المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب رحمة الله] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٤

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ تَحِلُّ لَهُ]

- ‌[بَابُ الْإِنْفَاقِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِمْسَاكِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ]

- ‌[باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم]

- ‌[بَابُ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[باب في توابع لصوم التطوع]

- ‌[بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ]

- ‌[كِتَابُ الدَّعَوَاتِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ]

- ‌[كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ]

- ‌[بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمَنَامِ]

- ‌[بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ]

الفصل: ‌[باب رحمة الله]

مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِنَقْلِ السُّنَّةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَزِيدُ عَلَى جَمِيعِ حَسَنَاتِ رَابِعَةَ، وَإِنَّمَا كَانَا يَتَوَاضَعَانِ لَهَا فِي الْحُضُورِ عِنْدَهَا، وَطَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْهَا اقْتِدَاءٌ بِهِ عليه الصلاة والسلام بَلْ رُبَّمَا كَانَا يَنْفَعَانَهَا فِيمَا تَكُونُ جَاهِلَةً فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مِنْ قَبِيلِ إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ مُبَالَغَةً، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ كَالْأَسَدِ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُشْرِكَ التَّائِبَ لَيْسَ كَالنَّبِيِّ الْمَعْصُومِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ، بِأَنَّ الْمُرَادَ. مِمَّنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مَنْ هُوَ عُرْضَةٌ لَهُ لَكِنَّهُ حَفِظَ مِنْهُ، فَخَرَجَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ، فَلَيْسُوا مَقْصُودِينَ بِالتَّشْبِيهِ. قُلْتُ: فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ عَمِلَ ذُنُوبًا وَتَابَ مِنْهَا، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا أَصْلًا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقِيلَ: الْأَوَّلُ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ بَعْدَ أَنْ ذَاقَ لَذَّاتَ الْمَعْصِيَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْلَى صِدْقًا وَأَقْوَى أَيْمَانًا، لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْمَانِعَ، ثُمَّ تَرَكَهُ بِخِلَافِ الثَّانِي، وَقِيلَ: الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَتَدَنَّسْ بِالْمَعَاصِي بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِمَّا عِصْمَةٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَإِمَّا تَوْبَةٌ فِي الْآخَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَشْبَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ الْمَعْصُومِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ الْمَحْفُوظَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّهُ الْعَبْدُ الْأَكْمَلُ، فَإِنَّهُ وَلَوْ غَفَرَ لَهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَيَاءِ وَالْخَجْلَةِ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي: شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَقَالَ) أَيِ: الْبَيْهَقِيُّ (تَفَرَّدَ بِهِ) أَيْ: بِنَقْلِ هَذَا الْحَدِيثِ (النَّهْرَانِيُّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ (وَهُوَ مَجْهُولٌ) : إِمَّا عَيْنُهُ أَوْ حَالُهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مَعَ هَذَا لَا يَضُرُّ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ. (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ رَوَى) أَيِ: الْبَغَوِيُّ رحمه الله وَفِي نُسْخَةٍ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (مَوْقُوفًا) : لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ (قَالَ: النَّدَمُ تَوْبَةٌ) أَيْ: رُكْنٌ أَعْظَمُهَا النَّدَامَةُ، إِذْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا بَقِيَّةُ الْأَرْكَانِ مِنَ الْقَلْعِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَتَدَارُكِ الْحُقُوقِ مَا أَمْكَنَ، وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجُّ عَرَفَةُ إِلَّا أَنَّهُ عَكْسُ مُبَالَغَةٍ، وَالْمُرَادُ النَّدَامَةُ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَا غَيْرَ، (وَالتَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) .

وَرَوَى الْقُشَيْرِيُّ فِي الرِّسَالَةِ، وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظٍ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِذْ أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَنْبٌ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظٍ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، الْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ، وَمَنْ أَذَى مُسْلِمًا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ مِثْلَ مَنَابِتِ النَّخْلِ. كَذَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

وَقَالَ ابْنُ الرَّبِيعِ: حَدِيثُ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِشَوَاهِدِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِذَا وُجِدَتْ بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ، فَلَا شَكَّ فِي قَبُولِهَا وَتَرَتُّبِ الْمَغْفِرَةِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] وَلَا يَجُوزُ الْخُلْفُ فِي إِخْبَارِهِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَأَمَّا " الِاسْتِغْفَارُ " عَلَى وَجْهِ " الِافْتِقَارِ "" وَالِانْكِسَارِ " بِدُونِ تَحَقُّقِ التَّوْبَةِ، فَقَدْ يَكُونُ مَاحِيًا لِذُنُوبٍ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَاحِيًا، لَكِنْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَسْأَلَةَ فِي الْبَحْثِ مَعَ بَعْضِ مُعَاصِرِيهِ، وَأَطْنَبَ كُلٌّ فِي ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ، وَقَيَّدَهَا ابْنُ حَجَرٍ، وَأَطْلَقَهَا الْآخَرُ، وَأَلْحَقَ التَّفْصِيلَ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

ص: 1637

[بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ]

ص: 1637

(5)

بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2364 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي. وَفِي رِوَايَةٍ: " غَلَبَتْ غَضَبِي» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[5]

بَابٌ [رَحْمَةُ اللَّهِ]

بِالرَّفْعِ مُنَوَّنًا، وَبِالْوَقْفِ مُسَكَّنًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُنْوَانَ، وَغَالِبُ أَحَادِيثِهِ فِي:(رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ) الْبَاعِثَةُ عَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْعِصْيَانِ، وَالْمُوجِبَةُ لِلرَّجَاءِ وَعَدَمِ الْيَأْسِ مِنَ الْغُفْرَانِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2364 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ) أَيْ: حِينَ قَدَّرَ اللَّهُ خَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَحَكَمَ بِظُهُورِ الْمَوْجُودَاتِ، أَوْ حِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ يَوْمَ الْمِيثَاقِ بَدَأَ خَلْقَهُمْ (كَتَبَ كِتَابًا) أَيْ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَمْرِهِ لِلْمَلَائِكَةِ أَنْ يَكْتُبُوا، أَوْ لِلْقَلَمِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: جَفَّ الْقَلَمُ. مِمَّا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوِ الْكِتَابَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِثْبَاتِ وَالْإِبَانَةِ (فَهُوَ) أَيْ: ذَلِكَ الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ أَوْ عِلْمِهِ (عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدِيَّةُ الْمَكَانَةِ لَا عِنْدِيَّةَ الْمَكَانِ لِتَنَزُّهِهِ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثَانِ (فَوْقَ عَرْشِهِ) : فِيهِ تَنْبِيهٌ " نَبِيهٌ " عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِ ذَلِكَ الْكِتَابِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ تَحْتَ الْعَرْشِ، زَادَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّهُ فِي جَبْهَةِ إِسْرَافِيلَ رَئِيسِ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَالْكِتَابُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ فَوْقَ الْعَرْشِ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْعَرْشِ عَالَمُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَاللَّوْحُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَقَضِيَّةُ هَذَا الْعَالَمِ: هُوَ عَالَمُ الْعَدْلِ، وَإِلَيْهِ أَشَارٌ لِقَوْلِهِ: بِالْعَدْلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِثَابَةَ الْمُطِيعِ وَعِقَابَ الْعَاصِي، حَسَبُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَمَلُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي غَلَبَةَ الْغَضَبِ وَالرَّحْمَةِ لِكَثْرَةِ مُوجِبِهِ وَمُقْتَضِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] فَيَكُونُ سِعَةُ الرَّحْمَةِ شُمُولَهَا عَلَى الْبَرِّيَّةِ، وَقَبُولُ إِبَانَةِ التَّائِبِ وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُشْتَغِلِ بِذَنْبِهِ الْمُنْهَمِكِ فِيهِ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ أَمْرًا خَارِجًا عَنْهُ، مُتَرَقِّبًا مِنْهُ إِلَى عَالَمِ الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ وَفِي أَمْثَالِ هَذَا الْحَدِيثِ أَسْرَارٌ إِفْشَاؤُهَا بِدْعَةٌ، فَكُنْ مِنَ الْوَاصِلِينَ إِلَى الْعَيْنِ دُونَ السَّامِعِينَ لِلْخَبَرِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ إِمَّا الْقَضَاءُ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ وَأَوْجَبَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، أَيْ: فَعِلْمُهُ عِنْدَهُ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ لَا يَنْسَى وَلَا يَنْسَخُهُ وَلَا يُبَدِّلُهُ، وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الْمَذْكُورُ فِيهِ الْخَلْقُ وَبَيَانُ أَحْوَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمُ وَالْأَقْضِيَةِ النَّافِذَةِ فِيهِمْ وَأَحْوَالِ عَوَاقِبِ أُمُورِهِمْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَاهَا فَذِكْرُهُ عِنْدَهُ (إِنَّ رَحْمَتِي) بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِفَتْحِ أَنَّ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنَ الْكِتَابِ وَبِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةٌ بِمَضْمُونِ الْكِتَابِ، قُلْتُ يُؤَيِّدُ الثَّانِي رِوَايَةُ الشَّيْخَيْنِ بِلَفْظِ أَنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي (سَبَقَتْ غَضْبَى، وَفِي رِوَايَةٍ غَلَبَتْ غَضَبِي) أَيْ غَلَبَتْ آثَارُ رَحْمَتِي عَلَى آثَارِ غَضَبِي، وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْمُرَادُ بَيَانُ سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَشُمُولِهَا عَلَى الْخَلْقِ حَتَّى كَأَنَّهَا السَّابِقُ وَالْغَالِبُ، وَإِلَّا فَهُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِ رَاجِعَتَانِ إِلَى إِرَادَتِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، تُوصَفُ صِفَاتُهُ بِالسَّبْقِ وَالْغَلَبَةِ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَيْ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ حَكَمَ حُكْمًا جَازِمًا وَوَعَدَ وَعْدًا لَازِمًا لَا خَلْفَ فِيهِ بِأَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ; فَإِنَّ الْمُبَالِغَ فِي حُكْمِهِ إِذَا أَرَادَ إِحْكَامَهُ عَقَدَ عَلَيْهِ سِجِلًّا وَحَفَظَهُ ; فَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ قَضَاءِ الْخَلْقِ وَسَبْقِ الرَّحْمَةِ أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلْعِبَادَةِ شُكْرًا لِلنِّعَمِ الْفَائِضَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَدَاءِ حَقِّ الشُّكْرِ، وَبَعْضُهُمْ يُقَصِّرُونَ فِيهِ، فَسَبَقَتْ رَحْمَتُهُ فِي حَقِّ الشَّاكِرِ بِأَنْ وَفَّى جَزَاءَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، وَفِي حَقِّ الْمُقَصِّرِ إِذَا تَابَ وَرَجَعَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزِ، وَمَعْنَى سَبَقَتْ رَحْمَتِي تَمْثِيلٌ لِكَثْرَتِهَا وَغَلَبَتِهَا عَلَى الْغَضَبِ بِفَرَسَيْ رِهَانٍ تَسَابَقَتَا فَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1638

2365 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2365 -

(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ) أَيْ غَايَتَهَا، وَهِيَ النِّعْمَةُ لِاسْتِحَالَةِ حَقِيقَةِ الرَّحْمَةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى وَتَعَدُّدِهَا (أَنْزَلَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْمِائَةِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ مِنْ تِلْكَ النِّعَمِ (رَحْمَةً وَاحِدَةً) أَيْ: تَعَطُّفًا رُوحَانِيًّا وَمَيَلَانًا نَفْسَانِيًّا، وَحُمِلَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لِإِمْكَانِهَا فَهِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى، وَالْإِنْزَالُ تَمْثِيلٌ مُشِيرًا إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ بَلْ هِيَ مِنَ الْأُمُورِ السَّمَاوِيَّةِ مَقْسُومَةً بِحَسَبِ قَابِلِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ لِمَظَاهِرِ آثَارِ صِفَةِ الرَّحْمَانِيَّةِ الْوَاقِعَةِ (بَيْنَ الْجِنِّ) أَيْ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ (وَالْإِنْسِ) كَذَلِكَ (وَالْبَهَائِمِ) أَيْ: مَعَ أَوْلَادِهَا (وَالْهَوَامِّ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ، جَمْعُ هَامَّةٍ، وَهِيَ كُلُّ ذَاتِ سُمٍّ وَقَدْ يَقَعُ عَلَى مَا يَدِبُّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ كَالْحَشَرَاتِ وَالْقَمْلِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِرَحْمَتِهَا فِيمَا لَا تَوَالُدَ فِيهَا، وَأَمَّا أَكْلُ الْهِرِّ لِوَلَدِهَا أَحْيَانًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَزِيدِ خَوْفِهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهَا فَتَرَى أَنْ لَا مَلْجَأَ إِلَّا أَكْلُهُ ; فَهُوَ مِنْ مَزِيدِ رَحْمَتِهَا فِي تَخَيُّلِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُوعِهَا كَمَا يُوجَدُ لَدَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ غَيْرُ طَبِيعِيَّةٍ فَإِذَا سَلَبَتِ ارْتَفَعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ (فَبِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الرَّحْمَةِ الْوَاحِدَةِ وَبِسَبَبِ خَلْقِهَا فِيهِمْ (يَتَعَاطَفُونَ) أَيْ يَتَمَايَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ (وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ) أَيْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ) أَيْ تُشْفِقُ وَتَحِنُّ (عَلَى وَلَدِهَا) أَيْ حِينَ صِغَرِهَا وَلَعَلَّ التَّخْصِيصَ بِالْأَوْلَادِ لِأَنَّهُ لَا تَعَاطُفَ فِيمَا بَيْنَهَا حَتَّى لَا تَعْطِفَ أَوْلَادُهَا عَلَى وَالِدَيْهَا، وَلَعَلَّهَا مَوْجُودَةٌ فِيهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ (أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} [البقرة: 74] وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ظُهُورُ النَّبَاتَاتِ، وَخَوَاصُّ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُتْعَةُ بِالنَّارِ، وَالْهَوَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ (وَأَخَّرَ اللَّهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَأَظْهَرَ الْمَسْتَكِنَّ بَيَانًا لِشِدَّةِ الْعِنَايَةِ لِرَحْمَةِ اللَّهِ الْأُخْرَوِيَّةِ (تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ) أَيِ الْمُؤْمِنِينَ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ: قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَبَعْدِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا نِهَايَةَ لَهَا لَمْ يُرِدْ بِمَا ذَكَرَهُ تَحْدِيدًا بَلْ تَصْوِيرًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ قِسْطِ أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ وَقِسْطِ كَافَّةِ الْمَرْبُوبِينَ فِي الدُّنْيَا. اهـ. وَهُوَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْحُسْنَى، وَلَا يُنَافِي تَفْسِيرَ الرَّحْمَةِ بِالنِّعْمَةِ فَإِنَّ نِعَمَهُ لَا تُحْصَى دُنْيَا وَعُقْبَى، وَلَا يُعَارِضُهُ تَقْسِيمُ الرَّحْمَةِ بِمَعْنَى الْمَثُوبَةِ الْعُظْمَى عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ نُزُولِ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ رَحْمَةً كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْكَعْبَةِ سِتِّينَ لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعِينَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرِينَ لِلنَّاظِرِينَ، فَانْدَفَعَ بِهِ مَا تَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى الطِّيبِيِّ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1639

2366 -

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ: فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ.

ــ

2366 -

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ سَلْمَانَ نَحْوُهُ) أَيْ بِمَعْنَاهُ (وَفِي آخِرِهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا) أَيْ: أَتَمَّ الرَّحْمَةَ الْوَاحِدَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي الدُّنْيَا (بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ) أَيِ: الَّتِي أَخَّرَهَا، حَتَّى يَصِيرَ الْمَجْمُوعُ مِائَةَ رَحْمَةٍ فَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ.

ص: 1639

2367 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ وَلَوْ يُعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3367 -

(وَعَنْهُ) وَفِي نُسْخَةٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِإِيهَامِ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ سَلْمَانُ، وَأَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى الْعُنْوَانِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ) اللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ (مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ) بَيَانٌ لِمَا (مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ) أَيِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنِ الْكَافِرِينَ وَلَا بُعْدَ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ عَلَى إِطْلَاقِهِ مِنْ إِفَادَةِ الْعُمُومِ إِذْ تَصَوُّرُ ذَلِكَ وَحْدَهُ يُوجِبُ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفِيهِ بَيَانُ كَثْرَةِ عُقُوبَتِهِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ مُؤْمِنٌ بِطَاعَتِهِ، أَوِ اعْتِمَادًا عَلَى رَحْمَتِهِ فَيَقَعُ فِي الْأَمْنِ وَلَا

ص: 1639

يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ) أَيْ: كُلُّ كَافِرٍ (مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَيُكْسَرُ (مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ) : أَيْ مِنَ الْكَافِرِينَ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: إِذَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حُسْنِ الْمُقَابَلَةِ عَدَمُ التَّقْيِيدِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ مَعَ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةَ غَيْرُ لَازِمَةِ الْوُقُوعِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ فِي بَيَانِ صِفَتَيِ الْقَهْرِ وَالرَّحْمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ; فَكَمَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ لَا يَبْلُغُ كُنْهَ مَعْرِفَتِهَا أَحَدٌ، كَذَلِكَ عُقُوبَتَهُ وَرَحْمَتَهُ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَقَفَ عَلَى كُنْهِ صِفَتِهِ الْقَهَّارِيَّةِ لَظَهَرَ مِنْهَا مَا يُقَنِّطُ مِنْ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ فَلَا يَطْمَعُ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَهَذَا مَعْنَى وَضْعِ أَحَدٍ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمُؤْمِنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُؤْمِنَ الْجِنْسُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ ; فَالتَّقْدِيرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدِ اخْتُصَّ لِأَنْ يَطْمَعَ بِالْجَنَّةِ فَإِذَا انْتَفَى الطَّمَعُ مِنْهُ فَقَدِ انْتَفَى عَنِ الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ مُخْتَصٌّ بِالْقُنُوطِ فَإِذَا انْتَفَى الْقُنُوطُ عَنْهُ فَقَدِ انْتَفَى عَنِ الْكُلِّ، وَوَرَدَ الْحَدِيثُ فِي بَيَانِ كَثْرَةِ رَحْمَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ كَيْلَا يَغْتَرَّ مُؤْمِنٌ بِرَحْمَتِهِ فَيَأْمَنَ مِنْ عَذَابِهِ، وَلَا يَيْأَسَ كَافِرٌ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَتْرُكَ بَابَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ بِمُطَالَعَةِ صِفَاتِ الْجَمَالِ تَارَةً، وَبِمُلَاحَظَةِ نُعُوتِ الْجَلَالِ أُخْرَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَوْ نُودِيَ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا، وَكَذَا فِي النَّارِ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُغَلِّبَ الْخَوْفَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالرَّجَاءَ عِنْدَ الْمَمَاتِ.

