وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً) : أَيْ: خَوْفًا فِي قُلُوبِهِمْ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا، وَهَذَا بَسْطٌ عَظِيمٌ فِي السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ اقْتَضَاهُ كَثْرَةُ ذِكْرِ رَبِّ الْأَرْبَابِ فِي جَمْعِ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: مَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ إِشْعَارٌ بِأَفْضَلِيَّةِ الْعِبَادَةِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِيمَانِ بِالشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا قِيلَ: الْمُكَاشَفَةُ التَّامَّةُ لِأَوْلِيَاءِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ مَا ذُكِرَ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَكَمَا

ص: 1547

قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28](قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ) : أَيْ: بِذِكْرِهِمْ ; فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. (قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ) : كِنَايَةً عَنِ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ (لَيْسَ مِنْهُمْ) : أَيْ: مِنَ الذَّاكِرِينَ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ، وَقِيلَ: مِنْ فُلَانٍ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ (إِنَّمَا جَاءَ) : أَيْ: إِلَيْهِمْ (لِحَاجَةٍ) : أَيْ: دُنْيَوِيَّةٍ لَهُ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ يُرِيدُ الْمَلَكُ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَغْفِرَةَ، (قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ) : أَيِ: الْكَامِلُونَ (لَا يَشْقَى) : بِفَتْحِ الْيَاءِ (جَلِيسُهُمْ) : أَيْ: مُجَالِسُهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: هُمْ جُلَسَاءُ لَا يَخِيبُ جَلِيسُهُمْ عَنْ كَرَامَتِهِمْ فَيَشْقَى انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ تَرْغِيبٌ فِي مُخَالَطَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ. قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: اصْحَبُوا مَعَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا فَاصْحَبُوا مَعَ مَنْ يَصْحَبُ مَعَ اللَّهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

(وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّارَةً) : أَيْ: كَثِيرَةَ السَّيْرِ، وَمِنْهُ أُخِذَ سِيَاحَةُ الصُّوفِيَّةِ (فُضْلًا) : صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِلْمَلَائِكَةِ وَهُوَ بِضَمَّتَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي تَخْفِيفًا؟ جَمْعُ فَاضِلٍ كَبُزْلٍ وَبَازِلٍ وَنُشْرٍ وَنَاشِرٍ، وَهُوَ مَنْ فَاقَ أَصْحَابَهُ وَأَقْرَانَهُ عِلْمًا وَشَرَفًا. وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَفِي نُسْخَةٍ " فُضَلَاءَ " عَلَى وَزْنِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: رِوَايَتُنَا فِي الْمِشْكَاةِ " فُضْلًا " بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ مَمْدُودًا. وَفِي الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ بِالنَّصْبِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: فُضْلًا ضَبَطْنَاهُ عَلَى أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: وَهُوَ أَرْجَحُهَا وَأَشْهَرُهَا فِي بِلَادِنَا فُضُلًا بِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ، وَالِثَانِي: بِضَمِّ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ، وَرَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ وَادْعَى أَنَّهُ أَكْثَرُ وَأَصْوَبُ، وَالثَّالِثُ: بِفَتْحِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الضَّادِ. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا الرِّوَايَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ مَشَايِخِنَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَالرَّابِعُ: بِضَمِّ الْفَاءِ وَالضَّادِ، وَرَفْعِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْخَامِسُ: فُضَلَاءُ بِالْمَدِّ جَمْعُ فَاضِلٍ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُمْ زَائِدُونَ عَلَى الْحَفَظَةِ وَغَيْرِهِمْ، لَا وَظِيفَةَ لَهُمْ إِلَّا حِلَقُ الذِّكْرِ اهـ.

وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيَّ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ فُضْلًا عَنْ كِتَابِ النَّاسِ (يَبْتَغُونَ) : أَيْ: يَطْلُبُونَ (مَجَالِسَ الذِّكْرِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: يَتَّبِعُونَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَفَتْحِهَا، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ يَتَتَبَّعُونَ مِنَ التَّفَعُّلِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ضَبَطُوهُ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ التَّتَبُّعِ، وَهُوَ الْبَحْثُ عَنِ الشَّيْءِ وَالتَّفْتِيشُ، وَالثَّانِي: يَبْتَغُونَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الِابْتِغَاءِ وَهُوَ الطَّلَبُ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَبْتَغُونَ مِنَ الِابْتِغَاءِ، وَيُرْوَى يَتَتَبَّعُونَ مِنَ التَّتَبُّعِ. (فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ) : أَيْ: غَالِبًا (قَعَدُوا مَعَهُمْ) : أَيِ: الذَّاكِرِينَ (وَحَفَّ بَعْضُهُمْ) : أَيْ: بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ (بَعْضًا) : أَيْ: بَعْضًا آخَرَ مِنْهُمْ (بِأَجْنِحَتِهِمْ) : أَيْ: بِاسْتِعَانَتِهَا (حَتَّى يَمْلَئُوا) أَيِ: الْمَلَائِكَةُ (مَا بَيْنَهُمْ) : أَيْ: بَيْنَ الذَّاكِرِينَ (وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا) : أَيْ: أَهْلُ الذِّكْرِ (عَرَجُوا) : أَيِ: الْمَلَائِكَةُ (وَصَعِدُوا) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعُوا (إِلَى السَّمَاءِ) : أَيِ: السَّابِعَةِ (قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللَّهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ) : أَيْ: بِهِمْ أَوْ بِحَالِهِمْ كَمَا فِي نُسْخَتَيْنِ (مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادِكِ) : فِيهِ غَايَةُ تَشْرِيفٍ لِبَنِي آدَمَ حَالَ كَوْنِهِمْ (فِي الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ [وَيُمَجِّدُونَكَ] وَيَحْمَدُونَكَ وَيَسْأَلُونَكَ قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتُخَفَّفُ (قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ) قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا يَا رَبِّ! قَالَ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ !) قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ (لَوْ) مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَيْفَ؛ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ أَيْ: لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي مَا يَكُونُ حَالُهُمْ فِي الذِّكْرِ.

ص: 1548

فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَجِيءِ جَوَابِ الْمَلَائِكَةِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا إِلَخْ، وَبَيْنَ عَدَمِ ذِكْرِ الْجَوَابِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ؟ قُلْتُ:(كَيْفَ) فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ عَنِ الْحَالِ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ لِلتَّعْجِيبِ وَالتَّعَجُّبِ مَثَلًا (قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ) : عَطْفٌ عَلَى " وَيَسْأَلُونَكَ " وَالْجُمْلَةُ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ أَيْ: يَسْتَعِيذُونَكَ (قَالَ: وَمِمَّا يَسْتَجِيرُونِي؟) : بِالْوَجْهَيْنِ (قَالُوا: مِنْ نَارِكَ قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: يَسْتَغْفِرُونَكَ) : أَيْ: أَيْضًا. وَفِي نُسْخَةٍ: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ بِالْعَطْفِ (قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا) : لَعَلَّ الْعُدُولَ عَنِ الْوَاوِ إِلَى الْفَاءِ لِتَرْتِيبِ الْإِعْطَاءِ عَلَى الْمَغْفِرَةِ (وَأَجَرْتُهُمْ) : مِنْ أَجَارَهُ يُجِيرُهُ إِذَا أَمَّنَهُ مِنَ الْخَوْفِ (مِمَّا اسْتَجَارُوا) : أَيْ: طَلَبُوا الْأَمَانَ (قَالَ: يَقُولُونَ: " رَبِّ!) : أَيْ: يَا رَبِّ (فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ) : أَيْ: كَثِيرُ الذُّنُوبِ أَوْ مُلَازِمٌ لِلذَّنْبِ، بَدَلٌ مِنْ فُلَانٍ (إِنَّمَا مَرَّ) : أَيْ: لِحَاجَةٍ (فَجَلَسَ مَعَهُمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ إِلَّا الْمُرُورَ وَالْجُلُوسَ عَقِيبَهُ أَيْ مَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى اهـ أَيْ: مَا ذَكَرَ اللَّهَ قَصْدًا أَوْ إِخْلَاصًا وَإِلَّا فَسَمَاعُ الذِّكْرِ ذِكْرٌ (قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ) : أَيْ: أَيْضًا أَوْ بِطُفَيْلِهِمْ يَعْنِي غَفَرْتُ لِهَذَا الْعَبْدِ أَيْضًا بِبَرَكَةِ الذَّاكِرِينَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: غَفَرْتُ لَهُمْ وَلَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ غَفَرْتُ تَأْكِيدًا أَوْ تَقْرِيرًا (وَهُمُ الْقَوْمُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: تَعْرِيفُ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ أَيْ: هُمُ الْقَوْمُ الْكَامِلُونَ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ (لَا يَشْقَى) : أَيْ: لَا يَتْعَبُ أَوْ لَا يَصِيرُ شَقِيًّا (بِهِمْ) : أَيْ: بِسَبَبِهِمْ وَبِبَرَكَتِهِمْ (جَلِيسُهُمْ) : أَيْ: مُجَالِسُهُمْ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْجِنْسِ كَالنَّكِرَةِ، أَوْ حَالٌ، وَيَجُوزُ كَوْنُهَا اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ مَزِيدِ كَمَالِهِمْ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لَا يُحْرَمُ مِنَ الثَّوَابِ بَلْ يَجِدُ مِنْ بَرَكَتِهِمْ نَصِيبًا. وَفِي هَذَا تَرْغِيبُ الْعِبَادِ فِي مُجَالَسَةِ الصُّلَحَاءِ لِيَنَالُوا نَصِيبًا مِنْهُمْ.

