المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب صيام التطوع] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٤

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ تَحِلُّ لَهُ]

- ‌[بَابُ الْإِنْفَاقِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِمْسَاكِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ]

- ‌[باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم]

- ‌[بَابُ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[باب في توابع لصوم التطوع]

- ‌[بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ]

- ‌[كِتَابُ الدَّعَوَاتِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ]

- ‌[كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ]

- ‌[بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمَنَامِ]

- ‌[بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ]

الفصل: ‌[باب صيام التطوع]

صَامَ عَنْهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا كُلُّ وَاحِدٍ يَوْمًا جَازَ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ لِلصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُصَلِّي عَنْهُ اهـ. فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالِاتِّفَاقِ اتِّفَاقَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الصَّوْمِ (رَوَاهُ) أَيْ: مَالِكٌ (فِي الْمُوَطَّأِ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يَرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: " لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتَ تَقْضِيهِ عَنْهَا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» قُلْنَا: الِاتِّفَاقُ عَلَى صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الصَّلَاةِ الدَّيْنُ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَفَتْوَى الرَّاوِي عَلَى خِلَافِ مَرْوِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ، وَنَسْخُ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ الْمَنَاطِ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ بَلَاغًا فِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنَ التَّابِعَيْنِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَمَرَ أَحَدًا يَصُومُ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ اهـ. وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ النَّسْخَ وَأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، آخِرًا اهـ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" «إِنَّ مِنَ الْبِرِّ بَعْدَ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِكَ وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صَوْمِكَ» " مَعَ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُعْضَلٌ مُرْسَلٌ، قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَدْعُو لَهُمَا، قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ مِنْ مُتَأَخِّرِيِ الشَّافِعِيَّةِ: وَيَصِلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ كُلِّ عِبَادَةٍ فُعِلَتْ عَنْهُ وَاجِبَةً أَوْ مَنْدُوبَةً، وَكَتَبَ أَصْحَابُنَا الْحَنَفِيَّةُ خَاصَّةً عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ غَيْرَهَا، بَلْ عِبَارَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.

ص: 1409

[بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2036 -

«عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا ربَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ

أَيْ: فِعْلُهُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَنْ طَوْعٍ وَرَغْبَةٍ لَا عَنْ تَكْلِيفٍ مُرَتَّبٍ عَلَى رَهْبَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2036 -

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: أَحْيَانًا (يَصُومُ) أَيِ: النَّفْلَ مُتَتَابِعًا (حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ) أَيْ: أَبَدًا، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرِّوَايَةُ فِي نَقُولُ بِالنُّونِ وَقَدْ وُجِدَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ أَيْ: مَعْنَاهَا تَقُولُ أَنْتَ أَيُّهَا السَّامِعُ لَوْ أَبْصَرْتَهُ، (وَالرِّوَايَةَ) أَيْضًا بِنَصْبِ اللَّامِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي كَلَامِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ الْمُسْتَقْبَلَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَيَجُوزُ بِيَاءِ الْغَائِبِ أَيْضًا أَيْ: يَقُولُ الْقَائِلُ اهـ. وَفِيهِ تَفْكِيكُ الضَّمِيرِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَجْوِيزِهِ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ جَوَازِهِ سِيَّمَا فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْكَلَامِ (وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ» ) هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءٍ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ (إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ) ثَانِي مَفْعُولٍ رَأَيْتُ وَالضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) لَهُ صلى الله عليه وسلم (صِيَامًا) تَمْيِيزٌ (فِي شَعْبَانَ) مُتَعَلِّقٌ بِصَامَ، وَالْمَعْنَى: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ فِي شَعْبَانَ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ سِوَى رَمَضَانَ، وَكَانَ صِيَامُهُ فِي شَعْبَانَ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ فِيمَا سِوَاهُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ فِي شَهْرٍ يَعْنِي بِهِ غَيْرَ شَعْبَانَ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الْمُسْتَكِنَّ فِي أَكْثَرِ، وَفِي شَعْبَانَ حَالٌ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي مِنْهُ الْعَائِدِ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: مَا رَأَيْتُهُ كَائِنًا فِي غَيْرِ شَعْبَانَ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ كَائِنًا فِي شَعْبَانَ، مِثْلُ زَيْدٌ قَائِمًا أَحْسَنُ مِنْهُ قَاعِدًا، أَوْ كِلَاهُمَا ظَرْفٌ، الْأَكْثَرُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ، وَالثَّانِي بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمَعْنَى، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ تَفْضِيلُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ) قِيلَ: أَيْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ (كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ (يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا) قَالَ النَّوَوِيُّ: الثَّانِي تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَبَيَانُ قَوْلِهَا كُلَّهُ أَيْ غَالِبَهُ اهـ. وَهُوَ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى " قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ " وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَصُومَهُ كُلَّهُ فِي سَنَةٍ وَأَكْثَرَهُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى فَالْمَعْنَى عَلَى الْعَطْفِ اهـ. وَهُوَ أَقْرَبُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَقِيلَ: كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ وَتَارَةً بَيْنَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَفَظُ (كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ لِإِفَادَةِ الشُّمُولِ وَرَفْعُ التَّجَوُّزِ مِنَ احْتِمَالِ الْبَعْضِ، فَتَفْسِيرُهُ بِالْبَعْضِ مُنَافٍ لَهُ، وَلَوْ جُعِلَ كَانَ الثَّانِي وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِئْنَافًا لِيَكُونَ بَيَانًا لِلْحَالَتَيْنِ حَالَةِ الْإِتْمَامِ وَحَالَةِ غَيْرِهِ، لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَعْذَبَ، فَلَوْ عَكَفَ بِالْوَاوِ لَمْ يَحْمِلْ هَذَا التَّأْوِيلَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1409

2037 -

( «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ؟ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلَّا رَمَضَانَ وَلَا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2037 -

( «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا كُلَّهُ؟ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُهُ صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلَّا رَمَضَانَ وَلَا أَفْطَرَهُ» ) أَيْ: شَهْرًا (كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ لَهُ (حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ) أَيْ: بَعْضَهُ (حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ) كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ، وَاللَّامُ فِي لِسَبِيلِهِ مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ لَقِيتُهُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ تُرِيدُ مُسْتَقْبَلًا لِثَلَاثٍ، أَيْ: كَانَ حَالُهُ مَا ذُكِرَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ لِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، فَلَمَّا أَدَّاهَا مَضَى إِلَى مَأْوَاهُ وَمُسْتَقَرِّهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حَتَّى الْأُولَى بِمَعْنَى كَيْ، كَقَوْلِكَ سِرْتُ حَتَّى أَدْخُلَ الْبَلَدَ بِالنَّصْبِ، إِذَا كَانَ دُخُولُكَ مُتَرَقِّبًا لِمَا يُوجَدُ كَأَنَّكَ قُلْتَ سِرْتُ كَيْ أَدْخُلَهَا، وَكَانَ مُنْقَضِيًا إِلَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ فِي وَقْتِ وُجُودِ السَّيْرِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ كَانَ مُتَرَقِّبًا، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ حَتَّى الْأُولَى غَايَةُ عَدَمِ الصَّوْمِ بِاسْتِمْرَارِ الْإِفْطَارِ اسْتَعْقَبَ لِلصَّوْمِ، وَالثَّانِيَةَ غَايَةٌ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْحَالَتَيْنِ مِنَ الصِّيَامِ وَالْإِفْطَارِ، وَالِاسْتِمْرَارُ هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ النَّفْيِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمَاضِي، وَالْحَدِيثُ وَارِدٌ عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ عَزَمَ أَلَّا يَصُومَ الشَّهْرَ كُلَّهُ كَانَ مُتَرَقِّبًا أَنْ يَصُومَ بَعْضَهُ، وَحَتَّى الثَّانِيَةُ غَايَةٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْجُمَلِ كُلِّهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1410

2038 -

«وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سَأَلَهُ أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَعِمْرَانَ يَسْمَعُ فَقَالَ: " يَا أَبَا فُلَانٍ أَمَا صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2038 -

(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيُّ (سَأَلَهُ) أَيْ: عِمْرَانَ (أَوْ سَأَلَ رَجُلًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَعِمْرَانُ يَسْمَعُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " يَا أَبَا فُلَانٍ أَمَا صُمْتَ " الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَمَا نَافِيَةٌ " مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ " بِفَتْحِ السِّينِ وَيُكْسَرُ وَكَذَا السِّرَارِ عَلَى مَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، قَالَ شَاعِرُهُمْ:

شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعُرْنَا

لِأَنْصَافٍ لَهُنَّ وَلَا سِرَارِ

أَيْ: آخِرُهُ، فِي الْقَامُوسِ السَّرَارُ كَسَحَابٍ مِنَ الشَّهْرِ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْهُ، كَسَرَرِهِ وَسِرَرِهِ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ آخِرُ لَيْلَةٍ لِسَتْرِ الْهِلَالِ بِنُورِ الشَّمْسِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ: الصَّحِيحُ أَنَّ سَرَرَهُ: آخِرُهُ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْيَوْمَ أَوِ الْيَوْمَيْنِ الَّذِي يُسْتَرُ الْقَمَرُ، وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: إِنَّهُ الْأَشْهُرُ، وَقِيلَ: رُوِيَ: صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ، فَقِيلَ: أَوَّلُهُ، وَقِيلَ: مُسْتَهَلُّهُ، وَقِيلَ: وَسَطُهُ، وَسِرُّ كُلِّ شَيْءٍ جَوْفُهُ، قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَقَالَ رُوِيَ هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَّةِ هَذَا الشَّهْرِ؟ كَأَنَّهُ أَرَادَ وَسَطَهُ لِأَنَّ السُّرَّةَ وَسَطُ قَامَةِ الْإِنْسَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّرَرُ لَيْلَتَانِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، سُمِّيَ الْيَوْمَانِ الْأَخِيرَانِ مِنَ الشَّهْرِ سَرَرًا وَسِرَارًا لِاسْتِتَارِ الْقَمَرِ فِي لَيْلَتِهِمَا (قَالَ: لَا، قَالَ:" فَإِذَا أَفْطَرْتَ ") أَيِ: الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ شَعْبَانَ، وَقِيلَ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ رَمَضَانَ " فَصُمْ يَوْمَيْنِ " لِقَضَائِهِمَا أَوْ بَدَلًا عَنْهُمَا وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَةَ التَّعْقِيبِ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ وُجُوبٌ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْبُعْدِيَّةِ، قَالُوا: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ يَوْمَيْنِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ بِنَذْرٍ، فَلَمَّا فَاتَهُ قَالَ لَهُ:" «إِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ» "، وَقِيلَ: لَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ عَادَةً لَهُ فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ صِيَامَهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ قَبْلَ رَمَضَانَ، فَلَمَّا فَاتَهُ اسْتَحَبَّ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْضِيَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى وُجُوبِ يَوْمِ الشَّكِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لِرَجُلٍ: " «هَلْ صُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ " قَالَ: لَا، قَالَ:" فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ» " وَفِي لَفْظٍ فَصُمْ يَوْمًا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَإِنَّهُ صَوْمُ دَاوُدَ» "، وَسِرَارُ الشَّهْرِ آخِرُهُ لِاسْتِتَارِ الْقَمَرِ فِيهِ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ السِّرَارَ قَدْ يُقَالُ عَلَى الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ مِنْ لَيَالِي الشَّهْرِ، لَكِنْ دَلَّ قَوْلُهُ (صُمْ يَوْمًا) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ صَوْمُ آخِرِهَا لَا كُلِّهَا، وَإِلَّا قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَكَانَهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ (مِنْ سَرَرِ الشَّهْرِ) لِإِفَادَةِ التَّبْعِيضِ، وَعِنْدَنَا هَذَا يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ صَوْمِهِ لَا وُجُوبَهُ لِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَهْيِ التَّقَدُّمِ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ التَّقَدُّمَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَيَصِيرُ حَدِيثُ السَّرَرِ لِلِاسْتِحْبَابِ اهـ. يَعْنِي لِلْخَوَاصِّ مَخْفِيًّا عَنِ الْعَوَامِّ.

ص: 1410

2039 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2039 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ» ) أَيْ صِيَامُهُ وَالْإِضَافَةُ لِلتَّعْظِيمِ " الْمُحَرَّمُ " بِالرَّفْعِ صِفَةُ الْمُضَافِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ بِصِيَامِ شَهْرِ اللَّهِ صِيَامَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ اهـ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَفْضَلِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ يَوْمِ عَاشُورَاءَ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، وَفِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ: صُمْ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَاتْرُكْ صُمِ الْمُحَرَّمَ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَاتْرُكْ، وَأَمَّا حَدِيثُ صَوْمِ رَجَبٍ فَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ أَئِمَّتُنَا: أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ لِصَوْمِ التَّطَوُّعِ الْمُحَرَّمُ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْحُرُمِ: رَجَبٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَذِي الْقِعْدَةِ " وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ " أَيْ تَوَابِعِهَا مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْفَرِيضَةِ الْوِتْرُ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ وَاجِبٌ عِلْمِيٌّ " صَلَاةُ اللَّيْلِ " أَوْ يُقَالُ صَلَاةُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنَ الرَّوَاتِبِ مِنْ حَيْثِيَّةِ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ وَالْبُعْدِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَوْلِ بِاسْتِمْرَارِ الْوُجُوبِ لَدَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فَرِيضَةً ثُمَّ صَارَ سُنَّةً بِالنَّسْخِ، وَقِيلَ: هَذِهِ السُّنَّةُ أَفْضَلُ السُّنَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْحَدِيثُ حُجَّةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْفَرَائِضَ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: الرَّوَاتِبُ أَصْلٌ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى وَأَوْفَقُ لِنَصِّ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَمْرِي إِنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ سِوَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] وَقَوْلِهِ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] إِلَى قَوْلِهِ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ لَكَفَاهُ مَزِيَّةً اهـ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْوِتْرُ فَلَا إِشْكَالَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1411