ص: 1640

2368 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

2368 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ» ) بِكَسْرِ الشِّينِ، أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: ضَرَبَ الْعَرَبُ مَثَلًا بِالشِّرَاكِ ; لِأَنَّ سَبَبَ حُصُولِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إِنَّمَا هُوَ بِسَعْيِ الْعَبْدِ، وَيُجْرَى السَّعْيُ بِالْأَقْدَامِ، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ خَيْرًا اسْتَحَقَّ الْجَنَّةَ بِوَعْدِهِ، وَمَنْ عَمِلَ شَرًّا اسْتَحَقَّ النَّارَ بِوَعِيدِهِ، وَمَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ مُنْجَزَانِ فَكَأَنَّهُمَا حَاصِلَانِ. اهـ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ فِي دَفْعِهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ لَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَلَعَلَّهُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الشِّرَاكَ يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ بِخِلَافِ الْعَمَلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] فَالْمُعَلَّقُ بِالْعُنُقِ عَلَى وَجْهِ الدَّوَامِ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنَ الْمُعَلَّقِ تَحْتَ الرِّجْلِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِإِشَارَاتِ كَلَامِ سَيِّدِ الْأَنَامِ (وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ) إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيِ: النَّارُ مِثْلُ الْجَنَّةِ فِي كَوْنِهَا أَقْرَبَ مِنْ شِرَاكِ النَّعْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي، ثُمَّ قِيلَ هَذَا لِأَنَّ سَبَبَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَعَ الشَّخْصِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالسَّيِّئُ وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ إِذْ هُوَ مُجَاوِرٌ لَهُ وَالْعَمَلُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَوْ هِيَ نَفْسُهَا بِاعْتِبَارِ سُرْعَةِ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي يَلِيهَا دُخُولُهَا، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لَكِنْ بِظَاهِرِهِ مِنْ كَوْنِهِ أَقْرَبَ مِنَ الشِّرَاكِ غَيْرُ صَحِيحٍ إِلَّا مُبَالَغَةً وَادِّعَاءً كَمَا لَا يَخْفَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ نَزَلَ الْوَعْدُ بِهَا النَّاجِزُ لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مَنْزِلَةَ حُصُولِهَا نَفْسِهَا فَهُوَ عَيْنُ الْقَوْلِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطِّيبِيُّ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 1640

2369 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2369 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ رَجُلٌ) أَيْ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَنَا (لَمْ يَعْمَلْ) صِفَةُ رَجُلٍ (خَيْرًا قَطُّ) أَيْ عَمَلًا صَالِحًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لَمْ يَعْمَلْ، وَخَوْفُهُ مِنْ عَذَابِهِ وَغُفْرَانِهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ (لِأَهْلِهِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ يَتَعَدَّى مِنْهُ لِأَهْلِهِ وَذَوِي قَرَابَتِهِ، وَأَنَّهُ يَعْمَلُ خَيْرًا لِنَفْسِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَوْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَيْهِمُ اهـ، وَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَهْلِهِ مُتَعَلِّقٌ بَقَالَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الطِّيبِيُّ فِيمَا سَيَأْتِي لَا بِلَمْ يَعْمَلْ كَمَا فَهِمَ هَذَا الْقَائِلُ، تَأَمَّلْ (وَفِي رِوَايَةٍ أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ: بَالَغَ فِي فِعْلِ الْمَعَاصِي فَمُؤَدَّى الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِدٌ (فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: مَقُولُ قَالَ

ص: 1640

عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَمَعْمُولُ أَوْصَى عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَقَدْ تَنَازَعَا فِيهِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ. اهـ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ قَوْلَهُ:(وَفِي رِوَايَةٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (أَوْصَى) بِنْيَةُ جُمْلَةٍ مُعْتَرِضَةٍ، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ زَيْنُ الْعَرَبِ مِنْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى هَكَذَا: رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ قَطُّ خَيْرًا لِأَهْلِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ إِلَخْ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَكُونُ ابْتِدَاءُ قَوْلِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام مِنْ: أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَكْثَرَ مِنَ الذُّنُوبِ. اهـ، ثُمَّ الْأَصْلُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَحَرِّقُونِي. وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ إِعْلَامًا بِعَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَأَنَّهُ قَدَّمَ مَا غَابَ بِهِ عَنْ مَرَاتِبِ السُّعَدَاءِ كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فِي مَذْهَبِ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ الطِّيبِيُّ: لَوْ حُكِيَ مَا تَلَفَّظَ بِهِ الرَّجُلُ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِذَا مُتُّ فَحَرِّقُونِي ثُمَّ لْيَذْرُوا نِصْفِي، وَلَوْ نَقَلَ مَعْنَى مَا تَلَفَّظَ بِهِ الرَّجُلُ لَقَالَ: إِذَا مَاتَ فَلْيَحْرِقْهُ قَوْمُهُ ثُمَّ لْيَذْرُوا، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الْغَائِبِ تَحَاشِيًا عَنْ وَصْمَةِ نِسْبَةِ التَّحْرِيفِ وَتَوَهُّمِ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ إِلَى نَفْسِهِ. اهـ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَلَامِي أَوْلَى مِمَّا قِيلَ عَدَلَ إِلَخْ، لِأَنَّ هَذَا الْعُدُولَ لَا يَمْنَعُ إِيهَامَ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَغَفْلَةٌ وَذُهُولٌ عَنْ أَنَّ الْعُدُولَ وَقَعَ عَنْ قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ إِلَى قَوْلِهِ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الطِّيبِيُّ تَحَامِيًا أَيْضًا (ثُمَّ اذْرُوا) هَمْزَةُ وَصْلٍ مِنَ الذَّرْيِ: بِمَعْنَى التَّذْرِيَةِ، وَيَجُوزُ قَطْعُهَا يُقَالُ ذَرَتْهُ الرِّيحُ وَأَذْرَتْهُ: إِذَا أَطَارَتْهُ، أَيْ: فَرِّقُوا (نِصْفَهُ) أَيْ نِصْفَ رَمَادِهِ إِلَى الْبَرِّ (وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ) اللَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ (قَدَرَ) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَيُشَدَّدُ أَيْ: ضَيَّقَ (اللَّهُ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيَّ، وَاعْتَمَدَهَا النَّوَوِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوُ قَلَمٍ مِنْ بَعْضِ الْكُتَّابِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ تَحْرِيفُ الْكِتَابِ وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ قَوْلُهُ (لَيُعَذِّبَنَّهُ) إِذْ لَمْ يُعْهَدِ الِالْتِفَافُ بَيْنَ أَجْزَاءِ جُمْلَتِي الشَّرْطِيَّةِ وَالْقَسَمِيَّةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ دَهِشًا (عَذَابًا) أَيْ تَعْذِيبًا (لَا يُعَذِّبُهُ) أَيِ ذَلِكَ الْعَذَابَ (أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) قِيلَ مَعْنَاهُ لَئِنْ ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَنَاقَشَهُ فِي الْحِسَابِ مِنَ الْقَدْرِ بِمَعْنَى التَّضْيِيقِ لَا مِنَ الْقُدْرَةِ ; لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْقَدْرِ كُفْرٌ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ (خَشْيَتُكَ) وَغَفَرَ لَهُ، وَالْكَافِرُ لَا يَخْشَاهُ وَلَا يُغْفَرُ لَهُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ (قَدَرَ) بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى ضِيَّقَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَقَوْلُهُ: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وَالثَّانِي لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ أَيْ: قَضَاهُ مِنْ قَدَرَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ ; وَلَكِنْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ أَيْ: أَفُوتُهُ، وَهَذَا يُنْبِئُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّمَنُّعَ بِالتَّحْرِيقِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ ذَلِكَ أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِغُفْرَانِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وَجْهٍ يُمْكِنُ الْقَوْلُ مَعَهُ بِإِيمَانِهِ، فَقِيلَ: إِنَّ الرَّجُلَ ظَنَّ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا الصَّنِيعَ تُرِكَ، فَلَمْ يُنْشَرْ وَلَمْ يُعَذَّبْ، وَأَمَّا تَلَفُّظُهُ بِقَوْلِهِ: لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ، وَبِقَوْلِهِ فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ ; فَلِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مِثْلِهِ هَلْ يَكْفُرُ أَمْ لَا؟ بِخِلَافِ الْجَاحِدِ لِلصِّفَةِ، وَقِيلَ هَذَا وَرَدَ مَوْرِدَ التَّشَكُّكِ فِيمَا لَا يُشَكُّ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ بِتَجَاهُلِ الْعَارِفِ كَقَوْلِهِ {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] الْآيَةَ. وَقِيلَ لَقِيَ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ مَا أَدْهَشَهُ وَسَلَبَ عَقْلَهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمْهِيدِ الْقَوْلِ وَتَخْمِيرِهِ ; فَبَادَرَ بِسَقْطٍ مِنَ الْقَوْلِ، وَأَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجًا لَمْ يَعْتَقِدْ حَقِيقَتَهُ، وَهَذَا أَسْلَمُ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله هُوَ كَلَامٌ صَدَرَ عَنْ غَلَبَةِ حَيْرَةٍ وَدَهْشَةٍ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ فِي كَلَامِهِ كَالْغَافِلِ وَالنَّاسِي فَلَا يُؤَاخَذُ فِيمَا قَالَ، أَقُولُ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقِيلَ ذَلِكَ لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ، وَنَحْوَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ وَاجِدِ الضَّالَّةِ (أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ) وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفِيهِ نَصٌّ إِذْ قَوْلُ الْوَاجِدِ وَقَعَ سَهْوًا وَخَطَأً بِخِلَافِ هَذَا فَكَيْفَ يَكُونُ مَقِيسًا، وَقِيلَ إِنْكَارُ وَصْفٍ وَاحِدٍ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِمَا عَدَاهُ لَا يُوجِبُ كُفْرًا، قُلْتُ: جَهْلُ وَصْفٍ وَاحِدٍ عُذْرٌ عِنْدَ بَعْضٍ لَا إِنْكَارُهُ، وَبَوْنٌ بَيْنَ الْإِنْكَارِ لِلشَّيْءِ وَالْجَهْلِ بِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ قَالَ: قِيلَ إِنَّهُ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ جَاهِلِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَمِمَّنْ كَفَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَوَّلًا، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُكَفَّرُ بِهِ بِخِلَافِ جَحْدِهَا، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ مَذْهَبُهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ اعْتِقَادًا يَقْطَعُ بِصَوَابِهِ وَيَرَاهُ دِينًا شَرْعًا، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَقَالَتَهُ حَقٌّ، وَقَالُوا لَوْ سُئِلَ النَّاسُ عَنْ

