المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

2456 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٤

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ تَحِلُّ لَهُ]

- ‌[بَابُ الْإِنْفَاقِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِمْسَاكِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ]

- ‌[باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم]

- ‌[بَابُ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[باب في توابع لصوم التطوع]

- ‌[بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ]

- ‌[كِتَابُ الدَّعَوَاتِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ]

- ‌[كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ]

- ‌[بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمَنَامِ]

- ‌[بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ]

الفصل: 2456 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ

2456 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ السُّوقَ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ السُّوقِ، وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُصِيبَ فِيهَا صَفْقَةً خَاسِرَةً» ) . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

ــ

2456 -

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ السُّوقَ) : وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ خَرَجَ إِلَيْهِ (قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ) : أَيْ: عِنْدَ وَضْعِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى فِيهِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ السُّوقِ) : يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، (وَخَيْرَ مَا فِيهَا) : أَيِ: الْأُمُورِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى الدِّينِ، أَوْ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ السُّوقِ بِتَيْسِيرِ رِزْقٍ حَلَالٍ وَعَمَلٍ رَابِحٍ وَبَرَكَةٍ فِي الْوُقُوفِ بِهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا مِنَ النَّاسِ وَالْعُقُودِ وَالْأَمْتِعَةِ. (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا) أَيْ: مِنَ التَّعَلُّقِ بِهَا وَالْحِرْصِ عَلَى دُخُولِهَا. (وَشَرِّ مَا فِيهَا) : أَيْ: أَيٍّ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالْكَسَادِ وَأَصْحَابِ الْفَسَادِ، (" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُصِيبَ ") : أَيْ: أُدْرِكَ (فِيهَا صَفْقَةً) : أَيْ: بَيْعَةً (خَاسِرَةً) : أَيْ: دِينِيَّةً أَوْ دُنْيَوِيَّةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: الصَّفْقَةُ الْمَرَّةُ مِنَ التَّصْفِيقِ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْعَقْدِ فَإِنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَضَعُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَلَى يَدِ الْآخَرِ، وَوَصْفُ الصَّفْقَةِ بِالْخَاسِرَةِ مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ لِأَنَّ صَاحِبَهَا خَاسِرٌ بِالْحَقِيقَةِ اهـ. فَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فِيهِمَا ذَاتَ خَسَارَةٍ وَذَاتَ رِضًا، أَوْ فَاعِلَةٌ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ السُّنِّيِّ وَلَفْظُهُمَا: أُصِيبُ فِيهَا يَمِينًا فَاجِرَةً، أَوْ صَفْقَةً خَاسِرَةً، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ. وَالْفَاجِرَةُ بِمَعْنَى الْكَاذِبَةِ.

ص: 1703

[بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2457 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[8]

- بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ

أَيْ أَنْوَاعِ الدَّعَوَاتِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الْعَوْذِ وَهُوَ الِالْتِجَاءُ وَاللَّوْذُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2457 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تَعَوَّذُوا ") أَمْرُ نَدْبٍ (بِاللَّهِ) : أَيْ: لَا بِغَيْرِهِ (مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتُضَمُّ أَيْ: مَشَقَّتِهِ إِلَى الْغَايَةِ وَشِدَّتِهِ إِلَى النِّهَايَةِ. وَقِيلَ: الْجَهْدُ مَصْدَرُ اجْهَدْ جَهْدَكَ أَيِ: ابْلُغْ غَايَتَكَ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَشَقَّةِ أَيْضًا، وَهِيَ الْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ، وَيَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهَا، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى وُقُوعِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمُرَادُ بِجَهْدِ الْبَلَاءِ الْحَالَةُ الَّتِي يُمْتَحَنُ بِهَا الْإِنْسَانُ حَتَّى يَخْتَارَ حِينَئِذٍ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيَتَمَنَّاهُ اهـ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَشَدَّ أَنْوَاعِهِ، وَلِذَا وَرَدَ:(كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا) . (وَدَرَكِ الشَّقَاءِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا أَيْ: مِنَ الْإِدْرَاكِ لِمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَبِعَتِهِ. وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الدَّرَكُ هُوَ اللُّحُوقُ وَالْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: أَدْرَكْتُهُ إِدْرَاكًا وَدَرَكًا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ السِّلَاحِ: الدَّرَكُ بِفَتْحِ الرَّاءِ اسْمٌ وَبِالسُّكُونِ الْمَصْدَرُ، وَالشَّقَاءُ بِفَتْحِ الشِّينِ بِمَعْنَى الشَّقَاوَةِ نَقِيضُ السَّعَادَةِ، وَيَجِيءُ بِمَعْنَى التَّعَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [طه: 1 - 2] لِتَشْقَى وَقِيلَ: هُوَ وَاحِدُ دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ، وَمَعْنَاهُ مِنْ مَوْضِعِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ وَهِيَ جَهَنَّمُ أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ يَحْصُلُ لَنَا فِيهِ شَقَاوَةٌ، أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ إِمَّا مُضَافٌ إِلَيْهِ الْمَفْعُولُ أَوْ إِلَى الْفَاعِلِ: أَيْ: مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ إِيَّانَا، أَوْ مِنْ دَرَكِنَا الشَّقَاءَ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّقَاءِ الْهَلَاكُ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّبَبِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ. (وَسُوءِ الْقَضَاءِ) : أَيْ: مَا يَنْشَأُ عَنْهُ سُوءٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْبَدَنِ وَالْمَالِ وَالْخَاتِمَةِ، فَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ) وَيُوقِعُهُ فِي الْمَكْرُوهِ.

ص: 1703

قَالَ الطِّيبِيُّ: عَلَى أَنَّ لَفْظَ السُّوءِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: مِنْ شَرِّ مَا قَضَيْتَ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ الْمَقْضِيُّ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ كُلَّهُ حَسَنٌ لَا سُوءَ فِيهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْقَضَاءُ الْحُكْمُ بِالْكُلِّيَّاتِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِي الْأَزَلِ، وَالْأَقْدَرُ الْحُكْمُ بِوُقُوعِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي لِتِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. (وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ) : وَهِيَ فَرَحُ الْعَدُوِّ بِبَلِيَّةٍ تَنْزِلُ بِمَنْ يُعَادِيهِ أَيْ: قُولُوا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تُصِيبَنَا مُصِيبَةٌ فِي دِينِنَا أَوْ دُنْيَانَا حَيْثُ يَفْرَحُ أَعْدَاؤُنَا، وَكَذَا عُلِمَ أَنَّ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعَةَ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ لِصَرْفِ الْبَلَاءِ، وَأَنَّ بَيْنَهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، كَمَا فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ وَالْفُصَحَاءِ وَقَدْ أَخْطَأَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلِكَوْنِهِ مَقَامَ الْإِطْنَابِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ تَدَاخُلُ بَعْضِ مَعَانِي أَلْفَاظِهِ وَإِغْنَاءُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ اهـ. وَأَنْتَ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ، بَلْ قَارَبَ مَحَلًّا مِنَ الْإِعْجَازِ، فَقَوْلُهُ: مَقَامُ الْإِطْنَابِ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَلَى مَا فِي الْحِصْنِ: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ) إِلَخْ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ طُرُقِ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الْمَرْفُوعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثُ جُمَلٍ مِنَ الْجُمَلِ الْأَرْبَعَةِ، وَالرَّابِعَةُ زَادَهَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِيهَا أَنَّهَا مَا هِيَ، وَقَدْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ نَقْلًا عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَزِيدَةَ الَّتِي زَادَهَا سُفْيَانُ مِنْ قِبَلِهِ هِيَ جُمْلَةُ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ.

ص: 1704

2458 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2458 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي ") بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا (أَعُوذُ بِكَ) : أَيْ: أَلْتَجِئُ إِلَيْكَ (مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ) : تَقَدَّمَ مَبْنَاهَا وَسَبَقَ مَعْنَاهَا (وَضَلَعِ الدَّيْنِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَتُسَكَّنُ اللَّامُ أَيْ: ثِقَلُهُ وَشِدَّتُهُ، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَجِدُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَفَاءَهُ، لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُطَالَبَةِ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا دَخَلَ هَمُّ الدَّيْنِ قَلْبًا إِلَّا أَذْهَبَ مِنَ الْعَقْلِ مَا لَا يَعُودُ إِلَيْهِ، وَلِذَا وَرَدَ: الدَّيْنُ شَيْنُ الدِّينِ. (وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) : أَيْ: قَهْرِهِمْ وَشِدَّةِ تَسَلُّطِهِمْ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالرِّجَالِ الظَّلَمَةُ أَوِ الدَّائِنُونَ، وَاسْتَعَاذَ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَنْ يَغْلِبَهُ الرِّجَالُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَهْنِ فِي النَّفْسِ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذَا الدُّعَاءُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، لِأَنَّ أَنْوَاعَ الرَّذَائِلِ ثَلَاثَةٌ: نَفْسَانِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ وَخَارِجِيَّةٌ، فَالْأُولَى بِحَسَبِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ وَالشَّهَوِيَّةِ، فَالْهَمُّ وَالْحُزْنُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَقْلِيَّةِ، وَالْجُبْنُ بِالْغَضَبِيَّةِ، وَالْبُخْلُ بِالشَّهَوِيَّةِ، وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ بِالْبَدَنِيَّةِ، وَالثَّانِي يَكُونُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَتَمَامِ الْآلَاتِ وَالْقُوَى، وَالْأَوَّلُ عِنْدَ نُقْصَانِ عُضْوٍ وَنَحْوِهِ، وَالضَّلَعُ وَالْغَلَبَةُ بِالْخَارِجِيَّةِ، فَالْأَوَّلُ مَالِيٌّ وَالثَّانِي جَاهِيٌّ، وَالدُّعَاءُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 1704

2459 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2459 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ) : أَيِ: التَّثَاقُلِ فِي الطَّاعَةِ (وَالْهَرَمِ) : الْمُرَادُ بِهِ صَيْرُورَةُ الرَّجُلِ خَرِفًا مِنْ كِبَرِ السِّنِّ (وَالْمَغْرَمِ) : أَيِ: الْغَرَامَةِ، وَهِيَ أَنْ يَلْتَزِمَ الْإِنْسَانُ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يُلْزَمُ الشَّخْصُ أَدَاءَهُ كَالدَّيْنِ (وَالْمَأْثَمِ) : أَيِ: الْإِثْمِ أَوْ مَا يُوجِبُهُ، ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ» ) : أَيْ: مِنْ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُمُ الْكُفَّارُ، فَإِنَّهُمُ الْمُعَذَّبُونَ، وَأَمَّا الْمُوَحِّدُونَ فَإِنَّهُمْ مُؤَدَّبُونَ وَمُهَذَّبُونَ بِالنَّارِ لَا مُعَذَّبُونَ بِهَا. (وَفِتْنَةِ النَّارِ) : أَيْ: فِتْنَةٍ تُؤَدِّي إِلَى النَّارِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِفِتْنَةِ النَّارِ سُؤَالُ الْخَزَنَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8](وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ) : أَيِ: التَّحَيُّرِ فِي جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ (وَعَذَابِ الْقَبْرِ: وَهُوَ ضَرْبُ مَنْ لَمْ يُوَفَّقْ لِلْجَوَابِ بِمَقَامِعَ مِنْ حَدِيدٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَبْرِ الْبَرْزَخُ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ لِلْغَالِبِ، أَوْ كُلُّ مَا اسْتَقَرَّ