ص: 1549

2268 -

وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّبِيعِ الْأُسَيْدِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟ ! قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَمَا ذَاكَ؟) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ! سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ــ

2268 -

(وَعَنْ حَنْظَلَةَ) : هَذَا كَاتِبُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَا حَنْظَلَةَ بْنَ مَالِكٍ غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ (بْنِ الرَّبِيعِ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ الرَّبِيعُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ، كَذَا بِخَطِّ الْكِرْمَانِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُقَدِّمَةِ ابْنِ حَجَرٍ: الرَّبِيعُ كَثِيرٌ وَبِالتَّصْغِيرِ امْرَأَتَانِ اهـ. فَيَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا (الْأُسَيْدِيِّ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ. (قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ) : وَلَعَلَّهُ لَمَّا كَانَ مَغْلُوبًا لَمْ يَقُلْ لَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَدَبِ (فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟) : سُؤَالٌ عَنِ الْحَالِ أَيْ: كَيْفَ اسْتِقَامَتُكَ عَلَى مَا تَسْمَعُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَهِيَ مَوْجُودَةٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: أَتَسْتَقِيمُ عَلَى الطَّرِيقِ أَمْ لَا؟ (فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ) : عَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ لِغَيْبَتِهِ عَنْهَا بِالْغِيبَةِ أَيْ: صَارَ مُنَافِقًا وَأَرَادَ نِفَاقَ الْحَالِ لَا نِفَاقَ الْإِيمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَجْرِيدٌ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ نَافَقْتُ، فَجَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ شَخْصًا آخَرَ مِثْلَهُ، فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ مَا لَا يَرْضَى لِمُخَالَفَةِ السِّرِّ الْعَلَنَ، وَالْحُضُورِ الْغَيْبَةَ.

(قَالَ) : أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (سُبْحَانَ اللَّهِ) : تَعَجُّبٌ أَوْ تَبْرِئَةٌ وَتَنْزِيهٌ (مَا تَقُولُ؟ !) : أَيْ: بَيِّنْ مَعْنَى مَا تَقُولُ: قَالَ الطِّيبِيُّ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: تَقُولُ هُوَ الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ يَعْنِي: عَجِبْتُ مِنْ قَوْلِكَ هَذَا الَّذِي حَكَمْتَ فِيهِ بِالنِّفَاقِ عَلَى نَفْسِكَ. (قُلْتُ: نَكُونُ) : أَيْ: جَمِيعًا عَلَى وَصْفِ الْجَمْعِيَّةِ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : وَالْمَعْنَى: لَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّا نَكُونُ عِنْدَهُ، وَأَتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْحَاضِرِينَ مَنْ يُشَابِهُ حَنْظَلَةَ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ نَافَقْنَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِلْخُصُوصِ (يُذَكِّرُنَا) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: يَعِظُنَا (بِالنَّارِ) : أَيْ: بِعَذَابِهَا تَارَةً (وَالْجَنَّةِ) : أَيْ: بِنَعِيمِهَا أُخْرَى تَرْهِيبًا وَتَرْغِيبًا، أَوْ يُذَكِّرُنَا اللَّهَ بِذِكْرِهِمَا، أَوْ بِقُرْبِهِمَا، أَوْ بِكَوْنِهِمَا مِنْ آثَارِ صِفَتَيِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، (كَأَنَّا) : أَيْ: حَتَّى صِرْنَا كَأَنَّا (رَأْيَ عَيْنٍ) : بِالنَّصْبِ أَيْ: كَأَنَّا نَرَى اللَّهَ، أَوِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ رَأْيَ عَيْنٍ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ بِإِضْمَارِ نَرَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ أَيْ: كَأَنَّا راَؤُنَا بِالْعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ، وَيَصِحُّ

ص: 1549

كَوْنُهُ الْخَبَرَ لِلْمُبَالَغَةِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ (فَإِذَا خَرَجْنَا) : أَيْ: فَارَقْنَاهُ عَلَى وَصْفِ التَّفْرِقَةِ (مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ) : أَيْ: خَالَطْنَاهُمْ وَلَاعَبْنَاهُمْ وَعَالَجْنَا أُمُورَهُمْ وَاشْتَغَلْنَا بِمَصَالِحِهِمْ (وَالضِّيعَاتِ) : أَيِ: الْأَرَاضِي وَالْبَسَاتِينَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: ضَيْعَةُ الرَّجُلِ مَا يَكُونُ مَعَاشُهُ بِهِ كَالزِّرَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا (نَسِينَا) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ عَافَسْنَا، أَوْ عَلَى جَوَابِ إِذَا، وَجُمْلَةُ عَافَسْنَا بِتَقْدِيرِ قَدْ حَالٌ، وَالْمَعْنَى نَسِينَا كَثِيرًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْ: مَا ذُكِّرْنَا بِهِ وَقِيلَ: أَيْ: نِسْيَانًا كَثِيرًا.

(قَالَ أَبُو بَكْرٍ) : إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ وَذَكَرْتَ بَيَانَهُ (فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى) : أَيْ: كُلُّنَا (مِثْلَ هَذَا) : أَيْ: مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْحَالِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ تَأْثِيرِ صُحْبَةِ أَهْلِ الْكَمَالِ (فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا ذَاكَ؟) : أَيْ: وَمَا سَبَبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ؟ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَثِيرًا مِمَّا ذَكَّرْتَنَا بِهِ، أَوْ نِسْيَانًا كَثِيرًا كَأَنَّا مَا جَمَعْنَا مِنْكَ شَيْئًا قَطُّ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: رَأَيَ عَيْنٍ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ) : أَيْ: فِي حَالِ غَيْبَتِكُمْ مِنِّي (عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي) : أَيْ: مِنْ صَفَاءِ الْقَلْبِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ مِنْ دَوَامِ الذِّكْرِ وَتَمَامِ الْحُضُورِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ:(وَفِي الذِّكْرِ) : مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: " عَلَى مَا تَكُونُونَ " عَطْفَ تَفْسِيرٍ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى خَبَرِ كَانَ الَّذِي هُوَ عِنْدِي، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا تَكُونُونَ، أَوْ عَلَى عِنْدِي أَيْ لَوْ تَدُومُونَ فِي الذِّكْرِ، أَوْ عَلَى مَا تَكُونُونَ فِي الذِّكْرِ وَأَنْتُمْ بُعَدَاءُ مِنِّي مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ، (لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ) : قِيلَ: أَيْ: عَلَانِيَةً، وَإِلَّا فَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ يُصَافِحُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ حَاصِلٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: عَيَانًا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، وَإِنْ كُنْتُمْ (عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ) : أَيْ: فِي حَالَتَيْ فَرَاغِكُمْ وَشُغْلِكُمْ، وَفِي زَمَانِ أَيَّامِكُمْ وَلَيَالِيكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ دَائِمًا، وَمَنْ هُوَ كَذَلِكَ مَعَ الْمَوَانِعِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْقَوَاطِعِ النَّفْسِيَّةِ يَرَى الْمَلَائِكَةَ مُتَبَرِّكِينَ بِهِ، مُعَظِّمِينَ لَهُ فِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ الدَّوَامُ. (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةٌ) : أَيْ: كَذَا يَعْنِي الْمُنَافَسَةَ (وَسَاعَةٌ) : أَيْ: كَذَا يَعْنِي الْمُعَافَسَةَ. وَفِي الْمَصَابِيحِ: سَاعَةٌ فَسَاعَةٌ.

قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْفَاءُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ إِحْدَى السَّاعَتَيْنِ مُعَقَّبَةٌ بِالْأُخْرَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْوَاوِ اهـ. يَعْنِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُنَافِقًا بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتٍ عَلَى الْحُضُورِ وَفِي وَقْتٍ عَلَى الْفُتُورِ، فَمِنْ سَاعَةِ الْحُضُورِ تُؤَدُّونَ حُقُوقَ رَبِّكُمْ، وَفِي سَاعَةِ الْفُتُورِ تَقْضُونَ حُظُوظَ أَنْفُسِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ لِلتَّرْخِيصِ أَوْ لِلتَّحَفُّظِ لِئَلَّا تَسْأَمَ النَّفْسُ عَنِ الْعِبَادَةِ. وَحَاصِلُهُ أَنْ يَا حَنْظَلَةُ هَذِهِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى مَا ذُكِرَ مَشَقَّةٌ لَا يُطِيقُهَا كُلُّ أَحَدٍ فَلَمْ يُكَلَّفْ بِهَا، وَإِنَّمَا الذِّكْرُ يُطِيقُهُ الْأَكْثَرُونَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ سَاعَةً، وَلَا عَلَيْهِ بِأَنْ يَصْرِفَ نَفْسَهُ لِلْمُعَافَسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا سَاعَةً أُخْرَى، وَأَنْتَ كَذَلِكَ فَأَنْتَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْكَ نِفَاقٌ قَطُّ كَمَا تَوَهَّمْتَهُ، فَانْتَهِ عَنِ اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِمَّا يُدْخِلُهُ الشَّيْطَانُ عَلَى السَّالِكِينَ، حَتَّى يُغَيِّرَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يُغَيِّرُهُمْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يَتْرُكُوا الْعَمَلَ رَأْسًا (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : أَيْ: قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالذِّكْرُ إِلَخْ. أَوْ قَوْلُهُ: وَلَكِنِ إِلَخْ. أَوْ قَوْلُهُ: سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الطِّيبِيُّ الْأَخِيرَ لِتَحَقُّقِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِهِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرِ، وَتَعْيِينُ الشَّارِحِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.

أَقُولُ: وَنَظِيرُ هَذَا الْمَبْحَثِ وُقُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ الْجَمْلِ، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الْمُحَقِّقِينَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، بِخِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، كَمَا حَقَّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]

ص: 1550

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 4 - 5] فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ عِنْدَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ: أَبَدًا يُؤَيِّدُ أَنَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَلِإِزَالَةِ مَا اهْتَمَّ بِهِ نَفْسُ حَنْظَلَةَ عَنْهُ، وَلِبَيَانِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَوَامِ الْحُضُورِ مِنْ غَيْرِ الْفُتُورِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سَاعَةً يَكُونُ فِي الذِّكْرِ وَالْحُضُورِ، وَسَاعَةً فِي مُعَافَسَةِ الْأَزْوَاجِ وَغَيْرِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيرٌ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ حَنْظَلَةُ عَلَيْهَا وَأَنْكَرَهَا، وَمِنْ ثَمَّةَ نَادَاهُ بِاسْمِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَا نَافَقَ قَطُّ أَيِ: النِّفَاقَ الْعُرْفِيَّ وَهُوَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبِطَانُ الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، إِمَّا الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَالَةٍ وَعِنْدَ غَيْرِهِ عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى، وَإِمَّا التَّشْبِيهَ الْحَالِيَّ؛ لِأَنَّ حَالَهُ يُشْبِهُ حَالَ الْمُنَافِقِ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى مَقَامِ الْمَوَاقِفِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1551

[الْفَصْلُ الثَّانِي]

2269 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ؟ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ وَخَيْرٍ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ " ذِكْرُ اللَّهِ» )

رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَقَفَهُ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ.

ــ

[الْفَصْلُ الثَّانِي]

2269 -

(عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: رَجُلٌ أَدْرَدُ لَيْسَ فِي فِيهِ سِنٌّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ) : أَيْ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ (بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ) : أَيْ: أَفْضَلِهَا (وَأَزْكَاهَا) : أَيْ: أَنْمَاهَا وَأَنْقَاهَا (عِنْدَ مَلِيكِكُمْ؟) : أَيْ: فِي حُكْمِ رَبِّكُمْ (وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَيُسَكَّنُ أَيِ: الْفِضَّةِ، فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ (وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ) : أَيْ: خَيْرٍ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَنْ تُجَاهِدُوا الْكُفَّارَ (تَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ) : أَيْ: أَعْنَاقَ بَعْضِهِمْ (وَيَضْرِبُوا) : أَيْ: بَعْضُهُمْ (أَعْنَاقَكُمْ؟) وَهَذَا تَصْوِيرٌ لِأَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُجَاهَدَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: " وَخَيْرٍ " مَجْرُورٌ عَطْفًا عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَذْلِ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَطْفٌ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَيْرُ الْأَعْمَالِ مُطْلَقًا، وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ، أَوْ عَطْفٌ مُغَايِرٌ بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَعْمَالِ الْأَعْمَالُ اللِّسَانِيَّةُ، فَيَكُونُ ضِدَّ هَذَا، لِأَنَّ بَذْلَ الْأَمْوَالِ وَالنُّفُوسِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْفِعْلِيَّةِ اهـ. وَمُرَادُهُ بِضِدِّهِ مُغَايِرُهُ.

(قَالُوا: بَلَى. قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْمَنْزِلَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى بَذْلِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ نَفْسِيٌّ، وَفِعْلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ، بَلْ هُوَ الْجِهَادُ الْأَكْبَرُ، لَا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى صِيَاحٍ وَانْزِعَاجٍ وَشِدَّةِ تَحْرِيكِ الْعُنُقِ وَاعْوِجَاجٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ زَاعِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ جَالِبٌ لِلْحُضُورِ، وَمُوجِبٌ لِلسُّرُورِ، - حَاشَا لِلَّهِ - بَلْ سَبَبُ الْغَيْبَةِ وَالْغُرُورِ اهـ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الذِّكْرَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَنَانِيِّ وَعَلَى اللِّسَانِيِّ، وَأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْقَلْبِ الَّذِي يَتَقَلَّبُ بِسَبَبِ ذِكْرِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، وَإِنَّمَا اللَّفْظِيُّ وَسِيلَةٌ، وَلِحُصُولِ الْوُصُولِ وَصَلَةٌ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبْتَدِئِ؟ وَإِنْ كَانَ يَنْتَهِي الْمُنْتَهِي أَيْضًا إِلَى الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْبِدْعِيَّةُ وَالْأَغْرَاضُ الدُّنْيَوِيَّةُ، فَخَارِجَةٌ عَنِ الْأَنْوَاعِ الذِّكْرِيَّةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَكْمَلُ، وَفِي تَحْصِيلِ الْمَثُوبَةِ أَفْضَلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ الْمَذْكُورَ وَالْمُقَاتِلَ الْمَشْكُورَ لَا يَخْلُو عَنِ الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذِكْرَهُ الْقَلْبِيَّ الَّذِي هُوَ الْجِهَادُ الْبَاطِنِيُّ أَفْضَلُ مِنْ مُضَارَبَتِهِ الَّتِي هِيَ الْجِهَادُ الظَّاهِرِيُّ، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ نَظِيرَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" لَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي حِجْرِهِ دَرَاهِمُ يُقَسِّمُهَا وَآخَرَ يَذْكُرُ كَانَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ أَفْضَلَ " كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، فَانْدَفَعَ مَا تَحَيَّرَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَكَوْنُ الذِّكْرِ الشَّامِلِ لِلْقُرْآنِ خَيْرًا مِنْ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ اللِّسَانِيَّةِ ظَاهِرٌ، وَمِنْ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَبَذْلِ النُّفُوسِ لِلَّهِ مُشْكِلٌ إِذْ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا الْعَكْسُ اهـ.

وَلِدَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَقَامِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، بَلْ قَدْ يَأْجُرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَلِيلِ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْجُرُ عَلَى كَثِيرِهَا، فَإِذًا الثَّوَابُ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَاوُتِ الرُّتَبِ فِي الشَّرَفِ اهـ. وَهُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ.