ص: 1641

الصِّفَاتِ لَوُجِدَ الْعَارِفُ بِهَا قَلِيلًا، وَقِيلَ: هَذَا مِنْ بَدِيعِ اسْتِعْمَالَاتِ الْعَرَبِ، وَيُسَمَّى مَزْجَ الشَّكِّ بِالْيَقِينِ، وَالْمُرَادُ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس: 94] قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُقَرِّرَهُ عِنْدَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشُكَّ فِيهِ قَطْعًا، وَإِنَّمَا قَالَ تَهْيِيجًا وَإِلْهَابًا لَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ مَزِيدُ ثَبَاتٍ وَرُسُوخِ قَدَمٍ فِيهِ، كَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَنْشُرَهُ وَيَبْعَثَهُ وَيُعَذِّبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (وَإِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَنِي) فَأَرَادَ أَنْ يُحَرِّضَ الْقَوْمَ عَلَى إِنْفَاذِ وَصِيَّتِهِ ; فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ فِي مَعْرِضِ التَّشْكِيكِ لَهُمْ لِئَلَّا يَتَهَاوَنُوا فِي وَصِيَّتِهِ فَيَقُومُوا بِهَا حَقَّ الْقِيَامِ. اهـ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى خِطَابًا لِنَبِيِّهِ مَبْنِيًّا عَلَى فَرْضِهِ وَتَقْدِيرِهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ شَكٌّ فِي وُقُوعِهِ، وَلِذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:" لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ "، وَالْحَدِيثُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِ مَعْصُومٍ خِطَابًا لِمَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الشَّكُّ ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، وَلَا تَأْيِيدَ لِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهَا مَعْنًى صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ مُبَايِنٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا مُوهِمَةٌ، نَعَمْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَيَحْتَاجُ كَلَامُهُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَإِنَّ أَحْسَنَ التَّأْوِيلِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وَرِوَايَةُ (أُضِلُّ اللَّهَ) تُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى: أُضَيِّعُ طَاعَتَهُ، وَ (لَعَلَّ) لِلْإِشْفَاقِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:" مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ " لَا أَنَّهُ لِلتَّرَجِّي كَمَا حَمَلُوا عَلَيْهِ وَأَشْكَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَنَسَبُوا الْكُفْرَ إِلَيْهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَتَى بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَلَا مَحْظُورَ لَدَيْهِ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا الرَّجُلُ فِي زَمَانِ فَتْرَةٍ حِينَ يَنْفَعُ مُجَرَّدُ التَّوْحِيدِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ لِقَوْلِهِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَكْلِيفٌ، وَالتَّوْحِيدُ مُتَحَقِّقٌ فَلَا مَعْنَى لِلْخَوْفِ، مَعَ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ لَيْسَ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ بِتَوْحِيدٍ وَغَيْرِهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ (فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا) أَيْ أَهْلُهُ أَوْ بَنُوهُ (مَا أَمَرَهُمْ) مِنَ التَّحْرِيقِ وَالتَّذْرِيَةِ (فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ) أَيْ: مِنْ أَجْزَاءِ الرَّجُلِ ; إِظْهَارًا لِلْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالْقُوَّةِ الشَّامِلَةِ (ثُمَّ قَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا) أَيْ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْوَصِيَّةِ (قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ) قِيلَ: إِنَّمَا وَصَّى بِذَلِكَ تَحْقِيرًا لِنَفْسِهِ وَعُقُوبَةً لَهَا بِعِصْيَانِهَا رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَهُ اللَّهُ فَيَغْفِرَ لَهُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ قَوْلَهُ:(لَئِنْ قَدَرَ) بِمَعْنَى ضَيَّقَ ; فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَنَّ تَحْقِيرَ النَّفْسِ لَا يُبِيحُ مِثْلَ ذَلِكَ (فَغَفَرَ لَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ وَجَدَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ مَا فُعِلَ ; فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، وَرَفَعَ عَنْهُ أَعْبَاءَ ذَنْبِهِ ; لَعَذَّبَهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، أَوْ لَئِنْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَنَاقَشَهُ فِي الْحِسَابِ لَعَذَّبَهُ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَفِيهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنِ السِّبَاقِ وَاللِّحَاقِ، وَعَلَى تَسْلِيمٍ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ كَلَامِ الرَّجُلِ يَأْبَاهُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَوَاللَّهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْمُرَادُ لَئِنْ بَعَثَنِي، وَإِنْ هُنَا بِمَعْنَى إِذَا، أَوْ إِنْ عَلَى حَدِّ {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] فَمَرْدُودٌ بِأَنَّ اللَّامَ الْمُوطِئَةَ لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ لِلْقَسَمِ، وَيَسُدُّ مَسَدَّ الشَّرْطِ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَةِ الْمَعْنَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ، ثُمَّ أَغْرَبَ بِقَوْلِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَجْوِبَةِ عِنْدِي، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ " فَلَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ " أَيْ: أَغِيبُ عَنْهُ، قِيلَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَمُّدِهِ لِحَقِيقَةِ مَدْلُولِ قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. اهـ، وَيُرَدُّ بِمَنْعِ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الدَّهِشَ يَتَخَيَّلُ غَيْرَ الْوَاقِعِ كَثِيرًا. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ سَنَدًا لِلْمَنْعِ ; بَلْ دَلِيلٌ عَلَى تَحَقُّقِهِ، وَدَلَالَتُهُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ قَدْ يُعْتَبَرُ عُذْرًا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لَا مَنْعًا، فَإِنْ قُلْتَ تُعَارِضُ رِوَايَةُ " لَئِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ " رِوَايَةَ " وَأَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعَذِّبَنِي " قُلْتُ: هَذِهِ لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ وَبِفَرْضِ صِحَّتِهَا فَيُجْمَعُ عَلَى قَضِيَّتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوْصَى مَرَّتَيْنِ مَرَّةً كَانَ فِيهَا ثَابِتَ الْعَقْلِ، وَأُخْرَى مَدْهُوشَ الْعَقْلِ مَذْهُوبَ الْقَلْبِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1642

2370 -

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ ; فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا تَسْعَى إِذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ فَقُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2370 -

(وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ) هُوَ: مَا يُسْبَى مِنَ الْعَدُوِّ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ (فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحَلَّبَ) مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ أَيْ: مَالَ (ثَدْيُهَا) أَيْ: يَبُسَ ثَدْيُهَا

ص: 1642

لِكَثْرَتِهِ لِعَدَمِ وَلَدِهَا مَعَهَا (تَسْعَى) أَيْ: تَعْدُو فِي طَلَبِ الْوَلَدِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ فَقَالَ: أَيْ تَسْعَى بِمَا تُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ، وَرُوِيَ تَسْقِي أَيْ: تُرْضِعُ الْوَلَدَ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ: بِسَقْيٍ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَتَنْوِينِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَلِلْبَاقِينَ تَسْعَى بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ السَّعْيِ، قَالَ شَارِحٌ: أَيْ تَعْدُو، وَرُوِيَ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ تَبْتَغِي أَيْ: تَطْلُبُ وَلَدَهَا، وَأَمَا تَسْقِي عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ لِلْمَصَابِيحِ وَالْبُخَارِيِّ أَيْضًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، قُلْتُ: نِسْبَتُهُ إِلَى الْبُخَارِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْعَسْقَلَانِيِّ مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ مُنْحَصِرَةٌ فِي الصِّيغَتَيْنِ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قَالَ الْقَاضِي: الصَّوَابُ مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تَسْقِي بِالْقَافِ مِنَ السَّقْيِ، أَقُولُ: قَوْلُهُ: وَفِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ تَسْقِي، كَمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ إِنْ كَانَ رَدًّا لِلرِّوَايَةِ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ مِنْ حَيْثُ الدِّرَايَةُ فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ; لِأَنَّ (تَسْقِي) إِذَا جُعِلَ حَالًا مُقَدَّرَةً مِنْ ضَمِيرِ الْمَرْأَةِ بِمَعْنَى قَدْ تَحَلَّبَ ثَدْيُهَا مُقَدِّرَةً السَّقْيَ فَأَيُّ بُعْدٍ فِيهِ. اهـ كَلَامُهُ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْقَاضِي: الصَّوَابُ مَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تَسْقِي بِالْقَافِ مِنَ السَّقْيِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ بِقَوْلِهِ: الصَّوَابُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ تَسْقِي بِالسِّينِ مِنَ السَّقْيِ هُوَ رِوَايَةُ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِيُطَابِقَ نَقْلَ الْعَسْقَلَانِيِّ، وَقَوْلُهُمَا مِنَ السَّقْيِ بِالْقَافِ احْتِرَازٌ مِنَ السَّعْيِ بِالْعَيْنِ وَلَا دَلَالَةَ فِي كَلَامِهِمَا عَلَى أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ الْمَدْخُولِ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ ; فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِمَا عَلَى الْأَوَّلِ جَمْعًا بَيْنَ النُّقُولِ، وَأَمَّا الشَّارِحُ الَّذِي زَيَّفَ مَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَكِتَابِ الْبُخَارِيِّ فَهُوَ تَسْقِي بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مِنَ السَّقْيِ بِالْقَافِ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ زَلَلٍ، وَانْدَفَعَ بِهِ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ، وَعَجِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْجَسَارَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ وَرَدِّهَا بِمُجَرَّدِ مُخَيَّلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ (إِذْ وَجَدَتْ) أَيْ: فَاجَأَتْ (صَبِيًّا فِي السَّبْيِ) أَيْ: فِي جُمْلَةِ صِبْيَانِ السَّبْيِ (أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا، وَأَرْضَعَتْهُ) أَيْ: مَحَبَّةً لِوَلَدِهَا وَرَحْمَةً وَشَفَقَةً عَلَى وَلَدِ غَيْرِهَا (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَتُرَوْنَ) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ: أَتَظُنُّونَ (هَذِهِ) أَيِ: الْمَرْأَةَ مَعَ مَا عِنْدَهَا مِنْ عِظَمِ الرَّحْمَةِ حَتَّى عَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهَا (طَارِحَةً) أَيْ: مُلْقِيَةً (وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ فَقُلْنَا: لَا) أَيْ: لَا نَظُنُّ أَنَّهَا طَارِحَةٌ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: لَا تَطْرَحُهُ (وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ) الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْحَالِ أَنَّهَا إِنِ اضْطُرَّتْ يُمْكِنُ طَرْحُهَا، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاضْطِرَارِ فَلَا يَطْرَحُ عَبْدَهُ فِي النَّارِ أَلْبَتَّةَ (فَقَالَ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ) أَيِ: الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مُطْلَقًا (مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) وَهُنَا يُفْتَحُ بَابُ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ، وَيَمُوجُ بَحْرُ السِّرِّ الْإِلَهِيِّ الَّذِي يَضِيقُ فِيهِ الْقَضَاءُ فَالتَّسْلِيمُ فِيهِ أَسْلَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِابْنِ حَجَرٍ هُنَا اعْتِرَاضٌ وَكَلَامٌ مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فِي الْمَقَامِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1643

2371 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا، وَرُوحُوا بِشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2371 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَنْ يُنْجِيَ) أَيْ: مِنَ النَّارِ وَلَنْ لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ، وَقِيلَ لِتَوْكِيدِهِ، وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهَا لِتَأْبِيدِهِ، وَالْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ هُنَا (أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) يَعْنِي بَلْ فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ ; فَإِنَّ لَهُ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ الطَّائِعَ وَيُثِيبَ الْعَاصِيَ، وَأَيْضًا فَالْعَمَلُ وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعٍ مِنَ التَّقْصِيرِ الْمُقْتَضِي لِرَدِّهِ لَوْلَا تَفَضُّلُ اللَّهِ بِقَبُولِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَوْهِينَ أَمْرِ الْعَمَلِ وَنَفْيَهُ، بَلْ تَوْقِيفَ الْعِبَادِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ كَيْلَا يَتَكَلَّمُوا عَلَى أَعْمَالِهِمُ اغْتِرَارًا بِهَا، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: يَعْنِي أَنَّ النَّجَاةَ وَالْفَوْزَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْعَمَلُ فِيهَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِمَا إِيجَابًا، وَالْخِطَابُ لِلصَّحَابَةِ وَالْمُرَادُ مَعْشَرُ بَنِي آدَمَ، أَوِ الْمُكَلَّفِينَ تَغْلِيبًا (قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ وَلَا إِيَّاكَ، أَيْ لِلْعَطْفِ عَلَى (أَحَدًا) فَعَدَلَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْإِسْمِيَّةِ أَيْ مِنَ الْفِعْلِيَّةِ الْمُقَدَّرَةِ مُبَالَغَةً، أَيْ: وَلَا أَنْتَ مِمَّنْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ: اسْتِبْعَادٌ عَنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ فَهِمُوا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: لَنْ يُنْجِيَ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا التَّثْبِيتَ فِيمَا فَهِمُوهُ وَحَيْثُ يَتَأَيَّدُ بِهِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ، وَأَنَّ خِطَابَ الْأُمَّةِ يَشْمَلُهُ، وَهُمَا مَسْئَلَتَانِ مَذْكُورَتَانِ فِي الْأُصُولِ (قَالَ وَلَا أَنَا) مُطَابِقُ وَلَا أَنْتَ، أَيْ: وَلَا أَنَا مِمَّنْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ (إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ) أَيْ: يَسْتُرَنِي (مِنْهُ بِرَحْمَتِهِ) وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَيْ: إِلَّا أَنْ يُلْبِسَنِي لِبَاسَ رَحْمَتِهِ فَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ

ص: 1643

وَالتَّغَمُّدُ السَّتْرُ أَيْ: يَسْتُرُنِي بِرَحْمَتِهِ وَيَحْفَظُنِي كَمَا يُحْفَظُ السَّيْفُ بِالْغِمْدِ بِكَسْرِ الْغَيْنِ، وَهُوَ الْغِلَافُ، وَيَجْعَلُ رَحْمَتَهُ مُحِيطَةً بِي إِحَاطَةَ الْغِلَافِ لِلسَّيْفِ، وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُجَرَّدَ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا يُفِيدُ إِذَا كَانَ مَقْرُونًا بِالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْفَوْزُ بِالثَّوَابِ لِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْعَمَلُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يُعِدُّ الْعَامِلَ لِأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ وَيُقَرِّبَ الرَّحْمَةَ إِلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ:(فَسَدِّدُوا) أَيْ: بَالِغُوا فِي التَّسْدِيدِ وَإِصَابَةِ الصَّوَابِ، وَفِعْلِ السَّدَادِ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] أَيْ: صَوَابًا وَعَدْلًا (وَقَارِبُوا) أَيْ: حَافِظُوا الْقَصْدَ فِي الْأُمُورِ بِلَا غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، أَوْ تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْقُرُبَاتِ ; لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ لَكُمُ الْمَلَالَةُ فِي الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ (وَاغْدُوا وَرُوحُوا) أَيِ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاذْكُرُوهُ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ) بِضَمِّ الدَّالِ وَسُكُونِ اللَّامِ كَذَا فِي النُّسَخِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الدُّلْجَةُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: سَيْرُ اللَّيْلِ: وَفِي الْقَامُوسِ: الدُّلْجَةُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ: السَّيْرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَقَدْ أَدْلَجُوا فَإِنْ سَارُوا مِنْ آخِرِهِ فَادَّلَجُوا بِالتَّشْدِيدِ، وَشَيْءٌ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مُقَدَّرٌ أَيِ: اعْمَلُوا فِيهِ، أَوْ مَطْلُوبٌ عَمَلُكُمْ فِيهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَلْيَكُنْ شَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَجْرُورٌ لِعَطْفِهِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيِ: اعْمَلُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ:(شَيْئًا) مَنْصُوبٌ لِمَحْذُوفٍ أَيِ: افْعَلُوا. اهـ. لَكِنْ يُسَاعِدُهُ رَسْمُ الْكِتَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: شَبَّهَ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَوَجُّهٌ إِلَى مَقْصِدٍ وَسَعْيٌ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ بِالسُّلُوكِ وَالسَّيْرِ وَقَطْعِ الْمَسَافَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ (وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ) أَيِ: الْزَمُوا التَّوَسُّطَ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَقِيلَ: أَيِ الْزَمُوا الْقَصْدَ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا غُلُوَّ وَلَا تَقْصِيرَ (يَبْلُغُوا) أَيِ: الْمَنْزِلَ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: بَيَّنَ أَوَّلًا أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُنْجِي إِيجَابًا لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَيْهِ، وَحَثَّ آخِرًا عَلَى الْعَمَلِ لِئَلَّا يُفَرِّطُوا فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ ; بَلِ الْعَمَلُ أَدْنَى إِلَى النَّجَاةِ فَكَأَنَّهُ مُعِدٌّ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1644

2372 -

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا أَنَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2372 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُدْخِلُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ) فَاعِلُهُ (الْجَنَّةَ، وَلَا يُجِيرُهُ) أَيْ: لَا يُخَلِّصُهُ وَلَا يُنَجِّيهِ (مِنَ النَّارِ وَلَا أَنَا) أَيْ: إِيَّايَ (إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ) أَيْ: إِلَّا عَمَلًا مَقْرُونًا بِرَحْمَتِهِ ; فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، فَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَدَرَجَاتُهَا عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِ أَصْحَابِهَا بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1644

2373 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ ; يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ الْقِصَاصِ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

2373 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ) أَيْ: بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مُنَافِقًا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ اسْتَقَامَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَدَّى حَقَّهُ وَأَخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ; لِإِيهَامِهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ لَا يُكَفِّرُ فَإِنَّهُ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ (يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَّفَهَا) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: قَدَّمَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْقُرْبُ وَالتَّقَدُّمُ (وَكَانَ بَعْدُ) بِضَمِّ الدَّالِ أَيْ: بَعْدَ الْإِسْلَامِ، أَوْ بَعْدَ التَّكْفِيرِ بِهِ (الْقِصَاصُ) بِالرَّفْعِ أَيِ: الْمُجَازَاةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوِ اتِّبَاعُ كُلِّ عَمَلِهِ بِمِثْلِهِ، وَاخْتِصَاصُ الْحَسَنَةِ بِالزِّيَادَةِ مِنْ فَضْلِهِ، وَأُخِذَ الْقِصَاصُ مِنَ الْقَصَصِ الَّذِي هُوَ تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، وَهُوَ رُجُوعُ الرَّجُلِ مِنْ حَيْثُ جَاءَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] وَسُمِّيَ الْقَوَدُ قصَاصًا لِمُجَازَاةِ الْجَانِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِإِضَافَةِ (بَعْدُ) إِلَى الْقِصَاصِ وَسَيَأْتِي وَجْهُهُ (الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)

