الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَيْ أَتُرَى؟ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ. أَيْ: أَتَعْتَقِدُ أَوْ أَتَحْكُمُ، لِرِوَايَةِ شَرْحِ السُّنَّةِ أَتَرَاهُ مُرَائِيًا؟ اهـ وَفِيهِ أَنْ تَرَى أَيْضًا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرِ الشَّارِحِ كَمَا تَرَى، فَهُوَ فِي بَابِ الْإِيضَاحِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى. (هَذَا) : أَيْ هَذَا الرَّجُلَ (مُرَاءٍ؟) : أَيْ: مُنَافِقٌ يَقْرَأُ لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ بِقَرِينَةِ رَفْعِ صَوْتِهِ الْمُحْتَمِلِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، (قَالَ: " بَلْ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ) : أَيْ رَاجِعٌ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ، لِأَنَّ الْإِنَابَةَ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنْ تَوْبَةِ الْعَوَامِّ الَّتِي هِيَ الرُّجُوعُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ. (قَالَ) : أَيْ بُرَيْدَةُ (وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يَقْرَأُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ) : أَيْ أَيْضًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ، قِيلَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَالْحَالُ أَنَّ أَبَا مُوسَى إِلَخْ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ قَالَ بُرَيْدَةُ، قَلَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَأَبُو مُوسَى أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ بَعِيدٌ مِنَ الْمَرَامِ، وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْدِيرِ فِي تَقْرِيرِ الْكَلَامِ وَتَحْرِيرِ النِّظَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْأَوَّلَ مُنْكَرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَلِهَذَا اسْتَفْهَمَ حَالَهُ وَبَيَّنَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَمِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ، فَظَنُّ الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ بِهِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا إِلَّا إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ هُوَ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ فِي رِوَايَةِ شَرْحِ السُّنَّةِ بَعْدَ هَذَا، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ هُوَ أَبُو مُوسَى. اهـ. فَمَحْمَلُ قَوْلِ بُرَيْدَةَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
(فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَسَمَّعُ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ جَلَسَ أَبُو مُوسَى) : لَعَلَّهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ بَعْدَ الصَّلَاةِ (يَدْعُو) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ قِرَاءَتَهُ مَعَ رَفْعِ صَوْتِهِ كَانَتْ وَهُوَ قَائِمٌ (فَقَالَ) أَيْ: أَبُو مُوسَى فِي دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكُ) : أَيْ: أَعْتَقِدُ فِيكَ (أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَحَدًا صَمَدًا) ، مَنْصُوبَانِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] إِلَى قَوْلِهِ: قَائِمًا بِالْقِسْطِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ مُعَرَّفَانِ مَرْفُوعَانِ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِلَّهِ (لَمْ يَلِدْ) : أَيْ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ الْحَادِثِ (وَلَمْ يُولَدْ) : أَيْ: لَيْسَ لَهُ وَالِدٌ وَوَالِدَةٌ، فَإِنَّهُ قَدِيمٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُدُوثِ وَالتَّوَالُدِ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَفُّوا) : أَيْ: شَبِيهًا وَنَظِيرًا (أَحَدٌ) . أَيْ: مِنَ الْخَلَائِقِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11](فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ سَأَلَ) : أَيْ: أَبُو مُوسَى (اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ) : وَهُوَ تَعْرِيفُ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخْبِرُهُ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ (بِمَا سَمِعْتُ مِنْكَ؟) : أَيْ: مِنْ مَدْحِ دُعَائِهِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّارِحِينَ أَيْ: مِنْ مَدْحِهِ بِقَوْلِهِ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ. (قَالَ: نَعَمْ " فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي) : أَيْ أَبُو مُوسَى فَرِحًا بِمَا ذَكَرْتُهُ لَهُ: (أَنْتَ الْيَوْمَ لِي) : أَيْ: فِي هَذَا الزَّمَانِ (أَخٌ صَدِيقٌ)، أَيِ: الْجَامِعُ بَيْنَ الْأُخُوَّةِ وَالصَّدَاقَةِ (حَدَّثْتَنِي) : حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ (رَوَاهُ رَزِينٌ) .
[ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ]
(3)
ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2294 -
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» " وَفِي رِوَايَةٍ: "«أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
(3)
بَابُ ثَوَابِ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ
تَخْصِيصٌ - بَعْدَ تَعْمِيمٍ مِنْ بَابِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ تَقْدِيمُ التَّهْلِيلِ عَلَى التَّحْمِيدِ سَهْوًا وَتَكَلَّفَ فِي تَوْجِيهِهِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2294 -
(عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ) : مَرَّ مِرَارًا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ) أَيْ: أَفْضَلُ كَلَامِ الْبَشَرِ، لِأَنَّ الرَّابِعَةَ لَمْ تُوجَدْ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا يُفَضَّلُ مَا لَيْسَ فِيهِ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «هِيَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَهِيَ مِنَ الْقُرْآنِ» " أَيْ: غَالِبُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ كَلَامَ اللَّهِ أَيْضًا فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِيهِ لَفْظًا إِلَّا الرَّابِعَةَ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ مَعْنًى وَأَفْضَلِيَّتُهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّهَا هِيَ الْجَامِعَةُ لِمَعَانِي التَّنْزِيهِ وَالتَّوْحِيدِ وَأَقْسَامِ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ، وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهَا مَعْدُودَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَعْنَى مَا وَرَدَ: وَهِيَ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ: كُلُّهَا، وَأَمَّا الْمَأْثُورُ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ الْمُطْلَقِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«أَفْضَلُ الذِّكْرِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ: " سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» " وَالْمُوجِبُ لِأَفْضَلِيَّتِهَا اشْتِمَالُهَا عَلَى جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ، وَدَلَالَتُهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ إِجْمَالًا، وَوَرَدَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَسْمِيَتِهَا بِالْبَاقِيَاتِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ كَذَلِكَ: مُقَابَلَتُهَا لِلْفَانِيَاتِ الْفَاسِدَاتِ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ فِي الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ قَبْلَهَا إِشْعَارًا بِأَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ مِنْ أَكْمَلِ أَسْبَابِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا، فَالْمَذْكُورُ مِنْ أَفَضَلِ عِبَادَاتِ أَصْحَابِ الْعُقْبَيِّ، فَإِنَّهَا زُبْدَةُ صِفَاتِ اللَّهِ، وَعُمْدَةُ كَلِمَاتِ اللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْقَائِلُ بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ ; فَسَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ; وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْكُلَّ تَامٌّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي مَذْهَبِنَا لَا حِنْثَ لِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ فِيهَا التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَغَيْرُهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. . اهـ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا تُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَلَامًا، وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ. (سُبْحَانَ اللَّهِ) : تَنْزِيهٌ عَنِ النَّقْصِ وَنَعَتِ الْحَدَثَانِ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) : تَوْحِيدٌ بِالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ. (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : تَوْحِيدٌ لِلذَّاتِ وَتَفْرِيدٌ لِلصِّفَاتِ (وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : إِثْبَاتُ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ مَعَ اعْتِرَافٍ بِالْقُصُورِ عَنِ الْمَحْمَدَةِ قَالَ صلى الله عليه وسلم «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ» ، (وَفِي رِوَايَةٍ) : لِمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ ( «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ» ) أَيْ: أَعْتِقَدُ تَنَزُّهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَمَالِ ذَاتِهِ، وَكَمَالِ صِفَاتِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّحْلِيَةِ، وَلِذَا أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَّصِفُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، الْمُسْتَحِقُّ لِإِظْهَارِ الشُّكْرِ، وَإِبْدَاءِ الثَّنَاءِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّحْلِيَةِ، وَلِذَا قَالَ:( «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ مُتَوَحِّدٌ فِي صِفَاتِهِ السَّلْبِيَّةِ وَنُعُوتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَةُ إِزَارِهِ وَرِدَائِهِ بِقَوْلِهِ:(وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ كَانَ هَذَا التَّرْتِيبُ هُوَ مُقْتَضَى مَفْهُومِ أَهْلِ التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ لَكِنْ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَنَّ التَّرْتِيبَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَالْبَاقِي رُخْصَةٌ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي بَدَأْتَ بِسُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ أَوْ بِاللَّهِ أَكْبَرُ جَازَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنْهَا مُسْتَقِلَّةٌ لَا يَجِبُ ذِكْرُهَا عَلَى نَظْمِهَا الْمَذْكُورِ ; لَكِنَّ مُرَاعَتَهَا أَوْلَى ; لِأَنَّ الْمُنْدَرِجَ فِي الْمَعَارِفِ يُعَرِّفُهُ أَوَّلًا بِنُعُوتِ جَلَالِهِ أَعْنِي تَنْزِيهَ ذَاتِهِ عَمَّا يُوجِبُ نَقْصًا، ثُمَّ بِصِفَاتِ كَمَالٍ، وَهِيَ صِفَاتُهُ الثُّبُوتِيَّةُ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ، ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ هَذَا صِفَتَهُ لَا مُمَاثِلَ لَهُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُلُوهِيَّةَ غَيْرُهُ، فَيُكْشَفُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكْبَرَ إِذْ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. اهـ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنُ الْمُبْتَدَأِ وَالْمُنْتَهَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2295 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2295 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ» " مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ وَاجِبٍ إِضْمَارُهُ أَيْ: أُسَبِّحُ سُبْحَانَ اللَّهِ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: ثَابِتٌ ; سَوَاءً حَمِدَ أَوْ لَمْ يَحْمَدْ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: مَوْجُودٌ، أَوْ مَعْبُودٌ، أَوْ مَقْصُودٌ، أَوْ مَشْهُودٌ (وَاللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: مِنْ أَنْ يُعْرَفَ كُنْهُ كِبْرِيَائِهِ ( «أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» ) أَيْ: مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا كَذَا قِيلَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَأَحَبَّ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا أَحَبُّ إِلَيَّ بِاعْتِبَارِ ثَوَابِهَا الْكَثِيرِ الْبَاقِي مِنَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لِزَوَالِهَا وَفَنَائِهَا، وَهَذَا نَحْوُ حَدِيثِ:" «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» " وَقَالَ الْعَارِفُ الْجَامِيُّ أَيْ: شَمْسُ الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَطْلَقَ الْمُفَاضَلَةَ بَيْنَ قَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَبَيْنَ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُفَاضَلَةِ اسْتِوَاءُ الشَّيْئَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، ثُمَّ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ: بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ إِلَّا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، فَأَخْرَجَ الْخَيْرَ مَنْ ذَكَرَ الشَّيْءَ بِذِكْرِ الدُّنْيَا، إِذْ لَا شَيْءَ سِوَاهَا إِلَّا الْآخِرَةُ. وَأَجَابَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ أَفْعَلَ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْفِعْلِ لَا الْمُفَاضَلَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] وَلَا مُفَاضَلَةَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوِ الْخِطَابُ وَاقِعٌ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ فِي نَفْسِ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الدُّنْيَا لَا شَيْءَ مِثْلُهَا، وَأَنَّهَا الْمَقْصُودُ، فَأَخْبَرَ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ خَيْرٌ مِمَّا تَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِيَ الدُّنْيَا فَأَتَصَدَّقُ بِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الثَّوَابَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ مَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الدُّنْيَا، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ:" «لَوْ أَنَّ رَجُلًا فِي حِجْرِهِ دَرَاهِمُ يُقَسِّمُهَا وَآخَرَ يَذْكُرُ اللَّهَ كَانَ الذَّاكِرُ لِلَّهِ أَفْضَلَ» " وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَمْعِ الدُّنْيَا وَاقْتِنَائِهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَفْتَخِرُونَ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عَوَانَةَ.