2040 -

«- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرُ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2040 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى) التَّحَرِّي طَلْبُ الْأَحْرَى وَالْأَوْلَى، وَقِيلَ: التَّحَرِّي طَلْبُ الصَّوَابِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي طَلَبِ شَيْءٍ (صِيَامَ يَوْمٍ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ مَا رَأَيْتُهُ يُبَالِغُ فِي الطَّلَبِ وَيَجْتَهِدُ فِي صِيَامِ يَوْمٍ (فَضَّلَهُ) بِتَشْدِيدِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ) أَيْ صِيَامَهُ (يَوْمَ عَاشُورَاءَ) بَدَلٌ أَوْ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، قِيلَ: لَيْسَ فَاعُولَاءُ بِالْمَدِّ فِي كَلَامِهِمْ غَيْرَهُ وَقَدْ يَلْحَقُ بِهِ تَاسُوعَاءُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أُخِذَ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ إِظْمَاءُ الْإِبِلِ وَلِهَذَا زَعَمُوا أَنَّهُ يَوْمُ التَّاسِعِ، وَالْعَشْرُ مِمَّا بَيْنَ الْوِرْدَيْنِ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ التَّاسِعُ لِأَنَّهَا إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ ثُمَّ لَمْ تَرِدْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فَوَرَدَتِ التَّاسِعَ فَذَلِكَ الْعَشْرُ، وَوَرَدَتْ تِسْعًا إِذَا وَرَدَتِ الْيَوْمَ الثَّامِنَ، وَفُلَانٌ يُحَمُّ رَبْعًا إِذَا حُمَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، وَعَاشُورَاءُ مِنْ بَابِ صِفَةٍ لَمْ يَرِدْ لَهَا فِعْلٌ، وَالتَّقْدِيرُ يَوْمٌ مُدَّتُهُ عَاشُورَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ اهـ أَيْ عَاشِرٌ وَأَيُّ عَاشِرٍ (وَهَذَا الشَّهْرَ) بِالنَّصْبِ أَيْ أَيَّامَهُ عَطْفٌ عَلَى هَذَا الْيَوْمِ (يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرَقِّي أَوْ تَقْدِيمِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ أَوْ لِتَقْدِيمِهِ فِي أَصْلِ وُجُوبِ الصَّوْمِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ أَوَّلِ السَّنَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ " فَضَّلَهُ " فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ (فَضْلُهُ) بِسُكُونِ الضَّادِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ شَرْحِ السُّنَّةِ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صَوْمَ يَوْمٍ يُبْتَغَى فَضْلُهُ إِلَّا صِيَامَ رَمَضَانَ، وَهَذَا الْيَوْمُ عَاشُورَاءُ، فَقِيلَ: فَضْلُهُ بَدَلٌ مِنْ صِيَامٍ أَيْ يَتَحَرَّى فَضْلَ صِيَامِ يَوْمٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ لَيْسَ نِيَّةَ الطَّرْحِ دَائِمًا، قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذَا الْمُبْدَلُ مِنْهُ هُنَا لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمُتَنَحِّي لِاسْتِدْعَاءِ الضَّمِيرِ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ نَحْوُ قَوْلِكَ: زَيْدًا رَأَيْتُ غُلَامَهُ صَالِحًا أَيْ مَا رَأَيْتَهُ يُبَالِغُ فِي تَفْضِيلِ يَوْمٍ عَلَى يَوْمٍ إِلَّا عَاشُورَاءَ وَرَمَضَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَا لَمْ يُظَنَّ إِلْحَاقُهُ بِالْوَاجِبِ اهـ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْأَصَحُّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَصْلًا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ، إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ، فَمَدْفُوعٌ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَاشُورَاءُ» ، وَكَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» "، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إِيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ،

ص: 1411

إِذَا لَا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بِإِمْسَاكٍ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ إِلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ، وَفِيهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ أَنَّ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَوَّلًا إِنَّمَا كَانَ وُقُوعُهُ آخِرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعَاشُورَاءُ كَانَتْ فَرِيضَةً ثُمَّ نُسِخَتْ بِرَمَضَانَ، يَعْنِي وَلَا شَكَّ أَنَّ سُنَّةً كَانَتْ فَرِيضَةً أَفْضَلُ مِنْ سُنَّةٍ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ فَضَّلَهُ بِتَشْدِيدِ الضَّادِ فَقِيلَ: بَدَلٌ مِنْ يَتَحَرَّى، وَالْحَمْلُ عَلَى الصِّفَةِ أَوْلَى لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مُسْتَثْنًى، وَلَا بُدَّ مِنْ مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَلَيْسَ هَا هُنَا إِلَّا قَوْلُهُ (يَوْمٍ) ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْعُمُومِ، وَالْمَعْنَى: مَا رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى فِي صِيَامِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ صِفَتُهُ أَنَّهُ مُفَضَّلٌ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا صِيَامَ هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى فِي تَفْضِيلِ صِيَامِهِ مَا لَمْ يَتَحَرَّ فِي تَفْضِيلِ غَيْرِهِ، وَهَذَا الشَّهْرُ عَطْفٌ عَلَى هَذَا الْيَوْمِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ، إِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصِيَامُ شَهْرٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مِنَ اللَّفِّ التَّقْدِيرِيِّ وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الشَّهْرِ أَيَّامُهُ يَوْمًا فَيَوْمًا مَوْصُوفًا هَذَا الْوَصْفَ اهـ قِيلَ: لَعَلَّ هَذَا عَلَى فَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِلَّا فَيَوْمُ عَرَفَةَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَدُفِعَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي فَضْلِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ لَا فِي فَضْلِ الْيَوْمِ مُطْلَقًا مَعَ أَنَّ الْيَوْمَ أَيْضًا مُخْتَلَفٌ فِيهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1412

2041 -

وَعَنْهُ «قَالَ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2041 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ) رَوَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ رَأَى الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ نُعَظِّمُهُ أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى» " أَيْ بِمُوَافَقَتِهِ فَصَامَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الْيَوْمَ (وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) أَيْ أَجَابَهُ أَوَّلًا بِالْوُجُوبِ ثُمَّ بَعُدَ النَّسْخُ بِالنَّدْبِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الْعَاشِرَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ (قَالُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ) أَيْ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَتَقْدِيرُ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا مَوْضِعٌ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ (يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) أَيْ وَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ فَكَيْفَ نُوَافِقُهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ بَقِيتُ) أَيْ فِي الدُّنْيَا أَوْ لَئِنْ عِشْتُ " إِلَى قَابِلٍ " أَيْ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ وَهُوَ السَّنَةُ الْآتِيَةُ " لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ " أَيْ فَقَطْ، أَوْ مَعَ الْعَاشِرِ فَيَكُونُ مُخَالَفَةً فِي الْجُمْلَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَمَعَ هَذَا مَا كَانَ تَارِكًا لِتَعْظِيمِ الْيَوْمِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ نُصْرَةُ الدِّينِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ شُكْرًا، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الشُّكْرِ سِيَّمَا عَلَى وَجْهِ الْمُشَارَفَةِ عَلَى مِثْلِ زَمَانِ وُقُوعِ النِّعْمَةِ فِيهِ، بَلْ صَوْمُ الْعَاشِرِ أَيْضًا فِيهِ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِذِ الْفَتْحُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَالصَّوْمُ مَا يَصِحُّ إِلَّا مِنْ أَوَّلِهِ، وَلَوْ أَرَادَ صلى الله عليه وسلم مُخَالَفَتَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ لَتَرَكَ الصَّوْمَ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمْ يَعِشْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْقَابِلِ بَلْ تُوُفِّيَ فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ فَصَارَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنَ الْمُحَرَّمِ صَوْمَ سُنَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَصُمْهُ لِأَنَّهُ عَزَمَ عَلَى صَوْمِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قِيلَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ فَيَكُونُ هَدْيُهُ مُخَالِفًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ الْجَوَابِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَوْمٌ يُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ صَوْمُ التَّاسِعِ فَقَطْ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُسْتَحَبُّ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا، فَإِنْ أَفْرَدَهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلتَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ اهـ وَرَوَى أَحْمَدُ خَبَرَ صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعْدَهُ يَوْمًا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تَحْصُلُ بِأَحَدِهِمَا، وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1412

2042 -

«وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا تَمَارَوْا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ فَشَرِبَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2042 -

(وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ) وَهِيَ امْرَأَةُ الْعَبَّاسِ (بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا) أَيْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ (تَمَارَوْا) أَنْ شَكُّوا وَتَبَاحَثُوا وَاخْتَلَفُوا (عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ) أَيْ بِعَرَفَاتٍ (فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ ذَلِكَ الْيَوْمِ (فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ) بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِ أَوْ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ) عَلَى طَرِيقِ الْمَنْعِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ أَوِ اسْتِدْلَالًا بِالْوَقْتِ الَّذِي صِيَامُهُ يَقْتَضِي الضَّعْفَ الْمَانِعَ عَنْ قُوَّةِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَلِمَا يُوجِبُ مُتَابَعَتَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحَرَجِ الْعَامِّ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِذَلِكَ الْعَامِّ (فَأَرْسَلْتُ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ) لِعِلْمِهِ بِمَحَبَّتِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ حَيْثُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلِذَا كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا قَالَ:" «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَأَطْعِمْنِي خَيْرًا مِنْهُ» "، وَإِذَا كَانَ لَبَنًا قَالَ: " «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ،

ص: 1412

وَزِدْنِي مِنْهُ» "، أَوْ لِمُنَاسَبَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ (وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِعَرَفَةَ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ وَقْتَ الدُّعَاءِ (فَشَرِبَهُ) أَيْ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى إِعْلَاءً لِإِظْهَارِ الْحُكْمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى رَحْمَتِهِ لِلْعَالَمِينَ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَحَبَّ الْأَكْثَرُ إِفْطَارَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، أَمَّا الْحَاجُّ فَلَيْسَ سُنَّةً لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَ، كَيْلَا يَضْعُفَ عَنِ الدُّعَاءِ بِعَرَفَةَ، وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيِهِ: سُنَّةٌ لَهُ أَيْضًا، وَقَالَ أَحْمَدُ: سُنَّةٌ لَهُ إِنْ لَمْ يَضْعُفْ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ مُسْتَحَبٌّ، وَلِلْحَاجِّ إِنْ كَانَ يُضْعِفُهُ عَنِ الْوُقُوفِ وَالدَّعَوَاتِ فَالْمُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لِأَنَّهُ لِإِخْلَالِهِ بِالْأَهَمِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُسِيءَ خُلُقَهُ فَيُوقِعُهُ فِي مَحْظُورٍ، وَكَذَا صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهُ يُعْجِزُهُ عَنْ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: صَوْمُهُ لِلْحَاجِّ خِلَافُ الْأَوْلَى، بَلْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي نُكَتِهِ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَيْ لِلنَّهْيِ عَنْهُ وَمَا قِيلَ إِنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولًا يَرُدُّهُ أَنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ صَحَّحَهُ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1413

2043 -

«وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2043 -

( «وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ» ) أَيِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (قَطُّ) قِيلَ: دَلَّ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، عَلَى أَنَّ صَوْمَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ سُنَّةٌ فَكَيْفَ لَا يَصُومُ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ: مَا رَأَيْتُ. . إِلَخْ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا سُنَّةً إِذَا جَازَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ وَلَا تَعْلَمُ هِيَ، وَإِذَا تَعَارَضَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ فَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِثْبَاتَ أَوْلَى عَلَى فَرْضِ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِهِ فَلَا مَعَ بُعْدِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَيَّامِ أَوْقَاتُ نَوْبَتِهَا وَقَوْلُهَا قَطُّ يَنْفِي الْقَوْلَ بِحَمْلِ الرُّؤْيَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَأَيْضًا عَدَمُ صِيَامِهِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا سُنَّةً لِأَنَّهَا كَمَا تَثْبُتُ بِالْفِعْلِ تَثْبُتُ بِالْقَوْلِ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَغَّبَ فِي صِيَامِهَا بِمَا ذَكَرَ مِنَ الثَّوَابِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِيهَا مَا يَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْفِطْرِ عَلَى الصَّوْمِ، وَلِذَا مَا كَادَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، مَعَ أَنَّهُ قَالَ:" «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ صلى الله عليه وسلم» - " وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْضُ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ تِسْعَ الْحِجَّةِ» فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهَا أَحْيَانًا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ: سَيِّدُ الشُّهُورِ رَمَضَانُ، وَأَعْظَمُهَا حُرْمَةً ذُو الْحِجَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ ذَا الْحِجَّةِ أَفْضَلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ رَجَبٌ أَوِ الْمُحَرَّمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1413

2044 -

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ غَضَبَهُ قَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ، فَجَعَلَ عُمَرُ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَالَ: " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ " أَوْ قَالَ: " لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ " قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: " وَيُطِيقُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟ " قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: " ذَلِكَ صَوْمُ دَاوُدَ " قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: " وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ " ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2044 -

(وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَيْفَ تَصُومُ؟) أَيْ أَنْتَ (فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ ظَهَرَ أَثَرُ الْغَضَبِ عَلَى وَجْهِهِ (مِنْ قَوْلِهِ) أَيْ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ وَسُوءِ سُؤَالِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: سَبَبُ غَضَبِهِ كَرَاهَةُ مَسْأَلَتِهِ، لِأَنَّهُ خَشِيَ مِنْ جَوَابِهِ مَفْسَدَةً، وَهِيَ أَنَّهُ رُبَّمَا يَعْتَقِدُ السَّائِلُ وُجُوبَهُ، أَوْ يَسْتَقِلَّهُ، أَوْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا لَمْ يُبَالِغْ فِي الصَّوْمِ لِأَنَّهُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُقُوقِ أَزْوَاجِهِ وَأَضْيَافِهِ، وَلِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فَيَتَضَرَّرُ بَعْضُهُمْ، وَكَانَ حَقُّ السَّائِلِ أَنْ يَقُولَ كَيْفَ أَصُومُ، أَوْ كَمْ أَصُومُ، فَيَخُصُّ السُّؤَالَ بِنَفْسِهِ لِيُجَابَ بِمُقْتَضَى حَالِهِ، كَمَا أَجَابَ غَيْرَهُ بِمُقْتَضَى أَحْوَالِهِمْ اهـ وَأَيْضًا كَانَ صَوْمُهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، بَلْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَتَارَةً يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَتَارَةً يُقِلُّهُ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ الْمَقَالِ فَيَتَعَذَّرُ جَوَابُ السُّؤَالِ، وَلِذَا وَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَتَقَالُّوهَا فَبَلَغَهُ فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ:" «أَنَا أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْوَفُكُمْ مِنْهُ» "، يَعْنِي وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَثْرَةُ الْعِبَادَةِ بَلْ حُسْنُهَا، وَمُرَاعَاةُ شَرَائِعِهَا وَحَقَائِقِهَا وَدَقَائِقِهَا وَتَقْسِيمِهَا فِي أَوْقَاتِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا (فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ غَضَبَهُ) أَيْ عَلَى السَّائِلِ وَخَافَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَمِنَ السَّرَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ عَامَّةً لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] (قَالَ) اعْتِذَارًا مِنْهُ وَاسْتِرْضَاءً مِنْهُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] أَيْ حَتَّى يَأْتِيَ بِكَلَامٍ سَدِيدٍ (رَضِينَا بِاللَّهِ) أَيْ بِقَضَائِهِ (رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ) أَيْ بِأَحْكَامِهِ (دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ) أَيْ بِمُتَابَعَتِهِ (نَبِيًّا) وَالْمَنْصُوبَاتُ تَمْيِيزَاتٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَالَاتٍ

ص: 1413

مُؤَكِّدَاتٍ (نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ) وَذِكْرُ غَضَبِ اللَّهِ تَزْيِينٌ لِلْكَلَامِ وَتَعْيِينٌ بِأَنَّ غَضَبَهُ - تَعَالَى - يُوَافِقُ غَضَبَهُ عليه الصلاة والسلام (فَجَعَلَ عُمَرُ يُرَدِّدُ) أَيْ يُكَرِّرُ (هَذَا الْكَلَامَ) وَهُوَ رَضِينَا إِلَخْ (حَتَّى سَكَنَ غَضَبُهُ) عليه الصلاة والسلام (فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ مَنْ) أَيْ حَالُ مَنْ (يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟) أَيْ هَلْ هُوَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ، انْظُرْ حُسْنَ الْأَدَبِ حَيْثُ بَدَأَهُ بِالتَّعْظِيمِ، ثُمَّ سَأَلَ السُّؤَالَ عَلَى وَجْهِ التَّعْمِيمِ، وَلِذَا قِيلَ: حُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ (قَالَ: " لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ ") أَيْ لَا صَامَ صَوْمًا فِيهِ كَمَالُ الْفَضِيلَةِ وَلَا أَفْطَرَ فِطْرًا يَمْنَعُ جُوعَهُ وَعَطَشَهُ (أَوْ قَالَ: لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ) فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا، قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي هَذَا الشَّخْصُ كَأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا وَلَمْ يَصُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، اهـ وَهَذَا كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ " «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ» " وَأَمَّا خَبَرُ:" «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا» " وَعَقَدَ تِسْعِينَ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجَعَلَهُ الْعُمْدَةُ فِي نَفْيِ الْكَرَاهَةِ الَّتِي قَالَ بِهَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ دَلِيلٌ لَهَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ إِذْ مَعْنَى ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ أَيْ عَنْهُ فَلَا يَدْخُلُهَا أَوْ لَا يَكُونُ فِيهَا مَوْضِعٌ. وَقِيلَ: إِخْبَارٌ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَادَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ رِيَاضَةً وَلَا كُلْفَةً يَتَعَلَّقُ بِهَا مَزِيدُ ثَوَابٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ، وَحَيْثُ لَمْ يَنَلْ رَاحَةَ الْمُفْطِرِينَ وَلَذَّتَهُمْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ، قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ أَدْخَلَ الْمَنْهِيَّ فِي الصَّوْمِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُدْخِلْهَا فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِي صَوْمِ مَا عَدَاهَا، لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ وَحَمْزَةَ بْنَ عُمَرَ الْأَسْلَمِيَّ كَانَا يَصُومَانِ الدَّهْرَ سِوَى هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ عِلَّةُ النَّهْيِ أَنْ يُكْرَهَ صَوْمُ الدَّهْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْمَ يَجْعَلُهُ ضَعِيفًا فَيَعْجِزَ عَنِ الْجِهَادِ وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ، فَمَنْ لَمْ يَضْعُفْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ لِأَنَّهُ يُضْعِفُهُ أَوْ يَصِيرُ طَبْعًا لَهُ وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ (قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟) بِأَنْ يَجْعَلَ الْعِبَادَةَ غَالِبَةً عَلَى الْعَادَةِ " قَالَ: وَيُطِيقُ " بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ أَتَقُولُ ذَلِكَ وَيُطِيقُ " ذَلِكَ أَحَدٌ " فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي نَهْيِ صَوْمِ الدَّهْرِ هُوَ الضَّعْفُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِنْ أَطَاقَهُ أَحَدٌ فَلَا بَأْسَ فَهُوَ أَفْضَلُ (قَالَ) أَيْ عُمَرُ (كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: " ذَلِكَ صَوْمُ دَاوُدَ ") يَعْنِي وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنِ الِاعْتِدَالِ، وَمُرَاعَاةٍ لِجَانِبَيِ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ بِأَحْسَنِ الْأَحْوَالِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: اجْتَهِدْ فِي الْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُكَ عَنِ الْعَمَلِ، وَاجْتَهِدْ فِي الْعَمَلِ بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُكَ عَنِ الْعِلْمِ، فَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَشَرُّهَا تَفْرِيطُهَا وَإِفْرَاطُهَا، وَكَذَا وَرَدَ: أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟) إِبْقَاءٌ لِلْبَدَنِ عَنِ الضَّعْفِ لِيَتَقَوَّى عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ (قَالَ: " وَدِدْتُ ") بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ أَحْبَبْتُ وَتَمَنَّيْتُ " أَنِّي " مَعَ كَمَالِ قُوَّتِي " طُوِّقْتُ " عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ جَعَلَنِي مُطِيقًا " ذَلِكَ " أَيِ الصِّيَامَ الْمَذْكُورَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ لَمْ تَشْغَلْنِي الْحُقُوقُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَصُومَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانَ يُوَاصِلُ، وَقَالَ: أَبَيْتُ. . . الْحَدِيثَ اهـ وَفِيهِ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الصِّيَامِ الْمَذْكُورِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْمُدَاوَمَةِ ذَلِكَ الْوِصَالُ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَفِيهِمَا أَيْضًا لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَيْ لَا أَفْضَلَ لَكَ لِأَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ بَعْدِ ذَلِكَ الْجَوَابِ عَلَى جِهَةِ التَّفْضِيلِ وَالتَّبَرُّعِ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ " ثَلَاثٌ " أَيْ صَوْمُ الْإِنْسَانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَذَفَ التَّاءَ مِنْهَا نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّهُ مُؤَنَّثٌ وَقِيلَ: بِحَذْفِ الْمَعْدُودِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حَذَفَ التَّاءَ اعْتِبَارًا بِاللَّيَالِي الْكَشَّافِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - " أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " قِيلَ: عَشْرٌ ذَهَابًا إِلَى اللَّيَالِي، وَالْأَيَّامُ دَاخِلَةٌ مَعَهَا، وَلَا تَرَاهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ التَّذْكِيرَ فِيهِ ذَاهِبِينَ إِلَى الْأَيَّامِ، يَقُولُ: صُمْتُ عَشْرًا وَلَوْ ذُكِرَتْ خَرَجَتْ مِنْ كَلَامِهِمُ اهـ وَنُوقِشَ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ مِنْ تَغْلِيبِ اللَّيَالِي ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا مَعْدُودَةٌ مِنَ الْعِدَّةِ، وَفِي صُمْتُ عَشْرًا نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ لَا اعْتِبَارَ لَهَا فِي الصَّوْمِ بِوَجْهٍ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُهُ، فَلَا وَجْهَ لَهُ فِيهَا، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّهُ لِمُلَابَسَةٍ بَيْنَهُمَا لَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيَالِي فِي طَرَفَيْ بِيَوْمِ

ص: 1414

" الصَّوْمِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ جَمَاعِيٌّ قُلْنَا الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ الشَّارِعِ، فَلَا دَخْلَ لِلُّغَةِ فِيهِ، أَقُولُ: مَعْرِفَةُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الشَّارِعِ لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ اللُّغَةِ حَيْثُ قَالَ: صُمْتُ عَشْرًا، أَنَّ إِيرَادَ اللَّيَالِي بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، فَتَأَمَّلْ " مِنْ كُلِّ شَهْرٍ " قِيلَ: هُوَ أَيَّامُ الْبِيضِ، وَقِيلَ: أَيْ ثَلَاثٌ يَجِدُ هَذَا الثَّوَابَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي " وَرَمَضَانُ " أَيْ وَصَوْمُ رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ مُنْتَهِيًا " إِلَى رَمَضَانَ " الْقِيَاسُ انْصِرَافُهُمَا لَكِنْ ضُبِطَ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ غَيْرَ مُنْصَرِفِينَ " فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ " أَيِ الْمَحْمُودُ " كُلِّهِ " أَيْ حُكْمًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، هَكَذَا قِيلَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكُلِّيَّةَ الْحُكْمِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ رَمَضَانَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ دُخُولِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ، الْمَعْنَى أَنَّ صِيَامَهُ كَصِيَامِهِ فِي الثَّوَابِ لَكِنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ عَلَى حَدِّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، قِيلَ: ثَلَاثٌ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ قَوْلُهُ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ، أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَدْخَلَ الْفَاءَ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَلِكَ أَنَّ (ثَلَاثٌ) مُبْتَدَأٌ، وَمِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِفَةٌ، أَيْ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَصُومُهَا الرَّجُلُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُسْتَحَبُّ صَوْمُ أَيَّامِ الْبِيضِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ، مَا لَمْ يَظُنَّ إِلْحَاقَهُ بِالْوَاجِبِ "«صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ» " أَيِ اللَّهُ أَوِ الصِّيَامُ " السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ " أَيْ ذُنُوبَهُمَا " وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ " قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْمُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ، قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفِّرُهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، أَوْ رَحْمَةُ اللَّهِ، قَلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمُكَفِّرٍ وَبِغَيْرِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالُوا: الْمُرَادُ بِالذُّنُوبِ الصَّغَائِرُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الصَّغَائِرُ يُرْجَى تَخْفِيفُ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُفِعَتِ الدَّرَجَاتُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: وَقِيلَ: تَكْفِيرُ السَّنَةِ الْآتِيَةِ أَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ الذُّنُوبِ فِيهَا، وَقِيلَ: أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ قَدْرًا يَكُونُ كَفَّارَةً لِلسَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقَابِلَةِ إِذَا جَاءَتْ وَاتَّفَقَتْ لَهُ ذُنُوبٌ " وَقِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ " فِي النِّهَايَةِ: الِاحْتِسَابُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هُوَ الْبِدَارُ إِلَى طَلَبِ الْأَجْرِ وَتَحْصِيلِهِ بِاسْتِعْمَالِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ فِيهَا طَلَبًا لِلثَّوَابِ الْمَرْجُوِّ فِيهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ أَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكَفِّرَ فَوَضَعَ مَوْضِعَهُ أَحْتَسِبُ وَعَدَّاهُ بِعَلَى الَّذِي لِلْوُجُوبِ عَلَى سَبِيلِ الْوَعْدِ مُبَالَغَةً لِحُصُولِ الثَّوَابِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1415

2045 -

وَعَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: " فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2045 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ) أَيْ يَوْمِهِ هُوَ بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ يَقْرَءُونَهُ بِقَطْعِ الْوَصْلِ، وَلَا يَعْرِفُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْوَصْلِ بَلْ وَلَا يَدْرِي كَيْفِيَّةَ الِابْتِدَاءِ مَعَ ادِّعَائِهِ الِانْتِمَاءَ إِلَى الِانْتِهَاءِ، ثُمَّ السُّؤَالُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ، أَنْ يَكُونَ مِنْ كَثْرَةِ صِيَامِهِ عليه السلام فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مُطْلَقِ الصِّيَامِ وَخُصُوصِ فَضْلِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ " فَقَالَ: فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ " أَيِ الْوَحْيُ " عَلَيَّ " يَعْنِي حَصَلَ لِي فِيهِ بَدْءُ الْكَمَالِ الصُّورِيِّ وَطُلُوعِ الصُّبْحِ الْمَعْنَوِيِّ، الْمَقْصُودُ الظَّاهِرِيُّ وَالْبَاطِنِيُّ، وَالتَّفَضُّلُ الِابْتِدَائِيُّ وَالِانْتِهَائِيُّ، فَوَقْتٌ يَكُونُ مَنْشَأً لِلنِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُوجَدَ فِيهِ الطَّاعَةُ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ فَيَجِبُ شُكْرُهُ - تَعَالَى - عَلَيَّ، وَالْقِيَامُ بِالصِّيَامِ لَدَيَّ، لِمَا أَوْلَى مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ إِلَيَّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اخْتِيَارًا لِلِاحْتِمَالِ الثَّانِي أَيْ فِيهِ وُجُودُ نَبِيِّكُمْ، وَفِيهِ نَزَلَ كِتَابُكُمْ، وَثُبُوتُ نُبُوَّتِهِ، فَأَيُّ يَوْمٍ أَوْلَى بِالصَّوْمِ مِنْهُ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْعِلَّةِ أَيْ سُئِلَ عَنْ فَضِيلَتِهِ لِأَنَّهُ لَا مَقَالَ فِي صِيَامِهِ، فَهُوَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ السُّؤَالَ عَنِ الْعِلَّةِ فَيُطَابِقُ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ نَفْسِ الصَّوْمِ فَالْمَعْنَى هَلْ فِيهِ فَضْلٌ، فَحِينَئِذٍ مَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فَصْلُ الْخِطَابِ لَا مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ فِي الْحَوَادِثِ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ قَدْ يَتَشَرَّفُ بِمَا يَقَعُ فِيهِ، وَكَذَا الْمَكَانُ، وَلِذَا قِيلَ: شَرَفُ الْمَكَانِ بِالْمَكِينِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1415

2046 -

«وَعَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2046 -

( «وَعَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ» ) أَيْ وَهَذَا أَقَلُّ مَا كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ (فَقُلْتُ لَهَا: مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ) احْتِرَازٌ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ (كَانَ يَصُومُ؟) أَيْ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ أَوْسَطِهَا أَوْ آخِرِهَا مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْفَصِلَةً (قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ يُبَالِي) أَيْ يَهْتَمُّ لِلتَّعْيِينِ (مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ) أَيْ كَانَ يَصُومُهَا بِحَسْبِ مَا يَقْتَضِي رَأْيُهُ الشَّرِيفُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1416