ص: 1644

الْجُمْلَةُ بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِلْقِصَاصِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَالْحَسَنَةُ) بِوَاوِ الْعَطْفِ يَعْنِي: وَكَانَتِ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَخْ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً فِي الْكُفْرِ ثُمَّ أَسْلَمَ يُعْطَى لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثَوَابَ حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ. اهـ. وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ وَبُرْهَانٍ لِأَنَّ الْكَافِرَ حَالَ كُفْرِهِ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ حَسَنَةٌ إِلَّا صُورَةً (إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ) أَيْ: تَنْتَهِي إِلَى ذَلِكَ وَتَمْتَدُّ (إِلَى أَضْعَافٍ) أَيْ: أَمْثَالٍ (كَثِيرَةٍ) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً (وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا) عَدْلًا وَرَحْمَةً ; وَلَوْ بِالْحَرَمِ خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ (إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا) أَيْ: بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، أَوْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْجَرِيمَةِ، قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ رحمه الله: فِي بَعْضِ النُّسَخِ (بَعْدُ) بِالْبِنَاءِ، وَالْقِصَاصُ بِالرَّفْعِ وَفِي بَعْضِهَا بِالْإِضَافَةِ، وَفِي بَعْضِهَا وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَاوُ الْعَطْفِ وَفِي بَعْضِهَا بِدُونِهَا، فَمَعْنَى الْأَوَّلِ مَعَ الْعَطْفِ وَكَانَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَيْ: يَثْبُتُ عَلَيْهِ بَعْدَهُ الْقِصَاصُ إِنْ جَنَى عَلَى أَحَدٍ، أَوْ كَانَ بَعْدُ الْقِصَاصُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ حَقٌّ مَالِيٌّ، وَيُثْبِتُ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، وَمَعْنَاهُ بِدُونِ الْعَطْفِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْحَسَنَةَ إِلَخْ يَكُونُ بَيَانًا لِلْقِصَاصِ، أَيِ: الْمُجَازَاةِ وَالتَّتَبُّعِ الَّذِي يُفْعَلُ مَعَهُ فِي حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، وَمَعْنَى الثَّانِي مَعَ الْعَطْفِ: وَكَانَ أَيِ الْمَذْكُورُ مِنْ تَكْفِيرِ اللَّهِ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا بَعْدَ الْقِصَاصِ أَيِ: الْإِسْلَامِ، وَعَقِيبَهُ دُونَ التَّمَهُّلِ وَالتَّرَاخِي إِلَى ظُهُورِ حَسَنٍ، وَكَانَ لَهُ أَيْضًا عَقِيبَ إِسْلَامِهِ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ; فَالْحَسَنَةُ عَلَى هَذَا عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي كَانَ، وَجَازَ بِدُونِ تَوْكِيدِهِ بِمُنْفَصِلٍ لِلْفَصْلِ بِالظَّرْفِ، وَمَعْنَاهُ بِدُونِ الْعَاطِفِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ فَاعِلُ (كَانَ) وَالْقِصَاصُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ كَمَا مَرَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقَوَدُ أَيْضًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 1645

2374 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «إِنِ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2374 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) أَيْ: أَثْبَتَهَا فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِكَتْبِهِمَا فِي اللَّوْحِ أَوْ بَيَّنَهُمَا وَعَيَّنَهُمَا فِي كِتَابِهِ، أَوْ قَضَاهُمَا وَقَدَّرَهُمَا أَوْ أَمَرَ الْحَفَظَةَ بِكِتَابَتِهِمَا لِيُوَازِنَهُمَا، أَوْ صُحُفُهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنَاتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ، وَبِالسَّيِّئَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَرْبَعِينَ " ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ " أَيْ: مِقْدَارَهُمَا، وَعَيَّنَ مَبْلَغَهُمَا لِلسَّفَرَةِ الْكِرَامِ بِأَنَّ بَعْضَهَا يُجَازَى بِعَشْرٍ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ سَبْعِمِائَةٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ بَيَّنَهُ فِي التَّنْزِيلِ، أَوْ فَصَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الْإِجْمَالَ بِمَا بَعْدَهُ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَذِكْرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ (فَمَنْ هَمَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ لِلتَّفْصِيلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ مُجْمَلٌ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ كَيْفِيَّةَ الْكِتَابَةِ أَيْ: فَمَنْ قَصَدَ (بِحَسَنَةٍ) وَصَمَّمَ عَلَى فِعْلِهَا (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) أَيْ: لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ عَمَلُهَا لِعُذْرٍ (كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) مَفْعُولٌ ثَانٍ بِاعْتِبَارِ تَضْمِينِ مَعْنَى التَّصْبِيرِ، أَوْ حَالٍ مُوطِئَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالنِّيَّةِ وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ ; فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى النِّيَّةِ بِدُونِ الْعَمَلِ وَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ بِدُونِ النِّيَّةِ، لَكِنْ لَا يُضَاعَفُ ثَوَابُ الْحَسَنَةِ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ (فَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا) بِأَنْ جَمْعَ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ (كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ) أَيْ: لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا، وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي الْعَمَلِ إِخْلَاصًا وَمُرَاعَاةً بِشَرَائِطِهِ وَآدَابِهِ، قَالَ السَّيِّدُ: إِنَّ هَذَا التَّضْعِيفَ لَا يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ هُوَ وَمَا هُوَ، وَإِنَّمَا أَبْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُبْهَمِ مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِ الْمَحْدُودِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ (أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)(وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) جُوزِيَ بِحَسَنَةٍ كَامِلَةٍ لِأَنَّهُ مِمَّنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهَا مُرَاقَبَةً لِلَّهِ وَحَذَرًا مِنْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، لَا إِنْ هَمَّ فَلَمْ يَعْمَلْ لِلْعَجْزِ (فَإِنْ هُوَ) أَيِ: الشَّأْنُ أَوْ مُرِيدُ الْعَمَلِ (هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا) أَيْ: جَمَعَ بَيْنَ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ احْتِرَازًا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَلَيْسَ لَفْظُ (هُوَ) فِي الْأَرْبَعِينَ بَلْ لَفْظُهُ (وَإِنْ)

ص: 1645

هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا (كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ رَحْمَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ غَضَبِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا مُؤَاخَذَةَ بَالْهَمِّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ، وَالْكَلَامُ كَمَا عَلِمْتَ مِنَ الْحَدِيثِ فِي الْهَمِّ الَّذِي لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ تَصْمِيمٌ، أَمَّا الْمُنْضَمُّ إِلَيْهِ ذَلِكَ فَهُوَ سَيِّئَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ أَيْضًا. اهـ. وَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ بَلِ التَّحْقِيقُ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِيمَا لَا اخْتِيَارَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّمَا يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» ) وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ إِلَّا أَنْ يَمْتَنِعَ لِأَجْلِهِ تَعَالَى فَيَمْحُوَهُ، أَوْ يُبَاشِرَهُ فَيُكْتَبَ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ: فَانْظُرْ يَا أَخِي - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إِلَى عِظَمِ لُطْفِ اللَّهِ، وَتَأَمُّلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ. وَقَوْلُهُ:(عِنْدَهُ) إِشَارَةٌ إِلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَقَوْلُهُ: (كَامِلَةً) لِلتَّوْكِيدِ وَشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهَا، وَقَالَ فِي السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا ثُمَّ تَرَكَهَا: كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَأَكَّدَهَا بِكَامِلَةٍ، وَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَأَكَّدَ تَقْلِيلَهَا بِوَاحِدَةٍ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

ص: 1646

(الْفَصْلُ الثَّانِي)

2375 -

عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ ثُمَّ عَمِلَ أُخْرَى فَانْفَكَّتْ أُخْرَى حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ» " رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

ــ

(الْفَصْلُ الثَّانِي)

2375 -

(عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ، ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ) أَيْ صِفَتَهُ (كَمَثَلِ رَجُلٍ) قُيِّدَ بِهِ لِمُنَاسَبَتِهِ بِالدِّرْعِ (كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ) أَيْ: عَصَرَتْ حَلْقَهُ، فَإِنَّهُ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ يَضِيقُ صَدْرُهُ، وَيُحَيِّرُهُ فِي الْأُمُورِ، وَيُبَغِّضُهُ إِلَى النَّاسِ، وَبِعَمَلِ الْحَسَنَاتِ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ، وَتَتَيَسَّرُ أُمُورُهُ، وَيَصِيرُ مَحْبُوبًا فِي قُلُوبِ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً) أَيْ: أَيَّ حَسَنَةٍ كَانَتْ، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّنْكِيرِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ أَوْصَلَ نِعْمَةً لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى فَكِّ حِلَقِ تِلْكَ الدِّرْعِ فَجَازَاهُ بِفَكِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَمُوهِمٌ لِلتَّخْصِيصِصِ، وَمُخْرِجٌ لِلْحَدِيثِ مِنَ التَّمْثِيلِ الْمَعْنَوِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ، وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَمَا قَرَّرْتُهُ فِي عَمَلِ حَسَنَةٍ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ تَرْتِيبُ الْحَدِيثِ وَيَتَّضِحُ بِهِ التَّمْثِيلُ، بِخِلَافِ مَا أَوْهَمَ كَلَامُ شَارِحٍ مِنْ بَقَاءِ الْحَسَنَةِ عَلَى مَعْنَاهَا مِنْ مُجَرَّدِ عَمَلِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ عَمَلِهَا وَفَكِّ تِلْكَ الْحَلَقِ فَتَأَمَّلْهُ. اهـ. فَتَأَمَّلْنَا فَوَجَدْنَا كَلَامَهُ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إِلَى شَخْصٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِأَنْ يَفُكَّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَلَقَةً مِنْ حِلَقِ الدِّرْعِ مُتَعَسِّرٌ، بَلْ مُتَعَذِّرٌ عَادَةً، وَأَيْضًا الَّذِي لَبِسَ دِرْعًا ضَيِّقَةً تَخَنَّقَتْ يَقْدِرُ عَلَى خَلْعِهَا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ أَنْوَاعًا مِنَ الْإِحْسَانِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَزْمَانِ حَتَّى يُخَلِّصَهُ مِنَ اخْتِنَاقِ دِرْعِهِ (فَانْفَكَّتْ) أَيِ: انْحَلَّتْ (حَلْقَةٌ) بِسُكُونِ اللَّامِ وَيُفْتَحُ (ثُمَّ عَمِلَ أُخْرَى) أَيْ: حَسَنَةً (فَانْفَكَّتْ أُخْرَى) أَيْ: حَلْقَةٌ، وَهَكَذَا تَنْفَكُّ وَاحِدَةٌ بِوَاحِدَةٍ بَعْدَ أُخْرَى (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ: حَتَّى تُسْقِطَ الدِّرْعَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ حَتَّى تَنْحَلَّ وَتَنْفَكَّ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَخْرُجَ صَاحِبُهَا مِنْ ضِيقِهَا، فَقَوْلُهُ: تَخْرُجُ إِلَى الْأَرْضِ كِنَايَةٌ عَنْ سُقُوطِهَا. اهـ. وَالْحَدِيثُ تَمْثِيلٌ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114](رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