ص: 1551

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّهُ جَرَى عَلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مَعَ قَطْعِ النَّصِّ عَنْ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، فَهُوَ تَقْلِيدٌ مُطْلَقٌ، ثُمَّ أَغْرَبَ وَقَالَ: الْإِنْفَاقُ يَقْطَعُ دَاءَ الْبُخْلِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ يَقْطَعُ دَاءَ الْجُبْنِ، وَإِدْمَانُ الذِّكْرِ لَا يَقْطَعُ شَيْئًا مِنْ هَذَيْنِ الدَّاءَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا، بَلْ لَا يُجْدِي إِلَّا حَدُّ الْمَقْصُودِ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى غَفْلَتِهِ عَنْ مَعْنَى الذِّكْرِ وَحَقِيقَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ جَمِيعُ الْعِلَلِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إِلَّا بِالذِّكْرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ سُلْطَانُ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ بَذْلُ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَغَيْرِهَا، وَبِدُونِهِ إِنَّمَا هُوَ خَسَارَةُ مَالٍ وَضَيَاعُ نَفْسٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِمَا، حَيْثُ لَا تَقَرُّبَ بِهِمَا.

وَلِهَذَا قَالَ شَارِحٌ: وَلَعَلَّ الْخَيْرِيَّةَ وَالْأَرْفَعِيَّةَ فِي الذِّكْرِ لِأَجْلِ أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ وَالْمُقَاتَلَةِ مَعَهُمْ، إِنَّمَا هِيَ وَسَائِلُ وَوَسَائِطُ يَتَقَرَّبُ الْعِبَادُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وَأَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، الْحَدِيثَ. وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَمَا دَخَلَ فِي مَقَامِ الذِّكْرِ: ضَيَّعْتُ قِطْعَةً مِنَ الْعُمْرِ فِي الْوَجِيزِ وَالْوَسِيطِ وَالْبَسِيطِ، بَلْ يَعُدُّ الْعَارِفُونَ الْغَفْلَةَ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّدَّةِ وَلَوْ خَطْرَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالَ:

وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ

عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي

ثُمَّ لَا ارْتِيَابَ أَنَّ أَفْضَلَ الذِّكْرِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا أَرْكَانُ الدِّينِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا، وَهِيَ الْقُطْبُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا رَحَى الْإِسْلَامِ، وَهِيَ الشُّعْبَةُ الَّتِي أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بَلْ هُوَ الْكُلُّ وَلَيْسَ غَيْرُهُ {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108] ، إِذِ الْوَحْيُ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْوَحْيِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَسَائِرُ التَّكَالِيفِ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِأَمْرٍ مَا تَجِدُ الْعَارِفِينَ وَأَرْبَابَ الْقُلُوبِ وَالْيَقِينِ يَسْتَأْثِرُونَهَا عَلَى سَائِرِ الْأَذْكَارِ، لَمَّا رَأَوْا فِيهَا خَوَاصَّ لَيْسَ الطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا الْوِجْدَانُ وَالذَّوْقُ اهـ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّ السَّيِّدَ عَلِيَّ بْنَ مَيْمُونٍ الْمَغْرِبِيَّ لَمَّا تَصَرَّفَ فِي الشَّيْخِ عُلْوَانَ الْحَمَوِيِّ، وَهُوَ كَانَ مُفْتِيًا مُدَرِّسًا، فَنَهَاهُ عَنِ الْكُلِّ، وَأَشْغَلَهُ بِالذِّكْرِ فَطَعَنَ الْجُهَّالُ فِيهِ بِأَنَّهُ أَضَلَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ، وَمَنَعَهُ عَنْ نَفْعِ الْأَنَامِ، ثُمَّ بَلَغَ السَّيِّدَ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَحْيَانًا، فَمَنَعَهُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ زِنْدِيقٌ يَمْنَعُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ قُطْبُ الْإِيمَانِ، وَغَوْثُ الْإِيقَانِ، لَكِنْ طَاوَعَهُ الْمُرِيدُ إِلَى أَنْ حَصَلَ لَهُ الْمَزِيدُ، وَانْجَلَتْ مِرْآةُ قَلْبِهِ، وَحَصَلَ لَهُ مُشَاهَدَةُ رَبِّهِ، فَأَذِنَ لَهُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا فَتَحَ الْمُصْحَفَ فُتِحَ عَلَيْهِ الْفُتُوحَاتُ الْأَزَلِيَّةُ وَالْأَبَدِيَّةُ، وَظَهَرَ لَهُ كُنُوزُ الْمَعَارِفِ وَالْعَوَارِفِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، فَقَالَ السَّيِّدُ: أَنَا مَا كُنْتُ أَمْنَعُكَ عَنِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَمْنَعُكَ عَنْ لَقْلَقَةِ اللِّسَانِ وَالْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَقَفَهُ) : بِالتَّخْفِيفِ (عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ) : يَعْنِي: وَالْبَاقُونَ رَفَعُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَضُرُّ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِمَنْ وَصَلَ لَا لِمَنْ وَقَفَ؛ لِأَنَّ مَعَ الْأَوَّلِ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِالْوَصْلِ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَوَقْفُهُ كَرَفْعِ غَيْرِهِ.

ص: 1552

2270 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه، قَالَ:«جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ فَقَالَ: " طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» " (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

ــ

2270 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَفِي نُسْخَةٍ " نُمَيْرٍ " اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَصْحِيفٌ (قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟) : أَيْ: أَفْضَلُ حَالًا وَأَطْيَبُ مَآلًا (فَقَالَ: طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ) : فُعْلَى مَنِ الطِّيبِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِطِيبِ حَالِهِ فِي الدَّارَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي جَوَابِ: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ طُوبَى الْجَنَّةَ، أَوْ شَجَرَةً فِي الْجَنَّةِ تَعُمُّ أَهْلَهَا وَتَشْمَلُ مَحَلَّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: ظَاهِرُ الْجَوَابِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ كَأَنَّهُ قَالَ: غَيْرُ خَافٍ أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ ذُكِرَ، وَالْمُهِمُّ أَنْ تَدْعُوَ لَهُ فَتُصِيبَ مَنْ بَرَكَتِهِ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ

ص: 1552

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ طِيبِ حَالِهِ وَحُسْنِ مَآلِهِ، فَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِلْجَوَابِ بِبَلَاغَةِ مَقَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنَّمَا عَدَلَ فِي الْجَوَابِ إِلَى أَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَى حَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنْ سَعَادَتِهِ فِي الدَّارَيْنِ إِذَا طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ، بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنَ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا. اهـ.

وَإِذَا فَتَّشْتَ هَذَا الْكَلَامَ تَرَى هَبَاءً مَنْثُورًا بِلَا بَقَاءٍ وَنِظَامٍ، ثُمَّ خَطَرَ بِبَالِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ زَادَ كَلِمَةَ (طُوبَى) لِتَكُونَ كَلِمَةً جَامِعَةً، وَحِكْمَةً رَابِعَةً مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ تَابِعَةٍ لِلسُّؤَالِ الْمَانِعِ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبِ الْوُرُودِ. (قَالَ: يَا رَسُولَ اللِّهِ! أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ) : الْوَاوُ لِلْحَالِيَّةِ (رَطْبٌ) : أَيْ: قَرِيبُ الْعَهْدِ أَوْ مُتَحَرِّكٌ طَرِيٌّ (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) : وَالذِّكْرُ يَشْمَلُ الْجَلِيَّ وَالْخَفِيَّ، وَاللِّسَانُ يَحْتَمِلُ الْقَلْبِيَّ وَالْقَالَبِيَّ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، بَلْ هُوَ أَدْعَى إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ مَا يُخْتَمُ بِهِ الْأَحْوَالُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِمُفَارَقَةِ الدُّنْيَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَبِرَطْبِ اللِّسَانِ بَلِ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الْمَوْلَى، فَإِنَّ الْإِنَاءَ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ ذِكْرَهُ بِفِيهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: رُطُوبَةُ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ سُهُولَةِ جَرَيَانِهِ، كَمَا أَنَّ يُبْسَهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَسُهُولَةُ الْجَرَيَانِ بِالْمُدَاوَمَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مُدَاوَمَةُ الذِّكْرِ، فَإِنَّ الذِّكْرَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَسَائِرُ الْأَعْمَالِ وَسَائِلُ إِلَيْهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: آخِرُ كَلَامٍ فَارَقْتُ عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قُلْتُ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: ( «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» ) وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَوْصِنِي. قَالَ: ( «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ، وَمَا عَمِلْتَ مِنْ سُوءٍ فَأَحْدِثْ لِلَّهِ فِيهِ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» ) اهـ. قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَ هَذَا حِينَ أَرْسَلَهُ صلى الله عليه وسلم حَاكِمًا إِلَى الْيَمَنِ فِي آخِرِ وَدَاعِهِ.