2047 -

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2047 -

(وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ) أَيْ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ حَدَّثَ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ حَدَّثَ الْحَدِيثَ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ، وَالْمُرَادُ بِالرَّاوِي عَنْهُ الْمَذْكُورُ فِي السَّنَدِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ: وَعَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ إِلَخْ " «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ» " بِهَمْزَةِ قَطْعٍ أَيْ جَعَلَ عَقِبَهُ فِي الصِّيَامِ " سِتًّا " أَيْ سِتَّةَ أَيَّامٍ وَالتَّذْكِيرُ لِتَأْنِيثِ الْمُمَيَّزِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ لَيَالِيهِ " مِنْ شَوَّالٍ " وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى التَّوَالِي وَالتَّفَرُّقِ " «كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» " قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ التَّشْبِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْحَثِّ عَلَى صِيَامِ السِّتِّ اهـ وَفِيهِ إِنَّمَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ لَوْ كَانَ السِّتُّ يَقُومُ بِانْفِرَادِهِ مَقَامَ بَقِيَّةِ السَّنَةِ، وَأَمَّا بِالِانْضِمَامِ إِلَى رَمَضَانَ فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّشْبِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُ صِيَامُ الدَّهْرِ حُكْمًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، كَمَا بَيَّنَهُ خَبَرُ النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ:" «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ» "، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ فَرْضًا عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مُعَلِّلًا بِقَوْلِهِ: وَإِلَّا فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ لِمَا مَرَّ مِنْ حُصُولِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَيْ نَفْلًا اهـ وَفِي تَعْلِيلِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ الشَّارِعِ عَلَى شَيْءٍ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِهِ إِذْ مُرَادُهُ بَيَانُهُ تَرْغِيبًا فِي شَأْنِهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي التَّشْبِيهِ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ، أَوِ الْأَغْلَبُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، فَلَوْ أُرِيدَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ حَقِيقَةً لَتَعَيَّنَ الْمُبَالَغَةُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْبَلَاغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي الْحَدِيثِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ الْمَحْمُودَ إِنَّمَا هُوَ إِذَا أَفْطَرَ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا وَإِلَّا فَمَذْمُومٌ حَرَامٌ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّ رَمَضَانَ مَحْسُوبٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ. قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي السُّنَّةِ: قَدِ اسْتَحَبَّ قَوْمٌ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَهَا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ مُتَتَابِعَةً أَيْ بَيْنَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ بَعْدَ يَوْمِ الْعِيدِ، وَلَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ إِذِ التَّتَابُعُ الْمَفْهُومُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رَمَضَانَ وَبَيْنَ السِّتِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ حَقِيقَةً لِنَهْيِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، فَأَمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَجَازِ الْمُشَارَفَةِ فَإِنَّهُ تَتَابَعٌ حُكْمًا مَعَ وُجُودِ الْفَصْلِ بِيَوْمٍ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْبَعْدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ عَنْ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا:" «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَأَنَّهُ صَامَ السَّنَةَ» "، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ فَرَّقَهَا جَازَ، وَحَكَى مَالِكٌ: الْكَرَاهَةَ فِي صِيَامِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَصُومُهَا، قَالُوا: يُكْرَهُ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهَا اهـ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صَوْمُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَرَاهَتُهُ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ لَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا، وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: الْأَفْضَلُ وَصْلُهَا بِيَوْمِ الْفِطْرِ، وَقِيلَ: بَلْ تَفْرِيقُهَا فِي الشَّهْرِ، وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ وَقَعَ الْفَصْلُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَلَمْ يَلْزِمِ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى اعْتِقَادِ لُزُومِهَا مِنَ الْعَوَامِّ لِكَثْرَةِ الْمُدَاوَمَةِ، وَلِذَا سَمِعْنَا مَنْ يَقُولُ: يَوْمُ الْفِطْرِ نَحْنُ إِلَى الْآنَ لَمْ يَأْتِ عِيدُنَا أَوْ نَحْوُهُ، فَأَمَّا عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّفْرِيقَ أَفْضَلُ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ بِهِ عَنِ التَّشْبِيهِ الْمَوْهُومِ وَاعْتِقَادِ اللُّزُومِ، وَيَلْتَئِمُ بِهِ كَلَامُ أَهْلِ الْعُلُومِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ ثَوَابَ صَوْمِ الدَّهْرِ يَحْصُلُ بِانْضِمَامِ سِتٍّ إِلَى رَمَضَانَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي شَوَّالٍ

ص: 1416

فَكَانَ وَجْهُ التَّخْصِيصِ الْمُبَادَرَةَ إِلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْأَمْرِ، وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى مَحْصُولِ هَذَا الْأَمْرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذكَرْنَاهُ حَدِيثُ ابْنِ مَاجَهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ هَذَا لَا يُشَكُّ فِي صِحَّتِهِ، وَيَلْتَفِتُ إِلَى كَوْنِ التِّرْمِذِيِّ جَعَلَهُ حَسَنًا، وَلَمْ يُصَحِّحْهُ، وَقَوْلُهُ فِي سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ رَاوِيهِ فَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيُّ طُرُقَهُ وَأَسْنَدَهُ عَنْ قَرِيبِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا رَوَوْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ أَكْثَرُهُمْ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ، وَتَابَعَ سَعْدًا فِي رِوَايَتِهِ أَخَوَاهُ عَبَدُ رَبِّهِ وَيَحْيَى وَصَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَثَوْبَانُ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - اهـ قَالَ مِيرَكُ: أَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: أَحَدُ طُرُقِهِ عِنْدَ الْبَزَّارِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، وَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَفْظُهُ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ:«مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ كَصِيَامِ السَّنَةِ» {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَأَمَّا لَفْظُ الْبَقِيَّةِ فَقَرِيبٌ مِنْهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا.

ص: 1417

2048 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2048 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ نَهْيَ تَحْرِيمٍ (عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ) وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ (وَالنَّحْرِ) أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ أَيْ أَيَّامَ النَّحْرِ، وَفِيهِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ صِيَامَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَيْضًا حَرَامٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ، وَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ نَحْرٌ فَقَطْ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ نَحْرٌ وَتَشْرِيقٌ، وَيَوْمٌ بَعْدَهُمَا تَشْرِيقٌ فَقَطْ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَالَّذِي يَتْلُوهُ مَرْوِيٌّ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ اهـ وَسَبَبُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْمَرْوِيَّيْنِ وَاحِدٌ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنْ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ السَّمَاعِ، قَالَ: وَلَعَلَّ الْعُدُولَ عَنْ قَوْلِهِ نَهَى عَنْ صَوْمِ الْعِيدَيْنِ إِلَى ذِكْرِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ هِيَ الْوَصْفُ بِكَوْنِهِ يَوْمَ فِطْرٍ وَيَوْمَ نَحْرٍ وَالصَّوْمُ يُنَافِيهِمَا اهـ وَفِيهِ أَنَّ الْعِيدَ أَيْضًا لَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يُفِيدَ ; فَإِنَّ الصَّوْمَ فِيهِ كَأَنَّهُ إِعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِخَلْقِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا مُحَافَظَةٌ عَلَى انْتِهَاءِ رَمَضَانَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَوْمَ الْعِيدِ لَا يَجُوزُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَتِهِ لِغَيْرِهِ اهـ وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ الْمُتَمَتِّعِ عِنْدَنَا إِلَّا قَبْلَ الْعِيدِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا الْمُتَمَتِّعُ الْمَذْكُورُ فَمُعْتَمَدُ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ كَذَلِكَ، فَيَحْرُمُ صَوْمُهُ وَلَا يَصِحُّ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ إِنَّهُ يَصِحُّ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ اهـ وَفِيهِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ لَكَانَ مَذْهَبَهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْمَشْهُورِ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْعَقِدُ وَعَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ آخَرَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1417

2049 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2049 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا صَوْمَ " أَيْ جَائِزٌ " فِي يَوْمَيْنِ ") أَيْ وَقْتَيْنِ أَوْ نَوْعَيْنِ مِنَ الْأَيَّامِ أَوْ عِيدَيْنِ " الْفِطْرِ " بَدَلٌ وَهُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ " وَالْأَضْحَى " وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1417

2050 -

وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2050 -

(وَعَنْ نُبَيْشَةَ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ فَشِينٌ مُعْجَمَةٌ فَهَاءٌ (الْهُذَلِيِّ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ") وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَلِي عِيدَ النَّحْرِ، كَانُوا يُشَرِّقُونَ فِيهَا لُحُومَ الْأَضَاحِي أَيْ يُقَدِّدُونَهَا وَيَبْسُطُونَهَا فِي الشَّمْسِ لِيَجِفَّ، لِأَنَّ لُحُومَ الْأَضَاحِي كَانَتْ تُشَرَّقُ فِيهَا بِمِنًى، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّ الْهَدْيَ وَالضَّحَايَا لَا تُنْحَرُ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، أَيْ تَطْلُعَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ " «أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» " وَفِيهِ تَغْلِيبٌ لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ أَيْضًا يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، بَلْ وَالْأَصْلُ، وَالْبَقِيَّةُ أَتْبَاعُهُ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ صَوْمِهَا، وَإِنَّمَا حُرِّمَ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ فِيهَا، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَيُكْرَهُ صَوْمُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ أَيَّامٍ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهَا، فَإِنْ وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَلَا بَأْسَ " وَذِكْرِ اللَّهِ " بِالْجَرِّ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] قَالَ الْأَشْرَفُ: وَإِنَّمَا عَقَّبَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بِذِكْرِ اللَّهِ لِئَلَّا يَسْتَغْرِقَ الْعِيدُ فِي حُظُوظِ نَفْسِهِ، وَيَنْسَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ أَيَّامَ مِنًى صَائِحًا يَصِيحُ أَنْ لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ، أَيْ أَيَّامُ وِقَاعٍ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَةٍ أَيَّامَ مِنًى أُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُمَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْحَجِّ وَإِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ بَعَثَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا يُنَادِي: أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» "، زَادَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ: وَذِكْرِ اللَّهِ اهـ مُلَخَّصًا.

ص: 1418

2051 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2051 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» ) نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ وَهُوَ لِلتَّنْزِيهِ " إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ " يَوْمٌ أَوْ أَكْثَرُ " أَوْ يَصُومُ بَعْدَهُ " وَلَوْ يَوْمًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ سُئِلْتُ عَنْ وَجْهِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا، فَأَعْمَلْنَا الْفِكْرَ فِيهِ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ - تَعَالَى - فَرَأَيْنَا أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَكْرَهْ أَنْ يُصَامَ مُنْضَمًّا إِلَى غَيْرِهِ وَكَرِهَ أَنْ يُصَامَ وَحْدَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ لَيْسَتْ لِلتَّقَوِّي عَلَى إِتْيَانِ الْجُمُعَةِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ كَمَا رَآهُ بَعْضُ النَّاسِ، إِذْ لَا مَزِيَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى بَيْنَ مَنْ صَامَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ، وَبَيْنَ مَنْ صَامَ الْجُمُعَةَ وَحْدَهُ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ بِمَعْنًى آخَرَ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، عَلَى مَا تَبَيَّنَ لَنَا: أَحَدُهُمَا أَنْ نَقُولَ كَرِهَ تَعْظِيمَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِاخْتِصَاصِهِ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ الْيَهُودَ يَرَوْنَ اخْتِصَاصَ السَّبْتِ بِالصَّوْمِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَالنَّصَارَى يَرَوْنَ اخْتِصَاصَ الْأَحَدِ بِالصَّوْمِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَلَمَّا كَانَ مَوْقِعُ الْجُمُعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَوْقِعَ الْيَوْمَيْنِ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَحَبَّ أَنْ يُخَالِفَ هَدْيُنَا هَدْيَهُمْ فَلَمْ يَرَ أَنْ نَخُصَّهُ بِالصَّوْمِ، وَالْآخَرُ أَنْ نَقُولَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وَجَدَ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَدِ اسْتَأْثَرَ الْجُمُعَةَ بِفَضَائِلَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِهَا غَيْرَهَا مِنَ الْأَيَّامِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَجَعَلَ الِاجْتِمَاعَ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فَرْضًا مَفْرُوضًا عَلَى الْعِبَادِ فِي الْبِلَادِ ثُمَّ غَفَرَ لَهُمْ مَا اجْتَرَحُوا مِنَ الْآثَامِ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْأُخْرَى وَفَضَّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَرَ فِي بَابِ فَضِيلَةِ الْأَيَّامِ مَزِيدًا عَلَى مَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ الْجُمُعَةَ فَلَمْ يَرَ أَنْ يَخُصَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ سِوَى مَا خَصَّهُ بِهِ اهـ وَهُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةُ التَّدْقِيقِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْقُولُ لِأَنَّهُ عَلَى الْمَقْصُودِ أَوْلَى لَكِنْ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ نَهْيِ اخْتِصَاصِ لَيْلَتِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي بِالْقِيَامِ مَعَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَاخْتِصَاصِ يَوْمِهِ بِالصِّيَامِ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ لَا تَقْتَصِرَ أُمَّتُهُ عَلَى صِيَامِ نَهَارِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، وَأَنْ لَا تَنْحَصِرَ هِمَّتُهُمْ عَلَى قِيَامِ لَيْلَتِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، فَإِنَّهُ كَانَ يَجُرُّ إِلَى هِجْرَانِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ عَنْ إِتْيَانِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، بَلْ أَرَادَ الشَّارِعُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ كُلِّ وَقْتٍ حَظَّهُمْ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَلَا يَخُصُّوا كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْعِبَادَةِ بِبَعْضِ الْأَيَّامِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْعَوَامِّ، هَذَا وَالِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِ الْحِكَمِ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْلَى وَالِاعْتِرَافُ لِلتَّعَبُّدِ بِالْأَخْذِ بِظَوَاهِرِ الْأَحْكَامِ أَعْلَى وَأَغْلَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1418

2052 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2052 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ» ") قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ صَلَاةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقِيَامَ أَعَمُّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ " مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي " قَالَ النَّوَوِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنْ تَخْصِيصِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالرَّغَائِبِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ مُصَنَّفَاتٍ فِي تَقْبِيحِهَا وَتَضْلِيلِ وَاضِعِهَا اهـ وَلَعَلَّ وَجْهَ النَّهْيِ عَنْ زِيَادَةِ الْعِبَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ إِبْقَاءٌ لِلْقَوِيِّ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ " وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ " قَالَ الطِّيبِيُّ: يَوْمَ نُصِبَ مَفْعُولٌ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ، وَالِاخْتِصَاصُ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ، وَفِي الْحَدِيثِ مُتَعَدٍّ، قَالَ الْمَالِكِيُّ: الْمَشْهُورُ فِي اخْتَصَّ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِ (خَصَّ) فِي التَّعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ، وَبِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105] وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَلَا يَخْتَصُّ قَوْمًا، وَقَدْ يَكُونُ اخْتَصَّ مُطَاوِعَ خَصَّ فَلَا يَتَعَدَّى كَقَوْلِكَ: خَصَصْتُكَ لَا لِشَيْءٍ فَاخْتَصَصْتَ بِهِ اهـ وَكَانَ مَحَلُّ هَذَا الْكَلَامِ صَدْرَ الْحَدِيثِ وَهُوَ لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ كَمَا لَا يَخْفَى لَكَ، لَكِنْ تَبِعْنَاهُ مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ، وَلَعَلَّ فِي نُسْخَةٍ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا فَيَكُونُ أَيْضًا مُحَافَظَةً عَلَى أَصْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَفْعُولٌ بِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - {يَخَافُونَ يَوْمًا} [النور: 37] فَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ عَذَابُ يَوْمٍ، لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يُخَافُ، وَقَوْلُهُمْ: يَوْمٌ مَخُوفٌ أَيْ مَخُوفٌ فِيهِ، أَوْ عَلَى الْمَجَازِ مُبَالَغَةً (إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ) تَقْدِيرُهُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَاقِعًا فِي يَوْمِ صَوْمٍ (يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ) أَيْ مِنْ نَذْرٍ أَوْ وِرْدٍ، الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَ ذِكْرَهُ لِلْمُقَايَسَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَبْلَ عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِصَاصِ قَدْ تَقَدَّمَ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هُنَا قِيلَ عِلَّةُ النَّهْيِ تَرْكُ مُوَافَقَةِ الْيَهُودِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِ الْأُسْبُوعِ، يَعْنِي عَظَّمَتِ الْيَهُودُ السَّبْتَ فَلَا تُعَظِّمُوا الْجُمُعَةَ خَاصَّةً بِصِيَامٍ وَقِيَامٍ، وَأَقُولُ: لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُخَالَفَةَ الْيَهُودِ لَكَانَ الصَّوْمُ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمِصْدَاقُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وُجُودُ الْمُخَالَفَةِ لَهُمْ فِي تَعْظِيمِ يَوْمِهِمُ الْمُعَظَّمِ عِنْدَهُمْ بِأَيْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَاصِ، وَلَوْ كَانَ عِبَادَةً وَمُخَالَفَةً لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ: لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ النَّهْيَ لِمُخَالَفَتِهِمْ وَلَعَلَّهُمْ طَائِفَتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنَّ الْعِلَّةَ وُرُودُ النَّصِّ وَتَخْصِيصُ كُلِّ يَوْمٍ بِعِبَادَةٍ لَيْسَتْ لِيَوْمٍ آخَرَ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدِ اسْتَأْثَرَ الْجُمُعَةَ بِفَضَائِلَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِهَا غَيْرَهَا، فَجَعَلَ الِاجْتِمَاعَ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فَرْضًا عَلَى الْعِبَادِ فِي الْبِلَادِ، فَلَمْ يَرَ أَنْ يَخُصَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ سِوَى مَا خُصَّ بِهِ ثُمَّ خَصَّ بَعْضَ الْأَيَّامِ بِعَمَلٍ دُونِ مَا خَصَّ بِهِ غَيْرَهُ لِيَخْتَصَّ كُلٌّ مِنْهَا بِنَوْعٍ مِنَ الْعَمَلِ لِيُظْهِرَ فَضِيلَةَ كُلِّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ اهـ وَفِيهِ أَنَّ اسْتِيثَارَ الْجُمُعَةِ بِفَضَائِلَ كَثِيرَةٍ لَا يَقْتَضِي مَنْعَ الصَّوْمِ فِيهَا، لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُطْلَقًا لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ نَهَاهُمْ تَهْوِينًا وَتَسْهِيلًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قِيلَ فِي كَرَاهَةِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَوْ يُقَالُ تَشْبِيهًا بِيَوْمِ الْعِيدِ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ عِيدُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلِذَا سُمِّيَ فِي الْجَنَّةِ بِيَوْمِ الْمَزِيدِ لِحُصُولِ الْحُسْنَى وَالزِّيَادَةِ فِيهِ لِلْمُرِيدِ، لَكِنْ حَيْثُ اسْتَثْنَى الشَّارِعُ ضَمَّ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ تَحَيَّرَتِ الْأَفْكَارُ وَاضْطَرَبَتِ الْأَنْظَارُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَسْرَارِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَجَاءَ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّ جَابِرًا سُئِلَ: أَنْهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَوَرَدَ فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ:«يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ، قَالَ الذَّهَبِيُّ: فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ، لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَيَتَحَصَّلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى تَهْوِينًا عَلَى أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالِمِينَ، وَلَمَّا كُلِّفُوا بِعِبَادَاتٍ فِيهِ خَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَضُمُّوا إِلَيْهَا الصَّوْمَ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْمِلَّةِ هِيَ السَّمْحَاءُ الْحَنِيفِيَّةُ، فَمَنَعَهُمْ عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ عِيدٌ لَهُمْ فَيُنَاسِبُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ الْمُنَافِي لِلْعِيدِ الْمُقْتَضِي لِلْإِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلْمُخَالِفِينَ كَمَا سَبَقَ، أَوْ لِذَا قِيلَ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنْ لَا يُبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ كَالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ وَالنَّصَارَى فِي الْأَحَدِ، وَقِيلَ: لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ نَظِيرَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، حَيْثُ لَا يُكْرَهُ إِذَا كَانَ وَافَقَ يَوْمًا اعْتَادَهُ، أَوْ ضَمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ يَكُونُ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ.

ص: 1419

2053 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2053 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) أَيْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَمَشَقَّةِ الْغَزْوِ، أَوْ مَعْنَاهُ مَنْ صَامَ يَوْمًا لِوَجْهِ اللَّهِ " بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ " أَيْ ذَاتَهُ " عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا " أَيْ مِقْدَارَ مَسَافَةِ سَبْعِينَ سَنَةً (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) فِي النِّهَايَةِ الْخَرِيفُ الزَّمَانُ الْمَعْرُوفُ مَا بَيْنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، يُرَادُ بِهِ السَّنَةُ لِأَنَّ الْخَرِيفَ لَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِذَا انْقَضَى الْخَرِيفُ انْقَضَى السَّنَةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْفُصُولِ لِأَنَّهُ زَمَانُ بُلُوغِ حُصُولِ الثِّمَارِ وَحَصَادِ الزَّرْعِ وَسَعَةِ الْعَيْشِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَأَنَّ قَائِلَ هَذَا فَهِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَرِيفِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ فَصْلُ الصَّيْفِ دُونَ الْخَرِيفِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ، وَهُوَ مَا أَوَّلُهُ الْمِيزَانُ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اهـ وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ إِذْ كَيْفَ يَخْفَى مِثْلُ هَذَا عَلَى الْفَاضِلِ الْعَلَّامَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي بِلَادِهِ فَلَّاحٌ وَلَا جِلْفٌ إِلَّا وَيَعْرِفُ الْخَرِيفَ مِنَ الصَّيْفِ، مَعَ أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الصَّيْفَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ظُهُورَ الْأَزْهَارِ وَالثِّمَارِ لَا يَكُونُ مُبْتَدَأً إِلَّا مِنْ أَوَّلِ الْحَمْلِ مُنْتَهِيًا إِلَى الصَّيْفِ، فَإِذَا دَخَلَ الْخَرِيفُ خَرَفَ الثِّمَارَ أَيْ جَنَى، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: خَرِيفٌ كَأَمِيرٍ، ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَيْنَ الْقَيْظِ وَالشِّتَاءِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الثِّمَارُ، فَهَذِهِ كُتُبُ لُغَةِ الْعَرَبِ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ الْخَرِيفَ عِنْدَهُمْ مَا أَوَّلُهُ الْمِيزَانُ، وَهُوَ زَمَانُ انْتِهَاءِ الْإِثْمَارِ وَالْفَوَاكِهِ، وَكَأَنَّهُ بِانْتِهَائِهِ يَنْتَهِي السَّنَةُ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ لَيْسَ إِلَّا الْبَرْدُ وَهُوَ عَدُوٌّ لَا يُعَدُّ زَمَانُهُ مِنَ الْعُمْرِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْخَرِيفَ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ الصَّيْفُ فَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ، وَلَعَلَّهُ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ وَقْتُ كَثْرَةِ الْفَوَاكِهِ وَعَيْنُ زَمَانِ إِكْثَارِ الثِّمَارِ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَوْ صَحَّ، وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ مَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْعَجَمِيُّ لَوْ أَخْطَأَ فِي مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ لَيْسَ بِعَجِيبٍ، إِنَّمَا الْغَرِيبُ مِنَ الْعَرَبِيِّ أَنْ لَا يَفْهَمَ كَلَامَهُ وَلَا يُرَتِّبَ نِظَامَهُ، وَلِذَا مُدِحُوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «لَوْ كَانَ الْعِلْمُ فِي الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسٍ» "، وَلَقَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَضَمِّنِ لِكَرَامَتِهِ أَنَّ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْفَضَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ انْتَهَتْ تَحْقِيقَاتُهَا إِلَى عُلَمَاءِ الْعَجَمِ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْعَقَائِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى قِيلَ: انْتَقَلَ الْعِلْمُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى الْعَجَمِ ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِمْ.

ص: 1419

2054 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:" فَلَا تَفْعَلْ ; صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ، صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صُمْ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ " قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ:" صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ، صَوْمَ دَاوُدَ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2054 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَبْدَ اللَّهِ ") يَحْتَمِلُ الْعِلْمِيَّةَ وَالْوَصْفِيَّةَ " أَلَمْ أُخْبَرْ " عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ " أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ " أَيْ وَلَا تُفْطِرُ " وَتَقُومُ اللَّيْلَ " أَيْ جَمِيعَهُ وَلَا تَنَامُ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ " قَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابٌ عَمَّا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَلَمْ أُخْبَرْ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَخْبَرَ عَمَّا فَعَلَهُ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَمْ تَصُمِ النَّهَارَ أَلَمْ تَقُمِ اللَّيْلَ؟ فَقَالَ: بَلَى اهـ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الصَّحَابِيَّ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم هَلْ أُخْبِرَ أَمْ لَا، فَكَيْفَ يَقُولُ بَلَى؟ فَإِنَّ مَعْنَاهُ بَلَى أُخْبِرْتَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّقْرِيرِ، وَحَمْلِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ، فَقَالَ: بَلَى، سَوَاءٌ يَكُونُ الْمُخْبِرُ الْوَحْيَ أَوْ غَيْرَهُ لِمُطَابَقَتِهِ الْوَاقِعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ (قَالَ:" فَلَا تَفْعَلْ ") فَإِنَّهُ مُضِرٌّ لَكَ لِأَنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَى ضَعْفِ الْبَدَنِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، وَلَوْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مِنَ الْعُمْرِ " صُمْ " وَقْتَ النَّشَاطِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، أَوْ وَقْتَ طُغْيَانِ النَّفْسِ لِتُنْكِرَ صُورَتُهَا " وَأَفْطِرْ " وَقْتَ السَّآمَةِ وَالْمَلَالَةِ وَجُمُودِ النَّفْسِ وَكَسْرِ شَهَوَاتِهَا، صُمْ أَيَّامَ الْفَوَاصِلِ لِإِدْرَاكِ الْفَضَائِلِ، وَأَفْطِرْ فِي غَيْرِهَا لِتَقْوِيَةِ الْبَدَنِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ الشَّمَائِلِ " وَقُمْ " أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ " وَنَمْ " مَا بَيْنَهُمَا وَاسْمَعْ نَصِيحَةَ الطَّبِيبِ الْحَبِيبِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، فَكَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَهَا لِقَوْلِهِ " فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا " بِمُحَافَظَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْقِيَامِ وَالنِّيَامِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِصِيَامِ الْأَيَّامِ وَقِيَامِ اللَّيَالِي عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ انْحِلَالٌ لِلْقُوَى، وَاخْتِلَالٌ لِلْبَدَنِ عَنِ النِّظَامِ، فَلَا يَجُوزُ لَكَ إِضَاعَتُهُ بِتَفْرِيطِهِ وَإِضْرَارِهِ بِإِفْرَاطِهِ، بِحَيْثُ تَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ فِي الْحَالَاتِ، وَالْحَاصِلُ اعْتَدِلْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا " وَإِنَّ لِعَيْنِكَ " قِيلَ: لِبَاصِرَتِكَ، وَقِيلَ: لِذَاتِكَ

ص: 1419

" عَلَيْكَ حَقًّا " وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَقْوَى مِنَ التَّأْكِيدِ ثُمَّ مِنَ الْمَعْلُومِ نُقْصَانُ قُوَّةِ الْبَاصِرَةِ مِنَ النَّوْمِ وَالسَّهَرِ " وَإِنَّ لِزَوْجِكَ " أَيْ لِامْرَأَتِكَ " عَلَيْكَ حَقًّا " أَيْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَيَفُوتُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ الِاضْطِجَاعُ وَالِانْتِفَاعُ " وَإِنَّ لِزَوْرِكَ " بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْوَاوِ أَيْ لِأَصْحَابِكَ الزَّائِرِينَ وَأَحِبَّائِكَ الْقَادِمِينَ " عَلَيْكَ حَقًّا " أَيْ وَتَعْجِزُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ عَنْ حُسْنِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ إِمَّا لِضَعْفِ الْبَدَنِ أَوْ لِقُوَّةِ سُوءِ الْخُلُقِ، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الزَّوْرُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ كَصَوْمٍ وَنَوْمٍ بِمَعْنَى صَائِمٍ وَنَائِمٍ، وَقَدْ يَكُونُ الزَّوْرُ جَمْعًا لِزَائِرٍ، كَرَكْبٍ جَمْعِ رَاكِبٍ اهـ وَقِيلَ: الزَّوْرُ اسْمُ جَمْعٍ بِمَعْنَى الضَّيْفِ " لَا صَامَ " قَالَ النَّوَوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَأَنْ يَكُونَ دُعَاءً كَمَا مَرَّ اهـ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ " مَنْ صَامَ الدَّهْرَ " لِعَدَمِ لُحُوقِ مَشَقَّةِ مَا يَجِدُهَا غَيْرُهُ بِاعْتِيَادِهِ الصَّوْمَ، قَالَ الْقَاضِي: فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصُمْ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَادَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيَاضَةً وَكُلْفَةً يَتَعَلَّقُ بِهَا مَزِيدُ ثَوَابٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا التَّأْوِيلُ يُخَالِفُ سِيَاقَ الْحَدِيثِ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي رَفْعِ التَّشْدِيدِ وَوَضْعِ الْإِصْرِ، أَلَّا تَرَى كَيْفَ نَهَاهُ أَوَّلًا عَنْ صَوْمِ الدَّهْرِ كُلِّهِ ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى صَوْمِ دَاوُدَ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْرِيَ لَا صَامَ عَلَى الْإِخْبَارِ لِأَنَّهُ مَا امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّارِعِ وَلَا أَفْطَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْعَمْ شَيْئًا كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ اهـ وَالتَّعْلِيلُ بِصِيَامِهِ الْأَيَّامَ الْمَنْهِيَّةَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ لِعَلَمِهِمْ بِحُرْمَةِ صِيَامِهَا، وَالشَّارِعُ مَا يَنْفِي صَوْمَ الدَّهْرِ مُطْلَقًا لِاحْتِمَالِ صِيَامِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَأَكَّدَ النَّهْيَ عَنْ صِيَامِهَا بِالْخُصُوصِ، فَالْأَظْهَرُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنَ السِّبَاقِ وَاللَّحَاقِ سَوَاءٌ كَانَ إِخْبَارًا أَوْ دُعَاءً أَنَّهُ لِلُحُوقِهِ ضَرَرَ الضَّعْفِ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي إِيجَابِ صَوْمِ شَهْرٍ فَقَطْ عَلَى الْأُمَّةِ، وَلِذَا قَالَ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وَقَالَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " «عَلَيْكُمْ بِالْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ» " وَرُوِيَ: " «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ وَلَا تُشَدِّدُوا فَيُشَدِّدُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» "، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى مِنَ الْأَدِلَّةِ (صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ " مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (صَوْمُ الدَّهْرِ) لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا (كُلِّهِ) أَيْ حُكْمًا وَهُوَ بِالْجَرِّ تَأْكِيدٌ لِلدَّهْرِ (صُمْ) أَيْ أَنْتَ بِالْخُصُوصِ وَمَنْ هُوَ فِي الْمَعْنَى مِثْلُكَ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ تَوَهُّمُ التَّكْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِمَّا قَبْلَهُ (كُلَّ شَهْرٍ) مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) ظَرْفٌ، قِيلَ: هِيَ أَيَّامُ الْبِيضِ (وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ) أَيْ جَمِيعَهُ (فِي كُلِّ شَهْرٍ) أَيْ مَرَّةً (قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ وَخَتْمِ الشَّهْرِ ( «قَالَ: صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ» ) نَصَبَهُ عَلَى الْبَدَلِ أَوِ الْبَيَانِ أَوْ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ دُونَ جَرِّهِ بِفَسَادِ الْمَعْنَى (صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ) بِرَفْعِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَاقْرَأِ) الْقُرْآنَ (فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً) أَيْ مَرَّةً مِنَ الْخَتْمِ، وَفِي اخْتِيَارِ اللَّيَالِي عَلَى الْأَيَّامِ إِشَارَةٌ إِلَى أَفْضَلِيَّتِهَا لِلْقِرَاءَةِ (وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ) أَيْ عَلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الصَّوْمِ وَالْخَتْمِ أَوْ لَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّؤَالِ وَدَعْوَى زِيَادَةِ الطَّاقَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.