ص: 1704

أَجْزَاؤُهُ فِيهِ فَهُوَ قَبْرُهُ (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى) : وَهِيَ الْبَطَرُ وَالطُّغْيَانُ، وَتَحْصِيلُ الْمَالِ مِنَ الْحَرَامِ، وَصَرْفُهُ فِي الْعِصْيَانِ، وَالتَّفَاخُرُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ) : وَهِيَ الْحَسَدُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَالطَّمَعُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّذَلُّلُ بِمَا يُدَنِّسُ الْعِرْضَ، وَيَثْلِمُ الدِّينَ، وَعَدَمُ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ، وَنَاهِيكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:(كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا) . وَقِيلَ: الْفِتْنَةُ هُنَا الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ أَيْ: مِنْ بَلَاءِ الْغِنَى وَبَلَاءِ الْفَقْرِ، أَيْ: مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ الَّذِي يَكُونُ بَلَاءً وَمَشَقَّةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى لِذَاتِهِمَا مَحْمُودَانِ، وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَسْلَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30] فَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ أَفْضَلُ، وَأَنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَضْيِيقَهُ كُلُّ وَاحِدٍ يُنَاسِبُ بَعْضَ عِبَادِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ. فَمِنْ شَرْطِ الْفَقْرِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا وَمِنْ شَرْطِ الْغِنَى أَنْ يَكُونَ شَاكِرًا، فَإِذَا لَمْ يَكُونَا كَذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِتْنَةً لَهُمَا.

وَمُجْمَلُ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ، وَكُلَّ مَا يُبْعِدُكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ شُؤْمٌ عَلَيْكَ، سَوَاءً يَكُونُ فَقْرًا أَوْ غِنًى. قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قُيِّدَ فِيهِمَا بِالشَّرِّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ خَيْرٌ بِاعْتِبَارٍ وَشَرٌّ بِاعْتِبَارٍ، فَالتَّقْيِيدُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ بِالشَّرِّ يُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، سَوَاءً قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ فُسِّرَتِ الْفِتْنَةُ بِالْمِحْنَةِ وَالْمُصِيبَةِ فَشَرُّهَا أَنْ لَا يَصْبِرَ الرَّجُلُ عَلَى لَأْوَاهَا وَيَجْزَعَ مِنْهَا، وَإِنْ فُسِّرَتْ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ فَشَرُّهَا أَنْ لَا يَحْمَدَ فِي السَّرَّاءِ وَلَا يَصْبِرَ فِي الضَّرَّاءِ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ - قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ -: فِتْنَةُ الْغِنَى الْحِرْصُ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَالْحُبُّ عَلَى أَنْ تَكْسِبَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ وَاجِبَاتِ إِنْفَاقِهِ وَحُقُوقِهِ، وَفِتْنَةُ الْفَقْرِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ الَّذِي لَا يَصْحَبُهُ خَيْرٌ وَلَا وَرَعٌ، حَتَّى يَتَوَرَّطَ صَاحِبُهُ بِسَبَبِهِ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ، وَلَا يُبَالِي بِسَبَبِ فَاقَتِهِ عَلَى أَيِّ حَرَامٍ وَثَبَ. (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَرُوِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ لِأَنَّهُ مَمْسُوخُ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ كُلِّهَا، وَبَعْضِ الْأُخْرَى، وَنُسَخُ الْمِشْكَاةِ الْمُصَحَّحَةِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَعِبَارَةُ ابْنِ حَجَرٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ مُوهِمٌ فَلَا تَغْتَرَّ بِهَا، وَلَا تَظُنَّ أَنَّهَا نُسْخَةٌ، بَلْ هِيَ رِوَايَةٌ. (الدَّجَّالِ) : أَيْ: كَثِيرِ الْفَسَادِ بِدِينِ الْعِبَادِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِنَّمَا تَعَوَّذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَّنَهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ عِيَاضٌ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَرَادَ التَّعَوُّذَ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ بِأُمَّتِهِ اهـ. أَوِ الْمُرَادُ إِظْهَارُ الِافْتِقَارِ وَالْعُبُودِيَّةِ ; نَظَرًا إِلَى اسْتِغْنَائِهِ وَكِبْرِيَائِهِ تَعَالَى فِي مَرَاتِبِ الرُّبُوبِيَّةِ. (اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ بِأَنْوَاعِ الْمَغْفِرَةِ كَمَا تَظْهَرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الدَّنَسِ.

قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عُبِّرَ بِذَلِكَ عَنْ غَايَةِ الْمَحْوِ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ بِالْمُنَقِّي يَكُونُ فِي غَايَةِ النُّقِيِّ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخَطَايَا بِمَنْزِلَةِ جَهَنَّمَ لِكَوْنِهَا مُسَبَّبَةً عَنْهَا، عُبِّرَ عَنْ إِطْفَاءِ حَرَارَتِهَا بِالْغَسْلِ، وَبَالَغَ فِيهِ بِاسْتِعْمَالِ الْمِيَاهِ الْبَارِدَةِ غَايَةَ الْبُرُودَةِ، (وَنَقِّ قَلْبِي) : أَيْ: مِنَ الْخَطَايَا الْبَاطِنِيَّةِ وَهِيَ الْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ وَالشَّمَائِلُ الرَّدِيَّةُ (كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ أَيِ: الْوَسَخِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْقَلْبَ بِمُقْتَضَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ سَلِيمٌ وَنَظِيفٌ وَأَبْيَضُ وَظَرِيفٌ وَإِنَّمَا يَتَسَوَّدُ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَبِالتَّخَلُّقِ بِالْعُيُوبِ (وَبَاعِدْ) مُبَالَغَةُ أَبْعِدْ لِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمُغَالَبَةِ فَهِيَ لِلْمُبَالَغَةِ وَهُوَ فِي قُوَّةِ التَّكْرِيرِ أَيْ: بَعِّدْ (بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْمُبَاعَدَةِ مَحْوُ مَا حَصَلَ مِنْهَا وَالْعِصْمَةُ عَمَّا سَيَأْتِي وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمُبَاعَدَةِ إِنَّمَا هِيَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَوْقِعُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْتِقَاءَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مُسْتَحِيلٌ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ لَا يُبْقِي لَهُ مِنْهَا أَثَرًا أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: كُرِّرَ لَفْظُ بَيْنَ لِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ يُعَادُ فِيهِ الْخَافِضُ، وَقَالَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعَوَاتِ الثَّلَاثِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ، فَالْغَسْلُ لِلْمَاضِي وَالتَّنْقِيَةُ لِلْحَالِ وَالْمُبَاعَدَةُ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَجَازٌ عَنْ صِفَةٍ يَقَعُ بِهَا الْمَحْوُ كَقَوْلِهِ " وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.

ص: 1705

2460 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2460 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ» ) أَيْ: عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَدَمِ الْقُوَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ (وَالْكَسَلِ) أَيِ: التَّثَاقُلِ عَنِ الْخَيْرِ (وَالْجُبْنِ) أَيْ: عَدَمِ الْإِقْدَامِ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ (وَالْبُخْلِ) أَيِ: الْإِمْسَاكِ عَنْ صَرْفِ الْمَالِ فِي مَرْضَاةِ الْمَوْلَى (وَالْهَرَمِ) أَيِ: الْخَرْقُ أَرْذَلَ الْعُمُرِ كَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا (وَعَذَابِ الْقَبْرِ) مِنَ الضِّيقِ وَالظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ وَضَرْبِ الْمِقْمَعَةِ وَلَدْغِ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَأَمْثَالِهَا، أَوْ مِمَّا يُوجِبُ عَذَابَهُ مِنَ النَّمِيمَةِ وَعَدَمِ التَّطْهِيرِ وَنَحْوِهَا (اللَّهُمَّ آتِ) أَيْ: أَعْطِ (نَفْسِي تَقْوَاهَا) أَيْ: صِيَانَتَهَا عَنِ الْمَحْظُورَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ تُفَسَّرَ التَّقْوَى بِمَا يُقَابِلُ الْفُجُورَ فِي قَوْلِهِ " فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " وَهِيَ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَارْتِكَابِ الْفُجُورِ وَالْفَوَاحِشِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ كَالتَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ لِلْآيَةِ فَدَلَّ قَوْلُهُ آتِ عَلَى أَنَّ الْإِلْهَامَ فِي الْآيَةِ هُوَ خَلْقُ الدَّاعِيَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الِاجْتِنَابِ عَنِ الْمَذْكُورَاتِ وَقَوْلُهُ: (وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا) دَلَّ عَلَى أَنَّ إِسْنَادَ التَّزْكِيَةِ إِلَى النَّفْسِ فِي الْآيَةِ هُوَ نِسْبَةُ الْكَسْبِ إِلَى الْعَبْدِ لَا خَلْقُ الْفِعْلِ لَهُ كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لِأَنَّ الْخَيْرِيَّةَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَخَلْقِ الْقُدْرَةِ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُقَابَلَةِ التَّقْوَى لِلْفُجُورِ قَصْرُهَا عَلَى ضِدِّ الْفُجُورِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَهُ، فَمُكَابَرَةٌ صَرِيحَةٌ لِأَنَّ الْمُقَابِلَةَ صَرِيحَةٌ (أَنْتَ وَلِيُّهَا) أَيْ: نَاصِرُهَا هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ (آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا) كَأَنَّهُ يَقُولُ انْصُرْهَا عَلَى فِعْلِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِرِضَاهُ عَنْهَا لِأَنَّكَ نَاصِرُهَا (وَمَوْلَاهَا) هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ زَكِّهَا يَعْنِي: طَهِّرْهَا بِتَأْدِيبِكَ إِيَّاهَا كَمَا يُؤَدِّبُ الْمَوْلَى عَبِيدَهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا اسْتِئْنَافٌ عَلَى بَيَانِ الْمُوجِبِ وَأَنَّ إِيتَاءَ التَّقْوَى وَتَحْصِيلَ التَّزْكِيَةِ فِيهَا إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ هُوَ مُتَوَلِّي أُمُورَهَا وَمَالِكُهَا، فَالتَّزْكِيَةُ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى تَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّقْوَى مَظَاهِرَ مَا كَانَ مُكَمَّنًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى الْإِنْمَاءِ وَالْإِعْلَاءِ بِالتَّقْوَى كَانَتْ تَحْلِيَةً بَعْدَ التَّخْلِيَةِ لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ - شَرْعًا - مَنِ اجْتَنَبَ النَّوَاهِيَ وَأَتَى بِالْأَوَامِرِ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ، تَقْوَى الْبَدَنِ الْكَفُّ عَمَّا لَا يُتَيَقَّنُ حِلُّهُ، وَتَقْوَى الْقَلْبِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ فِي الدَّارَيْنِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ عِلْمٍ لَا أَعْمَلُ بِهِ وَلَا أُعَلِّمُ النَّاسَ وَلَا يُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ وَالْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ، أَوْ عِلْمٍ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ أَوْ لَا يَرِدُ فِي تَعَلُّمِهِ إِذْنٌ شَرْعِيٌّ، وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ: الْعِلْمُ لَا يُذَمُّ لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ لِأَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ إِمَّا لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِ أَوِ الشَّرِّ إِلَى غَيْرِهِ كَعِلْمِ السِّحْرِ وَالطَّلْسَمَاتِ فَإِنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ إِلَّا لِلْإِضْرَارِ بِالْخَلْقِ وَالْوَسِيلَةِ لِلشَّرِّ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُضِرًّا لِصَاحِبِهِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَعِلْمِ النُّجُومِ فَإِنَّهُ كُلَّهُ مُضِرٌّ وَأَقَلُّ مَضَارِّهِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَتَضْيِيعُ الْعُمُرِ الَّذِي هُوَ أَنْفَسُ بِضَاعَةِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ غَايَةُ الْخُسْرَانِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ دَقِيقًا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْخَائِضُ فِيهِ كَالتَّعْلِيقِ بِدَقِيقِ الْعُلُومِ قَبْلَ جَلِيلِهَا وَكَالْبَاحِثِ عَنِ الْأَسْرَارِ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ تَطَلَّعَ الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَسْتَقِلُّوا بِهَا وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَى طَرَفِ بَعْضِهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ فَيَجِبُ كَفُّ النَّاسِ عَنِ الْبَحْثِ عَنْهَا وَرَدُّهُمْ إِلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ اهـ. وَبِهِ يُعْلَمُ فَسَادُ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ: لِجَلَالَةِ الْمَقَامِ لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا وَالْوُقُوفِ عَلَى طَرَفِ بَعْضِهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ) أَيْ: لَا يَسْكُنُ وَلَا يَطْمَئِنُّ بِذِكْرِ اللَّهِ (وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ) بِمَا آتَاهَا اللَّهُ وَلَا تَقْنَعُ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ وَلَا تَفْتُرُ عَنْ جَمْعِ الْمَالِ لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ، أَوْ مِنْ نَفْسٍ تَأْكُلُ كَثِيرًا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ حَرِيصَةٍ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَتَحْصِيلِ الْمَنَاصِبِ، وَقِيلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ إِمَّا لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الدُّنْيَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْكُلَ قَدْرَ مَا يُشْبِعُ جَوْعَتَهُ، وَإِمَّا اسْتِيلَاءُ الْجُوعِ الْبَقَرِيِّ عَلَيْهِ وَهُوَ جُوعُ الْأَعْضَاءِ مَعَ شِبَعِ الْمَعِدَةِ عَكْسُ الشَّهْوَةِ الْكَلْبِيَّةِ (وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا) قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرُ فِي لَهَا عَائِدٌ إِلَى الدَّعْوَةِ وَاللَّامٌ زَائِدَةٌ وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ: وَدَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ اهـ. وَفِي رِوَايَةٍ وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَفِي أُخْرَى وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ السَّجْعَ إِذَا كَانَ عَلَى وَفْقِ الطَّبْعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلَا مَنْعَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