ص: 1553

2271 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا " قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: " حِلَقُ الذِّكْرِ» "(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ــ

2271 -

(وَعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ) : مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ، أَوْ بِمَا يُوصِلُ إِلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ (فَارْتَعُوا) : كِنَايَةً عَنْ أَخْذِ الْحَظِّ الْأَوْفَرِ وَالنَّصِيبِ الْأَوْفَى (قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ وَتُفْتَحُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، جَمْعُ الْحَلَقَةِ مِثْلَ قَصْعَةٍ وَقِصَعٍ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ يَسْتَدِيرُونَ كَحَلْقَةِ الْبَابِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَمْعُ الْحَلْقَةِ بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَحَكَى ابْنُ عَمْرٍو: أَنَّ الْوَاحِدَ حَلَقَةٌ بِالتَّحْرِيكِ وَالْجَمْعُ حَلَقٌ بِالْفَتْحِ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَمْعِ الْجِنْسَ. قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ فِي الْمَكَانِ وَالذِّكْرِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيِّدِ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ الْمَسَاجِدِ، وَالذِّكْرُ هُوَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَخْ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَقِيلَ: هِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَذِكْرُ الْفَرْدِ الْأَكْمَلِ بِالْخُصُوصِ لَا يُنَافِي عُمُومَ الْمَنْصُوصِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى، إِذَا مَرَرْتُمْ بِجَمَاعَةٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَاذْكُرُوهُ أَنْتُمْ مُوَافَقَةً لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا يُسْتَحَبُّ الذِّكْرُ يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ فِي حَلَقِ أَهْلِهِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَأَفْضَلُ مِنْهُمَا مَا كَانَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا، فَإِنِ اقْتُصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَالْقَلْبُ أَفْضَلُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ بِالْإِخْلَاصِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِ الرِّيَاءُ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْفُضَيْلِ: تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ. وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُخَلِّصَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا، لَكِنْ لَوْ فَتَحَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مُلَاحَظَةِ النَّاسِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ طُرُقِ ظُنُونِهِمُ الْبَاطِلَةِ لَانْسَدَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ اهـ.

ص: 1553

وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُرِيدِينَ قَالَ لِشَيْخِهِ: أَنَا أَذْكُرُ اللَّهَ وَقَلْبِي غَافِلٌ. فَقَالَ لَهُ: اذْكُرْ وَاشْكُرْ أَنْ شَغَلَ عُضْوًا مِنْكَ بِذِكْرِهِ، وَاسْأَلْهُ أَنْ يُحْضِرَ قَلْبَكَ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا قَالَ لَا ثَوَابَ فِي الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ الْبَلْقِينِيَّ قَالَ: وَهُوَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ اهـ. وَلَعَلَّ كَلَامَهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى ذِكْرِ عَيَّنَ الشَّارِعُ تَلَفُّظَهُ وَسَمَاعَ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ: كُلُّ ذِكْرٍ مَشْرُوعٍ أَيْ مَأْمُورٍ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مُسْتَحَبًّا، لَا يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ اهـ.

فَالْإِطْلَاقُ غَيْرُ صَوَابٍ فَقَدْ رَوَى أَبُو يُعْلَى، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " «لَفَضْلُ الذِّكْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ الْحَفَظَةُ سَبْعُونَ ضِعْفًا، إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ لِحِسَابِهِمْ، وَجَاءَتِ الْحَفَظَةُ بِمَا حَفِظُوا وَكَتَبُوا، قَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا هَلْ بَقِيَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ؟ فَيَقُولُونَ: مَا تَرَكْنَا شَيْئًا مِمَّا عَلِمْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ إِلَّا وَقَدْ أَحْصَيْنَاهُ وَكَتَبْنَاهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لَكَ عِنْدِي حَسَنًا لَا تَعْلَمُهُ، وَإِنَّمَا أَجْزِيكَ بِهِ وَهُوَ الذِّكْرُ الْخَفِيُّ» " اهـ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " الذِّكْرُ الْخَفِيُّ خَيْرٌ مِنَ الذِّكْرِ الْجَلِيِّ "(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:( «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا) قُلْتُ: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: (الْمَسَاجِدُ) . قُلْتُ: وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ) .

ص: 1554

2272 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " «مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ، وَمَنِ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ــ

2272 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا) : أَيْ: مَجْلِسًا أَوْ قُعُودًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ) : أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْجُلُوسِ (كَانَتْ) : أَيْ: الْقَعْدَةُ، وَفِي نُسْخَةٍ: كَانَ أَيْ: الْقُعُودُ (عَلَيْهِ) : أَيْ: عَلَى الْقَاعِدِ (مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ (تِرَةٌ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ: تَبِعَةٌ وَمُعَاتَبَةٌ، أَوْ نُقْصَانٌ وَحَسْرَةٌ، مِنْ وَتَرَهُ حَقَّهُ: نَقَصَهُ، وَهُوَ سَبَبُ الْحَسْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] وَالْهَاءُ عِوَضٌ عَنِ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ مِثْلَ عُدَّةٍ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ الْكَوْنَ تَامٌّ (وَمَنِ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا) : أَيْ: مَكَانَ ضِجْعَةٍ وَافْتِرَاشٍ (لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ كَانَتْ) : أَيِ: الِاضْطِجَاعَةُ، أَوْ كَانَ أَيِ: الِاضْطِجَاعُ الْمَذْكُورُ، أَوْ عَدَمُ ذِكْرِ اللَّهِ (عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تِرَةٌ) : بِالْوَجْهَيْنِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ رُوِيَتْ عَلَى التَّأْنِيثِ فِي أَبِي دَاوُدَ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِهِ عَلَى التَّذْكِيرِ فِيهِمَا. أَقُولُ: فَعَلَى رِوَايَةِ التَّأْنِيثِ فِي كَانَتْ وَرَفْعِ تِرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يُئَوَّلَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي كَانَتْ مُؤَنَّثًا إِلَى الْقَعْدَةِ، أَوِ الِاضْطِجَاعَةِ، فَيَكُونُ تِرَةٌ مُبْتَدَأً، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرَهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرَ كَانَ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ التَّذْكِيرِ وَنَصْبِ تِرَةٍ كَمَا هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ فَظَاهِرٌ، وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِتِرَةٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ بَعْدُ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: تَأْنِيثُ كَانَ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْمَكَانَيْنِ اسْتِيعَابُ الْأَمْكِنَةِ كَذِكْرِ الزَّمَانَيْنِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا لِاسْتِيعَابِ الْأَزْمِنَةِ، يَعْنِي: مَنْ فَتَرَ سَاعَةً مِنَ الْأَزْمِنَةِ، وَفِي مَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ، وَفِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَرُقُودٍ، كَانَ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ، لِأَنَّهُ ضَيَّعَ عَظِيمَ ثَوَابِ الذِّكْرِ، كَمَا وَرَدَ:«لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ أَتَى " بِلَمْ " فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، وَبِلَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ تَفَنُّنًا، وَكَذَا غَايَرَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِيثَيْنِ الْآتِيَيْنِ لِذَلِكَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ، فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم :" لَمْ تُرَاعُوا " مَعْنَاهُ لَا تَخَافُوا، وَالْعَرَبُ تُوقِعُ " لَمْ " مَوْقِعَ " لَا "(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 1554

2273 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» "(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

ــ

2273 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ» ": أَيْ: مَا يَقُومُونَ قِيَامًا إِلَّا هَذَا الْقِيَامُ، وَضَمَّنَ قَامُوا مَعْنَى تَجَاوَزُوا

ص: 1554

وَبَعُدُوا، فَعُدِّيَ بِعَنْ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. أَيْ: لَا يُوجَدُ مِنْهُمْ قِيَامٌ عَنْ مَجْلِسِهِمْ إِلَّا كَقِيَامِ الْمُتَفَرِّقِينَ عَنْ أَكْلِ الْجِيفَةِ الَّتِي هِيَ غَايَةٌ فِي الْقَذَرِ وَالنَّجَاسَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَتَخْصِيصُ جِيفَةِ الْحِمَارِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْوَنُ الْجِيَفِ مِنْ بَيْنِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُخَالِطُنَا اهـ. أَوْ لِكَوْنِهِ أَبْلَدَ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مُخَالِطًا لِلشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا يُتَعَوَّذُ عِنْدَ نَهِيقِهِ بِالرَّحْمَنِ. (وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) : بِالْوَجْهَيْنِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ وَلَفْظُهُمَا:( «مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُوا مَجْلِسًا وَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَأَنَّمَا تَفَرَّقُوا عَنْ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا مَشَى أَحَدٌ مَمْشًى لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً، وَمَا أَوَى أَحَدٌ إِلَى فِرَاشِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً» ) هَذَا وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مَرْفُوعًا: " «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ - يَعْنِي - يَوْمَ الْقِيَامَةِ " كَمَا فِي رِوَايَةٍ: " إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» "(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ) .