ص: 1421

الْفَصْلُ الثَّانِي

2055 -

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

2055 -

(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ) أَيْ أَحْيَانًا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ الِاثْنَيْنِ) بِكَسْرِ النُّونِ عَلَى أَنَّ إِعْرَابَهُ بِالْحَرْفِ عَلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَبَرَةُ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا (وَالْخَمِيسَ) بِالنَّصْبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَتَحَرَّى حُقُوقَهُمَا، قِيلَ: وَسُمِّيَ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ ثَانِي الْأُسْبُوعِ وَالْخَمِيسُ لِأَنَّهُ خَامِسُهُ كَذَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ الْأُسْبُوعِ الْأَحَدُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، لَكِنْ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ أَوَّلَ الْأُسْبُوعِ هُوَ السَّبْتُ وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً اهـ. فَعَلَيْهِ يُوَجَّهُ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ نَظِيرَ مَا لَحَظَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّ عَاشُورَاءَ تَاسِعُ الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا مَرَّ فِيهِ، أَقُولُ: مَا مَرَّ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَرَّ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ مَا مَرَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً هُنَا لِأَنَّهَا تُنَافِيهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ إِطْلَاقِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ عَلَى الْيَوْمَيْنِ بِنَاءً عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْعَالَمِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] وَقَدْ بَيَّنَهَا الشَّارِعُ فِي أَحَادِيثَ أَنَّ أَوَّلَهَا الْأَحَدُ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْخِلَافَ فِي الْأُسْبُوعِ أَنَّ أَوَّلَهُ الْأَحَدُ أَوِ السَّبْتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ مَبْنِيٌّ عَلَى اللُّغَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلسُّنَّةِ وَالثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 1421

2056 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

2056 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيِرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ) أَيْ عَلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ) بِالْجَرِّ (فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) أَيْ طَلَبًا لِزِيَادَةِ رِفْعَةِ الدَّرَجَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام: " «يُرْفَعُ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ» " لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْعَرْضِ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تُجْمَعُ فِي الْأُسْبُوعِ وَتُعْرَضُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَدْ حَسَّنَهُ، وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ:" «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءٌ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُنَافِي هَذَا رَفْعَهَا فِي شَعْبَانَ، فَقَالَ:" «إِنَّهُ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» " لِجَوَازِ رَفْعِ أَعْمَالِ الْأُسْبُوعِ مُفَصَّلَةً وَأَعْمَالِ الْعَامِ مُجْمَلَةً، قُلْتُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ شَعْبَانَ آخِرَ السَّنَةِ وَأَنَّ أَوَّلَهَا رَمَضَانُ عِنْدَ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ الْآخِرَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ تُزَخْرَفُ الْجَنَّةُ لِرَمَضَانَ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَالَّذِي يَلُوحُ لِي الْآنَ أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ هِيَ الَّتِي تُعْرَضُ فِيهَا أَعْمَالُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ كَمَا أَنَّهَا تُكْتَبُ فِيهَا جَمِيعُ مَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَلِذَا قَالَ:" قُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا " وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ السَّنَةِ الْعِبَادِيَّةِ أَوَّلَ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَعْبَانَ وَهُوَ مُقَدِّمَةُ تَزْيِينِ رَمَضَانَ كَمَا هُوَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الزَّمَانِ حَيْثُ يُسَمُّونَ تِلْكَ الْأَيَّامَ أَيَّامَ النَّزَاهَةِ وَيَخْتَارُونَ التَّمْشِيَةَ وَالنَّزَاهَةَ، وَيَعُدُّونَ الصِّيَامَ مِنْ أَشَدِّ الْكَرَاهَةِ تَقْوِيَةً لِرَمَضَانَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

ص: 1422

2057 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

2057 -

(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ) أَيْ أَرَدْتَ الصَّوْمَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ عَمَلًا بِمَا عَلِمْتُهُ مِنْ أَنَّ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ (مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ فِيهَا وَتُكْسَرُ وَهِيَ أَيَّامُ اللَّيَالِيِ الْبِيضِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَفْضَلِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ كَوْنِهَا ثَلَاثَةً وَكَوْنِهَا الْبِيضَ أَكْمَلُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

ص: 1422

2058 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ الْجُمُعَةَ» ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

ــ

2058 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ» ) أَيْ أَوَّلِهِ (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) قِيلَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ لِأَنَّ هَذَا الرَّاوِي وَحَّدَ الْأَمْرَ عَلَى ذَلِكَ فِي غَالِبِ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَ بِمَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَائِشَةُ رضي الله عنها اطَّلَعَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ هَذَا الرَّاوِي فَحَدَّثَتْ بِمَا عَلِمَتْ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اهـ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْغُرَّةُ مِنَ الْهِلَالِ طَلْعَتُهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ كُلَّمَا طَلَعَ هِلَالٌ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ أَوَّلِهِ فَيُوَافِقُ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ (وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ، قَالَ الْمُظْهِرُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ إِلَى مَا بَعْدَهُ أَوْ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَالْوِصَالِ، قَالَ الْقَاضِي: أَوْ أَنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا يَتَغَذَّى إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ اهـ. فَمَعْنَى الْإِفْطَارِ أَكْلُ الْفُطُورِ هُوَ مَا يُؤْكَلُ أَوَّلَ النَّهَارِ لَا الْإِفْطَارُ الَّذِي ضِدُّ الصَّوْمِ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَالسِّبَاقِ، بَلْ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ الْمُؤَيِّدُ لِمَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إِفْرَادُ صَوْمِهِ إِذِ الِاخْتِصَاصُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) أَيْ تَمَامَ الْحَدِيثِ (وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ إِلَى (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) .

ص: 1422

2059 -

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ، وَمِنَ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

2059 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ مِنْ أَحَدِ الشُّهُورِ " السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْنِ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ إِعْرَابَهُ بِالْحَرْفِ أَوِ الْحَرَكَةِ (وَمِنَ الشَّهْرِ الْآخَرِ الثُّلَاثَاءَ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَيُضَمُّ (وَالْأَرْبِعَاءَ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِفَتْحٍ وَيُضَمُّ وَكُلٌّ مَمْدُودٌ (وَالْخَمِيسَ) مُرَاعَاةً لِلْعَدَالَةِ بَيْنَ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ اللَّهِ - تَعَالَى، وَلَا يَنْبَغِي هِجْرَانُ بَعْضِهَا لِانْتِفَاعِنَا بِكُلِّهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ ذَكَرَ الْجُمُعَةَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فَكَانَ يَسْتَوْفِي أَيَّامَ الْأُسْبُوعِ بِالصِّيَامِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَيِّنَ سُنَّةَ صَوْمِ جَمِيعِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصُمْ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ هَذِهِ السُّنَّةِ مُتَوَالِيَةً كَيْلَا يَشُقَّ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ رَحْمَةً لَهُمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1423

2060 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلُهَا الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

2060 -

(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلُهَا» ) بِالرَّفْعِ (الِاثْنَيْنِ) بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا (وَالْخَمِيسُ) بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى التَّبَعِيَّةِ، قَالَ الْأَشْرَفُ: الظَّاهِرُ الِاثْنَانِ، فَقِيلَ: أُعْرِبَ بِالْحَرَكَةِ لَا بِالْحَرْفِ، وَقِيلَ: الْمُضَافُ مَحْذُوفٌ مَعَ إِبْقَاءِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى حَالِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: أَوَّلُهَا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ اهـ وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَمٌ كَالْبَحْرَيْنِ، وَالْأَعْلَامُ لَا تَتَغَيَّرُ عَنْ أَصْلِ وَضْعِهَا، بِاخْتِلَافِ الْعَوَامِلِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ:(أَوَّلَهَا) مَنْصُوبٌ لَكِنْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيِ اجْعَلْ أَوَّلَهَا الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ، يَعْنِي وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ حَيْثُ قَالَ: صَوَابُهُ أَوِ الْخَمِيسُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تُجْعَلُ أَوَّلُ الْأَيَّامِ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةِ الِاثْنَيْنِ أَوِ الْخَمِيسَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّهْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ افْتِتَاحُهُ مِنَ الْأُسْبُوعِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي بَعْدَ الْخَمِيسِ فَتَفْتَحُ صَوْمَهَا فِي شَهْرِهَا ذَلِكَ بِالِاثْنَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقِسْمِ الَّذِي بَعْدَ الِاثْنَيْنِ فَتَفْتَحُ شَهْرَهَا ذَلِكَ بِالْخَمِيسِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْتُ الْحَدِيثَ فِيمَا يَرْوِيهِ مِنْ كِتَابِ الطَّبَرَانِيِّ اهـ وَأَمَّا تَعْبِيرُ ابْنِ حَجَرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَيْ أَوَّلُهَا أَوَّلُ اثْنَيْنِ يَلِي الْهِلَالَ إِنْ هَلَّ بِالْجُمُعَةِ أَوِ السَّبْتِ أَوِ الْأَحَدِ أَوْ أَوَّلُ خَمِيسٍ يَلِيهِ إِنْ هَلَّ بِالثُّلَاثَاءِ أَوِ الْأَرْبِعَاءَ، فَقَاصِرٌ عَنِ الْمَقْصُودِ لِخُرُوجِ مَا إِذَا هَلَّ بِالِاثْنَيْنِ أَوْ بِالْخَمِيسِ، فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ لِغَفْلَتِهِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى لِقُصُورِ تَصَوُّرِهِ فِي الْمَبْنَى، قَالَ: وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْأَفْضَلَ صَوْمُ الْهِلَالِ، وَتَالِيَيْهِ إِلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَصَدَ بَيَانَ فَضْلَيِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ بِجَعْلِ مُفْتَتَحِ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَارَةً وَالْخَمِيسِ أُخْرَى اهـ. وَأَنْتَ قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الشُّرَّاحِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقَصْدُ، وَأَنَّهُ شَامِلٌ صَوْمَ الْهِلَالِ وَتَالِيَيْهِ أَيْضًا فَمَا صَحَّ الْقِيَاسُ وَلَا احْتِيَاجَ إِلَى الْجَوَابِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَجْعَلُ أَوَّلَهَا الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرٍ فَلَا احْتِيَاجَ إِلَى أَنْ يُقَالَ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 1423

2061 -

«وَعَنْ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: سُئِلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ، قَالَ: " إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. صُمْ رَمَضَانَ وَالَّذِي يَلِيهِ وَكُلَّ أَرْبِعَاءَ وَخَمِيسٍ فَإِذًا أَنْتَ قَدْ صُمْتَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

2061 -

(وَعَنْ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ) بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ نِسْبَةً إِلَى قُرَيْشٍ (قَالَ: سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ (صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ " «إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» " هَذَا إِجْمَالٌ لِمَا سَبَقَ، وَفِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ إِشْعَارٌ بِأَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفَتِّرَ الْهِمَّةَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، فَلِذَا كُرِهَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ لَهُ صَوْمُهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَبَيْنَ مَا فَعَلَهُ بَعْضُ السَّلَفِ الْكِرَامِ وَالْمَشَايِخِ الْعِظَامِ " صُمْ رَمَضَانَ وَالَّذِي يَلِيهِ " قِيلَ: أَرَادَ السِّتَّ مِنْ شَوَّالٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ شَعْبَانَ " وَكُلَّ أَرْبِعَاءَ " بِالْمَدِّ وَعَدَمِ الِانْصِرَافِ " وَخَمِيسٍ " بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ " فَإِذًا " بِالتَّنْوِينِ " أَنْتَ قَدْ صُمْتَ الدَّهْرَ " أَيْ مَرَّاتٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، وَالْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِنْ فَعَلْتَ مَا قُلْتُ لَكَ فَقَدْ صُمْتَ، وَإِذَنْ جَوَابُ حَتَّى لِتَأْكِيدِ الرَّبْطِ " كُلَّهُ " أَيْ حُكْمًا، وَلَعَلَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ حُصُولِ صَوْمِ الدَّهْرِ بِثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخْبِرُ أَوَّلًا بِالْجُزْءِ الْقَلِيلِ ثُمَّ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ إِعْظَامًا لِلْمِنَّةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَيُقَارِبُ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَصِيرَ صَوْمُ الدَّهْرِ مَرَّتَيْنِ حُكْمًا، فَتَدَبَّرْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1423

2062 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

2062 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى) أَيْ نَهْيَ تَنْزِيهٍ (عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ) أَيْ فِي عَرَفَاتٍ لِئَلَّا يَضْعُفَ عَنِ الدُّعَاءِ وَلِئَلَّا يُسِيءَ خُلُقَهُ مَعَ الرُّفَقَاءِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَنْ يَكُونُ مِثْلَهُ، وَلَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَيْسَ هَذَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَصُومُهُ فِي الشِّتَاءِ وَلَا أَصُومُهُ فِي الصَّيْفِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَقَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