2296 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2296 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» ) : الْبَاءُ فِيهِ لِلْمُقَارَنَةِ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، أَيْ: أُسَبِّحُهُ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِحَمْدِهِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى الْأُخْرَى مَعْنَاهُ: وَأَبْتُدِئَ بِحَمْدِهِ أَوْ أَثْنَى بِثَنَائِهِ (فِي يَوْمٍ) أَيْ: فِي أَجْزَائِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ فِي يَوْمٍ مُطْلَقٍ لَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ فَلَا يُقَيَّدُ بِشَيْءٍ مِنْهَا (مِائَةَ مَرَّةٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مُجْتَمِعَةً، فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَوْ آخِرِهِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى جَمْعُهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. اهـ. وَلَعَلَّ أَوْلَوِيَّةَ أَوَّلِ النَّهَارِ لِلْمُبَادَرَةِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْأَوْرَادِ وَالْأَذْكَارِ، وَإِلَّا فَيَأْتِي تَقْيِيدُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بِالصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ (حُطَّتْ) أَيْ: سَقَطَتْ وَأُزِيلَتْ عَنْهُ (خَطَايَاهُ) أَيِ الصَّغِيرَةُ، وَيُحْتَمَلُ الْكَبِيرَةُ ( «وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» ) أَيْ: كَمِّيَّةٌ أَوْ كَيْفِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ كِنَايَةٌ يُعَبِّرُ بِهَا عَنِ الْكَثْرَةِ عُرْفًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الشَّيْخَ الْجَزَرِيَّ نَسَبَ الْحَدِيثَ إِلَى أَبِي عَوَانَةَ فِي الْحِصْنِ.
2297 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2297 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ» " أَيْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، ( «وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» ) أَيْ: فِيهِمَا بِأَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي هَذَا وَبِبَعْضِهَا فِي هَذَا، أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَلَكِنَّ كَلَامَ النَّوَوِيِّ الْآتِي يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ، وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ
الْمُتَيَقَّنَ الَّذِي هُوَ الْأَقَلُّ ( «لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ» ) أَيِ: الْقَائِلُ (بِهِ) : وَهُوَ قَوْلُ الْمِائَةِ الْمَذْكُورَةِ ( «إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» ) : وَأُجِيبَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْمَشْهُورِ: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ أَوْ كَلِمَةُ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: يَكُونُ مَا جَاءَ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ، إِلَّا مِمَّا جَاءَ بِهِ مَنْ قَالَ مِثْلَهُ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ، قِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، لَكِنْ رَجُلٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَهُ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمُسَاوَاتِهِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ
وَقِيلَ: بِتَقْدِيرِ: لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ أَوْ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَخْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ زَادَ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ الْمَذْكُورُ وَالزِّيَادَةُ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ تَحْدِيدًا لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَمَا فِي عَدَدِ الطَّهَارَةِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ. اهـ. وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْأَوَّلَ لِلتَّشْرِيعِ وَالثَّانِي لِلتَّرْغِيبِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْيَوْمِ كَانَ لَهُ هَذَا الْأَجْرُ الْمَذْكُورُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2298 -
وَعَنْهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2298 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (كَلِمَتَانِ) أَيْ: جُمْلَتَانِ مُفِيدَتَانِ (خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ) : أَيْ تَجْرِيَانِ عَلَيْهِ بِالسُّهُولَةِ (ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ) أَيْ: بِالْمَثُوبَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْخِفَّةُ مُسْتَعَارَةٌ لِلسُّهُولَةِ، شَبَّهَ سُهُولَةَ جَرَيَانِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا يَخِفُّ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ بَعْضِ الْحُمُولَاتِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ الْمُشَبَّهَ وَأَرَادَ الْمُشَبَّهَ بِهِ، وَأَمَّا الثِّقَلُ فَعَلَى حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَجَسَّمُ عِنْدَ الْمِيزَانِ. اهـ. وَقِيلَ: تُوزَنُ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ وَالسِّجِلَّاتِ.
رُوِيَ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ «سُئِلَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام: مَا بَالُ الْحَسَنَةِ تَثْقُلُ وَالسَّيِّئَةِ تَخِفُّ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الْحَسَنَةَ حَضَرَتْ مَرَارَتُهَا وَغَابَتْ حَلَاوَتُهَا، وَلِذَلِكَ ثَقُلَتْ عَلَيْكُمْ فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ ثِقَلُهَا عَلَى تَرْكِهَا، فَإِنَّ بِذَلِكَ ثَقُلَتِ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالسَّيِّئَاتُ حَضَرَتْ حَلَاوَتُهَا وَغَابَتْ مَرَارَتُهَا، فَلِذَلِكَ خَفَّتْ عَلَيْكُمْ فَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ عَلَى فِعْلِهَا خِفَّتُهَا، فَإِنَّ بِذَلِكَ خَفَّتِ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: تَثْنِيَةُ حَبِيبَةٍ وَهِيَ الْمَحْبُوبَةُ، لِأَنَّ فِيهِمَا الْمَدْحَ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا التَّنْزِيهُ وَبِالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْحَمْدُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ قَائِلَهَا مَحْبُوبُ اللَّهِ ; وَمَحَبَّةُ اللَّهَ لِلْعَبْدِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْخَيْرِ لَهُ، وَخُصَّ الرَّحْمَنُ بِالذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ; حَيْثُ يُجَازِي عَلَى الْعَمَلِ الْقَلِيلِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
2299 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2299 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَيَعْجِزُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ (أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ) أَيْ: يُحَصِّلَ (كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ) أَيِ: الْمَخْصُوصِينَ مِنْ نُدَمَائِهِ (كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟) أَيْ: بِسُهُولَةٍ بِلَا عَجْزٍ (قَالَ: يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ) : لِأَنَّ الْحَسَنَةَ الْوَاحِدَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَهُوَ أَقَلُّ الْمُضَاعَفَةِ الْمَوْعُودَةِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] وَمِنْهُ حَسَنَةُ الْحَرَمِ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ (أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ) أَيْ: صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ، وَذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي الْأَذْكَارِ: كَذَا فِي عَامَّةِ نُسَخِ مُسْلِمٍ (وَيُحَطُّ) بِالْوَاوِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ (بِالْوَاوِ) . (وَفِي كِتَابِهِ) أَيْ: كِتَابِ مُسْلِمٍ (فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ: أَوْ يُحَطُّ) أَيْ: بِالْأَلِفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهْنِيُّ، الْكُوفِيُّ، سَمِعَ مُجَاهِدًا وَمُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ، رَوَى عَنْهُ شُعْبَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.
(قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِكَسْرِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَوَارِزْمِيُّ الْبَرْقَانِيُّ، بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالرَّاءِ وَالْقَافِ، (وَرَوَاهُ شُعْبَةُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ مُوسَى) أَيِ: الْمَذْكُورِ (فَقَالُوا) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالضَّمِيرُ لِشُعْبَةَ وَأَخَوَيْهِ وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ: أَيْ مُوسَى (وَيُحَطُّ بِغَيْرِ أَلِفٍ) أَيْ: بِالْوَاوِ (هَكَذَا) : الْمُشَارُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ. وَفِي كِتَابِهِ إِلَى آخِرِهِ (فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) : وَهُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمْعًا وَإِفْرَادًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَخْتَلِفُ مَعْنَى الْوَاوِ إِذَا أُرِيدَ بِهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهَا التَّنْوِيعُ فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْقَصْدِ. اهـ. وَقَدْ تَأْتِي الْوَاوُ بِمَعْنَى (أَوْ) فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَانَ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ قَالَهَا يُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ فَيُحَطُّ بَعْضٌ وَيُكْتَبُ بَعْضٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (أَوْ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بِمَعْنَى (بَلْ) فَحِينَئِذٍ يُجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا، وَفَضْلُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ.
2300 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» " (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2300 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْكَلَامِ) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَذْكَارِ (أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ) أَيِ: الَّذِي اخْتَارَهُ مِنَ الذِّكْرِ لِلْمَلَائِكَةِ وَأَمَرَهُمْ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ لِغَايَةِ فَضِيلَتِهِ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّحَ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] وَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا تَقَدَّمَ، أَعْنِي الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَ، فَإِنَّ التَّسْبِيحَ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الشَّرِيكِ الَّذِي هُوَ التَّهْلِيلُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهُ أَكْبَرَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2301 -
ــ
2301 -
(وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً) أَيْ: أَوَّلَ نَهَارِهِ (حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ)، أَيْ: أَرَادَ صَلَاةَ الصُّبْحِ) (وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ: مَوْضِعِ سُجُودِهَا لِلصَّلَاةِ (ثُمَّ رَجَعَ) أَيْ: إِلَيْهَا (بَعْدَ أَنْ أَضْحَى) أَيْ: دَخَلَ فِي الضَّحْوَةِ، وَهِيَ ارْتِفَاعُ النَّهَارِ قَدْرَ رُمْحٍ وَقِيلَ: أَيْ صَلَّى صَلَاةَ الضُّحَى (وَهِيَ جَالِسَةٌ) أَيْ: فِي مَوْضِعِهَا (قَالَ: مَازِلْتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ (عَلَى الْحَالِ) : وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ، وَلِذَا قَالَ (الَّتِي فَارَقَتُكِ عَلَيْهَا؟) أَيْ: مِنَ الْجُلُوسِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكِ (أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ) : نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: تَكَلَّمْتُ بَعْدَ مُفَارَقَتِكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (لَوْ وُزِنَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْ: قُوبِلَتْ (بِمَا قُلْتِ) أَيْ: بِجَمِيعِ مَا قُلْتِ مِنَ الذِّكْرِ (مُنْذُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ (الْيَوْمِ) : بِالْجَرِّ، هُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْقَامُوسِ أَيْ: فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، (لَوَزَنَتْهُنَّ) أَيْ: لَتَرَجَّحَتْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ عَلَى جَمِيعِ أَذْكَارِكِ وَزَادَتْ عَلَيْهِنَّ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، يُقَالُ وَازَنَهُ فَوَزَنَهُ: إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَزَادَ فِي الْوَزْنِ، كَمَا يُقَالُ: حَاجَجْتُهُ فَحَجَجْتُهُ. أَوْ لَسَاوَتْهُنَّ، يُقَالُ: هَذَا يَزِنُ دَرَهِمًا أَوْ يُسَاوِيهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ " وَهَذَا تَوْضِيحُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ، أَيْ: سَاوَتْهُنَّ أَوْ غَلَبَتْهُنَّ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى لَا إِلَى لَفْظَةِ (مَا) فِي قَوْلِهِ (مَا قُلْتِ) وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهَا كَلِمَاتٌ كَثِيرَةُ الْمَعْنَى لَوْ قُوبِلَتْ بِمَا قُلْتِ لَسَاوَتْهُنَّ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) أَيْ: وَبِحَمْدِهِ أَحْمَدُهُ (عَدَدَ خَلْقِهِ)، مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: بِعَدَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ: قَدْرِ عَدَدِ خَلْقِهِ (وَرِضَاءَ نَفْسِهِ) أَيْ: أَقُولُ لَهُ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ بِقَدْرِ مَا يُرْضِيهِ خَالِصًا مُخْلِصًا لَهُ، فَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ ذَاتُهُ، وَالْمَعْنَى ابْتِغَاءُ وَجْهِهِ (وَزِنَةَ عَرْشِهِ) أَيْ: أُسَبِّحُهُ وَأَحْمَدُهُ بِثِقَلِ عَرْضِهِ أَوْ بِمِقْدَارِ عَرْضِهِ
(وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ) : الْمِدَادُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْمَدَدِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْكَثْرَةُ، أَيْ: بِمِقْدَارِ مَا يُسَاوِيهَا فِي الْكَثْرَةِ بِمِعْيَارٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، أَوْ مَا أَشْبَهُهُ مِنْ وُجُوهِ الْحَصْرِ، وَالتَّقْدِيرِ: وَهَذَا تَمْثِيلٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيبُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَدْخُلُ فِي الْكَيْلِ، وَكَلِمَاتُهُ تَعَالَى هُوَ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ لَا تَعُدُّ وَلَا تَنْحَصِرُ، فَإِذَا الْمُرَادُ الْمَجَازُ مُبَالَغَةً فِي الْكَثْرَةِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَحْصُرُهُ الْعَدَدُ الْكَثِيرِ مِنْ عَدَدِ الْخَلْقِ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ أَيْ: مَا لَا يُحْصِيهِ عَدٌّ كَمَا لَا تُحْصَى كَلِمَاتُ اللَّهِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نَصْبُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: أَعِدُّ تَسْبِيحَهُ الْمَقْرُونَ بِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَأُقَدِّرُ مِقْدَارَ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِقْدَارَ كَلِمَاتِهِ، وَمِدَادُ الشَّيْءِ وَمَدَدُهُ مَا يُمَدُّ بِهِ وَيُزَادُ وَيَكْثُرُ، وَالْمُرَادُ الْمِقْدَارُ أَيْ: أُسَبِّحُهُ وَأَحْمَدُهُ بِمِقْدَارِ كَلِمَاتِهِ أَيْ: كُتُبِهِ وَصُحُفِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَكَلِمَاتُهُ أَيْضًا تُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَمْرِهِ، وَعَلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ.