ص: 1555

2274 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ــ

2274 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ» ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (إِلَّا كَانَ) : أَيْ: ذَلِكَ الْمَجْلِسُ (عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ) : أَيْ: بِذُنُوبِهِمُ السَّابِقَةِ وَتَقْصِيرَاتِهِمُ اللَّاحِقَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتِّرَةِ التَّبِعَةُ. قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ:(فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ) مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ مِنْ حَصَائِدِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّسُولِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَلْمِيحٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64](وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ) : أَيْ: فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا اللَّهَ لَمْ يُعَذِّبْهُمْ حَتْمًا، بَلْ يَغْفِرُ لَهُمْ جَزْمًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ص: 1555

2275 -

وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " «كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ".

ــ

2275 -

(وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ) : أَيْ: ضَرَرُهُ وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: يُكْتَبُ عَلَيْهِ (لَا لَهُ) : أَيْ: لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ فِيهِ، أَوْ لَا يُكْتَبُ لَهُ ذِكْرٌ، تَأْكِيدًا (إِلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ) : مِمَّا فِيهِ نَفْعُ الْغَيْرِ مِنَ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ (أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ) : مِمَّا فِيهِ مَوْعِظَةُ الْخَلْقِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْهِيَّةِ (أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ) : أَيْ: مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ مِنَ الْأَذْكَارِ الْإِلَهِيَّةِ كَالتِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَمَا أَشْبَهُ ذَلِكَ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي الْكَلَامِ نَوْعٌ يُبَاحُ لِلْأَنَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْقَوْلِ الَّذِي لَيْسَ بِسَدِيدٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَفْظُ (عَلَيْهِ) غَيْرُ مَوْجُودٍ، فَعَلَيْهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَيَظْهَرُ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ (لَا لَهُ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: (عَلَيْهِ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُبَاحَ لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ فِي الْعُقْبَى، أَوْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ حَسْرَةٌ عَلَيْهِ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ إِلَّا الْمَذْكُورَاتِ وَأَمْثَالَهَا، فَيُرَافِقُ بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وَبِهِ يَرْتَفِعُ اضْطِرَابُ الشُّرَّاحِ فِي أَمْرِ الْمُبَاحِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 1555

2276 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبِ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» "(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ــ

2276 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ» ": فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْكَلَامِ مُبَاحٌ وَهُوَ مَا يَعْنِيهِ ( «فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ» ) : أَيْ: سَبَبُ قَسَاوَةٍ (لِلْقَلْبِ) : وَهِيَ النُّبُوُّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، وَالْمَيْلُ إِلَى مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ وَقِلَّةُ الْخَشْيَةِ وَعَدَمُ الْخُشُوعِ وَالْبُكَاءِ، وَكَثْرَةُ الْغَفْلَةِ عَنْ دَارِ الْبَقَاءِ (وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنْ نَظَرِ رَحْمَتِهِ وَعَيْنِ عِنَايَتِهِ (الْقَلْبُ الْقَاسِي) : أَيْ: صَاحِبُهُ، أَوِ التَّقْدِيرُ: أَبْعَدُ قُلُوبِ النَّاسِ الْقَلْبُ الْقَاسِي، أَوْ أَبْعَدُ النَّاسِ مَنْ لَهُ الْقَلْبُ الْقَاسِي. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْقَلْبِ عَنِ الشَّخْصِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ كَمَا قِيلَ: الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ أَيْ: بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِذًا إِلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ مَعَ بَعْضِ الصِّلَةِ. قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] الْآيَةَ. وَقَالَ عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16](رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1556

2277 -

وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه، قَالَ:«لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: نَزَلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ فَقَالَ " أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

2277 -

(وَعَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ. فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: نَزَلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) : أَيْ: مَا نَزَلَتْ أَوْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَعَرَفْنَا حُكْمَهُمَا وَمَذَمَّتَهَا (لَوْ عَلِمْنَا) :" لَوْ " لِلتَّمَنِّي (أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ) : مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالْجُمْلَةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِعَلِمْنَا تَعْلِيقًا (فَنَتَّخِذَهُ؟) : مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ جَوَابًا لِلتَّمَنِّي، قِيلَ: السُّؤَالُ وَإِنْ كَانَ عَنْ تَعْيِينِ الْمَالِ ظَاهِرًا، وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا مَا يُنْتَفَعُ بِهِ عِنْدَ تَرَاكُمِ الْحَوَائِجِ، فَلِذَلِكَ أَجَابَ عَنْهُ بِمَا أَجَابَ، فَفِيهِ شَائِبَةٌ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. (فَقَالَ: " أَفْضَلُهُ) : أَيْ: أَفْضَلُ الْمَالِ أَوْ أَفْضَلُ مَا يَتَّخِذُهُ الْإِنْسَانُ قُنْيَةً (لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي أَفْضَلِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَالِ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالنَّافِعِ، أَيْ: لَوْ عَلِمْنَا أَفْضَلَ الْأَشْيَاءِ نَفْعًا فَنَقْتَنِيهِ، وَلِهَذَا السِّرِّ اسْتَثْنَى اللَّهُ مَنْ أَتَى بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مِنْ قَوْلِهِ:{مَالٌ وَلَا بَنُونَ} [الشعراء: 88] ، وَالْقَلْبُ إِذَا سَلِمَ مِنْ آفَاتِهِ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى، فَسَرَى ذَلِكَ إِلَى لِسَانِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِفَرَاغِ الْقَلْبِ وَمُعَاوَنَةِ رَفِيقٍ يُعِيِنُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ.

وَلِهَذَا قَالَ: " تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ) : أَيْ: عَلَى دِينِهِ بِأَنْ تُذَكِّرَهُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَتَمْنَعَهُ مِنَ الزِّنَا وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا أَجَابَ عليه الصلاة والسلام بِمَا ذَكَرَ ; لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَنْفَعُ مَالِكَهُ، وَلَا شَيْءَ لِلرَّجُلِ أَنْفَعُ مِمَّا ذَكَرَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ: أَنَّ الْقَلْبَ مُقَدَّمٌ عَلَى اللِّسَانِ فِي نُسْخَتِهِ فَبَنَى عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ، وَإِلَّا فَيُقَالُ: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ سَرَى ذَلِكَ إِلَى جَنَانِهِ فَشَكَرَ عَلَى إِحْسَانِهِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مُؤْنِسَةً تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ، وَهَذَا طَرِيقُ الْمُرِيدِينَ وَمَسْلَكُ أَكْثَرِ السَّالِكِينَ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ طَرِيقَةُ الْمُرَادِينَ الْمَجْذُوبِينَ قَالَ تَعَالَى:{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 1556

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2278 -

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ. قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا غَيْرُهُ. قَالَ: أَمَّا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: " وَمَا أَجْلَسَكُمْ هَاهُنَا؟) قَالُوا: " جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: " آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟ " قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ: " أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثِ

2278 -

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَتُفْتَحُ أَيْ: جَمَاعَةٍ مُتَحَلِّقَةٍ (فِي الْمَسْجِدِ) مُتَقَابِلِينَ عَلَى الذِّكْرِ بِالِاجْتِهَادِ (فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟) : أَيْ: مَا السَّبَبُ الدَّاعِي إِلَى جُلُوسِكُمْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ هَاهُنَا، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ. (قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ) : أَيِ: الَّذِي أَجْلَسَنَا هُوَ غَرَضُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ، (قَالَ: آللَّهِ) : بِالْمَدِّ وَالْجَرِّ (مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟) : مَا هَذِهِ نَافِيَةٌ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: قِيلَ: الصَّوَابُ بِالْجَرِّ لِقَوْلِ الْمُحَقِّقِ الشَّرِيفِ فِي حَاشِيَتِهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ وَقَعَتْ بَدَلًا عَنْ حَرْفِ الْقَسَمِ وَيَجِبُ الْجَرُّ مَعَهَا اهـ. وَكَذَا صُحِّحَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مِنَ الْمِشْكَاةِ، وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ بِالنَّصْبِ اهـ. كَلَامُهُ، وَهُوَ مَشْهُورٌ لِأَنَّ خُلَاصَةَ الطِّيبِيِّ حَاشِيَةٌ مِنَ السَّيِّدِ الشَّرِيفِ عَلَى الْمِشْكَاةِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي أَسَامِي مُؤَلَّفَاتِهِ، وَثَانِيًا: أَنَّهُ مَعَ جَلَالَتِهِ كَيْفَ يَخْتَصِرُ كَلَامَ الطِّيبِيُّ اخْتِصَارًا مُجَرَّدًا لَا يَكُونُ لَهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ أَبَدًا. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْبَ فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ عَفِيفِ الدِّينِ، قَالَ الطِّيبِيُّ، قِيلَ: اللَّهَ بِالنَّصْبِ أَيْ: أَتُقْسِمُونَ بِاللَّهِ؟ فَحَذَفَ الْجَارَّ وَأَوْصَلَ الْفِعْلَ ثُمَّ حَذَفَ الْفِعْلَ اهـ. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا يَخْلُو عَنِ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ. (قَالُوا: آللَّهِ) : تَقْدِيرُهُ أَيْ: أَوْ نَعَمْ فَنُقْسِمُ بِاللَّهِ (مَا أَجْلَسَنَا غَيْرُهُ) : فَوَقْعُ الْهَمْزَةِ مَوْقِعَهَا مُشَاكَلَةً وَتَقْرِيرًا لِذَلِكَ، كَمَا قَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْهَمْزَةَ وَقَعَتْ بَدَلَ حَرْفِ الْقَسَمِ فَلَا وَجْهَ لِلْمُشَاكَلَةِ، نَعَمْ أَطْنَبُوا فِي الْجَوَابِ حَيْثُ عَدَلُوا عَنْ أَيْ أَوْ نَعَمْ تَأْكِيدًا لِرَفْعِ الْحِجَابِ. (قَالَ) : أَيْ: مُعَاوِيَةُ (أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنِّي) : بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَمَّا اسْتِفْتَاحِيَّةٌ، أَوْ بِمَعْنَى حَقًّا عَلَى رَأْيٍ، وَإِنِّي بِالْكَسْرِ عَلَى الْأَوَّلِ وَبِالْفَتْحِ عَلَى الثَّانِي، فَمَحْمُولٌ عَلَى تَجْوِيزٍ عَقْلِيٍّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ كَوْنَ أَمَّا بِمَعْنَى حَقًّا لَا يُنَافِي الْكَسْرَ، (لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ) : بِسُكُونِ الْهَاءِ وَيُفْتَحُ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: التُّهْمَةُ وَقَدْ تُفْتَحُ الْهَاءُ فُعْلَةٌ مِنَ الْوَهْمِ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، اتَّهَمْتُهُ ظَنَنْتُ فِيهِ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَفِي الْقَامُوسِ أَدْخَلَ عَلَيْهِ التُّهْمَةَ كَهُمَزَةٍ أَيْ مَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ أَيْ: مَا أَسْتَحْلِفُكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ بِالْكَذِبِ، لَكِنْ أَرَدْتُ الْمُتَابَعَةَ الْمُشَابِهَةَ فِيمَا وَقَعَ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ الصَّحَابَةِ، وَقَدَّمَ بَيَانَ قُرْبِهِ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام وَقِلَّةِ نَقْلِهِ مِنْ أَحَادِيثِهِ الْكِرَامِ دَفْعًا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ عَنْ نَفْسِهِ فِيمَا يَنْقُلُهُ مِنَ الْكَلَامِ، فَقَالَ:(وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي) : أَيْ: بِمَرْتَبَةِ قُرْبِي (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : لِكَوْنِهِ مَحْرَمًا لِأُمِّ حَبِيبَةَ أُخْتِهِ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهُ الْمَوْلَوِيُّ فِي الْمَثْنَوِيِّ بِخَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِكَوْنِهِ مِنْ أَجِلَّاءِ كَتَبَةِ الْوَحْيِ (أَقَلَّ) : خَبَرُ كَانَ (عَنْهُ) : أَيْ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (حَدِيثًا مِنِّي) : أَيْ: لِاحْتِيَاطِي فِي الْحَدِيثِ، وَإِلَّا كَانَ مُقْتَضَى مَنْزِلَتِهِ أَيْ: يَكُونُ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُجَوِّزِ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى. (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ) : هَذَا مَا سَنَحَ لِي مِنْ حَمْلِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ، وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ أَحَدٌ: مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَالْمُسْتَدْرَكِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْسَهُ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إِنِّي أَسْتَحْلِفُكُمْ اتِّصَالَ الِاسْتِدْرَاكِ بِالْمُسْتَدْرَكِ اهـ. فَتَأَمَّلْ (فَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَا أَجْلَسَكُمْ هَاهُنَا؟ " قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ) : أَيْ: بِذِكْرِهِ أَوْ بِالْإِسْلَامِ (عَلَيْنَا) : أَيْ: مِنْ بَيْنِ الْأَنَامِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَقُولِ أَهْلِ دَارِ السَّلَامِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]

ص: 1557

لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

(قَالَ: " آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ؟) : لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِخْلَاصَ (قَالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَلِكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ) : لِأَنَّهُ خِلَافُ حُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ (وَلَكِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنُ، وَفَى نُسْخَةٍ وَلَكِنِّي (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ) : نَقْلٌ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا كَانَ الظَّاهِرُ بِهِمْ، قِيلَ: مَعْنَى الْمُبَاهَاةِ بِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبِيدِي هَؤُلَاءِ كَيْفَ سُلِّطَتْ عَلَيْهِمْ نُفُوسُهُمْ، وَشَهَوَاتُهُمْ، وَأَهْوِيَتُهُمْ، وَالشَّيْطَانُ، وَجُنُودُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَوِيَتْ هِمَّتُهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ هَذِهِ الدَّوَاعِي الْقَوِيَّةِ إِلَى الْبَطَالَةِ وَتَّرَكِ الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ، فَاسْتَحَقُّوا أَنْ يُمْدَحُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ لَا تَجِدُونَ لِلْعِبَادَةِ مَشَقَّةً بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْكُمْ كَالتَّنَفُّسِ مِنْهُمْ، فَفِيهَا غَايَةُ الرَّاحَةِ وَالْمُلَاءَمَةِ لِلنَّفْسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَحَقَّقَ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ، فَالتَّحْلِيفُ لِمَزِيدِ التَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ لَا التُّهْمَةِ، كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي وَضْعِ التَّحْلِيفِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يُتَّهَمُ لَا يَحْلِفُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1558

2279 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ:" لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

2279 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الشَّرِيعَةُ مَوْرِدُ الْإِبِلِ عَلَى الْمَاءِ الْجَارِي، وَالْمُرَادُ مَا شَرَعَ اللَّهُ، وَأَظْهَرَهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هُنَا النَّوَافِلُ لِقَوْلِهِ:(قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَيُفْتَحُ أَيْ: غَلَبَتْ عَلَى الْكَثْرَةِ حَتَّى عَجَزْتُ عَنْهَا لِضَعْفِي (فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ) : قِيلَ: أَيْ: بِشَيْءٍ قَلِيلٍ مُوجِبٍ لِجَزَاءٍ جَزِيلٍ أَسْتَغْنِي بِهِ عَمَّا يَغْلِبُنِي وَيَشُقُّ عَلَيَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِي بِشَيْءٍ لِلتَّقْلِيلِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] وَمَعْنَاهُ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مُسْتَجْلِبٍ لِثَوَابٍ كَثِيرٍ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّنْوِينَ لِمُجَرَّدِ التَّنْكِيرِ أَيْ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ (أَتَشَبَّثُ: أَيْ: أَتَعَلَّقُ (بِهِ) : مِنْ عِبَادَةٍ جَامِعَةٍ غَيْرِ شَاقَّةٍ مَانِعَةٍ فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَحَالٍ دُونَ حَالٍ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَمُخَالَطَةٍ وَاعْتِزَالٍ، وَشَبَابٍ وَهِرَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَكُونُ جَابِرًا عَنْ بَقِيَّتِهَا مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّيَّتِهَا. (قَالَ: " لَا يَزَالُ) : أَيْ: هُوَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ (لِسَانُكَ) : أَيِ: الْقَالَبِيُّ أَوِ الْقَلْبِيُّ (رَطْبًا) : أَيْ: طَرِيًّا مُشْتَغِلًا قَرِيبَ الْعَهْدِ (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ.

ص: 1558

2280 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ وَأَرْفَعُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمِنَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا، فَإِنَّ الذَّاكِرَ لِلَّهِ أَفْضَلُ مِنْهُ دَرَجَةً» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

2280 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعِبَادِ أَفْضَلُ) : أَيْ: أَكْثَرُ ثَوَابًا (وَأَرْفَعُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: " الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) : أَيِ: اللَّهَ كَثِيرًا. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَالذَّاكِرَاتُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُدَاوِمُونَ عَلَى ذِكْرِهِ وَفِكْرِهِ، وَالْقَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ، الْمُوَاظِبُونَ عَلَى شُكْرِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ فِي السُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، وَهَذَا مُرَادِفٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِضَبْطِهِ بِشَغْلِ أَغْلَبِ أَوْقَاتِهِ بِالذِّكْرِ. (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا ذَلِكَ تَعَجُّبًا قَالَ: " لَوْ ضَرَبَ) : أَيْ: الْغَازِي (بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ) : مِنْ قَبِيلِ: بِجُرْحٍ فِي عَرَاقِيبِهَا نُصَلِّي. حَيْثُ جَعَلَ الْمَفْعُولَ بِهِ مَفْعُولًا فِيهِ مُبَالَغَةَ أَنْ يُوجِدَ فِيهِمُ الضَّرْبَ وَيَجْعَلَهُمْ مَكَانًا لِلضَّرْبِ بِالسَّيْفِ، وَيُوَضِّحُهُ مَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّ جَعْلَهُمْ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلضَّرْبِ أَبْلَغُ مِنْ جَعْلِهِمْ مَضْرُوبِينَ بِهِ فَقَطْ، (وَالْمُشْرِكِينَ) : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ فَإِنَّهُمْ ضِدُّ

ص: 1558

الْمُوَحِّدِينَ (حَتَّى تَنْكَسِرَ) : أَيْ: سَيْفُهُ (وَيَخْتَضِبَ) : أَيْ: هُوَ، أَوْ سَيْفُهُ (دَمًا) : وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّهَادَةِ (فَإِنَّ الذَّاكِرَ) : تَكْرِيرُ تَأْكِيدٍ وَتَقْرِيرٍ (لِلَّهِ) : أَيْ: لَا غَيْرُهُ (أَفْضَلُ مِنْهُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مِنَ الْغَازِي (دَرَجَةً) : وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْوَحْدَةَ أَيْ: بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَحْتَمِلُ الْجِنْسَ أَيْ: بِدَرَجَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ أَفْضَلَ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ [حَسَنٌ] غَرِيبٌ) .

ص: 1559

2281 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا.

ــ

2281 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ) : أَيْ: لَازِمُ الْجُلُوسِ وَدَائِمُ اللُّصُوقِ (عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ) : أَيِ: ابْنُ آدَمَ بِقَلْبِهِ، أَوْ ذَكَرَ قَلْبُهُ اللَّهَ (خَنَسَ) : أَيِ: انْقَبَضَ الشَّيْطَانُ وَتَأَخَّرَ عَنْهُ وَاخْتَفَى، فَتَضْعُفُ وَسْوَسَتُهُ وَتَقِلُّ مَضَرَّتُهُ، (وَإِذَا غَفَلَ) : أَيْ: هُوَ، أَوْ قَلْبُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (وَسْوَسَ) : أَيْ: إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَتَمَكَّنَ تَمَكُّنًا تَامًّا مِنْهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْغَفْلَةَ سَبَبُ الْوَسْوَسَةِ لَا الْعَكْسُ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْعَامَّةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا) : أَيْ: بِلَا ذِكْرِ سَنَدٍ.

وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ: «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَلِقَلْبِهِ بَيْتَانِ فِي أَحَدِهِمَا الْمَلَكُ، وَفِي الْآخَرِ الشَّيْطَانُ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ وَضَعَ الشَّيْطَانُ مِنْقَارَهُ فِي قَلْبِهِ وَوَسْوَسَ لَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَظَاهِرُ إِيرَادِ الشَّيْخِ - قُدِّسَ سِرُّهُ - يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا ; لَكِنْ أَوْرَدَهُ صَاحِبُ السِّلَاحِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي آخِرِهِ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَرَوَاهُ فِي مُصَنَّفِهِ وَرِجَالُهُ وَرِجَالُ الصَّحِيحِ اهـ.

فَيُحْتَمَلُ عَلَى بُعْدٍ أَنَّ الْحَدِيثَ فِي مُصَنَّفِهِ يَكُونُ مَرْفُوعًا، وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لَهُ مَوْقُوفًا، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، بِلَفْظِ:" «إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خُرْطُومَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ» ". أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ.

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُؤَيِّدُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ، أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ لَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِلْقَلْبِ، فَرَآهُ جَاثِمًا تَحْتَ غُضْرُوفِ الْكَتِفِ الْأَيْسَرِ، كَالْبَعُوضِ لَهُ خُرْطُومٌ طَوِيلٌ يَدُسُّهُ ثُمَّ إِلَى أَنْ يَصِلَ الْقَلْبَ، فَإِنْ رَآهُ ذَاكِرًا خَنَسَ وَكَفَّ عَنْهُ، أَوْ غَافِلًا مَدَّ خُرْطُومَهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى فِيهِ مِنْ جِنَايَتِهِ مَا أَرَادَ اللَّهُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْقَلْبِ خَيْرٌ قَطُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ» " فَقِيلَ: هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ قُوَّةً وَقُدْرَةً عَلَى أَنَّهُ يَجْرِي فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ وَعُرُوقِهِ مَجْرَى الدَّمِ فِي مَسَامَّ لَطِيفَةٍ مِنَ الْبَدَنِ فَتَصِلُ إِلَى الْقَلْبِ.

ص: 1559

2282 -

وَعَنْ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ " «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَالْمُقَاتِلِ خَلْفَ الْفَارِّينَ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَغُصْنٍ أَخْضَرَ فِي شَجَرٍ يَابِسٍ» ".

ــ

2282 -

وَعَنْ مَالِكٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: الذَّاكِرُ اللَّهَ فِي الْغَافِلِينَ ": أَيْ: عَنِ الذِّكْرِ (كَالْمُقَاتِلِ) : أَيْ: لِلْكُفَّارِ (خَلْفَ الْفَارِّينَ) : أَيِ: الْمُنْهَزِمِينَ (وَذَاكِرُ اللَّهِ) : وَكَرَّرَهُ لِيُنِيطَ بِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ غَيْرَ مَا أَنَاطَ بِهِ فِي الْأُخْرَى إِعْلَامًا بِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، لَهُ فَوَائِدُ مُتَعَدِّدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. (فِي الْغَافِلِينَ) : أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا فِي الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ، فَالْجَارُّ ظَرْفٌ أَيْ: بَيْنَهُمْ كَمَا هُوَ ظَاهِرُهُ، أَوْ مَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ الذَّاكِرُ الْكَائِنُ فِي الْغَافِلِينَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ذَاكِرُ اللَّهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْغَافِلِينَ أَيْ: بَيْنَهُمْ، فَهُوَ مَعَ تَنَاقُضِ كَلَامِهِ ظَاهِرًا مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْحَالِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، وَيُضَعِّفُهُ أَيْضًا مُنَاسَبَةُ مُوَافِقَةِ لَفْظِ خَلْفَ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ:(كَغُصْنٍ أَخْضَرَ فِي شَجَرٍ يَابِسٍ) : أَيْ: بِجَنْبِ الْأَشْجَارِ الْيَابِسَةِ.

ص: 1559