ص: 1424

2063 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

2063 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ السِّينِ (عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، اسْمُهَا بَهِيَّةُ، وَتُعْرَفُ بِالصَّمَّاءِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ» ") أَيْ وَحْدَهُ (إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ " عَلَيْكُمْ " أَيْ وَلَوْ بِالنَّذْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَالُوا النَّهْيُ عَنِ الْإِفْرَادِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَالْمَقْصُودُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِيهِمَا، وَالنَّهْيُ فِيهِمَا لِلتَّنْزِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَا افْتُرِضَ يَتَنَاوَلُ الْمَكْتُوبَ وَالْمَنْذُورَ وَقَضَاءَ الْفَوَائِتِ وَصَوْمَ الْكَفَّارَةِ وَفِي مَعْنَاهُ مَا وَافَقَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، أَوْ وَافَقَ وِرْدًا، وَزَادَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَعَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ فِي خَيْرِ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ، فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ شِدَّةُ الِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَاجِبًا كَمَا تَفْعَلُهُ الْيَهُودُ، قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يُكَرِّرُ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ لِلتَّنْزِيهِ، بِمُجَرَّدِ الْمُشَابَهَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ وَالنَّهْيَ عَنْ إِفْرَادِ الْجُمُعَةِ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ قِشْرَ حَبَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِنَبِ اسْتِعَارَةً مِنْ قِشْرِ الْعُودِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِنَبَةِ شَجَرَةُ الْعِنَبِ وَهِيَ الْحِيلَةُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: اللِّحَاءُ مَمْدُودٌ وَهُوَ قِشْرُ الشَّجَرِ، وَالْعِنَبَةِ هِيَ الْحَبَّةُ مِنَ الْعِنَبِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْمُرَادُ شَجَرَةُ الْعِنَبِ لَا حَبَّتُهَا فَخَطَأٌ فَاحِشٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ نَفْيِ إِرَادَةِ الْحَبَّةِ مَعَ أَنَّهَا أَظْهَرُ فِي الْمُبَالَغَةِ لَا سِيَّمَا دَعْوَى الْمُرَادِ فِيمَا يُحْتَمَلُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَاطِلَةٌ وَالْقَوْلُ بِهَا مُجَازَفَةٌ، بَلْ لَوْ بُولِغَ فِي هَذِهِ الْمَقَامِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِنَبَةِ هِيَ الْحَبَّةُ مِنَ الْعِنَبِ لَا قِشْرَ الشَّجَرَةِ لَصَحَّ فَالْعِنَبَةُ هِيَ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْعِنَبُ مَعْلُومٌ وَاحِدَتُهُ عِنَبَةٌ وَلَمْ يُذْكَرْ أَصْلًا إِطْلَاقُ الْعِنَبِ، لَا بِالْجِنْسِ وَلَا بِالْوَحْدَةِ عَلَى الْحَبَّةِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ خُصُوصًا بَأَوْ قَوْلُهُ " أَوْ عُودُ شَجَرَةِ " عَطْفًا عَلَى لِحَاءٍ " فَلْيَمْضُغْهُ " بِفَتْحِ الضَّادِ وَيُضَمُّ، فِي الْقَامُوسِ: مَضَغَهُ كَمَنَعَهُ وَنَصَرَهُ: لَاكَهُ بِأَسْنَانِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ بِالْإِفْطَارِ لِنَفْيِ الصَّوْمِ وَإِلَّا فَشَرَطُ الصَّوْمِ النِّيَّةُ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ لَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ، وَنَظِيرُهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مَا فِي عِيدِ الْفِطْرِ تَأْكِيدًا لِانْتِفَاءِ الصَّوْمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: صَحَّحَهُ الْأَئِمَّةُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَقَوْلِ مَالِكٍ: إِنَّهُ كَذِبٌ اهـ. وَهَذَا غَيْرُ مُجَازَفَةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُمَا إِمَامَانِ جَلِيلَانِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يَقُولَانِ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ ثَبْتٍ وَسَنَدٍ فَلَا يُرَدُّ قَوْلُهُمَا بِالْهُوَيْنَا، وَإِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهِمَا سَنَدُ الْمَنْعِ وُقُوعَهُ وَلَا مِنْ قِلَّةِ إِطْلَاعِنَا عَدَمُ عِلْمِهِمَا بِهِ، فَالتَّقْلِيدُ أَوْلَى لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحْقِيقِ، وَإِذَا لَمْ تَرَ الْهِلَالَ فَسَلِّمَ لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالْأَبْصَارِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الرَّدِّ مِنَ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَالِكٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَكَيْفَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَلَمْ يَتَعَدَّ طَوْرَهُ.

ص: 1424

2064 -

وَعَنْ أَبَى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

2064 -

(وَعَنْ أَبَى أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ") أَيْ فِي الْجِهَادِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ " جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا " أَيْ حِجَابًا شَدِيدًا وَمَانِعًا بَعِيدًا بِمَسَافَةٍ مَدِيدَةٍ " كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " أَيْ مَسَافَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ عَنِ الْحَاجِزِ الْمَانِعِ، شَبَّهَ الصَّوْمَ بِالْحِصْنِ وَجَعَلَ لَهُ خَنْدَقًا حَاجِزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ الَّتِي شُبِّهَتْ بِالْعَدُوِّ، ثُمَّ شَبَّهَ الْخَنْدَقَ فِي بُعْدِ غَوْرِهِ بِمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1425

2065 -

وَعَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.

ــ

2065 -

(وَعَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ، مَسْعُودٌ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ ابْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، يُقَالُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ فِي التَّابِعَيْنِ اهـ. وَذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: هُوَ عَامِرُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، رَوَى عَنْهُ نُمَيْرُ بْنُ عَرِيبٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الصَّوْمِ، وَقَالَ: وَهُوَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا صُحْبَةَ لَهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» ") لِوُجُودِ الثَّوَابِ بِلَا تَعَبٍ كَثِيرٍ، وَفِي الْفَائِقِ: الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ هِيَ الَّتِي تَجِيءُ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْطَلَى دُونَهَا بِنَارِ الْحَرِّ وَيُبَاشَرَ حَرُّ الْقِتَالِ فِي الْبِلَادِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهَيْئَةُ الطَّيِّبَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَيْشِ الْبَارِدِ، وَالْأَصْلُ فِي وُقُوعِ الْبَرْدِ عِبَارَةٌ عَنِ الطِّيبِ، وَالْهَنَاةُ أَنَّ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ لَمَّا كَانَ طِيبُهُمَا بِبَرْدِهِمَا خُصُوصًا فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ قِيلَ: مَاءٌ بَارِدٌ وَهَوَاءٌ بَارِدٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِطَابَةِ ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى قِيلَ: عَيْشٌ بَارِدٌ وَغَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ، وَبَرَدَ أَمَرُنَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَلْبِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ كَالْغَنِيمَةِ الْبَارِدَةِ وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ، أَنْ يُلْحَقَ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ، كَمَا يُقَالُ: زِيدٌ كَالْأَسَدِ، فَإِذَا عُكِسَ وَقِيلَ: الْأَسَدُ كَزَيْدٍ، يُجْعَلُ الْأَصْلُ كَالْفَرْعِ، وَالْفَرْعُ كَالْأَصْلِ يَبْلُغُ التَّشْبِيهُ إِلَى الدَّرَجَةِ الْقُصْوَى فِي الْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّائِمَ يَحُوزُ الْأَجْرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ حَرُّ الْعَطَشِ أَوْ يُصِيبَهُ أَلَمُ الْجُوعِ مِنْ طُولِ الْيَوْمِ اهـ فَجُعِلَ الْحَدِيثُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفَ الْأَدَاةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ الْمُفِيدَةَ لِلْحَصْرِ لِتَعْرِيفِ جُزْئَيْهَا، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ الْبَارِدَةَ هِيَ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ، وَقَدْ جَاءَ مُسْنَدُ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا " «الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ» "، وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ:" قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَ، وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَ "، (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَامِرٍ الْقُرَشِيِّ اهـ كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ نَقَلَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ اهـ. فَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ غَيْرُ صَوَابٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 1425

2066 -

وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ.

ــ

2066 -

(وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ) صِفَةُ أَيَّامٍ بِالرَّفْعِ عَلَى الْمَحَلِّ وَبِالنَّصْبِ عَلَى اللَّفْظِ، وَتَمَامُهُ أَنْ يَتَعَبَّدَ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ فَاعِلٌ لِأَحَبُّ لَهُ، أَيْ لِلَّهِ فِيهَا، أَيْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ) إِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْأُضْحِيَّةِ وَأَنَّهُ أَسْقَطَهُ لِتَكْرَارِهِ فَهَذَا اعْتِذَارٌ حَسَنٌ مِنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَعْكِسَ الْأَمْرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ الْبَابِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ صَوَابٍ.

ص: 1425

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2067 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةِ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ " فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ "، فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)

2067 -

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ) أَيْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ (فَوَجْدَ الْيَهُودَ) أَيْ صَادَفَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ قُدُومَهُ فِي الْأُولَى كَانَ بَعْدَ عَاشُورَاءَ فِي رَبِيعِ الْأَوَّلِ (صِيَامًا) أَيْ ذَوِي صِيَامٍ أَوْ صَائِمِينَ (يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَصُومُونَهُ؟) أَيْ مَا سَبَبُ صَوْمِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشْكَالَانِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْيَهُودَ يُؤَرِّخُونَ الشُّهُورَ عَلَى غَيْرِ مَا تُؤَرِّخُهُ الْعَرَبُ، الثَّانِي أَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ مَطْلُوبَةٌ، وَالْجَوَابُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ كَوْنُ عَاشُورَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي نَجَّاهُمُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ فِرْعَوْنَ يَعْنِي مَعَ احْتِمَالِ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ ابْتِدَاءً، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْإِنْجَاءَ وَقَعَ فِي عَاشُورَاءَ الْعَرَبِيِّ ثُمَّ وَقَعَ التَّغْيِيرُ مِنْهُمْ إِلَى تِلْكَ السَّنَةِ فَتَوَافَقَا أَيْضًا غَيْرُ مُتَّجِهٍ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ وَقَعَ التَّغْيِيرُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُمْ مَعَ كَمَالِ اعْتِقَادِهِمْ وَغُلُوِّهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ مَا يُغَيِّرُونَ عَاشُورَاءَ عَنْ زَمَانِهِ وَاخْتِلَافِ التَّارِيخِ بِنَاءً عَلَى تَغْيِيرِ لُغَتِهِمْ فِي مُغَايَرَةِ أَسْمَاءِ شُهُورِهِمْ، أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ وَأَمَّا نِسَاءُ الْحَيِّ غَيْرُ نِسَاءِهِمْ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مَطْلُوبَةٌ فِيمَا أَخَطَأُوا فِيهِ كَمَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، فَقَالَ - تَعَالَى - {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] فَكَأَنَّ التَّعْظِيمَ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ يَوْمَهُمُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، الْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَوَّلَ الْهِجْرَةِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَفَةِ بَلْ كَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَمِنْهَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ لَمَّا ثَبَّتَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمُ الْمُلَائِمَةُ وَظَهَرَ مِنْهُمُ الْعِنَادُ وَالْمُكَابَرَةُ اخْتَارَ مُخَالَفَتَهُمْ وَتَرَكَ مُؤَالَفَتَهُمْ، وَلِذَا لَمَّا قِيلَ لَهُ فِي عَاشُورَاءَ بَعْدَ صِيَامِهِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُعَظِّمُونَ هَذَا الْيَوْمَ وَأَنْتَ تُحِبُّ هَذَا الزَّمَانَ تَرَكَ التَّشَبُّهَ بِهِمْ فَقَالَ:" «لَئِنْ بَقِيتُ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» "، ثُمَّ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَقْدِيمِ أَنَّهُ صَامَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى قَوْلِ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا، بَلْ بِاخْتِبَارِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَوْ بِحُصُولِ التَّوَاتُرِ مِنْ قِبَلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي التَّوَاتُرِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِمَّا بِالْوَحْيِ أَوِ الِاجْتِهَادِ بِمَا يُوَافِقُهُ أَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ لَا يَصِحُّ تَرْدِيدُهُ بَأَوْ فِي الثَّانِيَةِ (فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ) أَيْ وَقَعَ فِيهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ تُوجِبُ تَعْظِيمَ مِثْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ) أَيِ الْمُؤْمِنُونَ وَ (غَرَّقَ) بِالتَّشْدِيدِ (فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ) بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: غَرَّقَهُ وَأَغْرَقَهُ بِمَعْنًى، وَفِي نُسْخَةٍ أَغْرَقَ وَفِي أُخْرَى بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ وَرَفْعِ الْمَنْصُوبَيْنِ (فَصَامَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَوْ مِثْلَهُ (مُوسَى شُكْرًا) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى النِّعْمَتَيْنِ الْجَلِيلَتَيْنِ، وَقَالَ - تَعَالَى - {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] (فَنَحْنُ نَصُومُهُ) أَيْ شُكْرًا أَيْضًا لِأَنَّ بَقَاءَ الْآبَاءِ سَبَبُ وُجُودِ الْأَبْنَاءِ أَوْ مُتَابَعَةً لِمُوسَى، وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَجَابَهُمْ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَنَحْنُ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَنَحْنُ (أَحَقُّ) أَيْ أَثْبَتُ (وَأَوْلَى) أَيْ أَقْرَبُ (بِمُوسَى) أَيْ بِمُتَابَعَتِهِ (مِنْكُمْ) فَإِنَّا مُوَافِقُونَ لَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَمُصَدِّقُونَ لِكِتَابِهِ فِي تَبْيِينِ الْيَقِينِ، وَأَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمَا فِي التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَمْرِ الْمَشُوبِ بِالتَّزْيِيفِ (فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] فَتَعْظِيمُ مَا عَظَّمَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى جِهَةِ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِي شَرْعِهِ بَلْ عَلَى طَرِيقِ مُوَافِقَةِ شَرْعِهِ لِشَرْعِهِ فِي ذَلِكَ أَوْ كَانَ صِيَامُهُ شُكْرًا لِخَلَاصِ مُوسَى كَمَا سَجَدَ فِيهِ صلى الله عليه وسلم شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ دَاوُدَ وَلِكَوْنِهِ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ هُنَا بِالصِّيَامِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ، وَلِذَا نَادَى مُنَادِيهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ فِيهِ فَلْيَصُمْ وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكَ (وَأَمَرَ) أَيْ أَصْحَابَهُ (بِصِيَامِهِ) وَفِي هَذَا تَوَاضُعٌ عَظِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُوسَى الْكَلِيمِ، وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» "، وَفِيهِ تَأَلُّفٌ لِقَوْمِهِ وَاسْتِئْنَاسٌ بِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَيُنَافِيهِ بِظَاهِرِهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَعُدُّهُ الْيَهُودُ عِيدًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" فَصُومُوهُ أَنْتُمْ "، فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الصَّوْمَ كَانَ لِمُخَالَفَتِهِمْ، وَمَا سَبَقَ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ كَانَ لِمُوَافَقَتِهِمْ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا طَائِفَتَيْنِ أَوِ الْقَضِيَّتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، أَوْ يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِّهِمْ إِيَّاهُ عِيدًا كَوْنُهُ عِيدًا حَقِيقَةً، أَوْ لَا يَمْتَنِعُ صَوْمُهُ عِنْدَهُمْ أَوْ صُومُوهُ أَنْتُمْ فَلَا تَجْعَلُوهُ عِيدًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 1426

2068 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: " إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

2068 -

(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ) أَيِ الْأُخَرِ (وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ) السَّبْتُ لِلْيَهُودِ وَالْأَحَدُ لِلنَّصَارَى، وَإِنَّمَا سُمُّوا مُشْرِكِينَ لِقَوْلِهِمْ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَإِمَّا لِلتَّغْلِيبِ، وَأَرَادَ مَنْ يُخَالِفُ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمُشْرِكُ الْكَافِرُ عَلَى أَيِّ مِلَّةٍ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُقَابِلِ أَهْلِ الْكِتَابِ اهـ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُشْرِكَ ضِدُّ الْمُوَحِّدِ بِأَنْ يُثْبِتَ شَرِيكًا لِلْبَارِي سَوَاءً كَانَ الصَّنَمَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوْكَبَ وَغَيْرَهَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى جِنْسِ الْكَافِرِ الشَّامِلِ لِلدَّهْرِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَيُقَابِلُ أَهْلَ الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1](فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ) أَيْ مَجْمُوعَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ أُمَّتِهِ، وَيُشِيرُ إِلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فَأَنَا أُحِبُّ وَإِلَى الثَّانِي قَوْلُهُ لَا تَصُومُوا، أَوِ الصِّيَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَوْنُهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ، وَالصِّيَامُ الْمَحْبُوبُ كَوْنُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُخَالَفَةِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي وَقْتِ انْتِفَاعِهِمْ بِهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِفْرَادَ السَّبْتِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِفْرَادُ الْأَحَدِ الْمُسْتَحَبِّ صَوْمُهُمَا جَمِيعًا مُتَوَالِيَيْنِ تَحْقِيقًا لِمُخَالَفَةِ الْفَرِيقَيْنِ، عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُفْطِرُونَ الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) قَالَ مِيرَكُ: وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَلَفْظُهُ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مَا كَانَ يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، كَانَ يَقُولُ: " إِنَّهُمَا يَوْمُ عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» ".