ص: 1706

2461 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رضي الله عنه، قَالَ «كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2461 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بِلَا وَاوٍ (قَالَ: «كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ» ) أَيْ: نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَمِنْحَةِ الْإِحْسَانِ وَالْعِرْفَانِ، وَفِي الْحَدِيثِ " مَا بَطَرَ أَحَدٌ النِّعْمَةَ فَعَادَتْ إِلَيْهِ " (وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ) بِضَمِّ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: انْتِقَالِهَا مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، قَالَ مِيرَكُ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ؟ قُلْتُ: الزَّوَالُ يُقَالُ فِي شَيْءٍ كَانَ ثَابِتًا فِي شَيْءٍ ثُمَّ فَارَقَهُ، وَالتَّحَوُّلُ: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ وَانْفِصَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَمَعْنَى زَوَالِ النِّعْمَةِ ذَهَابُهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَتَحَوُّلُ الْعَافِيَةِ إِبْدَالُ الصِّحَّةِ بِالْمَرَضِ وَالْغِنَى بِالْفَقْرِ: وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَيْ تَبَدُّلِ مَا رَزَقْتَنِي مِنَ الْعَافِيَةِ إِلَى الْبَلَاءِ وَالدَّاهِيَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ " وَتَحْوِيلِ عَافِيَتِكَ " مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ (وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْمَدِّ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بِمَعْنَى الْبَغْتَةِ، وَالنِّقْمَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحٍ مَعَ سُكُونِ الْقَافِ وَكَفَرْحَةٍ: الْمُكَافَأَةُ بِالْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامُ بِالْغَضَبِ وَالْعَذَابِ، وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ (وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) أَيْ: مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ جَمِيعِ آثَارِ غَضَبِكَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَجَمِيعِ جُزْئِيَّاتِ سَخَطِكَ، فَخَطَأٌ فَاحِشٌ إِذِ الصِّفَةُ لَا تَتَجَزَّأُ كَمَا لَا يَخْفَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 1707

2462 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2462 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ» ) أَيْ: فَعَلْتُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ شَرِّ عَمَلٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ (وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ) اسْتَعَاذَ مِنْ شَرِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَا يَرْضَاهُ بِأَنْ يَحْفَظَهُ مِنْهُ، أَوْ مِنْ شَرِّ أَنْ يَصِيرَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ فِي تَرْكِ الْقَبَائِحِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ، أَوْ لِئَلَّا يُصِيبَهُ شَرُّ عَمَلِ غَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ اهـ. وَكُلٌّ مِنْهَا فِي غَايَةٍ مِنَ الْبَهَاءِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ لَمْ يُفَسِّرْ قَوْلَهُ مِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ بِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، وَأَنَّهُ حَمَلَ عَلَى أَنَّهُ لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ، ثُمَّ قَالَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَقْرَبُ بَلْ فِي الْأَوَّلِ مِنَ الْبُعْدِ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ مَا لَا يَخْفَى اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ إِلَى الْآنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنِّي فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهَا أَيْضًا " «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ» ".

ص: 1707

2463 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2463 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَكَ) أَيْ: لَا لِغَيْرِكَ (أَسْلَمْتُ) أَيِ: انْقِيَادًا ظَاهِرًا (وَبِكَ آمَنْتُ) أَيْ: تَصْدِيقًا بَاطِنًا (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ) أَيِ: اعْتَمَدْتُ فِي أُمُورِي أَوَّلًا وَآخِرًا، أَوْ مَعْنَاهُ أَسْلَمْتُ جَمِيعَ أُمُورِي لِتُدَبِّرَهَا فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ نَفْعَهَا وَلَا ضُرَّهَا (وَبِكَ آمَنْتُ) أَيْ: بِتَوْفِيقِكَ آمَنْتُ بِجَمِيعِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ فِي سَائِرِ أُمُورِي، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ فِي عَلَيْكَ تَجُوزُ وَإِنْ ضُمِّنَ تَوَكَّلْتُ بِاعْتَمَدْتُ لِتَعَذُّرِ تَعَدِّيهِ بِعَلَى بِدُونِ التَّضْمِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ مِمَّا يَرْجِعُ الْفَطِنُ إِلَيْهِ وَمُجْمَلُهُ: أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِعَلَى عَلَى مَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَدَفَاتِرُ اللُّغَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاعْتِمَادِ فِي التَّعْدِيَةِ وَالِاسْتِنَادِ، فَلَا وَجْهَ لِتَضْمِينِهِ. فَإِنَّهُ بِعَيْنِهِ يُفِيدُ الِاسْتِعْلَاءَ عَلَى زَعْمِهِ وَإِنَّمَا كَانَ يَصِحُّ التَّضْمِينُ لَوْ كَانَ الْغَالِبُ اسْتِعْمَالَهُ بِغَيْرِ عَلَى ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بِعَلَى فَيَحْتَاجُ إِلَى تَضْمِينِ فِعْلٍ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِعَلَى كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ النُّهَى وَأَصْحَابِ الْعُلَا (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ أَوْ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ أَوْ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ (وَبِكَ) بِإِعَانَتِكَ (خَاصَمْتُ) أَيْ:

ص: 1707

حَارَبْتُ أَعْدَاءَكَ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ) أَيْ: بِغَلَبَتِكَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) فَلَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْبُودَ وَلَا مَقْصُودَ إِلَّا أَنْتَ وَلَا سُؤَالَ إِلَّا مِنْكَ وَلَا اسْتِعَاذَةَ إِلَّا بِكَ (أَنْ تُضِلَّنِي) مُتَعَلِّقٌ بِأَعُوذُ، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ مُعْتَرِضَةٌ لِتَأْكِيدِ الْعِزَّةِ أَيْ: أَعُوذُ مِنْ أَنْ تُضِلَّنِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي وَوَفَّقْتَنِي لِلِانْقِيَادِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي حُكْمِكَ وَقَضَائِكَ وَلِلْإِنَابَةِ إِلَى جَنَابِكَ وَالْمُخَاصِمَةِ مَعَ أَعْدَائِكَ وَالِالْتِجَاءِ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَى عِزَّتِكَ وَنُصْرَتِكَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8](أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) بِالْغِيبَةِ، وَفِي الْحِصْنِ أَنْتَ الْحَيُّ لَا تَمُوتُ بِالْخِطَابِ وَبِدُونِ الْمَوْصُولِ وَفِيهِ تَأْكِيدُ الْعِزَّةِ أَيْضًا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ أَنْ تُضِلَّنِي أَيْ: تُغَيِّبَنِي عَنْ حَضْرَتِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ بَلِ اجْعَلْنِي دَائِمَ الشُّهُودِ لَكَ، أَوْ عَنِ الْقِيَامِ بِأَوَامِرِكَ وَنَوَاهِيكَ بَلِ اجْعَلْنِي دَائِمَ التَّعَبُّدِ لَكَ، أَوْ عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ بَلِ اجْعَلْنِي دَائِمَ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ تُضِلَّنِي لَيْسَ مِنْ مَادَّةِ الْإِضْلَالِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْهِدَايَةِ بَلْ مُتَعَدِّي ضَلَّ بِمَعْنَى غَابَ كَمَا تَوَهَّمَ فِيمَا سَبَقَ، ثُمَّ أَخْطَأَ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ فِقْرَاتِ كَلَامِهِ إِذْ يَجِبُ تَقَدُّمُ الْإِيمَانِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ عَلَى مَا عَرَفَهُ أَهْلُ الْعِرْفَانِ، ثُمَّ قَالَ وَلَمَّا كَانَ فِي الْإِضْلَالِ بِكُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ نَوْعٌ مِنَ الْأَمَانَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَقَّبَ بِمَا يُوجِبُ ضِدَّهُ مِنَ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فَقَالَ: أَنْتَ الْحَيُّ إِلَخْ. وَفِيهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَكَلُّفِهِ وَتَعَفُّفِهِ أَنَّ الْأَمَانَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ ضِدُّهَا الْحَيَاةُ الْحَقِيقَةُ وَضِدُّ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَإِنَّمَا تُبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ بِأَضْدَادِهَا (وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ) خُصَّا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا الْمُكَلَّفَانِ الْمَقْصُودَانِ بِالتَّبْلِيغِ فَكَأَنَّهُمَا الْأَصْلُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1708