أَقُولُ: دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ فِي الذِّكْرِ بِاعْتِبَارِ تَصَوُّرِ الْمَذْكُورِ فِي ذِهْنِ الذَّاكِرِ أَرْجَحُ عَلَى الْكَمِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْحُضُورِ وَالتَّذَكُّرِ، وَلَوْ فِي آيَةٍ تُفَضَّلُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْكَثِيرَةِ الْخَالِيَةِ عَمَّا ذُكِرَ، فَالْمُرَادُ حَثُّ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْغِيبُهَا عَلَى التَّذَكُّرِ فِي الذِّكْرِ، وَإِلَّا فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْوَارِدَةَ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ.
2302 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ» ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2302 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ " أَيْ: مَعْبُودٌ بِحَقٍّ فِي الْوُجُودِ (إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) : حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ: فِي صِفَاتِهِ (لَهُ الْمُلْكُ) أَيْ: مَلِكُ الْمَلَكُوتِ، وَمَلِكُ الْأَمْلَاكِ، وَمَلِكُ الْعِلْمِ، وَمَلِكُ الْقَنَاعَةِ وَأَمْثَالِهَا، يَعْنِي: بِتَصَرُّفِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ، مَلَكَ جَمِيعَ الْأُمُورِ، (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيِ: الثَّنَاءُ الْجَزِيلُ عَلَى وَجْهِ الْجَمِيلِ لَهُ تَعَالَى حَقِيقَةً وَغَيْرُهُ قَدْ يُحْمَدُ مَجَازًا وَصُورَةً (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: شَاءَهُ وَأَرَادَهُ، أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (قَدِيرٌ) أَيْ: بَالِغٌ فِي الْقُدْرَةِ كَامِلٌ فِي الْقُوَّةِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَجْزِ وَالْفَتْرَةِ (فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ) أَيْ: مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً (كَانَتْ) أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوِ التَّهْلِيلَةُ، وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ: كَانَ أَيْ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِآخِرِ الْحَدِيثِ: وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا. فَتُدَبَّرْ. (لَهُ) أَيْ: لِلْقَائِلِ بِهَا (عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا بِمَعْنَى الْمَثَلِ أَيْ: ثَوَابُ عِتْقِ عَشْرِ رِقَابٍ وَهُوَ جَمْعُ رَقَبَةٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الْعُنُقُ فَجُعِلَتْ كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْإِنْسَانِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِبَعْضِهِ أَيْ: يُضَاعَفُ ثَوَابُهَا حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ أَصْلِ ثَوَابِ الْعِتْقِ الْمَذْكُورِ (وَكُتِبَتْ) أَيْ: ثُبِتَتْ (لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ) : بِالرَّفْعِ (وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ) أَيْ: أُزِيلَتْ (وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا) أَيْ: حِفْظًا وَمَنْعًا (وَمِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ) أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي قَالَهَا فِيهِ (حَتَّى يُمْسِيَ) : وَظَاهِرُ التَّقَابُلِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ فِي اللَّيْلِ كَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ لَيْلِهِ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا مِنَ الرَّاوِي، أَوْ تَرْكٌ لِوُضُوحِ الْمُقَابَلَةِ وَتَخْصِيصُ النَّهَارِ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ فِيهِ إِلَى الْحِفْظِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَجْرُ الْمِائَةِ، وَلَوْ زَادَ عَلَيْهَا لَزَادَ الثَّوَابُ، وَهَذِهِ الْمِائَةُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَوَالِيَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، لَكِنَّ الْفَضْلَ أَنْ تَكُونَ مُتَوَالِيَةً، وَأَنْ تَكُونَ أَوَّلَ النَّهَارِ لِيَكُونَ حِرْزًا فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ، (وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ) أَيْ: بِأَيِّ عَمَلٍ كَانَ مِنَ الْحَسَنَاتِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَكْثَرَ مِنَ الذِّكْرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَفِيهِ أَنَّ هَذَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ فَلَا يَصْلُحُ فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ (إِلَّا رَجُلٌ عَمَلَ أَكْثَرَ مِنْهُ) : وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ ذَلِكَ أَيْ: مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو عَوَانَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: جَعَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّهْلِيلَ مَاحِيًا مِنَ السَّيِّئَاتِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا، وَفِي حَدِيثِ التَّسْبِيحِ: جَعَلَ التَّسْبِيحَ مَاحِيًا لَهَا مِقْدَارَ زَبَدِ الْبَحْرِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ أَفْضَلَ، وَقَدْ قَالَ فِي حَدِيثِ التَّهْلِيلِ: وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، أَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إِنَّ التَّهْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَفَضَلُ لِأَنَّ جَزَاءَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَحْوِ السَّيِّئَاتِ، وَعَلَى عِتْقِ عَشْرِ رِقَابٍ، وَعَلَى إِثْبَاتِ مِائَةِ حَسَنَةٍ، وَالْحِرْزِ مِنَ الشَّيْطَانِ.
2303 -
ــ
2303 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ)، أَيْ: فِي الْأَمَاكِنِ الْعَالِيَةِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ السُّنَّةُ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْبِيرُ وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَذْكَارِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ سَفَرَ غَزْوٍ، فَيُنَاسِبُهُ تَخْصِيصُ التَّكْبِيرِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ فَيَشْمَلُ التَّكْبِيرَ وَغَيْرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّهَا النَّاسُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِحَرْفِ النِّدَاءِ (ارْبَعُوا) : بِفَتْحِ الْبَاءِ (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيِ: ارْفُقُوا بِهَا وَأَمْسِكُوا عَنِ الْجَهْرِ الَّذِي يَضُرُّكُمْ (إِنَّكُمْ) : اسْتِئْنَافٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ (لَا تَدْعُونَ) أَيِ: اللَّهَ بِالتَّكْبِيرِ، أَوْ لَا تَذْكُرُونَ. وَظَنَّ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ مَعْنَى تَدْعُونَ تَسْأَلُونَ وَتَطْلُبُونَ، فَقَالَ أَيْ: تَعْبُدُونَ لِأَنَّ الصَّادِرَ مِنْهُمْ مُجَرَّدُ (اللَّهُ أَكْبَرُ) ، كَمَا أَفَادَهُ اللَّفْظُ، وَهَذَا لَا دُعَاءَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلدُّعَاءِ، كَمَا أَفَادَهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الَّذِي كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصْغِي إِلَى أَشْعَارِهِ، وَقَالَ فِي حَقِّهِ (كَادَ أَنْ يُسْلِمَ) لَمَّا اسْتَرْفَدَ بَعْضَ الْمُلُوكِ:
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا
…
كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضَهِ الثَّنَاءُ
(أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ) : تَأْكِيدٌ (تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ فَمَا فَائِدَةُ الزِّيَادَةِ فِي قَوْلِهِ بَصِيرًا؟ قُلْتُ: السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَشَدُّ إِدْرَاكًا وَأَكْثَرُ إِحْسَاسًا مِنَ الضَّرِيرِ وَالْأَعْمَى، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: سَمِيعًا مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ أَصَمَّ، وَبَصِيرًا أُتِيَ بِهِ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِلسَّمِيعِ فِي الذِّكْرِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَاسُبِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: لَمَّا كَانَ الدُّعَاءُ يَشْمَلُ الْعِبَادَةَ الْفِعْلِيَّةَ وَالْقَوْلِيَّةَ أَتَى بِهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَحَقُّ أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ ثَابِتَتَانِ لَازِمَتَانِ لَا تَنْفَكُّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى، بِخِلَافِ غَيْرِهِ تَعَالَى دَفْعًا لِوَهْمِ الْوَاهِمِ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ، أَوْ يُقَالُ أَتَى بِالْبَصِيرِ تَذْيِيلًا وَتَتْمِيمًا، وَلِهَذَا أَتَى بِالْمَعِيَّةِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الْعِلْمُ الْأَعَمُّ مِنْهُمَا تَكْمِيلًا وَتَعْمِيمًا بِقَوْلِهِ:(وَهُوَ مَعَكُمْ) أَيْ: حَاضِرٌ بِالْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حَالِكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، سَوَاءٌ أَعْلَنْتُمْ أَوْ أَخْفَيْتُمْ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ:(وَلَا غَائِبًا) ثُمَّ زَادَ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَعِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْعَظَمَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) : بَلْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فَهُوَ بِحَسْبِ مُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ إِلَى فَهْمِ اللَّبِيبِ، وَالْمَعْنَى قُرْبُ الْقَرِيبِ فَيَكُونُ تَرَقِّيًا مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ.
(قَالَ أَبُو مُوسَى: وَأَنَا خَلْفَهُ أَقُولُ لَا حَوْلَ) أَيْ: لَا حَرَكَةَ فِي الظَّاهِرِ (وَلَا قُوَّةَ) أَيْ: لَا اسْتِطَاعَةَ فِي الْبَاطِنِ (إِلَّا بِاللَّهِ) : أَوْ لَا تَحْوِيلَ عَنْ شَيْءٍ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُوَّتِهِ، وَقِيلَ: الْحَوْلُ الْحِيلَةُ إِذْ لَا دَفْعَ وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هِيَ كَلِمَةُ اسْتِسْلَامٍ وَتَفْوِيضٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةٌ فِي جَلْبِ خَيْرٍ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ.