ص: 1427

2069 -

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ، وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ، وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2069 -

(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ) أَيْ يَأْمُرُنَا أَمْرًا مُؤَكَّدًا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ أَيْ يُرَغِّبُنَا إِلَيْهِ (وَيَتَعَاهَدُنَا) أَيْ يَحْفَظُنَا وَيُرَاعِي حَالَنَا وَيَتَفَحَّصُ عَنْ صَوْمِنَا أَوْ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ (عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا) أَيْ بِهِ (وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ، وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا) أَيْ وَلَمْ يَتَفَقَّدْنَا (عِنْدَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي قَوْلِهِ يَأْمُرُ بِالصِّيَامِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ كَانَ وَاجِبًا ثُمَّ نُسِخَ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَامَ حَجَّ خَطَبَ بِالْمَدِينَةِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ» "، فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا اهـ. وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ مَا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ إِلَّا حِينَ قَالَهُ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا كَوْنُ مَا بَعْدَهُ وَمَا قَبْلَهُ فَمَحَلُّ احْتِمَالٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ نَصًّا أَوْ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا مَنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ» ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إِيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ، إِذْ لَا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بِإِمْسَاكٍ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ إِلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بِوُجُوبِهِ أَوَّلًا، وَنَسْخِهِ ثَانِيًا، أَوِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، هَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ:" وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ " مِنْ كَلَامِهِ، وَإِلَّا فَالْحُفَّاظُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُعَاوِيَةَ مُدَرَّجٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ هَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ فَبَعِيدٌ عَنْ فَهْمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 1427

2070 -

وَعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: «أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صِيَامُ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرِ، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

2070 -

(وَعَنْ حَفْصَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (قَالَتْ: أَرْبَعٌ) أَيْ خِصَالٌ (لَمْ يَكُنْ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَدَعُهُنَّ) أَيْ يَتْرُكُهُنَّ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) فَاعِلٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ لَمْ تَكُنْ بِالتَّأْنِيثِ، وَفِي أُخْرَى مُجَمَّعَةً أَيْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْخِصَالُ مَتْرُوكَةً (صِيَامُ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرِ) بِالْجَرِّ وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ أَيْ صِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَشْرِ تِسْعَةُ أَيَّامٍ مَجَازًا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] وَكَذَا يُقَالُ: اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَوْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، أَوِ اسْتِثْنَاءُ يَوْمِ الْعِيدِ لِثُبُوتِهِ الشَّرْعِيِّ كَالِاسْتِثْنَاءِ الْعَقْلِيِّ (وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) بِالْوَجْهَيْنِ (مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ) أَرَادَتْ رَكْعَتَيْ سُنَّةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي ظَاهِرِهِ يُنَاقِضُ مَا سَبَقَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ:«مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ» ، وَالْجَمْعُ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَتْ مَا رَأَتْ وَنَقَلَتْ مَا عَلِمَتْ فَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) وَمِمَّا يُؤَكِّدُهُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ:" «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» " يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ:" وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " وَرَوَى أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ: «صِيَامُ يَوْمٍ مِنْهَا يَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَقِيَامُ لَيْلَةٍ مِنْهَا كَقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» ، وَاخْتُلِفَ فِي أَفْضَلِ الْعِشْرِينَ، فَقِيلَ: عَشْرُ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ لَيَالِيهِ لِأَنَّ مِنْهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَهِيَ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ حَيْثُ أَيَّامُهُ لِأَنَّ فِيهَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَذَهَبَ ابْنُ حِبَّانَ إِلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الْفَضْلِ، وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ فِيمَا ذُكِرَ عَشْرَ الْمُحَرَّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 1428

2071 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضَ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

2071 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضَ» ) أَيْ أَيَّامَ اللَّيَالِيِ الْبِيضِ وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ، لِأَنَّهَا الْمُقْمِرَاتُ مِنْ أَوَائِلِهَا إِلَى أَوَاخِرِهَا، فَنَاسَبَ صِيَامَهُمَا شُكْرًا لِلَّهِ - تَعَالَى - قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالْأَيَّامِ الْبِيضِ فَقَدْ لَحَنُوهُ لِأَنَّ الْأَيَّامَ كُلَّهَا بِيضٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: الْأَيَّامُ الْبِيضُ لَيَالِيهَا، أَوِ الْمُرَادُ أَيَّامُ صِيَامِهِنَّ مُكَفِّرَاتٌ لِلذُّنُوبِ مُبَيِّضَاتٌ لِلْقُلُوبِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى مَا رُوِيَ: أَنَّ آدَمَ عليه السلام اسْوَدَّ أَعْضَاؤُهُ الْعِظَامُ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِ السَّلَامِ، فَأُمِرَ بِصِيَامِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَبِصَوْمِ كُلِّ يَوْمٍ يَبْيَضُّ ثُلُثُ جَسَدِهِ عليه السلام بَلْ أَقُولُ: يَتَعَيَّنُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ لِأَنَّ الْأَيَّامَ الْبِيضَ وَقَعَ فِيهَا أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ: وَالصَّوَابُ أَنْ لَا يُقَالَ أَيَّامُ الْبِيضِ لِأَنَّ الْبِيضَ مِنْ صِفَةِ اللَّيَالِي، فَمَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ) أَيْ وَلَا فِي سَفَرٍ وَ (لَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، قَالَ مِيرَكُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ أَيَّامِ الْبِيضِ، قَالَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: حَاصِلُ الْخِلَافِ فِي تَقْرِيرِ أَيَّامِ الْبِيضِ تِسْعَةٌ أَحَدُهَا عَدَمُ التَّعْيِينِ، وَكُرِهَ التَّعْيِينُ، الثَّانِي الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مِنَ الشَّهْرِ، قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، الثَّالِثُ: مِنَ الثَّانِي عَشَرَ إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ، الرَّابِعُ: مِنَ الثَّالِثَ عَشَرَ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، الْخَامِسُ أَوَّلُهُمَا أَوَّلُ سَبْتٍ مَنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ مِنْ أَوَّلِ الثُّلَاثَاءِ مِنَ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ وَهَكَذَا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها السَّادِسُ: أَوَّلُهَا أَوَّلُ خَمِيسٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ مِنْ أَوَّلِ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ الَّذِي يَلِيهِ، وَهَكَذَا السَّابِعُ أَوَّلُ اثْنَيْنِ ثُمَّ خَمِيسٍ، ثُمَّ هَكَذَا الثَّامِنُ أَوَّلُ يَوْمٍ وَالْعَاشِرُ وَالْعِشْرُونَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا، التَّاسِعُ أَوَّلُ كُلِّ عَشْرٍ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ شَعْبَانَ الْمَالِكِيِّ، اهـ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بَقِيَ آخَرُ وَهُوَ آخِرُ ثَلَاثٍ مِنَ الشَّهْرِ، فَتِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَةٌ اهـ. وَلَعَلَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ ذِكْرِهِ مَعَ كَمَالِ ظُهُورِهِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ ضَبْطِهِ وَتَقْدِيرِهِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَيَّامُ الْبِيضِ ثَالِثَ عَشْرَةَ وَرَابِعَ عَشْرَةَ وَخَامِسَ عَشْرَةَ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ شُذُوذُ أَقْوَالٍ تِسْعَةٍ أَوْ عِشْرَةٍ حَكَاهَا الْعِرَاقِيُّ فِي تَعْيِينِ الْبِيضِ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، اهـ. وَهَذَا مُجَازَفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْهُ لِأَنَّ الْعِرَاقِيَّ بِنَفْسِهِ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَكَرَ الْبَقِيَّةَ عَلَى طَرِيقِ الشُّذُوذِ بَعْضُهَا مُسْنَدٌ إِلَى الْأَكَابِرِ وَبَعْضُهَا مَسْقُوطٌ عَنْهُ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ أَصْلًا، لِهَذَا تَبِعَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ، وَكَرَّرَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ بِهَا صَارَتْ عَشْرَةً كَامِلَةً.

ص: 1428

2072 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

2072 -

(وَعَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ) أَيْ نَمَاءٌ يُعْطَى بَعْضُهُ أَوْ طَهَارَةٌ يُطَهَّرُ بِهِ " «وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ» " فَإِنَّهُ يُذَابُ بَعْضُ الْبَدَنِ مِنْهُ وَيُنْقَصُ وَتُطَهَّرُ الذُّنُوبُ بِهِ، وَتُمَحَّصُ، فَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، وَالصَّوْمُ طَاعَةٌ بَدَنِيَّةٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ صَدَقَةُ الْجَسَدِ مَا يُخَلِّصُهُ مِنَ النَّارِ بِجُنَّةِ الصَّوْمِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 1429

2073 -

وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَالَ: " إِنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا ذَا هَاجِرَيْنِ، يَقُولُ: دَعْهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

2073 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) مُحْتَمَلُ إِعْرَابِهِ هُنَا أَنْ يَكُونَ بِالْحَرْفِ أَوِ الْحَرَكَةِ (وَالْخَمِيسَ) بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالْجَرِّ، وَاللَّامُ بَدَلٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَى يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الِاثْنَيْنِ (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَصُومُ) أَيْ كَثِيرًا (الِاثْنَيْنِ) بِكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحٍ (وَالْخَمِيسِ) بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ بِالْجَرِّ، وَأَرَادَ يَوْمَيْهِمَا، يَعْنِي فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِمَا (فَقَالَ: إِنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ) بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ (يَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ مُسْلِمٍ) أَيْ صَائِمٍ فِيهِمَا (إِلَّا ذَا) ذَا مَزِيدَةٌ (هَاجِرَيْنِ) بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ قَاطِعَيْنِ أَيْ وَلَوْ كَانَا صَائِمَيْنِ (يَقُولُ) أَيِ اللَّهُ لِلْمَلِكَ الْمُوَكَّلِ عَلَى مَحْوِ السَّيِّئَةِ عِنْدَ ظُهُورِ آثَارِ الْمَغْفِرَةِ (دَعْهُمَا) أَيِ اتْرُكْهُمَا (حَتَّى يَصْطَلِحَا) أَيْ إِلَى أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا فَحِينَئِذٍ يُغْفَرُ لَهُمَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلٌ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءٌ فَيُقَالُ: انْظُرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا، وَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُخَاطَبٍ يَقُولُ اتْرُكُوا أَوِ انْظُرُوا أَوْ دَعْهُمَا، كَأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا غَفَرَ لِلنَّاسِ سِوَاهُمَا قِيلَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا أَيْضًا، فَأَجَابَ أَوِ انْظُرُوا أَوِ اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا اهـ. وَمَا اخْتَرْنَاهُ أَظْهَرُ، فَتَأَمَّلْ وَتَدَبَّرْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 1429

2074 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ بَعَّدَهُ اللَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ كَبُعْدِ غُرَابٍ طَائِرٍ وَهُوَ فَرْخٌ حَتَّى مَاتَ هَرِمًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ (قَيْسٍ) رضي الله عنه.

ــ

2074 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) نُصِبَ عَلَى الْعِلَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ، وَفِي نُسْخَةٍ: لِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ أَيْ ذَاتِهِ وَطَلَبِ قُرْبِهِ أَوْ جِهَتِهِ الَّتِي رَضِيَ بِهَا مِنَ الرَّجَاءِ بِهِ أَوْ مِنْ خَوْفِ عِقَابِهِ، وَلِذَا يُفَسَّرُ عِنْدَ حَلِّ مُشْكِلَاتِهِ بِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ (بَعَّدَهُ اللَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ كَبُعْدِ غُرَابٍ) أَيْ بُعْدًا مِثْلَ بُعْدِ غُرَابٍ (طَائِرٍ وَهُوَ فَرْخٌ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ صَغِيرٌ (حَتَّى مَاتَ هَرِمًا) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ كَبِيرًا، قَالَ الطِّيبِيُّ:(طَائِرٍ) صِفَةُ (غُرَابٍ) ، (وَهُوَ فَرْخٌ) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي طَائِرٍ، وَحَتَّى مَاتَ غَايَةُ الطَّيَرَانِ وَهَرِمًا حَالٌ مِنْ فَاعِلِ مَاتَ مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ وَهُوَ فَرْخٌ، وَقِيلَ: يُضْرَبُ الْغُرَابُ مَثَلًا فِي طُولِ الْعُمْرِ، شَبَّهَ بُعْدَ الصَّائِمِ عَنِ النَّارِ بِبُعْدِ غُرَابٍ طَارَ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ اهـ. قِيلَ: يَعِيشُ الْغُرَابُ أَلْفَ عَامٍ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. (وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ) : كَذَا فِي نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ فِي الصَّحَابَةِ، وَكَتَبَ مِيرَكُ فِي الْهَامِشِ بَدَلَ قَيْسٍ قَيْصَرَ بِفَتْحِ الرَّاءِ حِبْرًا، وَبِالتَّنْوِينِ حُمْرَةً وَفَوْقَهُ (ظ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ، وَفِي الْمَعْنَى (قَيْصَرَ) بِمَفْتُوحَةٍ وَسُكُونِ يَاءٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ، وَتَرْكِ صَرْفٍ قَالَهُ مِيرَكُ. وَرَوَاهُ الْبَرَّازُ، وَفَى سَنَدِهِ رَجُلٌ لَمْ يُسَمَّ، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَلَامَةَ بْنِ قَيْصَرَ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فَسَمَّاهُ سَلَامَةَ بِزِيَادَةِ أَلْفٍ كَذَا قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ.

ص: 1429