(الْفَصْلُ الثَّانِي)

2464 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَرْبَعِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمَنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

2464 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَرْبَعِ» ) أَيِ: الْمَعْهُودَةِ فِي الذِّهْنِ، أَوْ هُوَ إِجْمَالٌ وَتَفْصِيلٌ فَيُفِيدُ تَقْرِيرَ التَّعَوُّذِ (مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ) أَيْ: لَا يُسْتَجَابُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، يُقَالُ اسْمَعْ دُعَائِي أَيْ أَجِبْ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السَّمَاعِ هُوَ الْإِجَابَةُ وَالْقَبُولُ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ: قَدِ اسْتَعَاذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ كَمَا اسْتَعَاذَ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ. وَالْعِلْمُ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ التَّقْوَى فَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الدُّنْيَا وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْهَوَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْقَرَائِنِ الْأَرْبَعِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ وُجُودَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى غَايَتِهِ وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ تِلْكَ الْغَايَةُ وَذَلِكَ أَنَّ تَحْصِيلَ الْعُلُومِ إِنَّمَا هُوَ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فَإِذَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ كَفَافًا بَلْ يَكُونُ وَبَالًا وَلِذَلِكَ اسْتَعَاذَ، وَأَنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا خُلِقَ لِأَنْ يَخْشَعَ لِبَارِئِهِ وَيَنْشَرِحَ لِذَلِكَ الصَّدْرُ وَيُقْذَفُ النُّورُ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ قَاسِيًا فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] وَأَنَّ النَّفْسَ يُعْتَدُّ بِهَا إِذَا تَجَافَتْ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَأَنَابَتْ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَهِيَ إِذَا كَانَتْ مَنْهُومَةً لَا تَشْبَعُ حَرِيصَةً عَلَى الدُّنْيَا كَانَتْ أَعْدَى عَدُوِّ الْمَرْءِ فَأَوْلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُسْتَعَاذُ مِنْهُ هِيَ أَيِ: النَّفْسُ، وَعَدَمُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَلَمْ يَخْشَعْ قَلْبُهُ وَلَمْ تَشْبَعْ نَفْسُهُ وَاللَّهُ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 1708

2465 -

(وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُمَا) .

ــ

2465 -

(وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُمَا) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَمْرٍو.

ص: 1709

2466 -

(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَسُوءِ الْعُمُرِ وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

2466 -

(وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْسٍ) وَهُوَ لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ (مِنَ الْجُبْنِ) أَيْ: فِي الْقِتَالِ (وَالْبُخْلِ) أَيْ: فِي بَذْلِ الْمَالِ (وَسُوءِ الْعُمُرِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: سُوءِ الْكِبَرِ فِي آخِرِ الْحَالِ أَوْ مُضِيِّهِ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ فِي الْمَآلِ (وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ) أَيْ: مِنْ قَسَاوَةِ الْقَلْبِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَقِيلَ هُوَ مَوْتُهُ وَفَسَادُهُ، وَقِيلَ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِتْنَةُ الصَّدْرِ هُوَ الضِّيقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] فَهِيَ الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْغُرُورِ الَّتِي هِيَ سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْخُلُودِ الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ اهـ. وَهُوَ ضِدُّ شَرْحِ الصَّدْرِ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] وَلَمَّا سُئِلَ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَلَامَتِهِ قَالَ: التَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ (وَعَذَابِ الْقَبْرِ) أَيِ: الْبَرْزَخِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ.

ص: 1709

2467 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

2467 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ» ) أَيْ: فَقْرِ الْقَلْبِ، أَوْ مِنْ قَلْبٍ حَرِيصٍ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ، أَوْ مِنَ الْفَقْرِ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ فِي الْمَآلِ وَنِسْيَانِ ذِكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُتَعَالِ، أَوْ يَدْعُوهُ إِلَى سَدِّ الْخَلَّةِ بِمَا يَتَدَنَّسُ بِهِ عِرْضُهُ وَيَنْثَلِمُ بِهِ دِينُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَرَادَ فَقْرَ النَّفْسِ أَعْنِي الشَّرَّ الَّذِي يُقَابِلُ غِنَى النَّفْسِ الَّذِي هُوَ قَنَاعَتُهَا، أَوْ أَرَادَ قِلَّةَ الْمَالِ، وَالْمُرَادُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الْفِتْنَهُ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَيْهَا كَالْجَزَعِ وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ:(وَالْقِلَّةِ) الْقِلَّةِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ وَخِصَالِ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْثِرُ الْإِقْلَالَ فِي الدُّنْيَا وَيَكْرَهُ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْفَانِيَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَرَادَ قِلَّةَ الْعَدَدِ أَوِ الْعُدَدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ قِلَّةُ الصَّبْرِ وَقِلَّةُ الْأَنْصَارِ أَوْ قِلَّةُ الْمَالِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ كَفَافٌ مِنَ الْقُوتِ فَيَعْجِزُ عَنْ وَظَائِفِ الْعِبَادَةِ، وَفِي الْحِصْنِ: الْفَاقَةِ بَدَلَ الْقِلَّةِ وَهِيَ شِدَّةُ الْفَقْرِ (وَالذِّلَّةِ) أَيْ، مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ بِحَيْثُ يَسْتَخِفُّونَهُ وَيُحَقِّرُونَ شَأْنَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الذِّلَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ أَوِ التَّذْلِيلِ لِلْأَغْنِيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمَسْكَنَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ وَكَشْفُ الْغُمَّةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَصْلُ الْفَقْرِ كَسْرُ فَقَارِ الظَّهْرِ، وَالْفَقْرُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: وُجُودُ الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ عَامٌّ لِلْإِنْسَانِ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا بَلْ عَامٌّ فِي الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمُقْتَنَيَاتِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] وَ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] وَالثَّالِثُ: فَقْرُ النَّفْسِ وَهُوَ الْمُقَابَلُ بِقَوْلِهِ (الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) وَالْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ: مَنْ عَدِمَ الْقَنَاعَةَ لَمْ يُفِدْهُ الْمَالُ غِنًى، الرَّابِعُ: الْفَقْرُ إِلَى اللَّهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْنِنِي بِالِافْتِقَارِ إِلَيْكَ وَلَا تُفْقِرْنِي بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْكَ وَإِيَّاهُ عَنَى تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْفَقْرِ الَّذِي هُوَ فَقْرُ النَّفْسِ لَا قِلَّةُ الْمَالِ، قَالَ عِيَاضٌ: وَقَدْ تَكُونُ اسْتِعَاذَتُهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْفَقْرِ وَالْمُرَادُ الْفِتْنَةُ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِهِ وَقِلَّةِ الرِّضَا بِهِ وَلِذَا قَالَ: (وَفِتْنَةِ الْفَقْرِ) وَلَمْ يَقُلِ الْفَقْرَ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ الْفَقْرِ اهـ. وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَقُلِ الْفَقْرَ أَيْ: فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ فِي كَلَامِ الطِّيبِيِّ رحمه الله أَنَّ الْفَقْرَ الْأَوَّلَ عَامٌّ اضْطِرَارِيٌّ وَالرَّابِعَ خَاصٌّ

ص: 1709

اخْتِيَارِيٌّ أَوْ شُهُودُ ذَلِكَ الِاضْطِرَارِ وَدَوَامُ حُضُورِ ذَلِكَ الِافْتِقَارِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَفَرْقُهُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَهَذَا عَلَى عَدَمِ فِقْهِهِ دَلِيلٌ صَرِيحٌ (وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ) مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ، وَالظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوِ التَّعَدِّي فِي حَقِّ غَيْرِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ.

ص: 1710

2468 -

(وَعَنْهُ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

2468 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ) أَيْ: مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2] وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: الشِّقَاقُ الْعَدَاوَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) لَا يَخْفَى عَنْ بُعْدٍ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: قِيلَ فِي مَعْنَى الشِّقَاقِ الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْمَذْمُومُ وَبِالثَّانِي الْعَدَاوَةُ لِأَهْلِ الْحَقِّ وَحِينَئِذٍ فَهُمَا قَوْلٌ وَاحِدٍ لَا قَوْلَانِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ مُصَوَّرَةٌ بِدُونِ الْعَدَاوَةِ، وَالْعَدَاوَةُ قَدْ تُوجَدُ بِدُونِ الْمُخَالَفَةِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا عَدَاوَةُ أَهْلِ الْحَقِّ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَقَعَ الْمُخَالَفَةُ الصُّورِيَّةُ أَمْ لَا؟ وَمِنِ الْخِلَافِ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُغَايَرَةِ أَوْ مُخَالِفَةُ أَهْلِ الْحَقِّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا الْعَدَاوَةُ، أَلَا تَرَى إِلَى أَبِي طَالِبٍ كَانَ يُخَالِفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ يُعَادِيهِ بَلْ كَانَ يُدَافِعُ عَنْهُ وَيُحَامِيهِ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُعَادُونَ الشَّيْطَانَ وَغَالِبُهُمْ مَا يُخَالِفُونَهُ، وَقِيلَ الْخِلَافُ وَالْعَدَاوَةُ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ يَكُونُ فِي شِقٍّ أَيَّ نَاحِيَةٍ أَوْ يُرِيدُ مَشَقَّةَ الْآخَرِ (وَالنِّفَاقِ) أَيْ: إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَإِبِطَانِ الْكُفْرِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَنَّ تُظْهِرَ لِصَاحِبِكَ خِلَافَ مَا تُضْمِرُهُ، وَقِيلَ النِّفَاقُ فِي الْعَمَلِ بِكَثْرَةِ كَذِبِهِ وَخِيَانَةِ أَمَانَتِهِ وَخُلْفِ وَعْدِهِ وَالْفُجُورِ فِي مُخَاصَمَتِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ اللَّامَ لِلْجِنْسِ فَيَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِهِ فَلَا مَعْنَى لِمَنْ رَجَّحَ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ عَلَى بَعْضٍ وَطَعَنَ عَلَى غَيْرِهِ كَابْنِ حَجَرٍ عَلَى الطِّيبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ يَجْمَعُ الْأَقْوَالَ جَمِيعًا (وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ) مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَذْكُورَيْنِ أَوَّلًا أَعْظَمُ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ لِأَنَّهُ يَسْرِي ضَرَرُهُمَا إِلَى الْغَيْرِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَوْصَافُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةُ كَالزِّنَا وَالْحَسَدِ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ ذَانِكَ أَعْظَمَهَا بِمُقْتَضَى مَا فَسَّرَهُمَا بِهِ مِمَّا رَدَدْتُهُ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُرَادَ بِهَا كُلُّ خُلُقٍ ذَمَّهُ الشَّرْعُ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ كَكَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا إِشْعَارَ فِيهِ بِمَا ذُكِرَ عَلَى أَنَّا نَمْنَعُ كَوْنَ ذَيْنِكَ أَعْظَمَهَا بَلْ مِنَ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَيْنِكَ كَالْحَسَدِ وَالْجَبَرُوتِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ قَتْلُ النَّفْسِ وَهَتْكُ الْأَعْرَاضِ بِنَحْوِ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالْأَمْوَالُ بِنَحْوِ السَّرِقَةِ، قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ قَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَوْصَافُ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةُ دُونَ مُطْلَقِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ كَالزِّنَا خَطَأٌ فَاحِشٌ فَإِنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا مِنَ الْأَخْلَاقِ وَكَذَا كَثْرَةُ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ وَكَأَنَّهُ مَا قَرَأَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْأَخْلَاقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى جَمِيعِهَا الْإِحْيَاءُ فِي الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُهْلِكَاتِ وَلَوْ عَرَفَهَا لَفَهِمَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُحَرَّمَةَ وَالْمَكْرُوهَةَ كُلَّهَا تَنْشَأُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ فَإِنَّهُ يَنْشَأُ مِنْهَا الْأَفْعَالُ الذَّمِيمَةُ كَقَتْلِ النَّفْسِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ ظُلْمًا وَهَتْكِ الْأَعْرَاضِ بَلْ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ كَالْحَسَدِ وَالْجَبَرُوتِ وَغَيْرِهِمَا، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» " وَأَشَارَ الشَّاطِبِيُّ رحمه الله إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ صَادِقًا لَوْلَا الْوِئَامُ وَرُوحُهُ لَطَاحَ الْأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلَى

إِيمَاءً إِلَى الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ " لَوْلَا الْوِئَامُ لَهَلَكَ الْأَنَامُ " وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ إِيذَاءُ أَهْلِ الْحَقِّ وَإِيذَاءُ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَتَغْلِيظُ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ وَعَدَمُ التَّحَمُّلِ عَنْهُمْ وَعَدَمُ الْعَفْوِ عَنْهُمْ إِذَا صَدَرَتْ خَطِيئَةٌ مِنْهُمْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .

ص: 1710

2469 -

(وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

2469 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ» ) أَيِ: الْأَلَمِ الَّذِي يَنَالُ الْحَيَوَانَ مِنْ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ عَنِ الْغِذَاءِ وَيُؤَدِّي تَارَةً إِلَى الْمَرَضِ وَتَارَةً إِلَى الْمَوْتِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ:(فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ) أَيِ: الْمُضَاجِعُ وَهُوَ مَا يُلَازِمُ صَاحِبَهُ فِي الْمَضْجَعِ إِلَى أَنَّهُ جُوعٌ يَمْنَعُ مِنَ الْهُجُوعِ وَوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ كَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْجُوعُ يُضْعِفُ الْقُوَى وَيُشَوِّشُ الدِّمَاغَ فَيُثِيرُ أَفْكَارًا رَدِيَّةً وَخَيَالَاتٍ فَاسِدَةً فَيُخِلُّ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُرَاقَبَاتِ وَلِذَلِكَ خُصَّ بِالضَّجِيعِ الَّذِي يُلَازِمُهُ لَيْلًا وَمِنْ ثَمَّ حُرِمَ الْوِصَالُ اه. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْجُوعَ الْمُجَرَّدَ لَا ثَوَابَ فِيهِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ) وَهِيَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هِيَ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا (فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ) أَيِ: الْخَصْلَةُ الْبَاطِنَةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هِيَ ضِدُّ الظِّهَارَةِ وَأَصْلُهَا فِي الثَّوْبِ فَاسْتُعِيرَ لِمَا يَسْتَبْطِنُهُ الْإِنْسَانُ، وَقِيلَ: أَيْ بِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي يَسْتَبْطِنُهُ مِنْ أَمْرِهِ وَيَجْعَلُهُ بِطَانَةَ حَالِهِ فِي الْمُغْرِبِ بِطَانَةً لِمُلَابَسَةٍ بَيْنَهُمَا كَالْإِنْسَانِ يُلَابِسُهُ ضَجِيعُهُ وَبِطَانَتُهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 1711

2470 -

(وَعَنْ أَنَسٍ، رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

2470 -

(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ) بِفَتْحَتَيْنِ بَيَاضٌ يَحْدُثُ فِي الْأَعْضَاءِ (وَالْجُذَامِ) بِضَمِّ الْجِيمِ عِلَّةٌ يَذْهَبُ مَعَهَا شُعُورُ الْأَعْضَاءِ، وَفِي الْقَامُوسِ الْجُذَامُ كَغُرَابٍ عِلَّةٌ تَحْدُثُ مِنِ انْتِشَارِ السَّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ فَيُفْسِدُ مِزَاجَ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَاتِهَا وَرُبَّمَا انْتَهَى إِلَى تَآكُلِ الْأَعْضَاءِ وَسُقُوطِهَا عَنْ تَقَرُّحٍ (وَالْجُنُونِ) أَيْ: زَوَالِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنْشَأُ الْخَيْرَاتِ (وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ) كَالِاسْتِسْقَاءِ وَالسُّلِّ وَالْمَرَضِ الْمُزْمِنِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يُتَعَوَّذْ مِنَ الْأَسْقَامِ مُطْلَقًا فَإِنَّ بَعْضَهَا مِمَّا يَخِفُّ مُؤْنَتُهُ وَتَكْثُرُ مَثُوبَتُهُ عِنْدَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ إِزْمَانِهِ كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ وَالرَّمَدِ، وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنَ السِّقَمِ الْمُزْمِنِ فَيَنْتَهِي بِصَاحِبِهِ إِلَى حَالَةٍ يَفِرُّ مِنْهَا الْحَمِيمُ وَيَقِلُّ دُونَهَا الْمُؤَانِسُ وَالْمُدَاوِي مَعَ مَا يُورِثُ مِنَ الشَّيْنِ فَمِنْهَا الْجُنُونُ الَّذِي يُزِيلُ الْعَقْلَ فَلَا يَأْمَنُ صَاحِبُهُ الْقَتْلَ وَمِنْهَا الْبَرَصُ وَالْجُذَامُ وَهُمَا الْعِلَّتَانِ الْمُزْمِنَتَانِ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْقَذَارَةِ وَالْبَشَاعَةِ وَتَغْيِيرِ الصُّورَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمَا مُعْدِيَانِ إِلَى الْغَيْرِ اهـ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِحِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُهُ غَالِبًا عِنْدَ نَحْوِ مُلَامَسَةِ أَصْحَابِهِمَا، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مُعْدِيَانِ بِطَبْعِهِمَا بَاطِلٌ وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ " وَقَالَ: " لَا عَدْوَى " أَيْ بِطَبْعِ الْمُعْدِي وَلَا يُنَافِي الْخَبَرَ الصَّحِيحَ " فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ " فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ شَيْءٌ مِنْهُ بِخَلْقِ اللَّهِ فَيُنْسَبُ إِلَى الْإِعْدَاءِ بِالطَّبْعِ لِيَقَعَ فِي مَحْذُورِ اعْتِقَادِ التَّأْثِيرِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقَدْ عَمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْأَمْرَيْنِ لِيُشِيرَ إِلَى الْجَوَابَيْنِ عَنْ قَضِيَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ جَاءَهُ مَجْذُومٌ فَأَكَلَ مَعَهُ قَائِلًا: بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَجَاءَهُ مَجْذُومٌ آخَرُ لِيُبَايِعَهُ فَلَمْ يَمُدَّ إِلَيْهِ يَدَهُ وَقَالَ: قَدْ بَايَعْتُ، فَأَوَّلًا نَظَرَ إِلَى الْمُسَبَّبِ وَثَانِيًا نَظَرَ إِلَى السَّبَبِ فِي مَقَامِ الْفَرْقِ وَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَقَامَيْنِ حَقٌّ، نَعَمِ الْأَفْضَلُ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّوَكُّلُ أَوْ وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْجَمْعِ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي لِغَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَرَضٍ يَحْتَرِزُ النَّاسُ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ الْمَرَضِ وَلَا يَنْتَفِعُونَ مِنْهُ وَلَا يَنْتَفِعُ مِنْهُمْ وَيَعْجِزُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَرَضِ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ يُسْتَحَبُّ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَالْإِضَافَةُ لَيْسَتْ بِمَعْنَى مِنْ كَقَوْلِكَ خَاتَمُ فِضَّةٍ بَلْ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ أَيِ: الْأَسْقَامِ السَّيِّئَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

ص: 1711

2471 -

(وَعَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

2471 -

(وَعَنْ قُطْبَةَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (بْنِ مَالِكٍ) أَيِ: الثَّعْلَبِيِّ وَقِيلَ الذُّبْيَانِيِّ (قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ» ) الْمُنْكَرُ مَا لَا يُعْرَفُ حُسْنُهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَوْ مَا عُرِفَ قُبْحُهُ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَخْلَاقِ الْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ (وَالْأَعْمَالِ) أَيِ: الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ (وَالْأَهْوَاءِ) جَمْعُ الْهَوَى مَصْدَرُ هَوَاهُ إِذَا أَحَبَّهُ ثُمَّ سُمِّيَ بِالْهَوَى الْمُشْتَهَى مَحْمُودًا كَانَ أَوْ مَذْمُومًا ثُمَّ غَلَبَ عَلَى غَيْرِ الْمَحْمُودِ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِضَافَةُ فِي الْقَرِينَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ قَبِيلِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَفِي الثَّالِثَةِ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الْأَهْوَاءَ كُلَّهَا مُنْكَرَةٌ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْإِضَافَاتِ كُلَّهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَيُحْمَلُ الْهَوَى عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] وَلِذَا قِيلَ: الْهَوَى إِذَا وَافَقَ الْهُدَى يَكُونُ كَالزُّبْدَةِ مَعَ الْعَسَلِ يَعْنِي فَيَحْلَى بِهِمَا الْعَمَلُ، وَقَالَ الشَّاذِلِيُّ: إِذَا شَرِبْتُ الْحُلْوَ الْبَارِدَ أَحْمَدُ رَبِّي مِنْ وَسَطِ قَلْبِي، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حُبِّ الْمَاءِ الْبَارِدِ» ) أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَخْتَارُهُ النَّفْسُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] فَالْمُرَادُ بِالْأَهْوَاءِ مُطْلَقًا الِاعْتِقَادَاتُ، وَبِالْمُنْكَرَاتِ الْأَهْوِيَةُ الْفَاسِدَةُ الَّتِي غَيْرُ مَأْخُوذَةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَهْوَاءُ الْمُنْكَرَةُ هِيَ الِاعْتِقَادَاتُ الْفَاسِدَةُ الْمُخَالِفَةُ لِمَا عَلَيْهِ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ وَزَادَ فِي الْحِصْنِ: وَالْأَدْوَاءِ، وَهِيَ جَمْعُ الدَّاءِ بِمَعْنَى سَيِّئِ الْأَسْقَامِ، وَقَالَ مِيرَكُ فِي حَاشِيَةِ الْحِصْنِ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ السِّلَاحِ أَنَّ زِيَادَةَ (وَالْأَدْوَاءِ) فِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ لَا فِي التِّرْمِذِيِّ، حَيْثُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَالْأَهْوَاءِ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَالْأَدْوَاءِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَالْآرَاءِ، وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ فَتَأَمَّلْ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لِلتِّرْمِذِيِّ رِوَايَاتٍ وَطُرُقًا مُتَعَدِّدَةً وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