وَالْأَحْسَنُ مَا وَرَدَ فِيهِ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: " تَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ» " أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُ صلى الله عليه وسلم بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ مُهِمَّانِ فِي الدِّينِ (فِي نَفْسِي) ، مُتَعَلِّقٌ بِأَقُولُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ أَقُولُ فِي قَلْبِي أَوْ بِلِسَانِي مِنْ غَيْرِ ارْتِفَاعِ صَوْتِي، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِمُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ لِغَيْرِهِ، فَحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم انْكَشَفَ لَهُ مَا فِي خَاطِرِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ فِي تَكْرَارِهِ، (فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ) : وَهُوَ اسْمُ أَبِي مُوسَى (بْنَ قَيْسٍ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ) أَيْ: عَظِيمٍ (مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟) سَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَنْزًا لِأَنَّهَا كَالْكَنْزِ فِي نَفَاسَتِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ أَنَّهَا مِنْ ذَخَائِرِ الْجَنَّةِ، أَوْ مِنْ مُحَصِّلَاتِ نَفَائِسِ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهَا يُحَصِّلُ ثَوَابًا نَفِيسًا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْجَنَّةِ (قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: دُلَّنِي فَإِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ (قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أُمَّتَكَ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَلَعَلَّ اخْتِلَافَ نَتَائِجِهَا بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ قَائِلِهَا. 5
الْفَصْلُ الثَّانِي
2304 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ» "(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
2304 -
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ) : قِيلَ: الْوَاوُ زَائِدَةٌ أَيْ: تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِحَمْدِهِ (غُرِسَتْ) أَيْ: بِكُلِّ مَرَّةٍ (لَهُ نَخْلَةٌ) عَظِيمَةٌ (فِي الْجَنَّةِ) أَيِ: الْمُعَدَّةِ لِقَائِلِهَا، خُصَّتْ لِكَثْرَةِ مَنْفَعَتِهَا وَطِيبِ ثَمَرَتِهَا، وَلِذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَثَلَ الْمُؤْمِنِ وَإِيمَانِهِ بِهَا وَثَمَرَتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم: 24] وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وَهِيَ النَّخْلَةُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَزَّارُ وَزَادَ:" فَإِنَّهَا عِبَادَةُ الْخَلْقِ وَبِهَا تُقَطَّعُ أَرْزَاقُهُمْ " أَيْ تُعَيَّنُ.
2305 -
وَعَنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ صَبَاحٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مُنَادٍ يُنَادِي: سَبِّحُوا الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ» "(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ــ
2305 -
(وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ صَبَاحٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ ": قَالَ الطِّيبِيُّ: (صَبَاحٍ) نَكِرَةٌ وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَضُمَّتْ إِلَيْهَا (مِنْ) الْاسْتِغْرَاقِيَّةُ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ، ثُمَّ جِيءَ بِقَوْلِهِ:(يُصْبِحُ) صِفَةً مُؤَكِّدَةً لِمَزِيدِ الْإِحَاطَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26](إِلَّا مُنَادٍ يُنَادِي: سَبِّحُوا) أَيْ: نَزِّهُوا (الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ) أَيْ: عَمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى اعْتَقِدُوا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِنْشَاءَ تَنْزِيهٍ، لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ أَزَلًا وَأَبَدًا، أَوِ اذْكُرُوهُ بِالتَّسْبِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: قُولُوا: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، أَوْ قُولُوا: سُبُوحٌ قُدُّوسُ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، أَيْ: وَنَحْوِهَا مِنْ قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
2306 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2306 -
(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَفْضَلُ الذِّكْرِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) : وَفِي رِوَايَةٍ: هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ التَّهْلِيلَ أَفْضَلَ الذِّكْرِ، لِأَنَّ لِلتَّهْلِيلِ تَأْثِيرًا فِي تَطْهِيرِ الْبَاطِنِ عَنِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي هِيَ مَعْبُودَاتٌ فِي بَاطِنِ الذَّاكِرِ. قَالَ تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] فَيُفِيدُ نَفْيَ عُمُومِ الْآلِهَةِ بِقَوْلِهِ: لَا إِلَهَ، وَيُثْبِتُ الْوَحْدَةَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ، وَيَعُودُ الذِّكْرُ عَنْ ظَاهِرِ لِسَانِهِ إِلَى بَاطِنِ قَلْبِهِ، فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ وَيَسْتَوْلِي عَلَى جَوَارِحِهِ، وَجَدَ حَلَاوَةَ هَذَا مَنْ ذَاقَ ( «وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» ) : لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَشْمَلُهُمَا فَإِنَّ مَنْ حَمِدَ اللَّهَ يَحْمَدُهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَالْحَمْدُ عَلَى النِّعْمَةِ طَلَبُ الْمَزِيدِ وَهُوَ رَأْسُ الشُّكْرِ. اهـ. قَالَ تَعَالَى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] وَلِذَا جَعَلَ الْفَاتِحَةَ أُمَّ الْقُرْآنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِطْلَاقُ الدُّعَاءِ عَلَى الْحَمْدِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَلَعَلَّهُ جُعِلَ أَفْضَلَ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سُؤَالٌ لَطِيفٌ يَدِقُّ مَسْلَكُهُ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ حِينَ خَرَجَ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ يَطْلُبُ نَائِلَتَهُ:
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكُمُ الْمَرْءُ يَوْمًا
…
كَفَاهُ مَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مِنْ بَابِ التَّلْمِيحِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وَأَيُّ دُعَاءٍ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَأَجْمَعُ مِنْ ذَلِكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .
2307 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ، مَا شَكَرَ اللَّهَ عَبْدٌ لَا يَحْمَدُهُ» ".
ــ
2307 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْحَمْدُ) أَيْ: لِلَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (رَأْسُ الشُّكْرِ) فَكَأَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ (مَا شَكَرَ اللَّهَ عَبْدٌ لَا يَحْمَدُهُ) : فَكَانَ التَّارِكُ لَهُ كَالْمُعْرِضِ عَنِ الشُّكْرِ رَأْسًا. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: الْحَمْدُ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ وَالشُّكْرُ بِهِ وَبِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، فَهُوَ إِحْدَى شُعَبِ الشُّكْرِ، وَرَأْسُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بَعْضُ الشُّكْرِ، وَجُعِلَ رَأْسُهُ لِأَنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ بِاللِّسَانِ وَالثَّنَاءَ عَلَى مُولِيهَا أَشْيَعُ لَهَا، وَأَدَلُّ عَلَى مَكَانِهَا لِخَفَاءِ الِاعْتِقَادِ، وَلِمَا فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ مِنَ الِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ عَمَلِ اللِّسَانِ وَهُوَ النُّطْقُ الَّذِي يُفْصِحُ عَنِ الْكُلِّ.
2308 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» "(رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
2308 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى ": أَيْ بِالدُّخُولِ (إِلَى الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) أَيْ: فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، أَوِ الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، أَوِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، يَعْنِي: الَّذِينَ يَرْضَوْنَ عَنْ مَوْلَاهُمْ بِمَا أَجْرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُكْمِ غِنًى كَانَ أَوْ فَقْرًا شِدَّةً كَانَ أَوْ رَخَاءً، فَالْمُرَادُ الدَّوَامُ فَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَدِيعِ الْغَرِيبَةِ (رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
2309 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «قَالَ مُوسَى عليه السلام: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ، وَأَدْعُوكَ بِهِ. فَقَالَ: يَا مُوسَى قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ، يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ، قَالَ: يَا مُوسَى لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي، وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ وُضِعْنَ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ لَمَالَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ". رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
ــ
2309 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (قَالَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام يَا رَبِّ عَلِّمْنِي شَيْئًا) أَيْ: مِنَ الْأَذْكَارِ (أَذْكُرُكَ بِهِ) : بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ اسْتِئْنَافًا أَيْ: أَنَا أَذْكُرُكَ بِهِ، كَذَا قِيلَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ صِفَةٌ وَلَيْسَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:(أَوْ أَدْعُوكَ) بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَهُوَ:" أَوْ " عَلَى الْأَصَحِّ الْأَكْثَرِ، وَبِالْوَاوِ عَلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ الْجَزْمُ وَعَطْفُ أَدْعُوكَ بِالْجَزْمِ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ: [وَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدِ] . اهـ.
وَالْأَوْلَى حَمْلُ نُسْخَةِ الْجَزْمِ عَلَى لُغَةٍ حُمِلَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ عَلَى قِرَاءَةِ إِثْبَاتِ الْيَاءِ - وَجَزْمِ (يَصْبِرْ) اتِّفَاقًا ثُمَّ (أَوْ) فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرُهُ التَّنْوِيعُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْوَاوِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّكِّ أَوِ التَّقْدِيرِ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ دُعَاءٍ ذِكْرٌ وَكُلُّ ذِكْرٍ دُعَاءٌ، وَلِأَنَّهُ سُؤَالٌ لَطِيفٌ، أَوِ الدُّعَاءُ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ أَيْ: أَعْبُدُكَ بِذِكْرِهِ أَوْ بِمَضْمُونِهِ. (فَقَالَ: يَا مُوسَى، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : فَإِنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِكُلِّ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ سِوَاهُ مَعَ زِيَادَةِ دَلَالَةٍ عَلَى تَوْحِيدِ ذَاتِهِ وَتَفْرِيدِ صِفَاتِهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: طَلَبَ مُوسَى مَا بِهِ يَفُوقُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ، فَمَا مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ؟ قُلْتُ: كَأَنَّهُ قَالَ: طَلَبْتَ شَيْئًا مُحَالًا إِذْ لَا ذِكْرَ وَلَا دُعَاءَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. (فَقَالَ: يَا رَبِّ، كُلُّ عِبَادِكَ) أَيْ:
الْمُوَحِّدِينَ (يَقُولُ) أُفْرِدَ رِعَايَةً لِلَفْظِ (كُلُّ) دُونَ مَعْنَاهُ (هَذَا) أَيْ: هَذَا الْكَلَامَ، أَوْ هَذَا الذِّكْرَ (إِنَّمَا أُرِيدَ شَيْئًا تَخُصُّنِي) أَيْ: أَنْتَ (بِهِ) أَيْ: بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ بَيْنِ عُمُومِ عِبَادِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَفْرَحَ فَرَحًا شَدِيدًا إِلَّا إِذَا اخْتُصَّ بِشَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا إِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ جَوْهَرَةٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ غَيْرِهِ، وَكَذَا مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالدَّعَوَاتِ وَالْعُلُومِ الْغَرِيبَةِ وَالصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ، مَعَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي بِهَا جَرَتِ الْعَادَةُ، وَهِيَ مِنْ رَحْمَتِهِ الشَّامِلَةِ وَرَأْفَتِهِ الْكَامِلَةِ أَنَّ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ أَكْثَرُهَا وُجُودًا، كَالْعُشْبِ وَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ دُونَ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَمِثْلَ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ، وَهُوَ أَعَزُّ الْكُتُبِ يُوجَدُ أَكْثَرَ وَأَرْخَصَ مِنْ غَيْرِهِ، وَعِلْمُ الْكِيمْيَاءِ وَنَحْوُهُ مِمَّا هُوَ خَيَالَاتٌ فَاسِدَةٌ، وَصَاحِبُهَا مِنْ جَهْلِهِ يَفْرَحُ بِهِ مَا لَا يَفْرَحُ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ الَّذِي يَمِينُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ قَدَمُهُ عليه الصلاة والسلام وَالْعَوَامُّ الْآنَ يَفْرَحُونَ بِزِيَارَةِ الْمَقَامِ أَكْثَرَ مِنِ اسْتِلَامِ الرُّكْنِ الْأَسْعَدِ. وَمِنْهَا: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَكَلِمَةُ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْكَلِمَاتِ، وَأَنْفَسُ الْعِبَادَاتِ، وَأَفْضَلُ الْأَذْكَارِ، وَأَكْمَلُ الْحَسَنَاتِ، وَهِيَ أَكْثَرُ وُجُودًا وَأَيْسَرُ حُصُولًا، وَالْعَوَامُّ يَتْرُكُونَهَا وَيَتَّبِعُونَ مُوَاظَبَةَ الْأَسْمَاءِ الْغَرِيبَةِ، وَالدَّعَوَاتِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي غَالِبُهَا لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا الْكَلِيمِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْجَوَابِ مِنَ الرَّبِّ الْعَظِيمِ لِتَظْهَرَ جَلَالَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِ، وَيَعْتَنُونَ بِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَقَامٍ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَالْمَرَامِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهَا قُطْبُ دَائِرَةِ الْأَذْكَارِ وَمَرْكَزُ نُقْطَةِ الْأَسْرَارِ، وَلِهَذَا وَرَدَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا حِجَابٌ دُونَ اللَّهِ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَيْهِ (قَالَ يَا مُوسَى: لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتَ السَّبْعَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ مَا طَلَبْتَ مِنْ أَمْرٍ مُخْتَصٍّ بِكَ فَائِقٍ عَلَى الْأَذْكَارِ كُلِّهَا مُحَالٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُرَجَّحُ عَلَى الْكَائِنَاتِ كُلِّهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَسُكَّانِهَا، وَالْأَرَضِينَ وَقُطَّانِهَا. اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ حَاصِلَ الْجَوَابِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنَّمَا خُصُوصِيَّةُ الْخَوَاصِّ بِاعْتِبَارِ فَهْمِ مَبَانِيهَا، وَتَحْقِيقِ مَبَانِيهَا، وَالتَّحَقُّقِ بِمَا فِيهَا وَالتَّخَلُّقِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَالْإِخْلَاصِ فِي ذِكْرِهَا، وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهَا، وَالتَّلَذُّذِ وَالسُّرُورِ بِهَا. وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ بِصَاحِبِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِهَا (وَعَامِرَهُنَّ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى السَّمَاوَاتِ، قِيلَ: عَامِرُ الشَّيْءِ حَافِظُهُ وَمُصْلِحُهُ وَمُدَبِّرُهُ الَّذِي يُمْسِكُهُ مِنَ الْخَلَلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ سَاكِنُ الْبَلَدِ وَالْمُقِيمُ بِهِ عَامِرَهُ مِنْ عَمَّرْتُ الْمَكَانَ: إِذَا أَقَمْتَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِيَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ تَعَالَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ:(غَيْرِي) : قَالَهُ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ سَاكَنَهُنَّ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، أَوْ مُمْسِكَهُنَّ وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41] وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا جِنْسُ مَنْ يُعَمِّرُهَا مِنَ الْمَلَكِ وَغَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى عَامِرُهَا خَلْقًا وَحِفْظًا، وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صَلَاحُهَا تَوَقُّفَهُنَّ عَلَى السَّاكِنِ، وَلِذَا اسْتَثْنَى وَقَالَ: غَيْرِي أَوْ يُرَادُ بِالْعَامِرِ حَاضِرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى حَاضِرٌ فِيهِنَّ عِلْمًا وَاطِّلَاعًا (وَالْأَرَضِينَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُسَكَّنُ (السَّبْعَ) أَيِ: الطِّبَاقَ، وَقِيلَ: الْأَقَالِيمُ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وَلِمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْمُصَرِّحَةِ بِأَنَّهَا طِبَاقٌ. (وُضِعْنَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِي كِفَّةٍ) : بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مِنْ كِفَّتَيِ الْمِيزَانِ يُطْلَقُ لِكُلِّ مُسْتَدِيرٍ، (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: مَفْهُومُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَوْ ثَوَابُهَا وُضِعَ (فِي كِفَّةٍ) : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ (لَمَالَتْ بِهِنَّ) أَيْ: لَرَجَحَتْ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَتْهُنَّ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ إِلَى وُجُودِهِ تَعَالَى كَالْمَعْدُومِ، إِذْ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وَالْمَعْدُومُ لَا يُوَازِنُ الثَّابِتَ الْمَوْجُودَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ:" وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ "(لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) : وَهُوَ مِنْ بَابِ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعَجُّبِ أَوْ تَكْرِيرًا لِلتَّلْقِينِ
(رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ بِإِسْنَادِهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:«لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِمْ» ) أَيْ: لَرَجَحَتْ وَزَادَتْ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَمَالَتْهُنَّ، وَكَانَ التَّفْسِيرُ بِالرُّجْحَانِ وَالزِّيَادَةِ تَفْسِيرًا بِاللَّازِمِ، وَضَمِيرُ ذَوِي الْعُقُولِ تَشْرِيفًا لَهُمْ كَمَا أَنَّ عَكْسَهُ تَغْلِيبًا لِكَثْرَتِهِنَّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْرَحُ صَرِيحٍ عَلَى أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ، إِذْ لَا ثَوَابَ أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِهَا.
2310 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَّقَهُ رَبُّهُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُ اللَّهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي، لَا شَرِيكَ لِي، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الْمَلِكُ وَلَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِيَ الْمُلْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ، وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي " وَكَانَ يَقُولُ: " مَنْ قَالَهَا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ» "(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
ــ
2310 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَّقَهُ رَبُّهُ. قَالَ) أَيْ: رَبُّهُ بَيَانًا لِتَصْدِيقِهِ أَيْ: قَرَّرَهُ بِأَنْ قَالَ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَأَنَا أَكْبَرُ) : وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: صَدَقْتَ (وَإِذَا قَالَ) أَيِ: الْعَبْدُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُ اللَّهُ أَيْ: تَصْدِيقًا لِعَبْدِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي) أَيْ: فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَحَذْفُ (صَدَّقَهُ رَبُّهُ) هُنَا لِلْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَعَبَّرَ هُنَا بِيَقُولُ وَثَمَّةَ، وَفِيمَا يَأْتِي بِقَالَ تَفَنُّنًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَجْهُهُ اسْتِحْضَارُ تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ أَزَلًا وَأَبَدًا لِلْإِيمَاءِ إِلَى خُصُوصِيَّةِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ مِمَّا بَيْنَ أَخَوَاتِهَا بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ وَالتَّفْرِيدِ الصِّرْفِ (وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ كَمَا أَفْهَمَهُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ. وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالِاخْتِصَاصِ (قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِيَ الْمُلْكُ وَلِيَ الْحَمْدُ) أَيْ: كَمَا قَالَ عَبْدِي: (وَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) : وَالْوَاوُ فِي (وَلَا حَوْلَ) إِمَّا لِلْعَطْفِ أَوْ لِلْحَالِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَلِذَا تُرِكَ فِي قَوْلِهِ:(قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا حَوْلَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: (وَلَا حَوْلَ) مُطَابِقًا لِمَا قَبْلَهُ (وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِي) أَيْ: كَمَا أَقَرَّ بِهِ عَبْدِي (وَكَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: مَنْ قَالَهَا) أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ دُونِ الْجَوَابَاتِ (فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ (لَمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ) أَيْ: لَمْ تَمَسَّهُ أَوْ لَمْ تَحْرِقْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَمْ تَأْكُلْهُ، اسْتَعَارَ الطُّعْمَ لِلْإِحْرَاقِ مُبَالَغَةً (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .
2311 -
«وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى، تُسَبِّحُ بِهِ فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ؟ سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
ــ
2311 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ) أَيْ: مَحْرَمٍ لَهُ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الدُّخُولِ الرُّؤْيَةُ، وَلَا مِنْ وُجُودِ الرُّؤْيَةِ حُصُولُ الشَّهْوَةِ (وَبَيْنَ يَدَيْهَا) : الْوَاوُ لِلْحَالِ (نَوًى) : جَمْعُ نَوَاةٍ وَهِيَ عَظْمُ التَّمْرِ (أَوْ حَصًى) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (تُسَبِّحُ) أَيِ: الْمَرْأَةُ (بِهِ) أَيْ: بِمَا ذَكَرَ مِنَ النَّوَى أَوِ الْحَصَى، وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ لِتَجْوِيزِ السِّبْحَةِ بِتَقْرِيرِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ فِي مَعْنَاهَا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنْظُومَةِ وَالْمَنْثُورَةِ فِيمَا يُعَدُّ بِهِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِ مَنْ عَدَّهَا بِدْعَةً، وَقَدْ قَالَ الْمَشَايِخُ: إِنَّهَا سَوْطُ الشَّيْطَانِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رُئِيَ مَعَ الْجُنَيْدِ سُبْحَةٌ فِي يَدِهِ حَالَ انْتِهَائِهِ، فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: شَيْءٌ وَصَلْنَا بِهِ إِلَى اللَّهِ كَيْفَ نَتْرُكُهُ؟ وَلَعَلَّ هَذَا أَحَدُ مَعَانِي قَوْلِهِمُ: النِّهَايَةُ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ) أَيْ: أَسْهَلُ
وَأَخَفُ (عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا) أَيْ: مِنْ هَذَا الْجَمْعِ وَالتَّعْدَادِ (أَوْ أَفْضَلُ؟) قِيلَ " أَوْ " لِلشَّكِّ مِنْ سَعْدٍ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى (بَلْ) وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ: وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ بِالْقُصُورِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْصِيَ ثَنَاءَهُ، وَفِي الْعَدِّ بِالنَّوَى إِقْدَامٌ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْصَاءِ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَدِّ هَذَا الْإِقْدَامُ، وَلَا يَقْدُمُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِلَّا الْعَوَامُّ كَالْأَنْعَامِ، بَلِ الْمُرَادُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم تَرَقِّيَهَا مِنْ عَالَمِ كَثْرَةِ الْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي إِلَى وَحْدَةِ الْحَقَائِقِ وَالْمَعَانِي، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْأَعْدَادِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَدَدِ الْأَمْدَادِ، أَوِ الْعَدُّ فِي الْأَذْكَارِ يَجْعَلُ شَأْنًا لَهَا فِي الْبَالِ، وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ فِي كُلِّ حَالٍ، هَذَا مُعَابٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ بِالْعَدَدِ: تَذْكُرُ اللَّهَ بِالْحِسَابِ، وَتُذْنِبُ بِالْجُزَافِ وَتَعْصِيهِ بِلَا كِتَابٍ، أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ بِالنِّعْمَةِ بِلَا إِحْصَاءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] فَيَنْبَغِي حُسْنُ الْمُقَابَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ أَنْ يَذْكُرَهُ السَّالِكُ بِغَيْرِ اسْتِقْصَاءٍ، أَوْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَقَامِ الْمُكَاشَفَةِ بِتَسْبِيحِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 1] . (سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ لِكَثْرَةِ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ الْمَلْحُوظَةِ فِي الْمَقَامِ (فِي السَّمَاءِ) أَيْ: فِي عَالَمِ الْعُلْوِيَّاتِ جَمِيعِهَا (وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ: فِي عَالَمِ السُّفْلِيَّاتِ كُلِّهَا، كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ الْمَعْهُودَتَانِ لِقَوْلِهِ:(وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ) أَيْ: مَا بَيْنَ مَا ذَكَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْهَوَاءِ وَالْمَطَرِ وَالسَّحَابِ وَغَيْرِهَا، (وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ) أَيْ: خَالِقُهُ أَوْ خَالِقٌ لَهُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ أَظْهَرُ، لَكِنَّ الْأَدَقَّ الْأَخْفَى مَا قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: مَا هُوَ خَالِقٌ لَهُ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ وَالْمُرَادُ الِاسْتِمْرَارُ فَهُوَ إِجْمَالٌ بَعْدَ التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ إِلَى الْأَبَدِ، كَمَا تَقُولُ: اللَّهُ قَادِرٌ عَالِمٌ. فَلَا تَقْصِدُ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ (وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْصُوبٌ نَصْبَ عَدَدٍ فِي الْقَرَائِنِ السَّابِقَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِنَصْبِ مِثْلَ، أَيِ: اللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقُهُ أَيْ بِعَدَدِهِ، فَجَعَلَ مَرْجِعَ الْإِشَارَةِ أَقْرَبَ مَا ذُكِرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ اللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: عَلَى هَذَا الْحَالِ (وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ: كَذَلِكَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنِ اخْتِصَارِ الرَّاوِي، فَنَقَلَ آخِرَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى خَشْيَةً لِلْمَلَالِهِ بِالْإِطَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا بَعْضُ الْآثَارِ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَفِي نُسْخَةٍ. حَسَنٌ غَرِيبٌ.