ص: 1646

2376 -

«وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الثَّانِيَةَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ، فَقُلْتُ الثَّانِيَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فَقُلْتُ الثَّالِثَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَإِنْ، رَغِمَ أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

2376 -

(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ) أَيِ: النَّاسَ وَيَعِظُهُمْ (عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ إِنَّهُ (يَقُولُ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ) أَيْ: مَوْقِفَهُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ الْعِبَادُ لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ أَيْ: وَلِمَنْ خَافَ مِنَ الْقِيَامِ بِحَضْرَةِ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَائِمٌ عَلَيْهِ أَيِ: حَافِظٌ مُهَيْمِنٌ مِنْ قَوْلِهِ {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} [الرعد: 33] الْآيَةَ فَهُوَ يُرَاقِبُ ذَلِكَ وَلَا يَجْرُأُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي مَوْقِفَ عَرْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى (جَنَّتَانِ) أَيْ: جَنَّتَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ إِلَى آخِرِ صِفَاتِهِمَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّهُمَا أَعْلَى مِنَ الْجَنَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَعْدَهَا مِنَ الْجِنَانِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ وَمِنْ دُونِهِمَا أَيْ: فِي الْمَرْتَبَةِ وَالنَّعِيمِ وَالشَّرَفِ وَذَلِكَ لِأَنَّ خَوْفَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى دَوَامِ مُرَاقَبَةِ الْحَقِّ وَإِدْمَانِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُوصِلَةِ لَهُ إِلَى مَقَامَيْنِ عَالِيَيْنِ، قِيلَ: جَنَّةٌ لِعَمَلِ الطَّاعَةِ وَجَنَّةٌ لِتَرْكِ السَّيِّئَةِ، وَقِيلَ: جَنَّةٌ لِلثَّوَابِ بِطَرِيقِ الْعَدْلِ، وَجَنَّةٌ لِلِاقْتِرَابِ بِطَرِيقِ الْفَضْلِ، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: جَنَّةٌ مُعَجَّلَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْحُضُورِ مَعَ الْمَوْلَى وَجَنَّةٌ مُؤَجَّلَةٌ فِي الْآخِرَةِ بِلِقَاءِ الْمَوْلَى وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ جَنَّةٌ مِنَ الذَّهَبِ آنِيَتُهَا وَقُصُورُهَا وَحُلِيُّهَا وَغَيْرُهَا، وَجَنَّةٌ مِنَ الْفِضَّةِ كَذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَنَّةٌ لِلسَّابِقِينَ وَجَنَّةٌ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَوْ جَنَّةٌ عَنْ يَمِينِهِمْ وَجَنَّةٌ عَنْ يَسَارِهِمْ (قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) (إِنْ) وَصَلْيَةٌ أَيْ: وَلَوْ زَنَى وَسَرَقَ، الْخَائِفُ لَهُ جَنَّتَانِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَإِنْ سَبَقَ مِنْهُ قَبْلَ هَذَا الْخَوْفِ نَحْوُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَيَصِحُّ عَلَى بُعْدٍ وَإِنْ فَعَلَهَا مَعَ هَذَا الْخَوْفِ وَوَجَّهَ بَعْدَهُ اجْتِمَاعَ هَذَا الْخَوْفِ وَفِعْلَ ذَيْنِكَ وَأَمْثَالِهِمْ. اهـ. وَالثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ الْمُفِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ ; فَإِنَّ مَا سَبَقَ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى الرُّجُوعِ وَالتَّوْبَةِ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ وَلَا يُسْتَغْرَبُ مِنْهُ (فَقَالَ الثَّانِيَةَ) أَيْ: فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّأْكِيدِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، فَقُلْتُ الثَّانِيَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ الثَّالِثَةَ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَقُلْتُ الثَّالِثَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَإِنَّ، رَغِمَ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ، أَيْ: لَصِقَ بِالتُّرَابِ ذُلًّا وَهَوَانًا (أَنْفُ أَبِي الدَّرْدَاءِ) وَضُبِطَ بِفَتْحِهَا، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ ذَلَّ، وَقِيلَ اضْطَرَبَ، وَقِيلَ غَضِبَ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَائِفِ الْمُؤْمِنُ، فَيَكُونُ نَظِيرَ حَدِيثٍ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا ( «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنَّ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» ) كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا يَعْنِي مَنْ خَافَ اللَّهَ فِي مَعْصِيَةٍ فَتَرَكَهَا يُعْطِيهُ اللَّهُ أَجْرَ غَفْرِ تِلْكَ الزَّنْيَةَ وَالسَّرِقَةَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

ص: 1647

2377 -

وَعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ يَعْنِي عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْتُ بَغِيضَةِ شَجَرٍ فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ، فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كِسَائِي، فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي، فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِنَّ فَلَفَفْتُهُنَّ بِكِسَائِي فَهُنَّ أُولَاءِ مَعِي، قَالَ: ضَعْهُنَّ، فَوَضَعْتُهُنَّ، وَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إِلَّا لُزُومَهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَعْجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الْأَفْرَاخِ فِرَاخَهَا، فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ، فَرَجَعَ بِهِنَّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

2377 -

(وَعَنْ عَامِرٍ الرَّامِ) أَيِ: الرَّامِي (قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ يَعْنِي عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي عَنِ الرَّامِي (إِذْ أَقْبَلَ) أَيْ: تَوَجَّهَ (رَجُلٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ) بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: خِرْقَةٌ (وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ) بِكِسَاءٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: ذَلِكَ الْكِسَاءُ وَلَا وَجْهَ لِلْجَزْمِ بِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ (فَقَالَ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ مَا هَذَا الشَّيْءُ فَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ، فَقَالَ:(يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَرْتُ بَغِيضَةِ شَجَرٍ) الْغَيْضَةُ: الْغَابَةُ وَهُوَ مُجْتَمَعُ الْأَشْجَارِ أَضَافَهَا إِلَى الشَّجَرِ إِمَّا لِمَزِيدِ الْبَيَانِ: أَوْ يُرَادُ بِالشَّجَرِ الْمَرْعَى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.