ص: 1712

2472 -

(وَعَنْ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: «قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي تَعْوِيذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لِسَانِي وَشَرِّ قَلْبِي وَشَرِّ مَنِيِّي» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

2472 -

(وَعَنْ شُتَيْرِ) تَصْغِيرُ شَتْرٍ (بْنِ شَكَلٍ) بِفَتْحَتَيْنِ (بْنِ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ أَيِ: الْعَبْسِيِّ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: شَكَلٍ وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ (قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ عَلِّمْنِي تَعْوِيذًا) أَيْ: مَا يُتَعَوَّذُ بِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْعَوْذُ وَالْمَعَاذُ وَالتَّعْوِيذُ بِمَعْنَى (أَعُوذُ بِهِ) أَيْ: لِخَاصَّةِ نَفْسِي (قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي) حَتَّى لَا أَسْمَعَ بِهِ مَا تَكْرَهُهُ (وَشَرِّ بَصَرِي) حَتَّى لَا أَرَى شَيْئًا لَا تَرْضَاهُ (وَشَرِّ لِسَانِي) حَتَّى لَا أَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِينِي (وَشَرِّ قَلْبِي) حَتَّى لَا أَعْتَقِدَ اعْتِقَادًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونَ فِيهِ نَحْوُ حِقْدٍ وَحَسَدٍ وَتَصْمِيمِ فِعْلٍ مَذْمُومٍ أَبَدًا (وَشَرِّ مَنِيِّي) وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقَعَ فِي الزِّنَا أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ، فِي سِلَاحِ الْمُؤْمِنِ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ يَعْنِي فَرَحَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَنِيُّ جَمْعُ الْمَنِيَّةِ وَهِيَ طُولُ الْأَمَلِ، أَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمَنِيَّةَ بِفَتْحِ الْمِيمِ إِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْمَوْتِ وَبِمَعْنَى الْمَنِيِّ أَيْضًا وَأَمَّا بِمَعْنَى مُنْيَةٍ فَهِيَ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ الْمَنِيَّةِ أَيْ مِنْ شَرِّ الْمَوْتِ أَيْ: قَبْضِ رُوحِهِ عَلَى عَمَلٍ قَبِيحٍ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِجَمْعِ الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ.

ص: 1712

2473 -

(وَعَنْ أَبِي الْيَسَرِ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ مِنَ التَّرَدِّي، وَمِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَالْغَمِّ.

ــ

2473 -

(وَعَنْ أَبِي الْيَسَرِ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ» ) بِسُكُونِ الدَّالِ وَهُوَ سُقُوطُ الْبِنَاءِ وَوُقُوعُهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَرُوِيَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اسْمُ مَا انْهَدَمَ مِنْهُ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَزَادَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: أَيِ الْمَهْدُومِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ مَا اسْتَعَاذَ مِنَ الْمَهْدُومِ بَلْ مِنَ الْهَدْمِ نَفْسِهِ) وَمِمَّا يَنْفَصِلُ عَنْهُ حِينَ هَدْمِهِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي) أَيِ: السُّقُوطِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ كَالْجَبَلِ وَالسَّطْحِ أَوِ الْوُقُوعُ فِي مَكَانٍ سُفْلِيٍّ كَالْبِئْرِ (وَمِنَ الْغَرَقِ) بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ غَرَقَ فِي الْمَاءِ (وَالْحَرَقِ) بِالتَّحْرِيكِ أَيْضًا أَيْ: بِالنَّارِ وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنَ الْهَلَاكِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ نَيْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا مِحَنٌ مُجْهِدَةٌ مُقْلِقَةٌ لَا يَكَادُ الْإِنْسَانُ يَصْبِرُ عَلَيْهَا وَيَثْبُتُ عِنْدَهَا، فَلَعَلَّ الشَّيْطَانَ انْتَهَزَ فُرْصَةً مِنْهُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى مَا يُخِلُّهُ وَيَضُرُّ بِدِينِهِ، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ فَجْأَةً وَهِيَ أَخْذَةُ أَسَفٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَقِيلَ لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَ مِنْهَا لِأَنَّهَا فِي الظَّاهِرِ أَمْرَاضٌ وَمَصَائِبُ وَمِحَنٌ وَبَلَايَا كَالْأَمْرَاضِ السَّابِقَةِ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهَا، وَأَمَّا تَرَتُّبُ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا فَلِلْبِنَاءِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثِيبُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الْمَصَائِبِ كُلِّهَا حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُّهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعَافِيَةُ أَوْسَعُ، وَلِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ الْحَقِيقَةِ وَبَيْنَ هَذِهِ أَنَّهَا مُتَمَنَّى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمَطْلُوبُهُ، وَقَدْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَوَخِّي الشَّهَادَةِ وَالتَّجَزُّؤُ فِيهَا بِخِلَافِ التَّرَدِّي وَالْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا وَلَوْ سَعَى فِيهَا عَصَى (وَالْهَرَمِ) أَيْ: سُوءِ الْكِبَرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْخَوْفِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ حُفِظَ مِنْهُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَفِي نُسْخَةٍ (وَالْهَرَمِ) وَقَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ) أَيْ: إِبْلِيسُ أَوْ أَحَدُ أَعْوَانِهِ، قِيلَ التَّخَبُّطُ الْإِفْسَادُ وَالْمُرَادُ إِفْسَادُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَتَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ (عِنْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْخَاتِمَةِ وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ: مِنْ أَنْ يَمَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنَزَعَاتِهِ الَّتِي تُزِلُّ الْأَقْدَامَ وَتُصَارِعُ الْعُقُولَ وَالْأَوْهَامَ، وَأَصْلُ التَّخَبُّطِ أَنْ يَضْرِبَ الْبَعِيرُ الشَّيْءَ بِخُفِّ يَدِهِ فَيَسْقُطُ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا) أَيْ: مُرْتَدًّا أَوْ مُدْبِرًا عَنْ ذِكْرِكَ وَمُقْبِلًا عَلَى غَيْرِكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ: فَارًّا وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله وَقَالَ: إِدْبَارًا مُحَرَّمًا أَوْ مُطْلَقًا وَفِيهِ أَنَّ قَيْدَ الْمَوْتِ لَا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ يُفِيدُ إِخْرَاجَ التَّائِبِ، قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمِنَ التَّخَبُّطَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا) فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ اللَّدْغِ وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَوَاتِ السُّمِّ مِنَ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَقُيِّدَ بِالْمَوْتِ مِنَ اللَّدْغِ فَلَا يُنَافِيهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ رحمه الله فِي الصَّغِيرِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ «لَدَغَتِ النَّبِيَّ عَقْرَبُ وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:" لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تَدْعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا " أَيْ: عَلَى مَوْضِعِ لَدْغِهَا وَيَقْرَأُ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ (وَزَادَ) أَيِ النَّسَائِيُّ (فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَالْغَمِّ) أَيْ كَلِمَةَ وَالْغَمِّ أَيِ: الْهَمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يَغُمُّ نَفْسَ النَّفْسِ، أَوْ هَمِّ الدُّنْيَا أَوْ مُطْلَقِ الْهَمِّ، فَالْمُرَادُ التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ الَّذِي هُوَ الطَّرِيقُ الْأَسْلَمُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 1713

2474 -

(وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَهْدِي إِلَى طَبَعٍ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ.

ــ

2474 -

(وَعَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ) وَهُوَ نُزُوعُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ شَهْوَةً لَهُ (يَهْدِي) أَيْ: يُدْنِي وَيُوَصِّلُ قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهِدَايَةُ الْإِرْشَادُ إِلَى الشَّيْءِ وَالدَّلَالَةُ إِلَيْهِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِدْنَاءِ مِنَ الشَّيْءِ وَالْإِيصَالِ إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: ذِكْرُ الْهِدَايَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى خَيْرٍ أَوِ الْإِيصَالِ إِلَيْهِ فِيهِ تَهَكُّمٌ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ الْهِدَايَةَ هُنَا بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ وَبِالتَّجْرِيدِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله وَالْهِدَايَةُ مُتَعَدٍّ تَارَةً بِنَفْسِهِ " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ " وَتَارَةً بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ:" {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] "

ص: 1713

وَتَارَةً بِإِلَى كَقَوْلِهِ: " {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] " فَلَا حَاجَةَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا بِمَعْنَى الْإِدْنَاءِ وَالْإِيصَالِ (إِلَى طَبَعٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: عَيْبٍ وَأَصْلُهُ الدَّنَسُ الَّذِي يَعْرِضُ لِلسَّيْفِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِيمَا يُشْبِهُ الدَّنَسَ مِنَ الْآثَامِ، وَالْمَعْنَى أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَمَعٍ يَسُوقُنِي إِلَى مَا يَشِينُنِي وَيُزْرِي بِي مِنَ الْمَقَابِحِ كَالْمَذَلَّةِ لِلسَّفَلَةِ وَالتَّوَاضُعِ لِأَرْبَابِ الدُّنْيَا وَإِظْهَارِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الطَّمَعِ، وَلِذَا قِيلَ: الطَّمَعُ فَسَادُ الدِّينِ وَالْوَرَعُ صَلَاحُهُ، وَلَمَّا كَانَ الْحِرْصُ مَنْشَأَ الطَّمَعِ وَمَنْبَعَ الطَّبَعِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي مِنَ الْحِرْصِ الَّذِي يَجُرُّ صَاحِبَهُ إِلَى الذُّلِّ وَالْعَيْبِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الطَّمَعُ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ أَوْ مَسْكُهُ عَنْ حَقِّهِ بُخْلًا بِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ) فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ.