2312 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; كَانَ كَمَنْ حَجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ، وَمَنْ حَمِدَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; كَانَ كَمَنْ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ هَلَّلَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ بِأَكْثَرِ مِمَّا أَتَى بِهِ إِلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، أَوْ زَادَ عَلَى مَا قَالَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
2312 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ مِائَةً) أَيْ: مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مِائَةَ مَرَّةٍ (بِالْغَدَاةِ) : بِفَتْحَتَيْنِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَيَجُوزُ ضَمُّ الْأَوَّلِ وَسُكُونُ الثَّانِي وَبَعْدَهُ " وَاوٌ " (وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ) أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَأَوَّلَ اللَّيْلِ، أَوْ فِي الْمَلَوَيْنِ (كَانَ كَمَنْ حَجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ) أَيْ: نَافِلَةٍ. دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ بِشَرْطِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ بِسُهُولَتِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ بِغَفْلَتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ
يَكُونَ الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ مُبَالَغَةً فِي التَّرْغِيبِ، أَوْ يُرَادُ التَّسَاوِي بَيْنَ التَّسْبِيحِ الْمُضَاعَفِ بِالْحِجَجِ الْغَيْرِ مُضَاعَفَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمَنْ حَمِدَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَمَلَ) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: رَكَّبَ مِائَةَ نَفْسٍ (عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: فِي نَحْوِ الْجِهَادِ إِمَّا صَدَقَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ، وَفِيهِ تَرْغِيبٌ لِلذَّاكِرِ فِي الذِّكْرِ لِئَلَّا يَلْتَفِتَ إِلَى الدُّنْيَا، وَيَجْمَعَ هِمَّتَهُ عَلَى الْحُضُورِ مَعَ الْمَوْلَى، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَالْمُرَكَّبِ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ لَا غَيْرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَسِيلَةِ. (وَمَنْ هَلَّلَ اللَّهَ) أَيْ: قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ ; كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ) : وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلذَّاكِرِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْعَاجِزِينَ عَنِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا الْأَغْنِيَاءُ، (مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ) : بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَبِفَتْحِهِمَا، يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ مِنْ أَوْلَادِ إِسْمَاعِيلَ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَصْنَافِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَقَارِبِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَهُوَ تَتْمِيمٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي مَعْنَى الْعِتْقِ. (وَمِنْ كَبَّرَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (بِأَكْثَرَ) أَيْ: بِثَوَابٍ أَكْثَرَ، أَوِ الْمُرَادُ بِعَمَلٍ أَفْضَلَ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِأَكْثَرَ لِأَنَّهُ مَعْنَى أَفْضَلَ (مِمَّا أَتَى بِهِ) أَيْ: جَاءَ بِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، وَالَّذِي دَلَّتِ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ أَنَّ أَفْضَلَ هَذَا: التَّهْلِيلُ فَالتَّحْمِيدُ فَالتَّكْبِيرُ فَالتَّسْبِيحُ، فَحِينَئِذٍ يُئَوَّلُ بِأَنْ يُقَالَ: لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ غَيْرُ الْمُهَلِّلِ وَالْحَامِدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَتَى بِهِ. (إِلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ زَادَ عَلَى مَا يُقَالُ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .
2313 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه مَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَمْلَؤُهُ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا حِجَابٌ دُونَ اللَّهِ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ.
ــ
2313 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ) أَيْ: ثَوَابُهُ بَعْدَ تَجَسُّمِهِ يَمْلَأُ نِصْفَ الْمِيزَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ إِحْدَى كِفَّتَيْهِ الْمَوْضُوعَةِ لِوَضْعِ الْحَسَنَاتِ فِيهَا، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَمْلَؤُهُ) أَيِ: الْمِيزَانُ أَوْ نِصْفُهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْأَذْكَارَ تَنْحَصِرُ فِي نَوْعَيْنِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّحْمِيدُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَيَكُونُ الْحَمْدُ نِصْفَهُ الْآخَرَ، فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ. وَيُلَائِمُهُ حَدِيثُ:" ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ " وَيُحْتَمَلُ تَفْضِيلُ الْحَمْدِ بِأَنَّهُ يَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَحْدَهُ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى التَّنْزِيهِ ضِمْنًا لِأَنَّ الْوَصْفَ بِالْكَمَالِ مُتَضَمِّنٌ نَفْيَ النُّقْصَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا حِجَابٌ دُونَ اللَّهِ) : فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّحْمِيدَ وَالتَّنْزِيهَ، وَلِذَا صَارَتْ مُوجِبَةً لِلْقُرْبِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:(حَتَّى تَخْلُصَ) : بِضَمِّ اللَّامِ (إِلَيْهِ) أَيْ: تَصِلُ عِنْدَهُ، وَتَنْتَهِي إِلَى مَحَلِّ الْقَبُولِ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا وَأَمْثَالِهِ سُرْعَةُ الْقَبُولِ وَالْإِجَابَةِ، وَكَثْرَةُ الْأَجْرِ وَالْإِثَابَةِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ) أَيْ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، لَكِنْ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.
2314 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَا قَالَ عَبْدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا قَطُّ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْعَرْشِ مَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
2314 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا قَالَ عَبْدٌ) أَيْ: مُسْتَشْعِرًا لِعُبُودِيَّتِهِ وَحُدُوثِ وَجُودِهِ، وَمُسْتَذْكِرًا لِأُلُوهِيَّةِ رَبِّهِ وَتَوْحِيدِ مَعْبُودِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا) أَيْ: مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ أَوْ مُؤْمِنًا غَيْرَ مُنَافِقٍ (قَطُّ إِلَّا فُتِحَتْ) : بِالتَّخْفِيفِ وَتُشَدَّدُ (لَهُ) أَيْ: لِهَذَا الْكَلَامِ أَوِ الْقَوْلِ (أَبْوَابُ السَّمَاءِ
حَتَّى يُفْضِيَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: يَصِلَ (إِلَى الْعَرْشِ مَا اجْتَنَبَ) أَيْ: صَاحِبُهُ (الْكَبَائِرَ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الْكَبَائِرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ السَّابِقُ دَلَّ عَلَى تَجَاوُزِهِ مِنَ الْعَرْشِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ سُرْعَةُ الْقَبُولِ وَالِاجْتِنَابُ عَنِ الْكَبَائِرِ شَرْطٌ لِلسُّرْعَةِ، لَا لِأَجْلِ الثَّوَابِ وَالْقَبُولِ. اهـ. أَوْ لِأَجْلِ كَمَالِ الثَّوَابِ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ الْقَبُولِ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَا تُحْبِطُ الْحَسَنَةَ، بَلِ الْحَسَنَةُ تُذْهِبُ السَّيِّئَةَ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِهَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَيْ: لِرُوحِهِ عَقِبَ مَوْتِهِ. تَقْدِيرٌ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَيْهِ، ثُمَّ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ يُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، بِخِلَافِ الْكُفَّارِ لَا يُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ. غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِتَقْيِيدِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ:" مَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ " عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.
2315 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، غَرِيبٌ إِسْنَادًا.
ــ
2315 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ) أَيِ: الْخَلِيلَ عليه الصلاة والسلام كَمَا فِي نُسْخَةٍ (لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِي) : بِالْإِضَافَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَنْوِينِ (لَيْلَةً) أَيْ: لَيْلَةً أُسْرِيَ فِيهَا بِي، وَهِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ (فَقَالَ) أَيْ: إِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ فِي مَحَلِّهِ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ) أَيْ: أَوْصِلْهُمْ وَبَلِّغْهُمْ (مِنِّي السَّلَامَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: " اقْرَأَ أُمَّتَكَ مِنِّي " أَيْ: مِنْ جَانِبِي، وَمِنْ عِنْدِي السَّلَامَ. فِي النِّهَايَةِ: يُقَالُ: اقْرَأْ فَلَانًا السَّلَامَ، وَاقْرَأْ عليه السلام كَأَنَّهُ حِينَ يُبَلِّغُهُ سَلَامَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ وَيَرُدَّهُ. وَفِي الْمُقَدِّمَةِ نَحْوُهُ، لَكِنْ فِي الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ: أَنَّ قَرَأَهُ السَّلَامَ وَأَقْرَأَهُ السَّلَامَ بِمَعْنًى، وَعَلَى كُلٍّ فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. (وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ) وَهِيَ التُّرَابُ، فَإِنَّ تُرَابَهَا الْمِسْكُ وَالزَّعْفَرَانُ، وَلَا أَطْيَبَ مِنْهُمَا (عَذْبَةُ الْمَاءِ) أَيْ: لِلنُّمُوِّ، وَحُلْوٌ لَذِيذٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] أَيْ: غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ بِمُلُوحَةٍ وَلَا غَيْرِهَا (وَأَنَّهَا) : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ أَيِ: الْجَنَّةَ (قِيعَانٌ) : بِكَسْرِ الْقَافِ جَمْعُ قَاعٍ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُسْتَوِيَةُ الْخَالِيَةُ مِنَ الشَّجَرِ (وَأَنَّ) : بِالْوَجْهَيْنِ (غِرَاسَهَا) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، جَمْعُ غَرْسٍ بِالْفَتْحِ، وَهُوَ مَا يُغْرَسُ أَيْ: يَسْتُرُ تُرَابَ الْأَرْضِ مِنْ نَحْوِ الْبَذْرِ لِيَنْبُتَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ التُّرْبَةُ طَيِّبَةً وَمَاؤُهَا عَذْبًا كَانَ الْغِرَاسُ أَطْيَبَ، لَا سِيَّمَا وَالْغَرْسُ الْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ. (سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : وَالْمَعْنَى أَعْلِمْهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَحْوَهَا سَبَبٌ لِدُخُولِ قَائِلِهَا الْجَنَّةَ وَلِكَثْرَةِ أَشْجَارِ مَنْزِلِهِ فِيهَا، لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَرَّرَهَا نَبَتَتْ لَهُ أَشْجَارٌ بِعَدَدِهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تُورِثُ قَائِلَهَا الْجَنَّةَ، فَأَطْلَقَ السَّبَبَ وَأَرَادَ الْمُسَبَّبَ. اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَرْضَ الْجَنَّةِ خَالِيَةٌ عَنِ الْأَشْجَارِ وَالْقُصُورِ، وَيَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى:{جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ خَالِيَةٍ عَنْهَا، لِأَنَّهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ جَنَّةً لِأَشْجَارِهَا الْمُتَكَاثِفَةِ الْمُظِلَّةِ بِالْتِفَافِ أَغْصَانِهَا. وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا كَانَتْ قِيعَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَدَ بِفَضْلِهِ فِيهَا أَشْجَارًا وَقُصُورًا، بِحَسَبِ أَعْمَالِ الْعَامِلِينَ لِكُلِّ عَامِلٍ مَا يَخْتَصُّ بِهِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا يَسَّرَهُ لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ لِيَنَالَ بِذَلِكَ الثَّوَابَ جَعَلَهُ كَالْغَارِسِ لِتِلْكَ الْأَشْجَارِ مَجَازًا إِطْلَاقًا لِلسَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْخُلُوِّ الْكُلِّيِّ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْقُصُورِ، لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا قِيعَانًا أَنَّ أَكْثَرَهَا مَغْرُوسٌ، وَمَا عَدَاهُ مِنْهَا أَمْكِنَةٌ وَاسِعَةٌ بِلَا غَرْسٍ لِيَنْغَرِسَ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ، وَيَتَمَيَّزَ غَرْسُهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي بِلَا سَبَبٍ، وَغَرْسُهَا الْمُسَبَّبُ عَنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَهَا مَغْرُوسٌ لِيَكُونَ مُقَابِلًا لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَيْرَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، وَبَقِيَّتُهَا تَغْرَسُ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ لِيَمْتَازَ ثَوَابُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِعِظَمِ فَضْلِهَا، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ عَنْ ثَوَابِ غَيْرِهَا. اهـ. وَفِي كَوْنِ هَذَا حَاصِلَ الْجَوَابِينَ أَوْ أَحَدِهِمَا نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَتَأَمَّلْ، وَيَخْطُرُ بِالْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ أَقَلَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ جَنَّتَانِ، كَمَا قَالَ:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَيُقَالُ: جَنَّةٌ فِيهَا أَشْجَارٌ وَأَنْهَارٌ وَحُورٌ وَقُصُورٌ خُلِقَتْ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ، وَجَنَّةٌ يُوجَدُ فِيهَا مَا ذُكِرَ بِسَبَبِ حُدُوثِ الْأَعْمَالِ وَالْأَذْكَارِ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا، وَجَنَّةٌ فِي الْعُقْبَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، غَرِيبٌ إِسْنَادًا) : وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " يُغْرَسُ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ ".