ص: 1647

وَنَأَى بِي الشَّجَرُ أَيْ: بَعُدَ الْمَرْعَى وَالشَّجَرُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَيْ: بِغَيْضَةٍ هِيَ شَجَرٌ مُلْتَفٌّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لِكَثْرَتِهِ ; فَمَبْنِيٌّ عَلَى ظَاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ الْغَيْضَةَ هِيَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ، وَلِمَا كَانَتِ الْبَيَانِيَّةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِيَ عَامٌّ، أَوْرَدَ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ لَيْسَتِ الْغَيْضَةُ اسْمًا لِمُطْلَقِ الشَّجَرِ بَلْ لِلشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ فَلَا تَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً، قُلْتُ: تَنْوِينُهَا لِلتَّنْكِيرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَغِيضَةٌ وَهِيَ شَجَرٌ كَبِيرٌ وَمَنْ لَازَمَهُ الِالْتِفَافُ غَالِبًا اهـ وَقَوْلُهُ: لِلتَّنْكِيرِ صَوَابُهُ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى مَا ادَّعَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَمَعَ هَذَا قَيْدُ الْغَالِبِيَّةِ لَا يُصَحِّحُ الْبَيَانِيَّةَ بَلْ بِدُونِهَا أَيْضًا، كَمَا حُقِّقَ فِي خَاتَمِ فِضَّةٍ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَالصَّوَابُ مَا اخْتَرْنَاهُ مُطَابِقًا لِلْقَامُوسِ أَنَّ الْغَيْضَةَ بِالْفَتْحِ: الْأَجَمَةُ وَمُجْتَمَعُ الشَّجَرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِ النِّهَايَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّجَرِ الْجِنْسُ، وَبِالْمُلْتَفِّ أَنْ يَلْتَفَّ بَعْضُ الْأَشْجَارِ إِلَى بَعْضِهَا لَا الْمُفْرَدُ الْمُعَيَّنُ الْمُلْتَفُّ بَعْضُ أَغْصَانِهِ إِلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ الْغَيْضَةَ تُطْلَقُ عَلَى مَوْضِعٍ تَكْثُرُ فِيهِ السِّبَاعُ وَالطُّيُورُ (فَسَمِعْتُ فِيهَا) أَيْ: فِي الْغَيْضَةِ (أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ) بِكَسْرِ الْفَاءِ: جَمْعُ كَثْرَةٍ لِلْفَرْخِ وَهُوَ وَلَدُ الطَّيْرِ، وَجَمْعُهُ لِلْقِلَّةِ أَفْرَاخٌ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَدِيثِ إِمَّا اتِّسَاعًا أَوِ اسْتِعْمَالًا لِكُلٍّ مِنَ الْجَمْعَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] " وَإِمَّا إِشْعَارًا بِأَنَّ تِلْكَ الْقِلَّةَ كَانَتْ خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ، وَبَالِغَةً إِلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَيَشْهَدُ لَهُ الضَّمَائِرُ الْمُتَعَاقِبَةُ فِي قَوْلِهِ (فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ فِي كِسَائِي، فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ) كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ (فَاسْتَدَارَتْ) أَيْ: دَارَتْ (عَلَى رَأْسِي فَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ) أَيْ: فَرَفَعْتُ الْكِسَاءَ عَنْ وَجْهِ الْفِرَاخِ لِأَجْلِ أُمِّهِنَّ حَتَّى رَأَتْهُنَّ (فَوَقَعَتْ) أَيْ: نَزَلَتْ وَسَقَطَتْ (عَلَيْهِنَّ فَلَفَفْتُهُنَّ) أَيْ: جَمِيعَهُنَّ (بِكِسَائِي، فَهُنَّ) أَيْ: عَنْهُنَّ وَأُمُّهُنَّ (أُولَاءِ) اسْمُ إِشَارَةٍ (مَعِي) أَيْ: تَحْتَ كِسَائِي (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (ضَعْهُنَّ فَوَضَعْتُهُنَّ) أَيْ: وَكَشَفْتُ عَنْهُنَّ وَعَنْ أُمِّهِنَّ (وَأَبَتْ أُمُّهُنَّ) أَيِ: امْتَنَعَتْ (إِلَّا لُزُومَهُنَّ) أَيْ: عَدَمَ مُفَارَقَتِهِنَّ، اسْتِثْنَاءٌ مُفْرِغٌ لِمَا فِي (أَبَتْ) مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: مَا فَارَقَتْهُنَّ بَعْدَ كَشْفِ الْكِسَاءِ بَلْ ثَبَتَتْ مَعَهُنَّ مِنْ غَايَةِ رَحْمَتِهَا بِهِنَّ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَعْجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الْأَفْرَاخِ) أَيْ: لِشَفَقَتِهَا. وَالرُّحْمُ بِالضَّمِّ مَصْدَرٌ كَالرَّحْمَةِ، وَيَجُوزُ تَحْرِيكُ الْحَاءِ بِالضَّمِّ مِثْلَ عُسْرٍ وَعُسُرٍ، وَقَوْلُهُ (فِرَاخَهَا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ بِفِرَاخِهَا (فَوَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا) لِأَنَّ رَحْمَتَهُ حَقِيقِيَّةٌ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تَنْقَطِعُ، وَرَحْمَتَهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ (ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ) (مِنْ) بِمَعْنَى:(فِي) نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلِابْتِدَاءِ أَيْ: حَتَّى تَجْعَلَ ابْتِدَاءَ وَضْعِهِنَّ مَكَانًا أَخَذْتَهُنَّ مِنْهُ بِأَنْ لَا تَضَعَهُنَّ مَكَانًا آخَرَ: وَقِيلَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ (وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَرَجَعَ بِهِنَّ) أَيْ: وَوَضَعَهُنَّ حَيْثُ أَخَذَهُنَّ مَعَ أُمِّهِنَّ لِأُلْفَتِهِنَّ بِمَكَانِهِنَّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)

ص: 1648

الفصل الثالث

2378 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ: " مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ وَامْرَأَةٌ تَحْضِبُ بِقِدْرِهَا وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا، فَإِذَا ارْتَفَعَ وَهَجٌ تَنَحَّتْ بِهِ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَلَيْسَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: أَلَيْسَ اللَّهُ أَرْحَمَ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ بِوَلَدِهَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: إِنَّ الْأُمَّ لَا تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ، فَأَكَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الْمَارِدَ الْمُتَمَرِّدَ الَّذِي يَتَمَرَّدُ عَلَى اللَّهِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)

2378 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَمَرَّ بِقَوْمٍ فَقَالَ مَنِ الْقَوْمُ) أَيْ أَنْتُمْ أَوْ هُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْكَافِرِينَ أَوِ الْأَحِبَّاءِ الْمُسْلِمِينَ (قَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ) وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ وَتَبِعَهُ

ص: 1648

ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ: كَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ نَحْنُ مُضَرِيُّونَ أَوْ قُرَشِيُّونَ أَوْ طَائِيُّونَ، فَعَدَلُوا عَنِ الظَّاهِرِ، أَوْ عَرَّفُوا الْخَبَرَ حَصْرًا، أَيْ: نَحْنُ قَوْمٌ لَا نَتَجَاوَزُ الْإِسْلَامَ تَوَهُّمًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْلِمِينَ (وَامْرَأَةٌ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ امْرَأَةً مَعَهُمْ (تَحْضِبُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: تُوقِدُ (بِقِدْرِهَا، وَمَعَهَا ابْنٌ لَهَا) أَيْ: صَغِيرٌ (فَإِذَا ارْتَفَعَ وَهَجٌ) بِفَتْحِ الْهَاءِ: حَرُّ النَّارِ، وَبِالسُّكُونِ مَصْدَرٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ، وَفِي نُسْخَةٍ ارْتَفَعَتْ بِاكْتِسَابِ التَّأْنِيثِ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (تَنَحَّتْ بِهِ) أَيْ: تَبَعَّدَتِ الْأُمُّ بِالْوَلَدِ عَنِ النَّارِ (فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّفْرِيعِ أَنَّهَا لَمَّا رَأَتْ مَا عِنْدَهُ مِنْ مَزِيدِ الرَّحْمَةِ لِوَلَدِهَا خُصُوصًا وَلِلْعَالَمِينَ عُمُومًا تَذَكَّرَتْ رَحْمَةَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ خُصُوصًا لِعِبَادِهِ فَسَأَلَتْ عَنْهَا (فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟) اسْتِفْهَامٌ بِحَذْفِ أَدَاتِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ حَقِيقِيٌّ، وَلَا يُنَافِي إِسْلَامَهَا قَبْلَ ذَلِكَ لِعِلْمِهَا بِهِ إِجْمَالًا وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ ذَاتَهُ بِعَيْنِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلتَّقْرِيرِ وَالِاسْتِلْذَاذِ بِخِطَابِهِ بِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ، وَخَلِيفَتَهُ عَلَى خَلِيقَتِهِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ:(قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) أَيْ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي (أَلَيْسَ اللَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ؟) أَيْ: عُمُومًا (قَالَ: بَلَى) عَلَى وِزَانِ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى (قَالَتْ: أَلَيْسَ اللَّهُ أَرْحَمَ بِعِبَادِهِ مِنَ الْأُمِّ لِوَلَدِهَا) أَيْ: خُصُوصًا (قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: إِنَّ الْأُمَّ لَا تُلْقِي وَلَدَهَا فِي النَّارِ، فَأَكَبَّ) أَيْ: شَرَعَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: طَأْطَأَ رَأْسَهُ (يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ) أَيْ: عَذَابًا مُخَلَّدًا أَوِ التَّعْذِيبَ لِلْكَافِرِينَ، وَالتَّهْذِيبَ لِلْعَاصِينَ (مِنْ عِبَادِهِ) أَيْ: مِنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ فَالْإِضَافَةُ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَغَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (إِلَّا الْمَارِدَ) أَيِ: الْعَارِيَ مِنَ الْخَيْرَاتِ (الْمُتَمَرِّدَ) مُبَالَغَةٌ لَهُ (الَّذِي يَتَمَرَّدُ عَلَى اللَّهِ) أَيْ: يَتَجَرَّأُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ (وَأَبَى) عَطْفٌ عَلَى يَتَمَرَّدُ، أَوْ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، التَّقْدِيرُ وَقَدْ أَبَى أَيِ امْتَنَعَ (أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ وَلَدٍ يَقُولُ لِأُمِّهِ: لَسْتِ أُمِّي وَأُمِّي غَيْرُكِ وَيَعْصِيهَا، وَتَتَصَوَّرُ لَهُ بِصُورَةِ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا حِينَئِذٍ تَتَبَرَّأُ عَنْهُ وَتُعَذِّبُهُ إِنْ قَدَرَتْ عَلَيْهِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 1649

2379 -

وَعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضَاةَ اللَّهِ فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلَانًا عَبْدِي يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي عَلَيْهِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُ، حَتَّى يَقُولُهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ تَهْبِطُ لَهُ إِلَى الْأَرْضِ»

رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

2379 -

(وَعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ) أَيِ: الصَّالِحَ (لَيَلْتَمِسُ) أَيْ: يَطْلُبُ (مَرْضَاةَ اللَّهِ) أَيْ: بِأَصْنَافِ الطَّاعَاتِ (فَلَا يَزَالُ بِذَلِكَ) أَيْ: مُلْتَبِسًا أَيْ بِذَلِكَ الِالْتِمَاسِ (فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلَانًا) كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِهِ وَوَصْفِهِ (عَبْدِي) أَيِ: الْمُؤْمِنُ، إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ (يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِي) أَيْ: لِأَنْ أَرْحَمَهُ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (وَإِنَّ رَحْمَتِي) أَيِ الْكَامِلَةَ (عَلَيْهِ) أَيْ: وَاقِعَةٌ عَلَيْهِ وَنَازِلَةٌ إِلَيْهِ (فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ) خَبَرٌ، أَوْ دُعَاءٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَيَقُولُهَا) أَيْ هَذِهِ الْجُمْلَةَ (حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ) أَيْ: جَمِيعًا (حَتَّى يَقُولُهَا أَهْلُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ يَهْبِطُ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ وَرُوِيَ مَجْهُولًا أَيْ: تُنَزَّلُ الرَّحْمَةُ (لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ (إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ: إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، يَعْنِي مَحَبَّةَ اللَّهِ إِيَّاهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِيهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَحَدِيثُ الْمَحَبَّةِ مُتَقَارِبَانِ اهـ وَيُرِيدُ بِحَدِيثِ الْمَحَبَّةِ مَا وَرَدَ فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنِ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، فَيُبْغِضُوهُ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» ) وَالْحَدِيثُ

ص: 1649