ص: 1714

2475 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

2475 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ) وَهُوَ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مِنَ الْهِلَالِ (فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ) أَيْ: إِذَا وَقَبَ قِيلَ الْغَاسِقُ هُوَ اللَّيْلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَقَوِيَ ظَلَامُهُ مِنْ غَسَقَ يَغْسِقُ إِذَا أَظْلَمَ، وَوُقُوبُهُ دُخُولُ ظَلَامِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ مِنْ شَرِّ اللَّيْلِ يَعْنِي لِأَنَّهُ أَدْهَى فِي الْوَيْلِ وَلِذَا قِيلَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ لِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنِ انْبِثَاثِ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِمَّا فِي غَيْرِهِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَاسْتِبَاحَةِ الْفُرُوجِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا تَفْسِيرُ الْآيَةِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمُؤَوَّلٌ عَلَيْهِ لِيُوَافِقَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْقَمَرِ أَنَّ يَكُونَ مُرَادَهُ، وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الْغَاسِقُ يَحْتَمِلُ إِشَارَةً إِلَى الظَّلَامِ حَيْثُ دَخَلَ فِي الْمَغِيبِ، وَلِذَا قِيلَ أُطْلِقَ الْغَاسِقُ هُنَا عَلَى الْقَمَرِ لِأَنَّهُ يُظْلِمُ إِذَا خَسَفَ وَوُقُوبُهُ دُخُولُهُ فِي الْخُسُوفِ يَعْنِي ذَا خَسَفٍ، اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله إِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنْ كُسُوفِهِ لِأَنَّهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى حُدُوثِ بَلِيَّةٍ وَنُزُولِ نَازِلَةٍ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:" وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ " وَلِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي الْحَدِيثِ كَوَضْعِ الْيَدِ فِي التَّعْيِينِ، وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَبَرِ الْمُعَرَّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْقَمَرُ لَا غَيْرَ، قُلْتُ: قَدْ يَرِدُ مِثْلُ هَذَا ادِّعَاءً وَإِرَادَةً لِلْمُبَالَغَةِ وَقَصْدًا لِلتَّخْصِيصِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ أَفْرَادِ نَوْعِهِ وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُدْفَعُ قَوْلُهُ، وَتَفْسِيرُ الْغَاسِقِ بِاللَّيْلِ يَأْبَاهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِأَنَّ دُخُولَ اللَّيْلِ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَمَنِّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ قَالَ تَعَالَى:{جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ - فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 67 - 76] فَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الِامْتِنَانِ، وَأَمَّا الْأُولَى فَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ نِعْمَةٌ قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا - وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا - وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 9 - 11] لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ نِعْمَةً أَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ نِقْمَةً، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي صَدْرِ السُّورَةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ - مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1 - 2] تَعْمِيمًا، ثُمَّ قَالَ:" {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] " إِلَخْ تَخْصِيصًا ثُمَّ مَا يُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ مِنْ شَرِّ الذِّكْرِ إِذَا قَامَ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الظُّلْمَةِ النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي قَدْ تَجُرُّ إِلَى ظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا سَلْبُ كَمَالِ نُورِ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَتُرْدِي إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ بَلْ إِلَى ظُلُمَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَأَطْنَبَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ بَلْ بَيْنَ كَلَامِهِ تَعَارُضٌ وَتَدَافُعٌ وَلِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ.

ص: 1714

2476 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي: يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ إِلَهًا؟ قَالَ أَبِي: سَبْعَةً سِتًّا فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ، فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ يَا حُصَيْنُ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ، قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حَصِينٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

2476 -

(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ، سَكَنَ الْبَصْرَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ رضي الله عنهما (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي) أَيْ: حَالَ كُفْرِهِ (يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ) اللَّامُ لِلْمَعْهُودِ الْحَاضِرِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3](إِلَهًا) مَفْعُولُ تَعْبُدُ وَحُذِفَ مُمَيِّزُهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهُ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَجَرٍ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِكَمِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، قَالَ: وَلَا يَضُرُّهُ الْفَصْلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ وَفِيهِ تَوَقُّفٌ. (قَالَ أَبِي: سَبْعَةً) أَيْ: عَبَدَ سَبْعَةً مِنَ الْآلِهَةِ (سِتًّا فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ) أَيْ: عَلَى زَعْمِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَذْكُورُ فِي التَّنْزِيلِ يَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرُ وَاللَّاتُ وَالْمَنَاةُ وَالْعُزَّى كُلُّهَا مُؤَنَّثَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ سَبْعَةً لِدُخُولِ اللَّهِ فِيهَا فَغَلَّبَ جَانِبَ التَّذْكِيرِ ثُمَّ أَنَّثَ سِتًّا وَذَكَّرَ وَاحِدًا اه. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ أَنَّ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَ مِنْ أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى تَأْنِيثِهَا، وَإِنَّمَا الْعَرَبُ كَانَتْ لَهُمْ آلِهَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي التَّنْزِيلِ وَمِنْهَا مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَوْلَ الْبَيْتِ الْمُبَارَكِ حِينَ فَتْحِ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ كَانَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا كُلَّمَا مَرَّ عليه الصلاة والسلام بِصَنَمٍ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَضِيبِهِ وَهُوَ يَقُولُ:" {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] " فَيَقَعُ الصَّنَمُ لِوَجْهِهِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ رَأَى شَخْصٌ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّهُ يَبُولُ عَلَى صَنَمِهِ الثَّعْلَبُ قَالَ: أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ وَأَسْلَمَ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبَعْضِ الْمُجَدِّدِينَ فِي الْإِسْلَامِ: هَلْ نَفَعَكَ أَصْنَامُكَ؟ وَرُبَّمَا قَالَ: نَعَمْ نَفَعَنِي صَنَمٌ عَمِلْتُهُ مِنَ الْحَيْسِ فَوَقَعَ الْقَحْطُ فَنَفَعَنِي أَكْلُهُ فَتَبَسَّمَ صلى الله عليه وسلم» . (قَالَ: فَأَيُّهُمْ) بِضَمِّ الْيَاءِ (تَعُدُّ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ: تَعُدُّهُ إِلَهًا (لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ) وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَانِيهِ، أَوْ تُهَيِّئُهُ لِيَنْفَعَكَ حِينَ تَرْجُو وَتَخَافُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّهُمْ تَخُصُّهُ وَتَلْتَجِئُ إِلَيْهِ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٌ، قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ) أَيْ: مَعْبُودٌ فِيهَا أَوْ قَالَهُ عَلَى زَعْمِهِ وَلَعَلَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم تَأَلُّفًا بِهِ (قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَمَا) بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّكَ) بِالْكَسْرِ (لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ) أَيْ: دَعْوَتَيْنِ (تَنْفَعَانِكَ) أَيْ: فِي الدَّارَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا مِنْ بَابِ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ وَكَلَامِ الْمُنْصِفِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لَهُ بَعْدَ إِقْرَارِهِ أَسْلِمْ وَلَا تُعَانِدْ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِرْخَاءِ بَلْ مِنْ بَابِ الْإِغْرَاءِ عَلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، قُلْتُ:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ

فَكُلٌّ إِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشِيرُ

لِأَنَّ مُؤَدَّى الْعِبَارَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ بَيَانُ الْهِدَايَةِ بِلُطْفِ الْعِبَارَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24](قَالَ) أَيْ: عِمْرَانُ (فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي) أَيْ: بِتَعْلِيمِهِمَا (قَالَ: قُلْ) أَيِ: ادْعُ هَذَا الدُّعَاءَ مَتَى مَا شِئْتَ وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَبَعِيدٌ جِدًّا (اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ وَبِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: وَفِّقْنِي إِلَى الرُّشْدِ وَهُوَ الِاهْتِدَاءُ إِلَى الصَّلَاحِ (وَأَعِذْنِي) أَيْ: أَجِرْنِي وَاحْفَظْنِي (مِنْ شَرِّ نَفْسِي) فَإِنَّهَا مَنْبَعُ الْفَسَادِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ تِلْكَ الْآلِهَةِ لَيْسَ الْأَهْوَى لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَإِنَّ الرُّشْدَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَالدِّينِ الْقَوِيمِ هُوَ الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ نَقَلَهُ مِيرَكُ.

ص: 1715

2477 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونَ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلِّمُهَا مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ كَتَبَهَا فِي صَكٍّ ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ.

ــ

2477 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا فَزِعَ) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ: خَافَ (أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ) أَيْ: فِي حَالِ النَّوْمِ أَوْ عِنْدَ إِرَادَتِهِ (فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ) أَيِ: الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ الْفَاضِلَةِ وَهِيَ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ وَآيَاتُ كُتُبِهِ (مِنْ غَضَبِهِ) أَيْ: مِنْ آثَارِهِ (وَعِقَابِهِ) أَيْ: عَذَابِهِ وَحِجَابِهِ (وَشَرِّ عِبَادِهِ) مِنَ الظُّلْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَنَحْوِهِمَا (وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ) أَيْ: خَطَرَاتِهِمْ وَوَسَاوِسِهِمْ وَإِلْقَائِهِمِ الْفِتْنَةَ وَالْعَقَائِدَ الْفَاسِدَةَ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِعِبَادِهِ الْمَخْصُوصِينَ أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُبَالَغَةً لِلتَّنْفِيرِ عَنْ جِنْسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر: 6]

ص: 1715

(وَأَنْ يَحْضُرُونَ) بِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِبْقَاءِ الْكَسْرَةِ دَلِيلًا عَلَيْهَا أَيْ: وَمِنْ أَنْ يَحْضُرُونِي فِي صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي وَذِكْرِي وَدَعْوَتِي وَمَوْتِي (فَإِنَّهَا) أَيِ: الْهَمَزَاتِ (لَنْ تَضُرَّهُ) أَيْ: ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِذَا دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَزَعَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (يُعَلِّمُهَا) أَيِ: الْكَلِمَاتِ (مَنْ بَلَغَ مِنْ وَلَدِهِ) أَيْ: لِيَتَعَوَّذَ بِهِ (وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ كَتَبَهَا فِي صَكٍّ) أَيْ: كِتَابٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْقَامُوسِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ لُغَةً وَعُرْفًا فِي تَفْسِيرِ الصَّكِّ بِكَتِفٍ مِنْ عَظْمٍ (ثُمَّ عَلَّقَهَا) أَيْ: عَلَّقَ كِتَابَهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ (فِي عُنُقِهِ) أَيْ: فِي رَقَبَةِ وَلَدِهِ وَهَذَا أَصْلٌ فِي تَعْلِيقِ التَّعْوِيذَاتِ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا) أَيِ: الْمَذْكُورُ (لَفْظُهُ) أَيْ: لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِمَعْنَاهُ وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَخِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً قَالَ: (إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلْ) فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَصَابَهُ أَرَقٌ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ عِنْدَ مَنَامِهِ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ إِلَخْ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ قَالَ «حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهَاوِيلَ يَرَاهَا بِاللَّيْلِ حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(يَا خَالِدُ بْنَ الْوَلِيدِ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ لَا تَقَوُّلُهُنَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى يُذْهِبَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْكَ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَإِنَّمَا شَكَوْتُ هَذَا إِلَيْكَ رَجَاءَ هَذَا مِنْكَ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ إِلَخْ) قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا لَيَالِيَ حَتَّى جَاءَ خَالِدٌ رحمه الله فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَتْمَمْتُ الْكَلِمَاتِ الَّتِي عَلَّمْتَنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى أَذْهَبَ اللَّهُ عَنِّي مَا كَانَ بِي» ، إِنِّي لَوْ دَخَلْتُ عَلَى أَسَدٍ فِي خِيسَتِهِ بِلَيْلٍ، فِي الْقَامُوسِ الْخِيسُ بِالْكَسْرِ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ مَوْضِعُ الْأَسَدِ كَالْخِيسَةِ.