2316 -
وَعَنْ يُسَيْرَةَ رضي الله عنها وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، قَالَتْ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ، فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ، وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
2316 -
(وَعَنْ يُسَيْرَةَ) : - بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ - وَيُقَالُ أُسَيْرَةَ بِالْهَمْزِ، أُمُّ يَاسِرٍ صَحَابِيَّةٌ مِنَ الْأَنْصَارِيَّاتِ، وَيُقَالُ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: كَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ: (وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ) : وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: إِنَّهَا بِنْتُ يَاسِرٍ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمٍ. (قَالَتْ: قَالَ لَنَا) أَيْ: مَعْشَرِ النِّسَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُنَّ) : اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمْنَ وَأَمْسِكْنَ (بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّقْدِيسِ) أَيْ: قَوْلِ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، أَوْ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالتَّقْدِيسِ التَّكْبِيرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فِي الْمَعْدُودَاتِ عَلَى وَفْقِ نَظَائِرِهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمُ اخْتَصَرُوهَا لِيَسْهُلَ تَكَرُّرُهَا بِضَمِّ بَعْضِ حُرُوفِ إِحْدَاهَا إِلَى الْأُخْرَى، كَالْحَوْقَلَةِ وَالْحَيْعَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ وَكَالتَّهْلِيلِ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُقَالُ: هَيْلَلَ الرَّجُلُ وَهَلَّلَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ. اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْبَسْمَلَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَصْنُوعَةِ لَا الْعَرَبِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُسَلَّمٌ فِي الْحَوْقَلَةِ وَالْحَيْعَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ، وَأَمَّا التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ فَمَصْدَرَانِ قِيَاسِيَّانِ، وَكَذَا التَّقْدِيسُ، وَمَعْنَاهَا جَعْلُ اللَّهِ مُسَبَّحًا وَمُقَدَّسًا أَيْ: مُنَزَّهًا بِالذِّكْرِ وَالِاعْتِقَادِ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَمُهَلِّلًا أَيْ: مَرْفُوعَ الصَّوْتِ بِذِكْرِ تَوْحِيدِهِ وَإِثْبَاتِ تَفْرِيدِهِ، نَعَمْ هَيْلَلَ مِنْ قَبِيلِ بَسْمَلَ، وَكَذَا سَبْحَلَ، وَكَذَا قَدْسَلَ، لَوْ سُمِعَ أَوْ بُنِيَ لِوُجُودِ دَلَالَةِ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى كَلِمَةٍ فِي مُقَابَلَتِهَا، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ مَصَادِرُ بَابِ التَّفْعِيلِ عَلَى طِبْقِ الْمَوْضُوعِ. وَالْمَصْدَرُ الْمَصْنُوعُ مُخْتَصٌّ بِبَابِ الْفَعْلَلَةِ مُلْحَقٌ بِهِ فِي التَّصْرِيفِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ وَمُحَقَّقٌ، وَلَا يَضُرُّنَا تَفْسِيرُهُمُ التَّسْبِيحَ بِسُبْحَانَ اللَّهِ وَالتَّهْلِيلَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالتَّقْدِيسَ بِسُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، فَإِنَّهُ تَفْسِيرٌ مَعْنَوِيٌّ مُجَزَّأٌ مِنْ مَعْنًى كُلِّيٍّ هُوَ الْمَفْهُومُ الْمَصْدَرِيُّ (وَاعْقِدْنَ) : بِكَسْرِ الْقَافِ أَيِ: اعْدُدْنَ عَدَدَ مَرَّاتِ التَّسْبِيحِ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهِ (بِالْأَنَامِلِ) أَيْ: بِعَقْدِهَا أَوْ بِرُءُوسِهَا يُقَالُ: عَقْدُ الشَّيْءِ بِالْأَنَامِلِ عَدُّهُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ عَدُّهُنَّ، أَوِ التَّقْدِيرُ: اعْدُدْنَ. لَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: حَرَّضَهُنَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ يُحْصِينَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ بِأَنَامِلِهِنَّ لِيَحُطَّ عَنْهَا بِذَلِكَ مَا اجْتَرَحَتْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ كُنَّ يَعْرِفْنَ عَقْدَ الْحِسَابِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى مَذْهَبِ جَمَاعَةٍ. وَهُوَ وَهْمٌ، وَانْتِقَالٌ مِنْهُ مِنَ الْبَاءِ إِلَى " مِنْ " وَإِلَّا فَزِيَادَةُ الْبَاءِ فِي الْمَفْعُولِ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ اتِّفَاقًا عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]، {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] ، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25] ، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ} [ص: 33] ، {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَقَوْلِهِ: فَكَفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ عَيَّرَنَا حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا، وَالْأَنَامِلُ جَمْعُ أُنْمُلَةٍ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ وَالْهَمْزِ تِسْعُ لُغَاتٍ فِيهَا الظُّفْرُ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْأَصَابِعُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْبَعْضِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ عَكْسُ مَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] لِمُبَالَغَةٍ، وَفِيهِ
جَوَازُ عَدِّ الْأَذْكَارِ وَمَأْخَذُ سُبْحَةِ الْأَبْرَارِ، وَقَدْ كَانَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ خَيْطٌ فِيهِ عُقَدٌ كَثِيرَةٌ يُسَبِّحُ بِهَا، وَزَعْمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُودِ أَصْلِهَا فِي السُّنَّةِ وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْعَقْدَ بِالْأَنَامِلِ دَلَالَةً عَلَى الْأَفْضَلِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ:(فَإِنَّهُنَّ) أَيِ: الْأَنَامِلَ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ (مَسْئُولَاتٌ) أَيْ: يُسْأَلْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا اكْتَسَبْنَ وَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتُعْمِلْنَ، (مُسْتَنْطَقَاتٌ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ: مُتَكَلِّمَاتٌ بِخَلْقِ النُّطْقِ فِيهَا فَيَشْهَدْنَ لِصَاحِبِهِنَّ أَوْ عَلَيْهِ بِمَا اكْتَسَبَهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: 22] وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَعْضَاءِ فِيمَا يُرْضِي الرَّبَّ تَعَالَى وَتَعْرِيضُ التَّحَفُّظِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْآثَامِ. (وَلَا تَغْفُلْنَ) : بِضَمِّ الْفَاءِ، وَالْفَتْحِ لَحْنٌ أَيْ: عَنِ الذِّكْرِ يَعْنِي لَا تَتْرُكْنَ الذِّكْرَ، (فَتَنْسَيْنَ) : بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: فَتَتْرُكْنَ (الرَّحْمَةَ) : بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ، وَالْمُرَادُ بِنِسْيَانِ الرَّحْمَةِ نِسْيَانُ أَسْبَابِهَا أَيْ: لَا تَتْرُكْنَ الذِّكْرَ، فَإِنَّكُنَّ لَوْ تَرَكْتُنَّ الذِّكْرَ لَحُرِمْتُنَّ ثَوَابَهُ، فَكَأَنَّكُنَّ تَرَكْتُنَّ الرَّحْمَةَ. قَالَ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَيْ: بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ أَيْ: بِالرَّحْمَةِ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِصِيغَةٍ مَجْهُولَةٍ مِنَ الْإِنْسَاءِ، أَيْ: إِنَّكُنَّ اسْتُحْفِظْتُنَّ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ وَأُمِرْتُنَّ بِسُؤَالِهَا، فَإِذَا غَفَلْتُنَّ فَقَدْ ضَيَّعْتُنَّ مَا اسْتُودِعْتُنَّ فَتُرِكْتُنَّ سُدًى عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الطِّيبِيُّ: (لَا تَغْفُلْنَ) نَهْيٌ لِأَمْرَيْنِ أَيْ: لَا تَغْفُلْنَ عَمَّا ذَكَرْتُ، لَكِنْ مِنَ اللُّزُومِ عَلَى الذِّكْرِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ وَالْعَقْدِ بِالْأَصَابِعِ تَوْثِيقًا، وَقَوْلُهُ: فَتَنْسَيْنَ جَوَابُ " لَوْ " أَيْ: إِنَّكُنَّ لَوْ تَغْفُلْنَ عَمَّا ذَكَرْتُ لَكُنَّ لَتُرِكْتُنَّ سُدًى عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] أَوْ لَا يَكُنْ مِنْكُنَّ الْغَفْلَةُ فَيَكُونَ مِنَ اللَّهِ تَرْكُ الرَّحْمَةِ، فَعَبَّرَ بِالنِّسْيَانِ عَنْ تَرْكِ الرَّحْمَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126] . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2317 -
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقُولُهُ، قَالَ: " قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ". فَقَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي، فَمَا لِي؟ فَقَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي» ". شَكَّ الرَّاوِي فِي " عَافِنِي ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2317 -
(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلَامًا) أَيْ: ذِكْرًا (أَقُولُهُ) أَيْ: أَذْكُرُهُ وِرْدًا (قَالَ: " قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) بَدَأَ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى وَجْهِ التَّفْرِيدِ، فَإِنَّهُ مَبْدَأُ كُلِّ عِبَادَةٍ وَمَخْتَمُ كُلِّ سَعَادَةٍ لِلْمُرَادِ وَالْمُرِيدِ (اللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ أَوْ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِكُنْهِ كِبْرِيَائِهِ وَهُوَ الْأَوْلَى (كَبِيرًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: كَبَّرْتُ كَبِيرًا، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا) أَيْ: حَمْدًا كَثِيرًا (سُبْحَانَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَسُبْحَانَ اللَّهِ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَيْ: جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَتَغْلِيبُ ذَوِي الْعِلْمِ لِشَرَفِهِمْ (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) : وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ بِلَفْظِ: " الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ " وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِي الصَّحِيحِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَمْ يَرِدْ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ إِلَّا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَإِنَّهُ أَرْدَفَهَا بِقَوْلِهِ:" الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ". (قَالَ) أَيِ: الْأَعْرَابِيُّ (فَهَؤُلَاءِ) أَيِ: الْكَلِمَاتُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: هَؤُلَاءِ (لِرَبِّي) أَيْ: مَوْضُوعَةٌ لِذِكْرِهِ (فَمَا لِي؟) أَيْ مِنَ الدُّعَاءِ لِنَفْسِي (فَقَالَ: " قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) أَيْ: بِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ (وَارْحَمْنِي) أَيْ: بِتَوْفِيقِ الطَّاعَاتِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ (وَاهْدِنِي) أَيْ: لِأَحْسَنِ الْأَحْوَالِ (وَارْزُقْنِي) أَيِ: الْمَالَ الْحَلَالَ (وَعَافِنِي) أَيْ: مِنَ الِابْتِلَاءِ بِمَا يَضُرُّ فِي الْمَآلِ (شَكَّ الرَّاوِي