ص: 1716

2478 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ــ

2478 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ) بِأَنْ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَيْ: كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ أَوْ فِي مَجْلِسٍ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاحِ عَلَى مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ ثَلَاثَ أَوْقَاتٍ وَهِيَ عِنْدَ امْتِثَالِ الطَّاعَةِ وَانْتِهَاءِ الْمَعْصِيَةِ وَإِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ، أَوْ عِنْدَ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ (قَالَتِ الْجَنَّةُ) بِبَيَانِ الْحَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْقَالِ لِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ، أَوِ الْمُرَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَخَزَنَتِهَا (اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ لُحُوقًا آخِرِيًّا (وَمَنِ اسْتَجَارَ) أَيِ: اسْتَحْفَظَ (مِنَ النَّارِ) بِأَنْ قَالَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ) أَيِ: احْفَظْهُ أَوْ أَنْقِذْهُ (مِنَ النَّارِ) أَيْ: مِنْ دُخُولِهِ أَوْ خُلُودِهِ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي وَضْعِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَوْضِعَ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ تَجْرِيدٌ وَنَوْعٌ مِنْ الِالْتِفَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً وَلَا بُعْدَ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً شَبَّهَ اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي تَحَقُّقِهِمَا وَثُبُوتِهِمَا بِنُطْقِ النَّاطِقِ كَأَنَّ الْجَنَّةَ مُشْتَاقَةٌ إِلَيْهِ سَائِلَةٌ دَاعِيَةٌ دُخُولَهُ وَالنَّارَ نَافِرَةٌ مِنْهُ دَاعِيَةٌ لَهُ بِالْبُعْدِ مِنْهَا فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ وَأَرَادَ التَّحَقُّقَ وَالثُّبُوتَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ مُضَافٌ أَيْ: قَالَ خَزَنَتُهُمَا فَالْقَوْلُ إِذًا حَقِيقِيٌّ، أَقُولُ: لَكِنَّ الْإِسْنَادَ مَجَازِيٌّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْحَمْلُ عَلَى لِسَانِ الْحَالِ وَتَقْدِيرِ الْمُضَافِ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرِّرَةِ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَحُلِ الْعَقْلُ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَنُطْقُ الْجَمَادَاتِ بِالْعُرْفِ وَاقِعٌ كَتَسْبِيحِ الْحَصَى فِي يَدِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَغَيْرِهِ اهـ. أَقُولُ: هَذِهِ قَاعِدَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى الْقَوَاعِدِ الظَّوَاهِرِيَّةِ فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَجْمَعُوا عَلَى تَأْوِيلِ (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ بِطَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ سُؤَالُ الْقَرْيَةِ وَجَوَانِبُهَا مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَظَرًا إِلَى الْمَأْلُوفِ الْمُعْتَادِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَطْوَارُ الْآخِرَةِ وَالْأَسْرَارُ الْإِلَهِيَّةُ كُلُّهَا الثَّابِتَةُ بِالنَّقْلِ مِنْ وَرَاءِ طَوْرِ الْعَقْلِ، وَلِذَا أَنْكَرَهَا الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِمَّنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَعْقَلُ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا الْأَنْبِيَاءُ مُرْسَلُونَ إِلَى الْأَغْبِيَاءِ بَلْ كَثِيرٌ مِنَ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ أَنْكَرُوا بَعْضَ الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَعَذَابِ الْقَبْرِ وَالْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالرُّؤْيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَقَابَلَهُمْ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ فَحَمَلُوا الْقُرْآنَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْجُسْمَانِيَّةَ وَجَعَلُوا لَهُ الْجَوَارِحَ كَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالْأَصَابِعِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُحَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ، وَعَارَضَهُمْ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ فَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَصَرَفُوهُمَا عَنْ ظَوَاهِرِهِمَا وَقَالُوا الْمُرَادُ بِمُوسَى الْقَلْبُ وَبِفِرْعَوْنَ النَّفْسُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَالْحَقُّ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، الْكَامِلُونَ الْمُعْطُونَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

ص: 1716

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2479 -

(عَنِ الْقَعْقَاعِ أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ حِمَارًا. فَقِيلَ لَهُ: مَا هُنَّ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ) . رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2479 -

(عَنِ الْقَعْقَاعِ) بِالْقَافَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ، أَيِ ابْنِ حَكِيمٍ الْمَدَنِيِّ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ (أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَهُوَ كَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ; أَيْ عُلَمَائِهِمْ، أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَسْلَمَ زَمَنَ عُمَرَ رضي الله عنه (قَالَ: لَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ) أَيْ أَدْعُو بِهِنَّ (لَجَعَلَتْنِي يَهُودُ) أَيْ مِنَ السِّحْرِ (حِمَارًا) أَيْ بَلِيدًا أَوْ ذَلِيلًا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ سَحَرَةٌ، وَقَدْ أَغْضَبَهُمْ إِسْلَامِي، فَلَوْلَا اسْتِعَاذَتِي بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَتَمَكَّنُوا مِنِّي وَغَلَبُوا عَلَيَّ، وَجَعَلُونِي بَلِيدًا، وَأَذَلُّونِي كَالْحِمَارِ، فَإِنَّهُ مِثْلُ الذِّلَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْيَهُودَ سَحَرَتْهُ، وَلَوْلَا اسْتِعَاذَتِي بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَتَمَكَّنُوا مِنْ أَنْ يَقْلِبُوا حَقِيقَتِي اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ قَلْبَ الْحَقَائِقِ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] وَقَالَ {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ سِحْرِهِمُ الَّذِي أُجْمِعَ عَلَيْهِ كَيْدُ السَّحَرَةِ فِي زَمَانِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام فَإِذَا لَمْ يَقْدِرُوا فِي حَقِّهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى سَيِّدِ الْخَلْقِ وَمُظْهِرِ الْحَقِّ أَنْ يَقْلِبُوا حَقِيقَتَهُ، وَلِذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِالسِّحْرِ مَا يُسْتَعَانُ فِي تَحْصِيلِهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الشَّيْطَانِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَتِبُّ إِلَّا لِمَنْ يُنَاسِبُهُ فِي الشَّرَارَةِ وَخُبْثِ النَّفْسِ، فَإِنَّ التَّنَاسُبَ شَرْطٌ فِي التَّضَامِّ وَالتَّعَاوُنِ، وَبِهَذَا تَمَيَّزَ السَّاحِرُ عَنِ النَّبِيِّ وَالْوَلِيِّ، وَأَمَّا مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْحِيَلِ بِمَعُونَةِ الْآلَاتِ وَالْأَدْوِيَةِ فَتَسْمِيَتُهُ سِحْرًا عَلَى التَّجَوُّزِ اهـ. فَإِذَا كَانَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ حِمَارًا حَقِيقَةً فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ لِلْمُتَوَسِّلِ إِلَى قُرْبِهِ أَنْ يَقْلِبَ الْحَقِيقَةَ، وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمَدَارِكِ: وَلِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ - كَثَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ خَذَلَهُمُ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم السِّحْرُ حَقٌّ ; أَيْ ثَابِتٌ وَاقِعٌ لَا أَنَّهُ خَيَالٌ فَاسِدٌ كَرُؤْيَةِ الْأَحْوَالِ شَيْئًا وَاحِدًا شَيْئَيْنِ، وَكَتَخَيُّلِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ خَلَلِ الدِّمَاغِ وَحُصُولِ الْأَفْكَارِ الْفَاسِدَةِ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] وَقَوْلِهِ {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] أَيْ عِلْمَ السِّحْرِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِأَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ عِنْدَهُ النُّشُوزَ وَالْخِلَافَ وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي سِحْرِ الْيَهُودِ لَهُ عليه الصلاة والسلام وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّ السِّحْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمْوِيهِ وَالتَّخْيِيلِ، وَالسِّحْرُ وُجُودُهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُمَمِ، حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: السِّحْرُ يَخْبِلُ وَيُمْرِضُ وَقَدْ يَقْتُلُ حَتَّى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَيَجْعَلُ الْآدَمِيَّ عَلَى صُورَةِ الْحِمَارِ وَيَجْعَلُ الْحِمَارَ عَلَى صُورَةِ الْكَلْبِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ قَالَ تَعَالَى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] لَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأَبْدَانِ بِالْأَمْرَاضِ وَالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ اهـ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ بَعْدَ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَى خِلَافِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا أَبَدًا فِي الْكَوْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، فَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَكَوْنُ السِّحْرِ يَقْلِبُ الْآدَمِيَّ حِمَارًا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ لَا الْحَقِيقَةِ أَوْ وَالْحَقِيقَةِ، عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِلَافٍ، أَمْرٌ وَاقِعٌ شُوهِدَ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي كَصَعِيدِ مِصْرَ، كَمَا شُوهِدَ فِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ عَنْ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهَا فَطَالَ ذَكَرُهُ وَصَارَ كُلَّمَا مَشَى طَالَ، فَأَخَذَهُ وَلَفَّ عَلَى رَقَبَتِهِ فَطَالَ، فَلَفَّهُ إِلَى أَنْ أَعْجَزَهُ حَمْلُهُ عَنِ الْمَشْيِ فَوَقَفَ عَيًّا، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ مُخَلِّصًا إِلَّا رُجُوعَهُ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ فَخَفَّ ثُمَّ لَا يَزَالُ يَخِفُّ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَحَلِّهَا، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ اهـ.

وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى قَلْبِ الصُّورَةِ فَضْلًا عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا تَخْيِيلُ السِّحْرِ وَتَمْوِيهُهُ الْحَاصِلُ مِنْ ثُبُوتِ أَثَرِ السِّحْرِ، إِذْ رُجُوعُهُ إِلَى حَالَةِ الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَلْبِ صَرِيحًا، فَإِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ الْقَلْبُ لَبَقِيَ ذَكَرُهُ فِي حَلْقِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ لَمْ يَقَعْ حِينَئِذٍ سِحْرٌ آخَرُ قَلَبَهُ ثَانِيًا، مَعَ أَنَّ دَعْوَى الْمُشَاهَدَةِ بَاطِلَةٌ إِذْ هِيَ مُجَرَّدُ حِكَايَةٍ فَاسِدَةٍ مِمَّا

ص: 1717