فِي " عَافِنِي) أَيْ: فِي إِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ، وَالْأَوْلَى الْإِثْبَاتُ لِعَدَمِ مَضَرَّتِهِ بَعْدَ تَمَامِ دَعْوَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: شَكَّ الرَّاوِي فِي لَفْظِ " عَافِنِي " هَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ لَا فَهُوَ بِظَاهِرِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ هُوَ الصَّحَابِيُّ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الرُّوَاةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: فَيُؤْتَى بِهِ احْتِيَاطًا لِرِعَايَةِ احْتِمَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ، مُسَلَّمٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا إِلَخْ. رُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ، فَيُسَنُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولَ كَبِيرًا كَثِيرًا لِيَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْوَارِدِ يَقِينًا ; فَمُعْتَرَضٌ بِأَنَّ الْجَمْعَ بِهَذَا الْمِنْوَالِ غَيْرُ وَارِدٍ، وَالصَّحِيحُ فِي الْجَمْعِ أَنْ يَقُولَ: كَبِيرَا مَرَّةً وَكَثِيرًا أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2318 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى شَجَرَةٍ يَابِسَةِ الْوَرَقِ، فَضَرَبَهَا بِعَصَاهُ، فَتَنَاثَرَ الْوَرَقُ، فَقَالَ: " إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، تُسَاقِطُ ذُنُوبَ الْعَبْدِ كَمَا تَسَاقَطَ وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
2318 -
(وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى شَجَرَةٍ يَابِسَةِ الْوَرَقِ، فَضَرَبَهَا) أَيْ: أَغْصَانَ الشَّجَرَةِ (بِعَصَاهُ، فَتَنَاثَرَ الْوَرَقُ) أَيْ: تَسَاقَطَ (فَقَالَ: " إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الْحِكَايَةِ أَوْ عَلَى الِابْتِدَائِيَّةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ ضَعِيفٌ (وَسُبْحَانَ اللَّهِ) : وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ كُلُّهَا بِالنَّصْبِ عَلَى اسْمِ إِنَّ: وَخَبَرُهَا (تُسَاقِطُ) : بِضَمِّ التَّاءِ (ذُنُوبَ الْعَبْدِ) أَيِ: الْمُتَكَلِّمِ بِهَا وَالْمُغَالَبَةُ لِلْمُبَالَغَةِ (كَمَا يَتَسَاقَطُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: تُسَاقِطُ فَتَسَاقَطَ كَمَا يَتَسَاقَطُ (وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) : وَقَوْلُهُ كَمَا يَتَسَاقَطُ إِنْ جُعِلَ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ لَمْ تَبْقَ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ الْمَصْدَرَيْنِ، وَلَوْ جُعِلَ حَالًا مِنَ الذُّنُوبِ اسْتَقَامَ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ تُسَاقِطُ الذُّنُوبَ مُشَبَّهًا تَسَاقُطُهَا بِتَسَاقُطِ الْوَرَقِ، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الْأَصَحُّ أَنَّ " مَا " زَائِدَةٌ، وَالْكَافُ بِمَعْنَى مِثْلِ، حَالٌ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالتَّقْدِيرُ حَالَ كَوْنِ تَسَاقُطِ الذُّنُوبِ مِثْلَ تَسَاقُطِ وَرَقِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا سَلَكَهُ الشَّارِحُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ فِي التَّقْدِيرِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
2319 -
وَعَنْ مَكْحُولٍ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ» ". قَالَ مَكْحُولٌ: فَمَنْ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مَنْجًى مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ; كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الضُّرِّ، أَدْنَاهَا الْفَقْرُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، وَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
ــ
2319 -
(وَعَنْ مَكْحُولٍ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، كَانَ مِنَ السُّودَانِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْمَدِينَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَالْحَسَنُ بِالْبَصْرَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ، كَانَ مُفْتِيًا بِالشَّامِ، وَكَانَ لَا يُفْتِي حَتَّى يَقُولَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَأَبِي هِنْدٍ الْوَزَّانِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَمِعَ مِنْهُ الزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْعَسَّالُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ) أَيْ: عَنْ دَفْعِ الضُّرِّ (وَلَا قُوَّةَ) أَيْ: عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ (إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: بِحِفْظِهِ وَقُدْرَتِهِ (فَإِنَّهَا مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ) أَيْ: مِنْ ذَخَائِرِهَا وَنَفَائِسِهَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. (قَالَ مَكْحُولٌ) أَيْ: مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (فَمَنْ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مَنْجَا) : بِالْأَلِفِ أَيْ: لَا مَهْرَبَ وَلَا مَخْلَصَ (مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنْ سُخْطِهِ وَعُقُوبَتِهِ (إِلَّا إِلَيْهِ) أَيْ: بِالرُّجُوعِ إِلَى رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ (كَشَفَ اللَّهُ) أَيْ: دَفَعَ (عَنْهُ سَبْعِينَ بَابًا) أَيْ: نَوْعًا (مِنَ الضُّرِّ) : بِضَمِّ الضَّادِ وَتُفْتَحُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّحْدِيدَ وَالتَّكْثِيرَ (أَدْنَاهُ) أَيْ: أَقَلُّ الضَّرَرِ بِمَعْنَى جِنْسِهِ (الْفَقْرُ) أَيْ: ضَرَرُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (أَدْنَاهَا) أَيْ: أَحَطُّ السَبْعِينَ، وَأَدْنَى مَرَاتِبِ الْأَنْوَاعِ نَوْعُ مَضَرَّةِ الْفَقْرِ، وَالْمُرَادُ الْفَقْرُ الْقَلْبِيُّ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، لِأَنَّ قَائِلَهَا إِذَا تَصَوَّرَ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ، وَتَيَقَّنَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا نَفْعَ وَلَا ضُرَّ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا عَطَاءَ وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِهِ، فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَشَكَرَ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَرَضِيَ بِالْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ فَصَارَ مِنْ زُبْدَةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَعُمْدَةِ الْأَصْفِيَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا) أَيْ: صَدْرُ الْحَدِيثِ (حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ) :
وَبَيَّنَ عَدَمَ الِاتِّصَالِ بِقَوْلِهِ: (وَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ عَنْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا فِي السَّمْعِ، وَالْمَشْهُورُ " مِنْ ". قُلْتُ الْمَشْهُورُ تَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ إِلَى وَاحِدٍ، وَقِيلَ: إِلَى اثْنَيْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لَمْ يَسْمَعْ مَكْحُولٌ الْحَدِيثَ نَاقِلًا أَوْ رَاوِيًا عَنْ (أَبِي هُرَيْرَةَ) : وَهَذَا نُكْتَةُ ذِكْرِ مَكْحُولٍ فِي عُنْوَانِ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ جَرْيِ عَادَةِ الْمُؤَلِّفِ، لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الِانْقِطَاعِ، لَكِنْ يُقَوِّيهِ أَنَّهُ وَرَدَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا:" «قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ السِّتَّةُ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ مَعَ لَا مَنْجَا مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» ".
2320 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ دَوَاءٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً أَيْسَرُهَا الْهَمُّ» ".
ــ
2320 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ دَوَاءٌ) أَيْ: مَعْنَوِيٌّ تَأْثِيرُهُ قَوِيٌّ (مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً) أَيْ: مِنَ الْأَدْوَاءِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (أَيْسَرُهَا) أَيْ: أَقَلُّهَا وَأَسْهَلُهَا (الْهَمُّ) أَيْ: جِنْسُ الْهَمِّ الْمُتَعَلِّقُ بِالدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، أَوْ هَمُّ الْمَعَاشِ وَغَمُّ الْمَعَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْهَمَّ مُوجِبٌ لِغَمِّ النَّفْسِ وَضِيقِ النَّفَسِ، وَسَبَبٌ لِضَعْفِ الْقُوَى وَاخْتِلَالِ الْأَعْضَاءِ، وَمِنْ ثَمَّ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ يُونُسَ عليه الصلاة والسلام بِمُعَافَاتِهِ مِنَ الْغَمِّ حَيْثُ قَالَ:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] .
2321 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَسْلَمَ عَبْدِي، وَاسْتَسْلَمَ» ". رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ.
ــ
2321 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ صِفَةُ كَلِمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةً أَيْ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ نَاشِئَةٌ كَائِنَةٌ مِنْ تَحْتِهِ، وَ (مِنْ) فِي:" مِنْ كَنَزِ الْجَنَّةِ " بَيَانِيَّةٌ، وَإِذَا جُعِلَ الْعَرْشُ سَقْفَ الْجَنَّةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ. اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنَ الْكُنُوزِ الْمَعْنَوِيَّةِ الْعَرْشِيَّةِ، وَذَخَائِرِ الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ الْعُلْوِيَّةِ، لَا مِنَ الْكُنُوزِ الْفَانِيَةِ الْحِسِّيَّةِ السُّفْلِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: كَلِمَةٌ أُنْزِلَتْ مِنَ الْكَنْزِ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ تَحْتَهُ كَنْزًا، وَأَنَّ أَوَاخِرَ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْكَنْزِ، وَهِيَ أَيْضًا مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ، فَـ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ حَدِيثُ مَكْحُولٍ. (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أَيْ: فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ فَضِيلَةِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ وَفَضْلِ قَائِلِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا قَالَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لِمَلَائِكَتِهِ مُعْلِمًا لَهُمْ بِكَمَالِ قَائِلِهَا الْمُتَحَلِّي بِمَعْنَاهَا: (أَسْلَمَ عَبْدِي) أَيِ: انْقَادَ وَتَرَكَ الْعِنَادَ، أَوْ أَخْلَصَ فِي الْعُبُودِيَّةِ بِالتَّسْلِيمِ لِأُمُورِ الرُّبُوبِيَّةِ، (وَاسْتَسْلَمَ) أَيِ: انْقَادَ انْقِيَادًا كَامِلًا، أَوْ بَالَغَ فِي الِانْقِيَادِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْعِبَادِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَوَّضَ أُمُورَ الْكَائِنَاتِ إِلَى اللَّهِ بِأَسْرِهَا وَانْقَادَ هُوَ بِنَفْسِهِ لِلَّهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: وَرَوَى الْأَوَّلَ مِنْهُمَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ.