الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] وَفِي رِوَايَةٍ: " وَمَا يُضْحِي فِيهِمَا لِلَّهِ "(وَحْدَهُ) أَيْ: وَمَا يَدْخُلُ فِي وَقْتِ الضَّحْوَةِ، أَوْ مَا يَظْهَرُ وَيَبْرُزُ فِيهِ، لَا صُنْعَ لِغَيْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا فِي الصُّورَةِ ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ هَذَا النَّهَارِ صَلَاحًا» ) أَيْ: فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا (وَأَوْسَطَهُ نَجَاحًا) أَيْ: فَوْزًا بِالْمَطَالِبِ الْمُنَاسِبَةِ لِصَلَاحِ الدَّارَيْنِ (وَآخِرَهُ فَلَاحًا) أَيْ: ظَفَرًا بِمَا يُوجِبُ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَعُلُوَّ الْمَرْتَبَةِ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ وَالْأَوْسَطِ اسْتِيعَابُ الْأَوْقَاتِ وَالسَّاعَاتِ فِي صَرْفِهَا إِلَى الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِحُصُولِ حُسْنِ الْحَالَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَوُصُولِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ فِي الْأُخْرَى، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: صَلَاحًا فِي دِينِنَا بِأَنْ يَصْدُرَ مِنَّا مَا نَتَخَرَّطُ بِهِ فِي زُمْرَةِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكَ، ثُمَّ اشْغَلْنَا بِقَضَاءِ مَآرِبِنَا فِي دُنْيَانَا لِمَا هُوَ صَلَاحٌ فِي دِينِنَا، فَأَنْجِحْنَا وَاحْمِلْ خَاتِمَةَ أَمْرِنَا بِالْفَوْزِ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَنَنْدَرِجُ فِي سِلْكِ مَنْ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] اهـ وَلِذَا قَالُوا: أَجْمَعُ كَلِمَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ كَلِمَةُ الْفَلَاحِ، أَقُولُ: وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، ثُمَّ قَالَ:{أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10 - 11](يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ) خَتَمَ بِهَذَا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِسُرْعَةِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ، وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا " «إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِمَنْ يَقُولُ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: إِنَّ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ فَسَلْ» ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَيْدَ الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا حَضَرَ قَلْبُهُ وَرَحِمَهُ رَبُّهُ (ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ) رحمه الله بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَإِثْبَاتِهِ (فِي كِتَابِ الْأَذْكَارِ بِرِوَايَةِ ابْنِ السُّنِّيِّ) وَذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مَعَ تَغْيِيرٍ يَسِيرٍ " وَفِيهِ «وَأَوْسَطَهُ فَلَاحًا وَآخِرَهُ نَجَاحًا، أَسْأَلُكَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ".
2415 -
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ: (أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2415 -
(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى) بِفَتْحِ هَمْزَةٍ وَسُكُونٍ مُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا زَايٌ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّى خَلْفَهُ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ (قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ: أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ» ) أَيْ: خِلْقَتُهُ، قِيلَ: الْفِطْرَةُ الْخِلْقَةُ مِنَ الْفَطْرِ كَالْخِلْقَةِ مِنَ الْخَلْقِ فِي أَنَّهَا اسْمٌ لِلْحَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهَا جُعِلَتِ اسْمًا لِلْخِلْقَةِ الْقَابِلَةِ لِدِينِ الْحَقِّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] وَحَدِيثُ ( «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» )(وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ) أَيِ: التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ الْمُخَلِّصِ مِنَ الْحِجَابِ فِي الدُّنْيَا وَمِنِ الْعِقَابِ فِي الْعُقْبَى، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّ مِلَلَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ تُسَمَّى إِسْلَامًا عَلَى الْأَشْهَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وَلِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] وَلِوَصِيَّةِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَذَا فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ جَهْرًا لِيَسْمَعَهُ غَيْرُهُ فَيَتَعَلَّمَ، أَقُولُ: لَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ: لَعَلَّ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى السَّمَاعِ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْجَهْرِ (وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ) صلى الله عليه وسلم هُوَ أَبُو الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِسْمَاعِيلَ، فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، أَوِ الْأَنْبِيَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْآبَاءِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وَفِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ " وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ " وَإِنَّمَا احْتِيجَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] أَيْ: فِي أُصُولِ الدِّينِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ كَالْخِتَانِ وَبَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ مِنَ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ (حَنِيفًا) أَيْ: مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ إِلَى الْمِلَّةِ الثَّابِتَةِ الْعَادِلَةِ، وَضِدُّهُ الْمُلْحِدُ، وَالْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقُ الْمَيْلِ، قِيلَ: الْحَنِيفُ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَقِيمُ، وَغَلَبَ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ (مُسْلِمًا) أَيْ: مُنْقَادًا كَامِلًا بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى حَتَّى قَالَ: لِجِبْرِيلَ " أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا " وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] فِيهِ رَدٌّ عَلَى كُفَّارِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ عَلَى دِينِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ، وَتَعْرِيضٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، ثُمَّ هُوَ مَعَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُتَدَاخِلَةِ أَتَى بِهَا تَقْرِيرًا وَصِيَانَةً لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ تَحْقِيقًا عَمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (حَنِيفًا) حَالًا مُنْتَقِلَةً، فَرُدَّ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُوَحِّدًا، وَأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ لِأَنَّهَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي الصَّبَاحِ فَقَطْ، كَذَا نَقَلَهُ الْجَزَرِيُّ، وَقَالَ صَاحِبُ السِّلَاحِ: أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ
[بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ]
(بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2416 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
(بَابُ الدَّعَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي الْأَوْقَاتِ)
أَيِ: الْمُخْتَلِفَةِ مِمَّا قَدَّرَ لَهَا الشَّارِعُ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ مِنَ الشَّارِعِ فِي زَمَنٍ أَوْ حَالٍ مَخْصُوصٍ يُسَنُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً لِلِاتِّبَاعِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلْ وَيَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى الْقُرْآنِ، وَإِنْ وَرَدَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ فَضْلٌ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا ; لِأَنَّ فِي الِاتِّبَاعِ مَا يَرْبُو عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَخْتَصُّ بِهِ اهـ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الدَّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارَ الْمَسْنُونَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي حَالٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأَمْثَالِهَا لَا شَكَّ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ حِينَئِذٍ، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنَ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ سَوَاءٌ تَكُونُ مُعَيَّنَةً أَوْ مُطْلَقَةً فَلَا نَقُولُ إِنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ ( «مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذَكَرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ) .
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2416 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَحَدَهُمْ، وَلَوْ إِمَّا شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ أَيْ: لَنَالَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَإِمَّا لِلتَّمَنِّي وَجَزَاؤُهَا (قَالَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ) أَيْ: يُجَامِعَ (أَهْلَهُ) أَيِ: امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ أَيْ: جِمَاعًا مُبَاحًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَيَلُوحُ إِلَيْهِ أَهْلُهُ، وَإِذَا شَرْطِيَّةٌ وَحِينَئِذٍ لَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ أَيْ: تَمَنَّيْتُ ثُبُوتَ هَذَا لِأَحَدِكُمْ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: لَوْ لِلتَّمَنِّي وَجَزَاؤُهَا تَقْدِيرُهُ لَوْ ثَبَتَ حِينَ أَرَادَ أَحَدُهُمْ إِتْيَانَ أَهْلِهِ لَكَانَ حَسَنًا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ لِأُمَّتِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا خَبَرُ إِنَّ، أَوْ ظَرْفٌ لِخَبَرِهَا (قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ) أَيْ: مُسْتَعِينًا بِهِ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ (اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا) أَيْ: بَعِّدْنَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: أَيْ بَعِّدْ أَنَا وَهِيَ (الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا) أَيْ: حِينَئِذٍ مِنَ الْوَلَدِ وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَنِّبِ (فَإِنَّهُ) تَعْلِيلٌ أَيِ: الشَّأْنَ (إِنْ يُقَدَّرَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ) أَيِ: الْوَقْتِ أَوِ الْإِتْيَانِ أَيْ: بِسَبَبِهِ (لَمْ يَضُرَّهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا أَيْ: يَضُرَّ دِينَ ذَلِكَ الْوَلَدِ (شَيْطَانٌ) أَيْ: مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَوْ مِنْ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (أَبَدًا) وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى حُسْنِ خَاتِمَةِ الْوَلَدِ بِبَرَكَةِ ذِكْرِ اللَّهِ فِي ابْتِدَاءِ وُجُودِ نُطْفَتِهِ فِي الرَّحِمِ، فَالضُّرُّ مُخْتَصٌّ بِالْكُفْرِ فَلَا يُرَدُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ كَثِيرًا يَقَعُ ذِكْرُ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْوَلَدُ غَيْرَ مَحْفُوظٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِهِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُخْلِصًا، أَوْ مُتَّصِفًا بِشُرُوطِ الدُّعَاءِ، أَوْ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ شَيْطَانٌ بِالْجُنُونِ وَالصَّرَعِ وَنَحْوِهِمَا، وَقِيلَ: نَكَّرَهُ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ أَوَّلًا لِأَنَّهُ أَرَادَ فِي الْأَوَّلِ الْجِنْسَ وَفِي الْآخِرِ إِفْرَادَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعُمُومِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَوَّلِ إِبْلِيسُ وَبِالثَّانِي أَعَمُّ، أَوْ بِالثَّانِي سَائِرُ أَعْوَانِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ إِلَخْ، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: (لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ أَبَدًا) قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: أَيْ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ، وَلَمْ يُظْهِرْ مَضَرَّتَهُ فِي حَقِّهِ بِنِسْبَةِ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَصْرَعْهُ، وَقِيلَ: لَمْ يَطْعَنْ فِيهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ. أَقُولُ: لَعَلَّ مُرَادَهُ لَمْ يَطْعَنْ طَعْنًا شَدِيدًا لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى الْمُطْلَقَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ عِيسَى وَأُمُّهُ، وَأَيْضًا هُوَ خَلَاصُ الْمُشَاهَدِ مِنْ أَثَرِ الطَّعْنِ وَهُوَ صِيَاحُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَحْمِلْ أَحَدٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ الضَّرَرِ وَالْإِغْوَاءِ وَالْوَسْوَسَةِ اهـ وَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَى الْوَسْوَسَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلَّا مَعْصُومٌ؟ ! لَكِنَّ الصَّادِقَ قَدْ أَخْبَرَ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ ظَاهِرٌ وَإِلَّا فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ، وَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِهَذَا فَرَأَى مِنَ الْبَرَكَةِ فِي وَلَدِهِ تَحَقَّقَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا أَنَّهُ إِذَا أَنْزَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ فِيمَا رَزَقْتَنِي نَصِيبًا، وَلَعَلَّهُ يَقُولُهَا فِي قَلْبِهِ أَوْ عِنْدَ انْفِصَالِهِ لِكَرَاهَةِ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ فِي حَالِ الْجِمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ.
2417 -
وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2417 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ» ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيِ: الْغَمِّ الَّذِي يَأْخُذُ النَّفْسَ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: الْكَرْبُ أَشَدُّ الْغَمِّ قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَا يَدْهَمُ الْمَرْءَ مِمَّا يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ فَيَغُمُّهُ وَيُحْزِنُهُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ) أَيْ: ذَاتًا وَصِفَةً فَلَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ (الْحَلِيمُ) الَّذِي لَا يَعْجَلُ بِالْعُقُوبَةِ، فَلَمْ يُعَاجِلْ بِنِقْمَتِهِ عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِي خِدْمَتِهِ بَلْ يَكْشِفُ الْمَضَرَّةَ عَنْهُ بِرَحْمَتِهِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) بِالْجَرِّ وَيُرْفَعُ أَيْ: فَلَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنْهُ وَلَا يُسْأَلُ إِلَّا عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَكْشِفُ الْكَرْبَ الْعَظِيمَ إِلَّا الرَّبُّ الْعَظِيمُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) بِالْوَجْهَيْنِ، وَهَذَا إِطْنَابٌ مَرْغُوبٌ وَإِلْحَاحٌ مَطْلُوبٌ، نَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِرَفْعِ الْعَظِيمِ، وَكَذَا بِرَفْعِ الْكَرِيمِ عَلَى أَنَّهُمَا نَعْتَانِ لِلرَّبِّ، وَالَّذِي ثَبَتَ فِيهِ رِوَايَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ بِالْجَرِّ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، وَجَاءَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ شَاذًّا وَأَبِي جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ، وَأُعْرِبَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا تَقَدَّمَ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعَ الرَّفْعِ نَعْتًا لِلْعَرْشِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ قُطِعَ عَمَّا قَبْلَهُ لِلْمَدْحِ، وَرُجِّحَ لِحُصُولِ تَوَافُقِ الرِّوَايَتَيْنِ، وَرَجَّحَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ الْأَوَّلَ لِأَنَّ وَصْفَ الرَّبِّ بِالْعَظِيمِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ الْعَرْشِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ وَصْفَ مَا يُضَافُ إِلَى الْعَظِيمِ بِالْعَظِيمِ أَقْوَى فِي تَعْظِيمِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ نَعَتَ الْهُدْهُدُ عَرْشَ بِلْقِيسَ بِأَنَّهُ عَرْشٌ عَظِيمٌ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - ثُمَّ فِي هَذَا الذَّكَرِ إِشَارَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِزَالَةِ الْغَمِّ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا ذِكْرٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الْكَرْبِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: هَذَا ذِكْرٌ وَلَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ ; فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ يَسْتَفْتِحُ بِهِ الدُّعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ مَا شَاءَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَالثَّانِي: هُوَ كَمَا وَرَدَ: " «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِيَ السَّائِلِينَ» " اهـ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ: " ثُمَّ يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ " أَوْ يُقَالُ: إِنَّ الثَّنَاءَ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ تَعْرِيضًا بِأَلْطَفِ إِيمَاءٍ كَمَدْحِ السَّائِلِ وَالشَّاعِرِ وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ مَادِحًا لِبَعْضِ الْمُلُوكِ مِمَّنْ يُرِيدُ جَائِزَتَهُ: [
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا
…
كَفَاهُ عَنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: " «أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ» إِلَخْ " أَوْ يُقَالُ: الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ وَالدُّعَاءُ بِالْجَنَانِ أَوْ بِالِاتِّكَالِ عَلَى الْمَلِكِ الْمَنَّانِ، كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ «قِيلَ لِلْخَلِيلِ لِمَ لَا تَسْأَلُ رَبَّكَ الْجَلِيلَ؟ فَقَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
2418 -
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ قَالَ: «اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: لَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2418 -
(وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ) بِضَمٍّ وَفَتْحٍ (قَالَ اسْتَبَّ رَجُلَانِ) افْتِعَالٌ مِنَ السَّبِّ أَيْ: شَتَمَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: بِمَحْضَرٍ مِنْهُ (وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ) أَيْ: لَا قِيَامٌ لِمَنْعِهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِقَوْلِهِ: (لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ) وَقَوْلِهِ: ( «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» )(وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ) أَيْ: سَبًّا شَدِيدًا (مُغْضَبًا) بِفَتْحِ الضَّادِ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَسُبُّ (قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ) أَيْ: مِنْ شِدَّةِ غَضَبِهِ لِأَنَّهُ يُثِيرُ فِي الْقَلْبِ حَرَارَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ تَقْتُلُ صَاحِبَهَا بِإِطْفَائِهَا، وَقَدْ لَا تَقْتُلُ لِانْتِشَارِهَا فِي الْأَعْضَاءِ خُصُوصًا الْوَجْهَ لِأَنَّهُ أَلْطَفُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى الْقَلْبِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً) أَيْ: بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِلِ لِلْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ (لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ) أَيْ: زَالَ (عَنْهُ مَا يَجِدُ) أَيْ: مَا يَجِدُهُ مِنَ الْغَضَبِ بِبَرَكَتِهَا (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ وَلَا تَنْفَعُ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ أُمَّتِكَ إِلَّا الْمُتَّقِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف: 201] أَيْ: مَا أَمَرَهُمْ بِهِ تَعَالَى وَنَهَاهُمْ عَنْهُ (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) لِطَرِيقِ
السَّدَادِ وَدَفَعُوا مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَيْهِمْ (فَقَالُوا لِلرَّجُلِ) أَيْ: بَعْدَ سُكُونِهِ لِكَمَالِ غَضَبِهِ (لَا تَسْمَعُ) وَفِي نُسْخَةٍ أَلَا تَسْمَعُ (مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟) أَيْ: فَتَمْتَثِلُ وَتَقُولُ ذَلِكَ (قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يُهَذَّبْ بِأَنْوَارِ الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ بِالدِّينِ، وَتَوَهَّمَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالْجُنُونِ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْغَضَبَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَلِذَا يَخْرُجُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ اعْتِدَالِ حَالِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ وَيَفْعَلُ الْمَذْمُومَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ قَالَ لَهُ أَوْصِنِي ( «لَا تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا فَقَالَ:(لَا تَغْضَبْ» ) وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى لَا تَغْضَبْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ مَفْسَدَةِ الْغَضَبِ وَمَا يَنْشَأُ مِنْهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوْ مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى غَيْرَ أَنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ، «فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ: أَتَرَى بِي بَأْسًا؟ أَمْجَنُونٌ أَنَا؟ اذْهَبْ» ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هُوَ مُعَاذٌ، فَهَذَا أَيْضًا نَشَأَ عَنْ غَضَبٍ وَقِلَّةِ احْتِمَالٍ وَسُوءِ أَدَبٍ اهـ وَكَوْنُهُ مُعَاذًا إِنْ صَحَّ وَأَنَّهُ ابْنُ جَبَلٍ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ قُرْبَ إِسْلَامِهِ اهـ أَيْ: وَصَدَرَ عَنْهُ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَدِيدِ الْفَرَحِ وَكَثِيرِ الْخَوْفِ ; لِأَنَّهُ رضي الله عنه فِي آخِرِ الْأَمْرِ صَارَ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ بِبَرَكَةِ تَرْبِيَتِهِ عليه الصلاة والسلام الَّذِي هُوَ الْحَبِيبُ وَالطَّبِيبُ لِلْعُشَّاقِ وَالْمَجَانِينِ، إِلَى أَنْ قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي حَقِّهِ:" «أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» " وَوَلَّاهُ الْيَمَنَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" «يَا مُعَاذُ إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ صَلَاتِكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» " وَيُؤَيِّدُ مَا تَقَرَّرَ فِيهِ قَوْلُهُ وَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوصِيَهُ، «فَقَالَ لَهُ: لَا تَغْضَبْ، فَأَعَادَ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا تَغْضَبْ» " (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
2419 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2419 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ» ) بِكَسْرِ الدَّالِّ وَفَتْحِ الْيَاءِ جَمْعُ دِيكٍ كَقِرَدَةٍ جَمْعُ قِرْدٍ وَفِيَلَةٍ جَمْعُ فِيلٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْجَمْعِ لِأَنَّ سَمَاعَ وَاحِدٍ كَافٍ (فَاسْأَلُوا) بِالْهَمْزِ وَنَقَلَهُ، أَيْ: فَاطْلُبُوا (اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا) قَالَ الْقَاضِيَ عِيَاضٌ: سَبَبُهُ رَجَاءُ تَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الدُّعَاءِ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ بِالتَّضَرُّعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ حُضُورِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ، فَضْلًا عَنْ وُجُودِهِمْ وَحُضُورِهِمْ (وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ) وَفِي رِوَايَةٍ نَهِيقَ الْحَمِيرِ أَيْ: صَوْتَهُ (فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ) وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ الرَّجِيمِ (فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا) وَوَقَعَ فِي الْمَصَابِيحِ: فَإِنَّمَا رَأَتْ شَيْطَانًا عَلَى تَأْوِيلِ الدَّابَّةِ وَرِعَايَةِ الْمُقَابَلَةِ، قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ عِنْدَ حُضُورِ أَهْلِ الصَّلَاحِ فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ ذَلِكَ طَلَبُ الرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى نُزُولِ الْغَضَبِ وَالْعَذَابِ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ فَيُسْتَحَبُّ الِاسْتِعَاذَةُ عِنْدَ مُرُورِهِمْ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ شُرُورِهِمْ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الدِّيكُ أَقْرَبُ الْحَيَوَانَاتِ صَوْتًا إِلَى الذَّاكِرِينَ اللَّهَ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ غَالِبًا أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ، وَأَنْكَرُ الْأَصْوَاتِ صَوْتُ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ صَوْتًا إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ وَلِذَا شَبَّهَ صَوْتَ الْحِمَارِ بِصِيَاحِ الْكُفَّارِ حَالَ كَوْنِهِمْ فِي النَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106](مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِذَا سَمِعَ نُبَاحَ الْكِلَابِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
2420 -
ــ
2420 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ) أَيِ: اسْتَقَرَّ عَلَى ظَهْرِ مَرْكُوبِهِ (خَارِجًا) أَيْ: مِنَ الْبَلَدِ مَائِلًا أَوْ مُنْتَهِيًا (إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا) وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ أَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ عُلُوٍّ وَفِيهِ نَوْعُ عَظَمَةٍ فَاسْتَحْضَرَ عَظَمَةَ خَالِقِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَعِدَ عَالِيًا كَبَّرَ وَإِذَا نَزَلَ سَبَّحَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ لِلتَّعَجُّبِ مِنَ التَّسْخِيرِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إِذَا وَضَعَ رَحْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ:(بِسْمِ اللَّهِ) فَإِذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)(ثُمَّ قَالَ) أَيِ: اقْرَأْ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أَيْ: قَالَ بِنِيَّةِ الْقِرَاءَةِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ - لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ} [الزخرف: 12 - 13] أَيْ: ذَلَّلَ (لَنَا هَذَا) أَيِ: الْمَرْكُوبَ فَانْقَادَ لِأَضْعَفِنَا (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أَيْ: مُطِيقِينَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوِ الْمَعْنَى وَلَوْلَا تَسْخِيرُهُ مَا كُنَّا جَمِيعًا مُقْتَدِرِينَ عَلَى رُكُوبِهِ، مِنْ أَقْرَنَ لَهُ إِذَا أَطَاقَهُ وَقَوِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِعَجْزِهِ وَأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنَ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ بِأَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا) أَيْ: لَا إِلَى غَيْرِهِ (لَمُنْقَلِبُونَ) أَيْ: رَاجِعُونَ، وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اسْتِيلَاءَهُ عَلَى مَرْكَبِ الْحَيَاةِ كَهُوَ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَلَابُدَّ مِنْ زَوَالِهَا عَنْ قُرْبٍ حَتَّى يَسْتَعِدَّ لِلِقَائِهِ تَعَالَى لَا سِيَّمَا وَالرُّكُوبُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْمَوْتِ بِتَنْفِيرِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا الدُّعَاءُ يُسَنُّ عِنْدَ رُكُوبِ أَيِّ دَابَّةٍ كَانَتْ لِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:(مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ) الْمُرَادُ بِهِ الْإِبِلُ لِغَالِبِ الْوَاقِعِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَقَوْلُ الرَّاوِي خَارِجًا إِلَى السَّفَرِ حِكَايَةٌ لِلْحَالِ وَدَلَالَةٌ عَلَى ضَبْطِ الْمَقَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الِانْقِلَابُ إِلَيْهِ هُوَ السَّفَرُ الْأَعْظَمُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَزَوَّدَ لَهُ (اللَّهُمَّ) وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ: اللَّهُمَّ (إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا) أَيِ: السَّفَرِ الْحِسِّيِّ (الْبِرَّ) أَيِ: الطَّاعَةَ (وَالتَّقْوَى) أَيْ: عَنِ الْمَعْصِيَةِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْبَرِّ الْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْنَا، وَمِنَ التَّقْوَى ارْتِكَابُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الزَّوَاجِرِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197](وَمِنَ الْعَمَلِ) أَيْ: جِنْسِهِ (مَا تَرْضَى) أَيْ: بِهِ عَنَّا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ قَبْلَهُ تُحِبُّ، أَقُولُ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، قَالَ: فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الرَّدِيفِ عِنْدَنَا مَعْشَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ إِذِ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا مُتَرَادِفَانِ وَهُمَا غَيْرُ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ أَيْضًا، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ عَطْفَ الرَّدِيفِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُمَا مُرَادِفَانِ لِلْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ، أَوْ مُغَايِرَانِ لَهُمَا، أَوْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا سَيَظْهَرُ لَكَ، فَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى تَلَازُمِ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأَمْرِ أَيْضًا وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وَ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28] وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] وَقَوْلُ السَّلَفِ قَاطِبَةً قَبْلَ ظُهُورِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَهُنَا مَبْحَثٌ يَطُولُ فِيهِ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ هُنَا مَحَلُّ تَحْقِيقِ الْمَرَامِ، وَمُجْمَلُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ أَنَّ كُتُبَ أَهْلِ السُّنَّةِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ مَنْ حَقَّقَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ بِمَحَبَّتِهِ، وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ بِمَعْنَاهُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ لِتَقَارُبِ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شَيْئًا أَوْ شَاءَهُ فَقَدْ رَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ خِلَافُ كَلِمَةِ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ اهـ وَقَالَ شَارِحُ الْعَقِيدَةِ الْمَنْظُومَةِ لِلْيَافِعِيِّ: إِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا مَعْنَاهَا وَاحِدٌ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمُ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ: إِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَشِيئَةَ مُتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى، وَالْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا غَيْرُهُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] وَبُقُولِهِ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُفْرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ لَهُمْ، وَيَرْضَاهُ لِلْكُفَّارِ لِأَنَّهُ أَرَادَهُ لَهُمْ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهُ شَرْعًا وَدِينًا يُثِيبُ عَلَيْهِ، وَيَرْضَاهُ مَعْصِيَةً وَمُخَالَفَةً يُعَاقَبُ عَلَيْهَا اهـ وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ وَارِدَانِ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالْحَيْثِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا قِيلَ فِي الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، مَعَ أَنَّ الْكُفْرَ بِالْقَضَاءِ مُجِيبًا بِأَنَّهُ يَرْضَى بِالْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَلَا يَرْضَى بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ، وَقَالَ أُسْتَاذُنَا الشَّيْخُ عَطِيَّةُ السُّلَمِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الثَّوَابُ يُقَالُ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ رَضِيَهُ وَأَحَبَّهُ وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا أَرَادَهُ وَشَاءَهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِقَابُ
يُقَالُ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ وَشَاءَهُ وَلَا يُقَالُ أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ بَلْ يُقَالُ كَرِهَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُثِيبُ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ قَهْرًا كَسَائِرِ مَكْرُوهَاتِ الْعِبَادِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقَعُ عَلَيْهِ الْمَكْرُوهُ عَلَيْهِ قَهْرًا وَلَوْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهِ دَفَعَهُ، وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا رَضِيَ اللَّهُ لَعَبْدٍ ضَلَالَةً وَلَا أَمَرَهُ بِهَا وَلَا دَعَاهُ إِلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى الْكُفْرَ لِلْكَافِرِينَ كَمَا يَرْضَى الْإِيمَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ اهـ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا) مَفْعُولٌ لِهَوِّنْ أَوْ ظَرْفُهُ وَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: يَسِّرْ أُمُورَنَا مَعَ الرَّاحَةِ لِقُلُوبِنَا وَأَبْدَانِنَا فِي سَفَرِنَا (هَذَا) أَيْ: بِالْخُصُوصِ لِأَنَّ الصُّوفِيَّ ابْنُ الْوَقْتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى السَّفَرِ الظَّاهِرِيِّ وَفِي الْبَاطِنِ إِيمَاءً إِلَى السَّيْرِ الْبَاطِنِ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ( «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ) وَأَشَارَ الشَّاطِبِيُّ بِقَوْلِهِ: قَرِيبًا غَرِيبًا، وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِكَائِنٍ بَائِنٍ وَعَرِشٍ فَرِشٍ وَلَاهُوتِيٍّ نَاسُوتِيٍّ (وَاطْوِ لَنَا بُعْدَهُ) أَمْرٌ مِنَ الطَّيِّ أَيْ: قَرِّبْ لَنَا بُعْدَ هَذَا السَّفَرِ وَاجْعَلْ هَذَا السَّفَرَ مَقْضِيَّ الْوَطَرِ، وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى طَيِّ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاللِّسَانِ عَلَى مُصْطَلَحِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ، اطْوِ لَنَا بُعْدَهُ حَقِيقَةً إِذْ وَرَدَ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطْوُونَ الْأَرْضَ لِلْمُسَافِرِ كَمَا تُطْوَى الْقَرَاطِيسُ، أَوِ الْمُرَادُ: خَفِّفْ عَلَيْنَا مَشَاقَّهُ (اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ) أَيِ: الْمُحَافِظُ وَالْمُعِينُ، وَالصَّاحِبُ فِي الْأَصْلِ الْمُلَازِمُ، وَالْمُرَادُ مُصَاحَبَةُ اللَّهِ إِيَّاهُ بِالْعِنَايَةِ وَالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ، فَنَبَّهَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهِ عَنْ كُلِّ مُصَاحِبٍ سِوَاهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: أَنَا يَدُكَ اللَّازِمُ فَلَازِمْ يَدَكَ (وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ) الْخَلِيفَةُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ أَحَدٍ فِي إِصْلَاحِ أَمْرِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى أَنْتَ الَّذِي أَرْجُوهُ وَأَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي بِأَنْ يَكُونَ مُعِينِي وَحَافِظِي، وَفِي غَيْبَتِي عَنْ أَهْلِي أَنْ تَلُمَّ شَعَثَهُمْ وَتُدَاوِيَ سُقْمَهُمْ وَتَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَأَمَانَتَهُمْ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ» ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ أَيْ: مَشَقَّتِهِ وَشِدَّتِهِ (وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ) بِالْمَدِّ أَيْ: سُوءِ الْحَالِ وَتَغَيُّرِ النَّفْسِ فِي النِّهَايَةِ لِكَآبَةٍ تُغَيُّرُ النَّفْسَ بِالِانْكِسَارِ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَالْمَنْظَرُ بِفَتْحِ الظَّاءِ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أَيْ: مِنْ تَغَيُّرِ الْوَجْهِ بِنَحْوِ مَرَضٍ وَالنَّفْسِ بِالِانْكِسَارِ مِمَّا يَعْرِضُ لَهَا فِيمَا يُحِبُّهُ مِمَّا يُورِثُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَالْمَنْظِرُ بِكَسْرِ الظَّاءِ مَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَكَ، وَيَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمُخَالَفَتِهِ الرِّوَايَةَ وَالدِّرَايَةَ، مَعَ أَنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْظَرَ وَالْمَنْظَرَةَ مَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَكَ أَوْ سَاءَكَ فَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْكَسْرِ فِي اللَّفْظِ وَعَمَّمَ فِي الْمَعْنَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ) بِفَتْحِ اللَّامِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ أَيْ: مِنْ سُوءِ الرُّجُوعِ بِأَنْ يُصِيبَنَا حَزْنٌ أَوْ مَرَضٌ (فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ) مِثْلَ أَنْ يَعُودَ غَيْرَ مَقْضِيِّ الْحَاجَةِ أَوْ لِنَائِبَةٍ أَصَابَتْهُ فِي النَّفْسِ كَمَرَضٍ أَوِ الْمَالِ كَسَرِقَةِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، وَالْأَهْلُ أَيِ: الزَّوْجَةُ وَالْخَدَمُ وَالْأَقَارِبُ كَمَرَضِ أَحَدِهِمْ أَوْ فَقْدِهِ، وَفِي الْفَائِقِ: كَآبَةُ الْمُنْقَلَبِ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى وَطَنِهِ فَيَلْقَى مَا يَكْتَئِبُ مِنْهُ مِنْ أَمْرٍ أَصَابَهُ فِي سَفَرِهِ أَوْ فِيمَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ (وَإِذَا رَجَعَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سَفَرِهِ (قَالَهُنَّ) أَيِ: الْكَلِمَاتِ وَالْجُمَلَ الْمَذْكُورَاتِ وَهِيَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ إِلَخْ (وَزَادَ فِيهِنَّ) أَيْ: فِي جُمْلَتِهِنَّ بِأَنْ قَالَ بِعْدَهُنَّ (آئِبُونَ) هَمْزَةٌ مَمْدُودَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، اسْمُ فِعْلٍ مِنْ آبَ يَئُوبُ إِذَا رَجَعَ أَيْ: رَاجِعُونَ مِنَ السَّفَرِ بِالسَّلَامَةِ إِلَى أَوْطَانِنَا، أَوْ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ، أَوْ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ (تَائِبُونَ) أَيْ: مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّقْدِيرَ نَحْنُ آئِبُونَ تَائِبُونَ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَقَصْدِ الثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ خُصُوصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ فِي تَائِبُونَ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ:(عَابِدُونَ) وَقَوْلِهِ: وَكَذَا عَابِدُونَ أَيْ: وُفِّقْنَا فِي رُجُوعِنَا هَذَا لِلْعِبَادَةِ - تَكَلُّفٌ بَلْ تَعَسُّفٌ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ (لِرَبِّنَا) مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ عَابِدُونَ أَوْ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ (حَامِدُونَ) وَيُحْتَمَلُ التَّنَازُعُ أَيْ: مُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ لِرَبِّنَا شَاكِرُونَ لَهُ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ وَغَيْرِهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِرَبِّنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ عَابِدُونَ لِأَنَّ عَمَلَ اسْمِ الْفَاعِلِ ضَعِيفٌ فَيَقْوَى بِهِ أَوْ بِحَامِدُونَ لِيُفِيدَ التَّخْصِيصَ أَيْ: نَحْمَدُ رَبَّنَا لَا نَحْمَدُ غَيْرَهُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ كَالْخَاتِمَةِ لِلدُّعَاءِ اهـ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَنَاقَضَ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: هُنَا لِرَبِّنَا لَا غَيْرِهِ حَامِدُونَ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ اهـ. وَفِيهِ خَطَرٌ آخَرُ لِأَنَّ حَامِدُونَ لَيْسَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ لِرَبِّنَا مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كَمَا تَوَهَّمَ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ مَعَ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِرَبِّنَا لَا لِغَيْرِهِ رُدَّ عَلَيْهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (تَائِبُونَ) وَمَا بَعْدَهَا أَخْبَارٌ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ نَحْنُ بِحَذْفِ الْعَاطِفِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالِي:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ - ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ - فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16] وَهَذِهِ اللَّامُ نَظِيرُهَا إِلَّا أَنَّهَا قُدِّمَتْ فِي الْحَدِيثِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ وَأُخِّرَتْ فِي الْآيَةِ لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى - وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ: وَمَا قَرَّرْتُهُ فِي لِرَبِّنَا أَوْلَى وَأَظْهَرُ مِنْ تَعْلِيقِ بِعَابِدُونَ لِأَنَّ خَاتِمَةَ الدُّعَاءِ بِالْحَمْدِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَتَعْلِيقُهُ بِعَابِدُونَ بَعِيدٌ عَنِ السِّيَاقِ اهـ. وَوَجْهُ التَّعَجُّبِ أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ قَرَّرَهُ هُوَ بِعَيْنِهِ قَوْلُ الطِّيبِيِّ فَالْعَجَبُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى مَذْهَبٍ مَا حَصَّلَ فِيهِ إِلَّا التَّعَبَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2421 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2421 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى وَزْنِ نَرْجِسَ، وَقِيلَ بِفَتْحِ الْجِيمِ مَصْرُوفًا (قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ يَتَعَوَّذُ» ) أَيْ: بِاللَّهِ (مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ) أَيْ: مَشَقَّتِهِ الشَّاغِلَةِ عَنِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَشِدَّتِهِ الْمَانِعَةِ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ مَعَ الرَّبِّ، قِيلَ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ سَقَرَ، وَفِيهِ تَعْمِيَةٌ لَطِيفَةٌ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ فَتَأَمَّلْ تُدْرِكْهُمَا عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ " «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ» " أَيْ: نَوْعٌ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] أَيْ: سَأُكَلِّفُهُ عَقَبَةً شَاقَّةَ الْمِصْعَدِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ مَثَلٌ لِمَا يَلْقَى مِنَ الشَّدَائِدِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ:(إِنَّهُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَصْعَدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ثُمَّ يَهْوِي فِيهِ كَذَلِكَ أَبَدًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ (وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ) فِي الْفَائِقِ: وَهُوَ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى وَطَنِهِ فَيَلْقَى مَا يَكْتَئِبُ مِنْهُ مِنْ أَمْرٍ أَصَابَهُ فِي سَفَرِهِ أَوْ فِيمَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَفَرِ الدُّنْيَا إِلَى وَطَنِ الْأُخْرَى، وَهُوَ بِالِاسْتِعَاذَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227](وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فِيهِمَا وَالْحَاءُ مُهْمَلَةٌ أَيِ: النُّقْصَانِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ وَالتَّفَرُّقِ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَقِيلَ: مِنْ فَسَادِ الْأُمُورِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، وَقِيلَ: الرُّجُوعِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِيهِمْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْكَوْرِ فِي جَمَاعَةِ الْإِبِلِ خَاصَّةً وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ فِي الْبَقَرِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ بَابَ الِاسْتِعَارَةِ غَيْرُ مَسْدُودٍ فَإِنَّ الْعَطَنَ مُخْتَصٌّ بِالْإِبِلِ فَيُكَنُّونَ عَنْ ضَيِّقِ الْخُلُقِ بِضِيقِ الْعَطَنِ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ أَلْفَاظًا مُقَيَّدَةً فِيمَا لَا قَيْدَ لَهُ كَالْمَرْسَنِ لِأَنْفِ الْإِنْسَانِ، وَالْمِشْفَرِ لِلشَّفَةِ اهـ. وَيُسَمُّونَهُ التَّجْرِيدَ، وَأَصْلُ الْحَوْرِ نَقْضُ الْعِمَامَةِ بَعْدَ لَفِّهَا، وَأَصْلُ الْكَوْرِ مِنْ كَوَّرَ الْعِمَامَةَ عَلَى رَأْسِهِ يُكَوِّرُهَا كَوْرًا أَيْ: لَفَّهَا، وَكُلُّ دَوْرٍ كَوْرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] وَقَوْلُهُ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] إِذَا لُمَّتْ وَأُلْقِيَتْ فِي النَّارِ زِيَادَةً فِي نَكَالِ عَابِدِيهَا، قَالَ الْمُظْهِرُ: الْحَوْرُ النُّقْصَانُ وَالْكَوْرُ الزِّيَادَةُ أَيْ: نَعُوذُ بِكَ مِنْ نُقْصَانِ الْحَالِ وَالْمَالِ بَعْدَ زِيَادَتِهِمَا وَتَمَامِهِمَا أَيْ: مِنْ أَنْ يَنْقَلِبَ حَالُنَا مِنَ السَّرَّاءِ إِلَى الضَّرَّاءِ وَمِنَ الصِّحَّةِ إِلَى الْمَرَضِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَيْ: مِنَ التَّنَزُّلِ بَعْدَ التَّرَقِّي، أَوْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، أَوْ إِلَى الْغَفْلَةِ بَعْدَ الذِّكْرِ، أَوْ إِلَى الْغَيْبَةِ بَعْدَ الْحُضُورِ، وَلِذَا قَالَ الْعَارِفُ ابْنُ الْفَارِضِ:
وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ
…
عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي
وَرُوِيَ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْنِ بِالنُّونِ فِي الثَّانِي أَيِ: الرُّجُوعِ فِي الْحَالَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَلَيْهَا، وَالْكَوْنُ الْحُصُولُ عَلَى هَيْئَةٍ جَمِيلَةٍ، يُرِيدُ التَّرَاجُعَ بَعْدَ الْإِقْبَالِ، قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي مُعْظَمِ نُسَخِ مُسْلِمٍ بِالنُّونِ وَكَذَا ضَبَطَهُ الْحَافِظُ لَعَلَّهُ الْمُنْذِرِيُّ وَرُوِيَ بِالرَّاءِ وَمَعْنَاهُ النُّقْصَانُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ، وَقِيلَ مِنَ الشُّذُوذِ بَعْدَ الْجَمَاعَةِ، أَوْ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الصَّلَاحِ، أَوْ مِنَ الْقِلَّةِ بَعْدَ الْكَثْرَةِ، أَوْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَأَنَّهُ مِنْ كَارَ عِمَامَتَهُ إِذْ لَفَّهَا عَلَى رَأْسِهِ فَاجْتَمَعَتْ وَإِذَا نَقَضَهَا فَانْفَرَقَتْ، وَبِالنُّونِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مِنْ قَوْلِهِمْ حَارَ بَعْدَ مَا كَانَ أَيْ: إِنَّهُ كَانَ عَلَى حَالَةٍ جَمِيلَةٍ فَرَجَعَ عَنْهَا، وَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ رِوَايَةَ النُّونِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ (وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ) أَيْ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يُحْتَرَزُ عَنْهَا سَوَاءً كَانَتْ فِي الْحَضَرِ أَوِ السَّفَرِ، قُلْتُ: كَذَلِكَ الْحَوْرُ بَعْدَ الْكَوْرِ ; لَكِنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْبَلَايَا وَالْمَصَائِبِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ فَخُصَّتْ بِهِ اهـ. وَيُرِيدُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ مَظِنَّةٌ لِلنُّقْصَانِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَبَاعِثٌ عَلَى التَّعَدِّي فِي حَقِّ الرُّفْقَةِ وَغَيْرِهِمْ لَا سِيَّمَا فِي مَضِيقِ الْمَاءِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي سَفَرِ الْحَجِّ فَضْلًا مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَا كَانَ يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ السَّنَةَ الَّتِي عَصَيْتُ اللَّهَ فِيهَا وَقَدْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ عَنْ طَرِيقِ مَكَّةَ لِهَذَا، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ مُعْتَرِضًا عَلَى الطِّيبِيِّ بِقَوْلِهِ وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّ جَوَابَهُ لَا يُلَاقِي السُّؤَالَ أَصْلًا فَتَأَمَّلْ، أَوْ يُقَالُ إِنَّ الْمَظْلُومَ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا يَكُونُ دُعَاؤُهُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ لِاجْتِمَاعِ الْكُرْبَةِ وَالْغُرْبَةِ (وَسُوءِ الْمَنْظَرِ) بِفَتْحِ الظَّاءِ (فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ) أَيْ: مِنْ أَنْ يَطْمَعَ ظَالِمٌ أَوْ فَاجِرٌ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
2422 -
عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2422 -
(وَعَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ) أَيِ: امْرَأَةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَكَانَتْ صَالِحَةً فَاضِلَةً، ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابِيَّاتِ وَلَيْسَ لَهَا فِي الْكُتُبِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ، (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِي سَفَرِهِ، أَقُولُ: وَكَذَا فِي حَضَرِهِ ; إِذْ لَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ مَعَ التَّنْكِيرِ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ) أَيِ: الْكَامِلَاتِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ، وَقِيلَ: النَّافِعَةُ الشَّافِيَةُ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ: أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ، أَوْ كُتُبُهُ فَإِنَّهَا قَدِيمَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا، وَقِيلَ: أَيْ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ أَوْ عِلْمِهِ أَوْ أَقْضِيَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ بِشُئُونِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِكُلِّ يَوْمٍ أَيْ: وَقْتَ هُوَ فِي شَأْنٍ - فَغَيْرُ صَحِيحٍ لَفْظًا لِعَدَمِ إِطْلَاقِ الْكَلِمَةِ عَلَى الشَّأْنِ، وَمَعْنًى لِأَنَّ مِنْ شُئُونِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَعَوَّذُ بِالْقَدِيمِ لَا بِالْمُحْدَثِ، وَقَدْ قَالُوا: شُئُونٌ يُبْدِيهَا وَلَا يَبْتَدُّ بِهَا فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَأَيْضًا لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَخْلُوقٌ لَا يَخْلُو مِنْ شَرٍّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ مِنْهُ الشَّرُّ، وَغَفَلَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الْمَعْنَى مِمَّا فِيهِ شَرٌّ (لَمْ يَضُرَّهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا (شَيْءٌ) أَيْ: مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ حَيْثُ تَعَوَّذَ بِالْخَالِقِ، وَالْحَمْلُ عَلَى التَّعْمِيمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَنْكِيرِ شَيْءٍ الْمُفِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِ ابْنِ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ (حَتَّى يَرْتَحِلَ) أَيْ: يَنْتَقِلَ (مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ) وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَوْنِهِمْ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا قَالُوا: نَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي وَيَعْنُونَ بِهِ كَبِيرَ الْجِنِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجِنِّ:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى حَقِيقَةِ التَّفْرِيدِ وَحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ غَيْرَهُ تَعَالَى لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا وَلَا يَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاتًا وَلَا نُشُورًا، بَلْ فِي نَظَرِ الْعَارِفِ لَيْسَ فِي الدَّارِ - غَيْرَهُ - دَيَّارٌ، وَإِنَّمَا السِّوَى فِي عَيْنِ أَهْلِ الْهَوَى كَالْهَبَاءِ فِي الْهَوَاءِ، وَلِذَا قَالَ عَارِفٌ آخَرُ: سِوَى اللَّهِ وَاللَّهِ مَا فِي الْوُجُودِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
2423 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ: قَالَ: (أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2423 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ؟) مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ: أَيَّ شَيْءٍ لَقِيتُ؟ أَيْ: وَجَعًا شَدِيدًا، أَوْ لِلتَّعَجُّبِ أَيْ: أَمْرًا عَظِيمًا، أَوْ مَوْصُولَةٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: الَّذِي لَقِيتُهُ لَمْ أَصِفْهُ لِشَدَّتِهِ، وَالْمَعْنَى لَقِيتُ شِدَّةً عَظِيمَةً (مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ) أَيِ: اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَذَغَتْنِي بِالذَّالِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْغَيْنِ الْمُصَحَّحَةِ وَلَذَغَتْنِي النَّارُ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ اهـ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ فَإِنَّهُ مَضْبُوطٌ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالْغَيْنِ الْمُصَحَّحَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ كَالْقَامُوسِ وَالنِّهَايَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَهْوَ قَلَمٍ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَمَا) لِلتَّنْبِيهِ، وَ (لَوْ قُلْتَ) شَرْطِيَّةٌ (حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّكَ) أَيِ: الْعَقْرَبُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ (مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ حُمَّةٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِلَفْظِ (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَيُمْسِي، وَفِي رِوَايَةٍ حِينَ يُمْسِي) فَقَطْ كَالْجَمَاعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ وَابْنِ السُّنِّيِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2424 -
وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ يَقُولُ: (سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2424 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ) أَيْ: عَادَتُهُ وَدَأْبُهُ وَمِنْ آدَابِهِ (إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَسْحَرَ) أَيْ: دَخَلَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ وَهُوَ قُبَيْلَ الصُّبْحِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ (يَقُولُ: سَمِعَ) بِالتَّخْفِيفِ (سَامِعٌ) أَيْ: لِيَسْمَعْ سَامِعٌ وَلْيَشْهَدْ مَنْ سَمِعَ أَصْوَاتَنَا (بِحَمْدِ اللَّهِ) أَيْ: بِحَمْدِنَا لِلَّهِ تَعَالَى (وَحُسْنِ بَلَائِهِ) أَيْ: وَبِاعْتِرَافِنَا بِحُسْنِ إِنْعَامِهِ (عَلَيْنَا) وَبِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَيْنَا فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْحَمْلُ عَلَى الْخَبَرِ أَوْلَى لِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى سَمِعَ مَنْ كَانَ لَهُ سَمْعٌ بِأَنَّا نَحْمَدُ اللَّهَ وَنُحْسِنُ نِعَمَهُ وَأَفْضَالَهُ عَلَيْنَا، وَالْمَعْنَى إِنَّ حَمْدَنَا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْنَا أَشْهَرُ وَأَشْيَعُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى ذَوِي سَمْعٍ، وَسَامِعٌ نَكِرَةٌ قُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ كَمَا فِي: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَالْبَلَاءُ هُنَا النِّعْمَةُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى يَبْلُو عِبَادَهُ مَرَّةً بِالْمِحَنِ لِيَصْبِرُوا وَطَوْرًا بِالنِّعَمِ لِيَشْكُرُوا، فَالْمِحْنَةُ وَالْمِنْحَةُ جَمِيعًا بَلَاءٌ لِمَوَاقِعِ الِاخْتِبَارِ قَالَ تَعَالَى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قِيلَ: سَمَّعَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِهَا فِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ أَيْ: بَلَّغَ سَامِعٌ قَوْلِي هَذَا إِلَى غَيْرِهِ وَقَالَ مِثْلَهُ؛ تَنْبِيهًا عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَضَبَطَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْبَاءُ فِي بِحَمْدِ اللَّهِ زَائِدَةٌ عَلَى التَّشْدِيدِ وَبِمَعْنَى عَلَى عَلَى التَّخْفِيفِ اهـ. وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ بَلَّغَ النَّاسَ بِكَذَا وَسَمِعَ بِهَذَا الْخَبَرِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ شَهِدَ فَيَتَعَيَّنُ وُجُودُ الْبَاءِ لِأَنَّهُ يُقَالُ شَهِدَ بِكَذَا سَوَاءً الْمَشْهُودُ لَهُ أَوِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: الْبَلَاءُ النِّعْمَةُ أَوْ الِاخْتِبَارُ بِالْخَيْرِ لِيَتَبَيَّنَ الشُّكْرُ أَوْ بِالشُّكْرِ لِيَظْهَرَ الصَّبْرُ فَكَلَامٌ حَسَنٌ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ هُنَا فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ الْحَمْدَ يُؤْذِنُ بِالنِّعْمَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ الْبَلَاءِ عَلَى الِاخْتِبَارِ لِيَجْمَعَ الْعَبْدُ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] أَيْ: لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ نِصْفُهُ صَبْرٌ وَنِصْفُهُ شُكْرٌ، وَنُكْتَةُ اخْتِيَارِ (عَلَى) تَغْلِيبٌ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّا مَقْهُورُونَ تَحْتَ حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وَالتَّكْلِيفُ وَاقِعٌ عَلَيْنَا لِقَوْلِهِ:" {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72] " فَانْدَفَعَ بِهَذَا اعْتِرَاضُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى الطِّيبِيِّ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ الْمَعْنَى الثَّانِي لَقِيلَ لَنَا، مَعَ أَنَّ مُنَاوَبَةَ حُرُوفِ الْجَرِّ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ شَائِعٌ سَائِغٌ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمُنَاقَشَاتِ مِنَ النَّفْسِيَّاتِ لَا مِنَ الْمُنَافَسَاتِ ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَبْحَثِ وَجَوَّزَ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَحُسْنِ بَلَائِهِ بِمَعْنَى الْمَعِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُقَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَيْنَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ بِسَمِعَ، بَلِ الْمُلَائِمُ لَهُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ الْحَمْدِ مُضَافًا إِلَى مَفْعُولِهِ أَيْ: سَمِعَ بِحَمْدِنَا إِيَّاهُ وَحُسْنِ إِنْعَامِهِ الْمُوجِبِ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عَلَيْنَا، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ فَبَطَلَ مَقُولُهُ، وَمِمَّا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّ الْوَاوَ فِي وَحُسْنِ بَلَائِهِ يَصِحُّ كَوْنُهَا لِلْعَطْفِ وَبِمَعْنَى مَعَ عَلَى رِوَايَةِ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَوْلِ الشَّارِحِ: هِيَ عَلَى التَّشْدِيدِ لِلْعَطْفِ وَعَلَى التَّخْفِيفِ بِمَعْنَى مَعَ لِأَنَّ حُسْنَ الْبَلَاءِ غَيْرُ مُسَمَّعٍ بَلْ مُبَلَّغٍ اهـ. يَرُدُّهُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُخَفَّفَةِ إِنَّهُ بِمَعْنَى شَهِدْتُمْ كَلَامَهُ، وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ إِذَا كَانَ السَّمْعُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمُتَبَادِرِ إِلَى الْفَهْمِ لَا مُطْلَقًا لِيَرِدَ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ (رَبَّنَا) مُنَادًى بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ (صَاحِبْنَا) بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيْ: أَعِنَّا وَحَافِظْنَا (وَأَفْضِلْ) أَيْ: تَفَضَّلْ (عَلَيْنَا) بِإِدَامَةِ النِّعْمَةِ مَزِيدِهَا وَالتَّوْفِيقِ لِلْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا (عَائِذًا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ) قِيلَ: تَعَوَّذَ كَقَوْلِهِمْ قُمْ قَائِمًا أَيْ: قِيَامًا، أُقِيمَ اسْمُ فَاعِلٍ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، أَوْ مِنْ فَاعِلِ يَقُولُ، أَوْ أَسْحَرَ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَرُوِيَ عَائِذٌ بِالرَّفْعِ أَيْ: أَنَا عَائِذٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: أَعُوذُ عَوْذًا بِاللَّهِ، أَوْ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَيُرِيدُ أَنَّ عَائِذًا إِذَا كَانَ مَصْدَرًا فَهُوَ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِذَا كَانَ حَالًا فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي عَنْهُ عليه الصلاة والسلام وَجَوَّزَ النَّوَوِيُّ أَنْ يَكُونَ حَالًا وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ: إِنِّي أَقُولُ هَذَا فِي حَالِ اسْتِعَاذَتِي مِنَ النَّارِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ الْأَرْجَحُ لِئَلَّا يَنْخَرِمَ النَّظْمُ وَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَمِدَ اللَّهَ عَلَى تِلْكَ النِّعْمَةِ الْخَطِيرَةِ وَأَمَرَ بِاسْتِمَاعِهَا كُلَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ السَّمَاعُ لِفَخَامَتِهِ وَطَلَبِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ - قَالَهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَتَوَاضُعًا لِلَّهِ وَلِيَضُمَّ الْخَوْفَ مَعَ الرَّجَاءِ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ اهـ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ نَسَبَ النَّوَوِيَّ إِلَى نَفْسِهِ وَفَضِيلَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِأَصْلِ الْكَلَامِ وَفَصْلِهِ فَقَالَ: نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُ أَيْ: أَقُولُ ذَلِكَ فِي حَالِ كَوْنِي مُسْتَعِينًا، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يَقُولُ، أَوْ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، وَإِذَا قِيلَ أَيْ: أَقُولُ ذَلِكَ إِلَخْ فَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم فَالصَّوَابُ أَنَّ النَّوَوِيَّ يَقُولُ فِي فَاعِلِ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ هُوَ أَقُولُ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى الطِّيبِيِّ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا زَعْمُ شَارِحٍ أَنَّ عَائِذًا إِنْ كَانَ مَصْدَرًا أَيْ: أَعُوذُ عِيَاذًا أُقِيمَ اسْمُ الْفَاعِلِ مَقَامَ الْمَصْدَرِ، وَإِنْ كَانَ حَالًا كَانَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي فَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا غَفْلَةٌ عَمَّا تَقَرَّرَ فِي الْحَالِ الرَّافِعِ لِتَأْوِيلِهِ بِالْمَصْدَرِ، وَلِزَعْمِهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي اهـ. فَتَأَمَّلْ فِيهِ يَظْهَرْ لَكَ عَجَائِبُ وَغَرَائِبُ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ وَالْحَاكِمُ وَزَادَ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.
2425 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آئِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2425 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَفَلَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: رَجَعَ (مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) كَأَنَّهُ قَصَدَ اسْتِيعَابَ أَنْوَاعِ سَفَرِهِ صلى الله عليه وسلم بِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ (يُكَبِّرُ) أَيْ: يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ (عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) أَيْ: مَوْضِعٍ عَالٍ (مِنَ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَوَجْهُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْعَالِيَةِ هُوَ اسْتِحْبَابُ الذِّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْأَحْوَالِ وَالتَّقَلُّبِ فِي التَّارَاتِ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُرَاعِي ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْسَى فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ اهـ. يَعْنِي أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ يُذْكَرُ مَا يَقْتَضِيهِ وَكُلَّ مَكَانٍ يُذْكَرُ مَا يُوجِبُهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الْهُبُوطِ الْمُنَاسِبِ لِلتَّنْزِيهِ وَيُكَبِّرُ فِي الْعُلُوِّ الْمُلَائِمِ لِلْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ إِنَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ وَادِيًا سَبَّحَ» ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ وَالذِّكْرُ أَعَمُّ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ اخْتِلَافُ الْحَالَاتِ وَتَجَدُّدُ الْمَقَامَاتِ (ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مَرَّ مَرَّاتٍ (آئِبُونَ) أَيْ: نَحْنُ آئِبُونَ أَيْ: رَاجِعُونَ إِلَى بِلَادِنَا (تَائِبُونَ) أَيْ: إِلَى رَبِّنَا (عَابِدُونَ) أَيْ: لِمَعْبُودِنَا (سَاجِدُونَ) أَيْ: لِمَقْصُودِنَا، وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ سَائِحُونَ بَدَلَ سَاجِدُونَ، جَمْعُ سَائِحٍ مِنْ سَاحَ الْمَاءُ يَسِيحُ إِذَا جَرَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَيْ: سَائِرُونَ لِمَطْلُوبِنَا وَدَائِرُونَ لِمَحْبُوبِنَا (لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) أَيْ: لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْنَا (صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ) أَيْ: فِي وَعْدِهِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) أَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ النَّفِيسَةَ (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ) أَيِ: الْقَبَائِلَ الْمُجْتَمِعَةَ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُخْتَلِفَةَ لِحَرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْحِزْبُ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ لَغَطٌ (وَحْدَهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] وَكَانُوا اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا تَوَجَّهُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهَا سِوَى مَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَضَى عَلَيْهِمْ قَرِيبٌ مَنْ شَهَرٍ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ إِلَّا التَّرَامِي بِالنَّبْلِ أَوِ الْحِجَارَةِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُطِيقُوا مُقَابَلَتَهُمْ فَلَا بُدَّ أَنَّهُمْ يَهْرُبُونَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا لَيْلَةً سَفَّتِ التُّرَابَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَأَطْفَأَتْ نِيرَانَهُمْ وَقَلَّعَتْ أَوْتَادَهُمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَبَّرَتْ فِي مُعَسْكَرِهِمْ فَهَاصَتِ الْخَيْلُ وَقُذِفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبُ فَانْهَزَمُوا وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلَنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] وَمِنْهُ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَهُوَ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَحْزَابُ الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاطِنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
2426 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2426 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ» :) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ دَعَا، أَوْ دَعَا بِمَعْنَى أَرَادَ الدُّعَاءَ (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ) مِنَ الْإِنْزَالِ، وَقِيلَ: مِنَ التَّنْزِيلِ وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسُهُ أَوِ الْقُرْآنُ (سَرِيعَ الْحِسَابِ) أَيْ: مُسْرِعَ حِسَابِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا وَرَدَ (اللَّهُمَّ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ) تَأْكِيدٌ وَتَعْمِيمٌ (وَزَلْزِلْهُمْ) أَيْ: فَرِّقْهُمْ وَاجْعَلْ أَمْرَهُمْ مُضْطَرِبًا مُتَقَلْقِلًا غَيْرَ ثَابِتٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2427 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ يُلْقِي النَّوَى عَلَى ظَهْرِ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ، فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ اللَّهَ لَنَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2427 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ السِّينِ (قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: ضَيْفًا (عَلَى أَبِي) أَيْ: وَالِدِي (فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً) بِوَاوَيْنِ وَطَاءٍ سَاكِنَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فِي جَمِيعِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ بِلَا عَاطِفَةٍ، قَالَ شَارِحٌ: الْوَطْبَةُ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتِ بِنُقْطَةٍ وَهِيَ سِقَاءُ اللَّبَنِ مِنَ الْجِلْدِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهَا تَصْحِيفٌ وَإِنَّمَا هِيَ وَطِيئَةٌ عَلَى وَزْنِ وَثِيقَةٍ وَهِيَ طَعَامٌ كَالْحَيْسِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُوطَأُ بِالْيَدِ أَيْ: يَمْرُسُ، وَيَدُلُّكَ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّاوِي: فَأَكَلَ مِنْهَا، وَالْوَطْبَةُ لَا يُؤْكَلُ مِنْهَا بَلْ يُشْرَبُ، وَكَذَا قَوْلُهُ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَهِيَ صِفَةُ طَعَامٍ وَرُوِيَ بِوَاوَيْنِ فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الطَّعَامُ عَلَى الْخُبْزِ، وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْوَطْبَةُ بِالْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ وَهُوَ الْحَيْسُ بِجَمْعِ التَّمْرِ الْبَرْنِي وَالْأَقِطِ الْمَدْقُوقِ وَالسَّمْنِ، وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ هُوَ بِرَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَطَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَهُوَ تَصْحِيفٌ مِنَ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْوَاوِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَكْثَرُونَ بِوَاوٍ فَطَاءٍ سَاكِنَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ وَآخِرُونَ بَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ وَطَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَرُدَّ بِأَنَّهُ تَصْحِيفٌ، وَالَّذِي فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ هُوَ الْأَوَّلُ - غَلَطٌ لِمَا عَرَفْتَ مِنْ كَلَامِ الْحُمَيْدِيِّ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَطِئَةً: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ، وَادَّعَى أَنَّهُ الصَّحِيحُ، وَقَالَ هِيَ طَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ كَالْحَيْسِ، وَقِيلَ سِقَاءُ اللَّبَنِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُشْرَبُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ غَلَبَ الْأَكْلُ عَلَى الشُّرْبِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ يَرُدُّهُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَاءُ، وَفِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: الْوَطِئَةُ بِالْهَمْزَةِ الْغِرَارَةُ يَكُونُ فِيهَا الْكَعْكُ وَالْقَدِيدُ وَغَيْرُهَا وَطَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ كَالْحَيْسِ وَرُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ: هُوَ تَصْحِيفٌ وَالْوَطْبُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ السَّمْنُ وَاللَّبَنُ اهـ وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَطِيئَةُ بِالْهَمْزِ كَسَفِينَةٍ تَمْرٌ يَخْرُجُ نَوَاهُ وَيُعْجَنُ بِلَبَنٍ وَالْغِرَارَةُ فِيهَا الْقَدِيدُ وَالْكَعْكُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ الْخُبْزُ وَبِالْوَطِئَةِ وِعَاءٌ فِيهِ بَعْضُ الْإِدَامِ وَبِهِ يَلْتَئِمُ اخْتِلَافُ الْمَقَامِ (فَأَكَلَ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ الْوَطْبَةِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهُ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] فِي رَجْعِ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ مَا ذُكِرَ وَتَرْكِ الْآخَرِ لِلْوُضُوحِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ (ثُمَّ أُتِيَ) أَيْ: جِيءَ (بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (النَّوَى) جِنْسُ النَّوَاةِ (بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ) بِتَثْلِيثِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ فَفِيهِ تِسْعُ لُغَاتٍ وَالْأَشْهَرُ كَسْرُ الْهَمْزَةِ وَفَتْحُ الْبَاءِ (وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ) أَيِ: الْمُسَبِّحَةَ (وَالْوُسْطَى، وَفِي رِوَايَةٍ فَجَعَلَ يُلْقِي النَّوَى عَلَى ظَهْرِ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى) بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْأُولَى - مَرْدُودٌ بِأَنَّ تِلْكَ تَدُلُ عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ وَهَذِهِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ عَلَى ظَهْرِهَا فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ تَارَةً كَذَا وَتَارَةً كَذَا، نَعَمِ الثَّانِيَةُ تَوْمِيءُ إِلَى أَنَّ الصُّورَتَيْنِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى الظَّهْرِ، مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الْأَدَبِ الْبَاعِثِ عَلَى عَدَمِ تَلَوُّثِ بَاطِنِ الْيَدِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِالنَّظَافَةِ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَالْمُرَادُ أَصَابِعُ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَعْلِيمُ أُمَّتِهِ أَدَبَ أَكْلِ التَّمْرِ وَنَحْوَهُ بِأَنْ يُلْقَى عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ حَتَّى لَا يَمَسَّهُ بَاطِنُ الْأَصَابِعِ فَتَعَافُ النَّفْسُ عَوْدَهَا إِلَى الطَّعَامِ لِمَا فِيهَا مِنْ أَثَرِ الرِّيقِ - فَغَفْلَةٌ عَنْ أَدَبِ الْأَكْلِ أَنَّهُ بِالْيَمِينِ دُونَ الْيَسَارِ (ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ) أَيْ: مَاءٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ (فَشَرِبَهُ، فَقَالَ أَبِي وَأَخَذَ) أَيْ: وَقَدْ أَخَذَ (بِلِجَامِ دَابَّتِهِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْمَقُولِ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّهُ يُسَنُّ أَخْذُ رِكَابِ الْأَكَابِرِ وَلِجَامِهِ والضَّيْفِ تَوَاضُعًا وَاسْتِمَالَةً، وَكَذَا يُسَنُّ تَشْيِيعُهُ إِلَى الْبَابِ الْمَأْخُوذُ مِنْ أَخْذِ اللِّجَامِ وَالرِّكَابِ (ادْعُ اللَّهَ لَنَا) وَلَيْسَ طَلَبُ الدُّعَاءِ لِمُقَابَلَةِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ هَذَا لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ أَصْحَابِ الْكَرَمِ وَالْمُرُوءَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ اللُّطْفِ وَنَظَرِ الْمَرْحَمَةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَبَ الدُّعَاءَ عِنْدَ رُكُوبِهِ لَا عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَكْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَا يُنَافِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ أَنْ لَا يَطْلُبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ لِئَلَّا تَكُونَ صَدَقَتُهُ فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ فَيَفُوتَ الْإِخْلَاصُ لِأَنَّ الضِّيَافَةَ آكُدُ مِنَ الصَّدَقَةِ لِقَوْلِ كَثِيرِينَ بِوُجُوبِهَا فَلَا يُتَخَيَّلُ أَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ - فَمَرْدُودٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّهُ يُسَنُّ إِذَا دَعَا الْفَقِيرُ لِلْمُتَصَدِّقِ كَمَا هُوَ مِنَ الْأَدَابِ يَرُدُّهُ الْمُتَصَدِّقُ لِيَكُونَ الدُّعَاءُ فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ وَيَتَخَلَّصُ لَهُ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ يُسَنُّ عَدَمُ طَلَبِ الدُّعَاءِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ طَلَبُ الدُّعَاءِ يُفَوِّتُ الْإِخْلَاصَ الْكَامِلَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالضِّيَافَةِ، مَعَ أَنَّ
كُلًّا مِنْهُمَا يَشْمَلُ النَّافِلَةَ وَالْوَاجِبَةَ فِي الِاحْتِيَاجِ إِلَى كَمَالِ الْإِخْلَاصِ، وَمِنْهَا أَنَّ كَوْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الضِّيَافَةِ الْوَاجِبَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنْهَا أَنَّ النَّفْلَ قَدْ يُتَخَيَّلُ فِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا قِيلَ الْفَرْضُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الرِّيَاءُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ جَعَلُوا هَذَا الدُّعَاءَ سُنَّةً لِمَنْ أَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَطْلُبَهُ أَوْ لَا يَطْلُبَهُ فَبَطَلَ قَوْلُهُ: إِنَّ مِنْ هَذَا يُؤْخَذُ أَنَّ الْمُضِيفَ إِذَا سَأَلَ مِنَ الضَّيْفِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ سُنَّ لِلضَّيْفِ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ ; لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسْأَلْهُ لَا يَسْأَلُهُ لَا يُسَنُّ لَهُ، وَأَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِلْمُضِيفِ أَنْ يَسْأَلَ الدُّعَاءَ مِنَ الضَّيْفِ لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ وَتَقْرِيرِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَمِنْهَا أَنَّ طَلَبَ الدُّعَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَطْلُوبٌ فَمَا الْبَاعِثُ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ الْمَذْمُومِ وَأَمْثَالِهِمَا (فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ) وَعَلَامَةُ الْبَرَكَةِ الْقَنَاعَةُ وَتَوْفِيقُ الطَّاعَةِ (وَاغْفِرْ لَهُمْ) أَيْ: ذُنُوبَهُمْ (وَارْحَمْهُمْ) بِالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ بِالْوَاوِ فِيهِمَا، قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ رحمه الله: وَالَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي جَمِيعِ أُصُولِ مُسْلِمٍ فَاغْفِرْ لَهُمْ بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ فَارْحَمْهُمْ فِي أَكْثَرِهَا، وَلَيْسَ رِوَايَةُ فَجَعَلَ يُلْقِي النَّوَى عَلَى ظَهْرِ إِصْبَعَيْهِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَلْ هِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْحِصْنِ وَلَفْظُهُ:" فَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ " بِالْفَاءِ فِي الْأَوَّلِ وَبِالْوَاوِ فِي الثَّانِي.
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2428 -
عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: (اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2428 -
(عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ) وَهُوَ يَكُونُ مِنَ اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ثُمَّ هُوَ قَمَرٌ (قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَمْرٌ مِنَ الْإِهْلَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرْوَى مُدْغَمًا وَمَفْكُوكًا أَيْ: أَطْلِعْهُ (عَلَيْنَا) مُقْتَرِنًا (بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ) وَأَغْرَبَ ابْنُ الْمَلَكِ وَقَالَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيِ: اجْعَلْهُ سَبَبَ أَمْنِنَا، وَفِيهِ أَنَّ مَدْخُولَ الْبَاءِ يَكُونُ سَبَبًا لَا مُسَبَّبًا، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا: الْإِهْلَالُ فِي الْأَصْلِ رَفْعُ الصَّوْتِ نُقِلَ مِنْهُ إِلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ إِذَا رَأَوْهُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْهِلَالُ هِلَالًا، نُقِلَ مِنْهُ إِلَى طُلُوعِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِرُؤْيَتِهِ وَمِنْهُ إِلَى إِطْلَاعِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ: أَطْلِعْهُ عَلَيْنَا وَأَرِنَا إِيَّاهُ مُقْتَرِنًا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ أَيْ: بَاطِنًا (وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ) أَيْ: ظَاهِرًا، وَنَبَّهَ بِذِكْرِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ عَلَى طَلَبِ دَفْعِ كُلِّ مَضَرَّةٍ، وَبِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى جَلْبِ كُلِّ مَنْفَعَةٍ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ وَأَوْجَزِ عِبَارَةٍ (رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ) خِطَابٌ لِلْهِلَالِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَفِيهِ تَنْزِيهٌ لِلْخَالِقِ عَنْ مُشَارِكٍ فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَتَقَلُّبِ الْحَالَاتِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَزَادَ " وَالتَّوْفِيقُ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ".
2429 -
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «مَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مُبْتَلًى فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا إِلَّا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ كَائِنًا مَا كَانَ» ) . . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
2430 -
(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الرَّاوِي لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
ــ
2429 -
(وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ رَجُلٍ رَأَى مُبْتَلًى) أَيْ: فِي أَمْرٍ بَدَنِيٍّ كَبَرَصٍ وَقِصَرٍ فَاحِشٍ أَوْ طُولٍ مُفْرِطٍ أَوْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ أَوِ اعْوِجَاجِ يَدٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ دِينِيٍّ بِنَحْوِ فِسْقٍ وَظُلْمٍ وَبِدْعَةٍ وَكُفْرٍ وَغَيْرِهَا (فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ) فَإِنَّ الْعَافِيَةَ أَوْسَعُ مِنَ الْبَلِيَّةِ لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْجَزَعِ وَالْفِتْنَةِ وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مِحْنَةً أَيَّ مِحْنَةٍ: «وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» كَمَا وَرَدَ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَ الشَّافِعِيَّةِ لِسُجُودِ الشُّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَحَلٌّ آخَرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله هَذَا إِذَا كَانَ مُبْتَلًى بِالْمَعَاصِي وَالْفُسُوقِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ نَاقِصَ الْخِلْقَةِ لَا يُحْسِنُ الْخِطَابَ أَقُولُ:
الصَّوَابُ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَعْدِلُ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ إِلَى إِخْفَائِهِ فِي غَيْرِ الْفَاسِقِ بَلْ فِي حَقِّهِ أَيْضًا إِذَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ، وَلِذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ يَتَعَوَّذُ وَيَقُولُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُسْمِعُ صَاحِبَ الْبَلَاءِ اهـ. وَيُسْمِعُ صَاحِبَ الْبَلَاءِ الدِّينِيِّ إِذَا أَرَادَ زَجْرَهُ وَيَرْجُو انْزِجَارَهُ، وَكَانَ الشِّبْلِيُّ إِذَا رَأَى أَحَدًا مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا دَعَا هَذَا الدُّعَاءَ (وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا) أَيْ: فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْقَلْبِ وَالْقَالَبِ (إِلَّا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ كَائِنًا مَا كَانَ) أَيْ حَالَ كَوْنِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ أَيَّ شَيْءٍ قَالَ الطِّيبِيُّ: حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْهَاءِ فِي لَمْ يُصِبْهُ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ وَذَهَبَ الْمُظْهِرُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَفْعُولِ وَقَالَ أَيْ فِي حَالِ ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ مَا كَانَ أَيْ: مَادَامَ بَاقِيًا فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ: الْحَالُ قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ كَقَوْلِكَ لَأَفْعَلَنَّهُ كَائِنًا مَا كَانَ أَيْ إِنْ كَانَ هَذَا أَوْ إِنْ كَانَ هَذَا، كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا
أَيْ لَيْسَ جَمَالُكَ بِمِئْزَرٍ مُرْدًى مَعَهُ بِرِدَاءٍ، قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الْمَعْنَى إِنْ كَانَ هَذَا أَوْ كَانَ هَذَا، وَلَيْسَ فِي الْحِصْنِ كَائِنًا مَا كَانَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ عَنْ عُمَرَ.
2430 -
(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بِلَا وَاوٍ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الرَّاوِي) أَيْ أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ (لَيْسَ بِالْقَوِيِّ) قَالَ مِيرَكُ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ، وَمِنْ حَدِيثِ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ بِمَعْنَاهُ وَضَعَّفَهُ اهـ فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ.
2431 -
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ " مَنْ قَالَ فِي سُوقٍ جَامِعٍ يُبَاعُ فِيهِ " بَدَلَ مَنْ دَخَلَ السُّوقَ.
ــ
2431 -
(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ دَخَلَ السُّوقَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ فِيهِ عَلَى سُوقِهِمْ اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاخْتِلَافِ مَادَّتِهِمَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ وَالثَّانِي مَهْمُوزُ الْعَيْنِ وَلَكِنَّهُ خُفِّفَ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَسُوقُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْتِعَتَهُمْ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَحَلُّ السُّوقَةِ وَهِيَ الرَّعِيَّةُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَكَانُ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ سَلْطَنَةِ الشَّيْطَانِ وَمَجْمَعُ جُنُودِهِ فَالذَّاكِرُ هُنَاكَ يُحَارِبُ الشَّيْطَانَ وَيَهْزِمُ جُنُودَهُ فَهُوَ خَلِيقٌ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الثَّوَابِ اهـ. أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إِلَى عِبَادِهِ نَظَرَ الرَّحْمَةِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ فَيُحْرَمُ عَنْهَا أَهْلُ الْغَفْلَةِ وَيَنَالُهَا أَهْلُ الْحَضْرَةِ، وَلِذَا اخْتَارَ السَّادَةُ النَّقْشَبَنْدِيَّةُ الْخُلْوَةَ فِي الْجَلْوَةِ وَشُهُودِ الْوَحْدَةِ (فَقَالَ) أَيْ: سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَمَا فِي رِوَايَةٍ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالثَّانِي لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ لِكَوْنِهِ مُذَكِّرًا لِلْغَافِلِينَ وَلَكِنَّهُ إِذَا أَمِنَ مِنَ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ) أَيْ: بِتَصَرُّفِهِ (الْخَيْرُ) وَكَذَا الشَّرُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْأَدَبِ فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ: مَشِيءٍ (قَدِيرٌ) تَامُّ الْقُدْرَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فِيهِ دَخَلَ فِي زُمْرَةِ مَنْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّ أَهْلَ الْأَسْوَاقِ قَدِ افْتَرَصَ الْعَدُوُّ مِنْهُمْ حِرْصَهُمْ وَشُحَّهُمْ فَنَصَبَ كُرْسِيَّهُ فِيهَا وَرَكَّزَ رَايَتَهُ وَبَثَّ جُنُودَهُ فِيهَا، وَجَاءَ أَنَّ الْأَسْوَاقَ مَحَلُّ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ إِبْلِيسَ بَاضَ فِيهَا وَفَرَّخَ كِنَايَةً عَنْ مُلَازَمَتِهِ لَهَا، فَرَغَّبَ أَهْلَهَا فِي هَذَا الْفَانِي وَصَيَّرَهَا عُدَّةً وَسِلَاحًا لِفِتَنِهِ بَيْنَ مُطَفِّفٍ فِي كَيْلٍ وَطَايِشٍ فِي مِيزَانٍ وَمُنْفِقٍ لِلسِّلْعَةِ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً فَهَزَمَهُمْ إِلَى الْمَكَاسِبِ الرَّدِيَّةِ وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ وَمَنْعِ الْحُقُوقِ، فَمَا دَامُوا فِي هَذِهِ الْغَفْلَةِ فَهُمْ
عَلَى خَطَرٍ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَالذَّاكِرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَرُدُّ غَضَبَ اللَّهِ وَيَهْزِمُ جُنْدَ الشَّيْطَانِ وَيَتَدَارَكُ لِدَفْعِ مَا حَثَّ عَلَيْهِمْ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] فَيُدْفَعُ بِالذَّاكِرِ عَنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ، وَفِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ فَسْخٌ لِأَفْعَالِ أَهْلِ السُّوقِ ; فَبِقَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُفْسَخُ وَلَهُ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْقُلُوبَ مِنْهُمْ وَلِهَتْ بِالْهَوَى قَالَ تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وَبِقَوْلِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يُفْسَخُ مَا تَعَلَّقَ بِقُلُوبِهِمْ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي نَوَالٍ أَوْ مَعْرُوفٍ، وَبِقَوْلِهِ لَهُ الْمُلْكُ يُفْسَخُ مَا يَرَوْنَ مِنْ تَدَاوُلِ أَيْدِي الْمَالِكِينَ، وَبِقَوْلِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ يُفْسَخُ مَا يَرَوْنَ مِنْ صُنْعِ أَيْدِيهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي الْأُمُورِ، وَبِقَوْلِهِ يُحْيِي وَيُمِيتُ تُفْسَخُ حَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ لِلتَّبَايُعِ فَإِنَّ تَمَلُّكَ الْحَرَكَاتِ تَمَلُّكٌ وَاقْتِدَارٌ، وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ يَنْفِي عَنِ اللَّهِ مَا يُنْسَبُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، ثُمَّ قَالَ: بِيَدِهِ الْخَيْرُ أَيْ: أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تَطْلُبُونَهَا مِنَ الْخَيْرِ فِي يَدِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَمَثَلُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ فِي السُّوقِ كَمَثَلِ الْهَمَجِ وَالذُّبَابِ مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَزْبَلَةٍ يَتَطَايَرُونَ فِيهَا عَلَى الْأَقْذَارِ فَعَمَدَ هَذَا الذَّاكِرُ إِلَى مِكْنَسَةٍ عَظِيمَةٍ ذَاتِ شُعُوبٍ وَقُوَّةٍ فَكَنَسَ هَذِهِ الْمَزْبَلَةَ وَنَظَّفَهَا مِنَ الْأَقْذَارِ وَرَمَى بِهَا وَجْهَ الْعَدُوِّ وَطَهَّرَ الْأَسْوَاقَ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} [الإسراء: 46] أَيْ: بِالْوَحْدَانِيَّةِ " وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا " فَجَدِيرٌ بِهَذَا النَّاطِقِ أَنْ يُكْتَبَ لَهُ أُلُوفُ الْحَسَنَاتِ وَيُمْحَى عَنْهُ أُلُوفُ السَّيِّئَاتِ وَيُرْفَعَ لَهُ أُلُوفُ الدَّرَجَاتِ اهـ. كَلَامُ الطِّيبِيِّ - طَيَّبَ اللَّهُ مَضْجَعَهُ - (كَتَبَ اللَّهُ لَهُ) أَيْ: أَثْبَتَ لَهُ، أَوْ أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ لِأَجْلِهِ (أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ) أَيْ، بِالْمَغْفِرَةِ، أَوْ أَمَرَ بِالْمَحْوِ عَنْ صَحِيفَتِهِ (أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ) أَيْ: مُقَامٍ وَمَرْتَبَةٍ (وَبَنَى لَهُ بَيْتًا) أَيْ: عَظِيمًا (فِي الْجَنَّةِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ السُّنِّيِّ، إِلَّا أَنَّ وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ مُخْتَصَّاتِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ السُّنِّيِّ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: لِصَاحِبِ الْمَصَابِيحِ (مَنْ قَالَ فِي سُوقٍ جَامِعٍ يُبَاعُ فِيهِ بَدَلَ مَنْ دَخَلَ السُّوقَ) وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ جَاءَ رَاوِي الْحَدِيثِ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ فَقَالَ لَهُ أَتَيْتُكَ بِهَدِيَّةٍ وَحَدَّثَهُ بِالْحَدِيثِ فَكَانَ قُتَيْبَةُ يَرْكَبُ فِي مَرْكَبِهِ حَتَّى يَأْتِيَ السُّوقَ فَيَقُولُهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ.
2432 -
ــ
2432 -
(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو يَقُولُ) بَدَلٌ أَوْ حَالٌ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سُؤَالُ امْتِحَانٍ (أَيُّ شَيْءٍ تَمَامُ النِّعْمَةِ؟ قَالَ: دَعْوَةٌ) أَيْ: مُسْتَجَابَةٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ هُوَ دَعْوَةٌ أَوْ مَسْأَلَةُ دَعْوَةٍ (أَرْجُو بِهَا خَيْرًا) أَيْ: مَالًا كَثِيرًا، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجْهُ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ السُّؤَالَ هُوَ أَنَّ جَوَابَ الرَّجُلِ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ أَيْ: أَسْأَلُهُ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً فَيَحْصُلُ مَطْلُوبِي مِنْهَا، وَلِمَا صَرَّحَ بِقَوْلِهِ خَيْرًا، فَكَانَ غَرَضُهُ الْمَالَ الْكَثِيرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] فَرَدَّهُ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ إِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ إِلَخْ وَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الرَّجُلَ حَمَلَ النِّعْمَةَ عَلَى النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ الْفَانِيَةِ، وَتَمَامُهَا عَلَى مَدْعَاةٍ فِي دُعَائِهِ فَرَدَّهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ وَدَلَّهُ عَلَى أَنْ لَا نِعْمَةَ إِلَّا النِّعْمَةَ الْبَاقِيَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ ( «فَقَالَ: إِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولَ الْجَنَّةِ» ) أَيْ: ابْتِدَاءً (وَالْفَوْزَ) أَيِ: الْخَلَاصَ وَالنَّجَاةَ (مِنَ النَّارِ) أَيْ: وَلَوِ انْتِهَاءً، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا نَقَدَهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150]
تَمَامُ النِّعْمَةِ الْمَوْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ، وَفِي إِيرَادِ مِنَ التَّبْعِيضَيَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ إِنَّمَا هِيَ مُشَاهَدَةُ الذَّاتِ الْحَقِّيَّةِ (وَسَمِعَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) أَيْ: يَا صَاحِبَ الْعَظَمَةِ وَالْمَكْرُمَةِ (قَالَ: قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ) أَيْ: مَا تُرِيدُ، هُوَ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ (وَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ، فَقَالَ: سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ) لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (فَاسْأَلْهُ الْعَافِيَةَ) أَيْ: فَإِنَّهَا أَوْسَعُ، وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَمَحَلُّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا مَنْعَ مِنْ سُؤَالِ الصَّبْرِ بَلْ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250](رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَقَالَ حَسَنٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ.
2433 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ.
ــ
2433 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا) أَيْ: مَا جَلَسَ شَخْصٌ مَجْلِسًا (فَكَثُرَ فِيهِ) بِضَمِّ الثَّاءِ (لَغَطُهُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: تَكَلَّمَ بِمَا فِيهِ إِثْمٌ لِقَوْلِهِ، غُفِرَ لَهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيُّ كَلَامٍ لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَقِيلَ: لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّغَطُ بِالتَّحْرِيكِ الصَّوْتُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْهُزْءُ مِنَ الْقَوْلِ وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَكَأَنَّهُ مُجَرَّدُ الصَّوْتِ الْعَرِيِّ عَنِ الْمَعْنَى (فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ) وَلَعَلَّهُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] وَاللَّهُمَّ مُعْتَرِضٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَبِحَمْدِكَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَكَ إِمَّا بِالْعَطْفِ أَيْ: أُسَبِّحُ وَأَحْمَدُ، أَوْ بِالْحَالِ أَيْ: أُسَبِّحُ حَامِدًا لَكَ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) إِقْرَارٌ بِالتَّوْحِيدِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ (أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) اعْتِرَافٌ بِالتَّقْصِيرِ فِي الْعُبُودِيَّةِ (إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ) أَيْ: مِنَ اللَّغَطِ (فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ حِبَّانَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَمِلْتُ سُوءً وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ.
2434 -
ــ
2434 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ أُتِيَ) أَيْ: جِيءَ (بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ) أَيْ: أَرَادَ وَضْعَ رِجْلِهِ (فِي الرِّكَابِ، قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: عَلَى نِعْمَةِ الرُّكُوبِ وَغَيْرِهَا (ثُمَّ قَالَ) أَيْ: قَرَأَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] أَيْ: ذَلَّلَهُ {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] أَيْ: مُطِيقِينَ {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] أَيْ: رَاجِعُونَ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَرَاجِعُونَ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ، وَنَاسَبَ ذِكْرَهُ لِأَنَّ الدَّابَّةَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِهِ حَامِلًا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي رُكُوبِهِ وَمَسِيرِهِ (ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثًا، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّةً سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ) أَيْ، عَلِيٌّ
(فَقِيلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ كَمَا صَنَعْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْجَبُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ: يَرْضَى (مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يَرْتَضِي هَذَا الْقَوْلَ وَيَسْتَحْسِنُهُ اسْتِحْسَانَ الْمُعْجِبِ، وَقَالَ شَارِحٌ: التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ اسْتِعْظَامُ الشَّيْءِ وَمَنْ ضَحِكَ مِنْ أَمْرٍ إِنَّمَا يَضْحَكُ مِنْهُ إِذَا اسْتَعْظَمَهُ، فَكَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَافَقَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَافَقَ الرَّبَّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ (يَعْلَمُ) وَفِي نُسْخَةٍ يَقُولُ أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ يَعْلَمُ أَيْ: عَبْدِي (أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ غَيْرُهُ بَدَلَ غَيْرِي (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
2435 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَدَّعَ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَلَا يَدَعُهَا حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ يَدَعُ يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَآخِرَ عَمَلِكَ) » . وَفِي رِوَايَةٍ: " وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَفِي رِوَايَتِهِمَا لَمْ يُذْكَرْ وَآخِرَ عَمَلِكَ.
ــ
2435 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَدَّعَ رَجُلًا) أَيْ: مُسَافِرًا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ لِإِرَادَتِهِ السَّفَرَ مُوَهَمٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْمَقْصُودِ (أَخَذَ بِيَدِهِ فَلَا يَدَعُهَا) أَيْ: فَلَا يَتْرُكُ يَدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنْ غَايَةِ التَّوَاضُعِ وَغَايَةِ إِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ (حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَفِيهِ كَمَالُ الِاسْتِسْلَامِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ الْأَنَامِ (وَيَقُولُ) أَيْ: لِلْمُوَدَّعِ (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ) أَيْ: أَسْتَحْفِظُ وَأَطْلُبُ مِنْهُ حِفْظَ دِينِكَ، وَالدِّينُ شَامِلٌ لِلْإِيمَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَتَوَابِعِهِمَا، فَإِلْقَاؤُهُ عَلَى حَالِهِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهِ بِالْإِيمَانِ لِأَنَّ السَّفَرَ لِمَشَقَّتِهِ وَخَوْفِهِ قَدْ يَصِيرُ سَبَبًا لِإِهْمَالِ بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ (وَأَمَانَتَكَ) أَيْ: حِفْظَ أَمَانَتِكَ فِيمَا تُزَاوِلُهُ مِنَ الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَمُعَاشَرَةِ النَّاسِ فِي السَّفَرِ إِذْ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ هُنَاكَ خِيَانَةٌ، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْأَمَانَةِ الْأَهْلُ وَالْأَوْلَادُ الَّذِينَ خَلَفَهُمْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ التَّكَالِيفُ كُلُّهَا كَمَا فُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ (وَآخِرَ عَمَلِكَ) أَيْ: فِي سَفَرِكَ، أَوْ مُطْلَقًا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُسْنُ الْخَاتِمَةِ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَيْهَا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ وَأَنَّ التَّقْصِيرَ فِيمَا قَبْلَهَا مَجْبُورٌ بِحُسْنِهَا وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(وَفِي رِوَايَةٍ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ) وَهُوَ جَمْعُ خَاتَمٍ أَيْ: مَا يُخْتَمُ بِهِ عَمَلُكَ أَيْ: أَخِيرَهُ، وَالْجَمْعُ لِإِفَادَةِ عُمُومِ أَعْمَالِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هُوَ طَلَبُ حِفْظِ الْوَدِيعَةِ وَفِيهِ نَوْعُ مُشَاكَلَةٍ لِلتَّوْدِيعِ وَجَعَلَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ مِنَ الْوَدَائِعِ لِأَنَّ السَّفَرَ يُصِيبُ الْإِنْسَانَ فِيهِ الْمَشَقَّةُ وَالْخَوْفُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِهْمَالِ بَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ فَدَعَا لَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَلَا يَخْلُو الرَّجُلُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْمُعَاشَرَةِ مَعَ النَّاسِ ; فَدَعَا لَهُ بِحِفْظِ الْأَمَانَةِ وَالِاجْتِنَابِ عَنِ الْخِيَانَةِ، ثُمَّ إِذَا انْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَكُونُ مَأْمُونَ الْعَاقِبَةِ عَمَّا يَسُوءُهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ (وَفِي رِوَايَتِهِمَا) أَيْ: أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ (لَمْ يُذْكَرْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَآخِرَ عَمَلِكَ) أَيْ: بَلْ ذَكَرَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْحِصْنِ.
2436 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيِّ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ الْجَيْشَ قَالَ: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2436 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيِّ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُكْسَرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْأَوْسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ أَبُو مُوسَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حُصَيْنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ خُطَمَةَ بْنِ خَثْعَمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، حَضَرَ الْحُدَيْبِيَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ الْجَيْشَ) أَيِ: الْعَسْكَرَ الْمُتَوَجِّهَ إِلَى الْعَدُوِّ (قَالَ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ) فِيهِ مُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
2437 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي فَقَالَ: (زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى) قَالَ: زِدْنِي قَالَ: (وَغَفَرَ ذَنْبَكَ) قَالَ: زِدْنِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: (وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُ كُنْتَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
2437 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي) مِنَ التَّزْوِيدِ وَهُوَ إِعْطَاءُ الزَّادِ، وَالزَّادُ هُوَ الْمُدَّخَرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْوَقْتِ، وَالتَّزَوُّدُ أَخْذُ الزَّادِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] أَيِ: التَّحَرُّزُ عَنِ السُّؤَالِ وَعَنِ الِاتِّكَالِ عَلَى غَيْرِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ يَعْنِي: ادْعُ لِي فَإِنَّ دُعَاءَكَ خَيْرُ الزَّادِ (فَقَالَ: زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى) أَيِ: الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الْمَخْلُوقِ، أَوِ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ النَّوَاهِي (قَالَ: زِدْنِي) أَيْ: مِنَ الزَّادِ، أَوْ مِنَ الدُّعَاءِ (قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، قَالَ: زِدْنِي) أَيْ: مِنَ الْمَدَدِ فِي الْمَدَدِ (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) أَيْ: أَفْدِيكَ بِهِمَا وَأَجْعَلُهُمَا فِدَاءَكَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا (قَالَ: وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ) أَيْ: سَهَّلَ لَكَ خَيْرَ الدَّارَيْنِ (حَيْثُمَا كُنْتَ) أَيْ: فِي أَيِّ مَكَانٍ حَلَلْتَ، وَمِنْ لَازِمِهِ فِي أَيِّ زَمَانٍ نَزَلْتَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّجُلَ طَلَبَ الزَّادَ الْمُتَعَارَفَ فَأَجَابَهُ عليه الصلاة والسلام بِمَا أَجَابَهُ عَلَى طَرِيقَةِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: زَادُكَ أَنْ تَتَّقِيَ مَحَارِمَهُ وَتَجْتَنِبَ مَعَاصِيَهُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا طَلَبَ الزِّيَادَةَ قَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا زَعَمَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَّقِي اللَّهَ وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ تَقْوَى تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ وَغَفَرَ ذَنْبَكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الِاتِّقَاءُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَغْفِرَةُ، ثُمَّ تَرْقَى مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ فِي الْخَيْرِ لِلْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.
2438 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي، قَالَ: (عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ: (اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ الْبُعْدَ وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
2438 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ» ) وَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَامِلَةٌ فِي نَصِيحَةٍ شَامِلَةٍ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّقْوَى مِنْ تَرْكِ الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالشُّبْهَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْغَفْلَةِ وَخُطُورِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاعْتِمَادِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهِيَ مُقْتَبَسَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقَوُا اللَّهَ} [النساء: 131] وَهِيَ تَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَإِخْلَاصٍ، وَبَحْثُهَا يَطُولُ (وَالتَّكْبِيرِ) أَيْ: بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ (عَلَى كُلِّ شَرَفٍ) أَيْ: مَكَانٍ عَالٍ (فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ) أَيْ: أَدْبَرَ (قَالَ) أَيْ: دَعَا لَهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ (اللَّهُمَّ اطْوِ لَهُ الْبُعْدَ) أَيْ: قَرِّبْهُ لَهُ وَسَهِّلْ لَهُ، وَالْمَعْنَى ارْفَعْ عَنْهُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ بِتَقْرِيبِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ لَهُ حِسًّا أَوْ مَعْنًى (وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ) أَيْ: أُمُورَهُ وَمَتَاعِبَهُ، وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
2439 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ اللَّيْلُ قَالَ: (يَا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْكِ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْودَ وَمِنَ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2439 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَافَرَ فَأَقْبَلَ اللَّيْلُ) أَيْ: أَمْسَى (قَالَ: يَا أَرْضُ) خَاطَبَ الْأَرْضَ وَنَادَاهَا عَلَى الِاتِّسَاعِ وَإِرَادَةِ الِاخْتِصَاصِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم لَا فِي حَقِّهِ لِأَنَّ الْجَمَادَاتِ تُكَلِّمُهُ وَتُخَاطِبُهُ فَهِيَ صَالِحَةٌ لِخِطَابِهِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ لَهُ بِالِاتِّسَاعِ فَإِنَّ وَضْعَ النِّدَاءِ حَقِيقَةً لِأُولِي الْعِلْمِ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ يَكُونُ مَجَازًا وَاتِّسَاعًا أَمَا تَرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكَ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] قَالُوا: نُودِيَا بِمَا يُنَادَى بِهِ أُولُو الْعِلْمِ تَمْثِيلًا لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَ إِلَّا وَقْتَ خَرْقِ الْعَادَةِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي الْمَقَامِ (رَبِّي وَرَبُّكِ اللَّهُ) يَعْنِي: إِذَا كَانَ خَالِقِي وَخَالِقُكِ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ تَلْجَأَ إِلَيْهِ وَيُتَعَوَّذَ بِهِ (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكِ) أَيْ: مِنْ شَرِّ مَا حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْخَسْفِ وَالزَّلْزَلَةِ وَالسُّقُوطِ عَنِ الطَّرِيقِ وَالتَّحَيُّرِ فِي الْفَيَافِي ذَكَرُهُ الطِّيبِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَلَا أَعْثُرُ بِكِ أَنَا وَلَا دَابَّتِي، فَبَعِيدٌ أَنَّهُ مِنْ شَرِّ مَا حَصَلَ مِنْ ذَاتِهَا بَلْ يَحْصُلُ عَنْ غَفْلَةٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ دَابَّتِهِ، وَعَلَى ظَنَّيِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ فَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ حَتَّى عَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلَ، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ نِسْبَةُ الشَّرِّ إِلَى ذَاتِ الْأَرْضِ مَجَازِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْخَسْفُ وَنَحْوُهُ كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (وَشَرِّ مَا فِيكِ) أَيْ: مِنَ الضَّرَرِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْكِ مَا يُهْلِكُ أَحَدًا مِنْ مَاءٍ أَوْ نَبَاتٍ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَيْ: مَا اسْتَقَرَّ فِيكِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ بِطَبَائِعِكِ أَيِ: الْعَادِيَّةِ كَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَأَغْرَبَ فَقَالَ: وَضِدِّهِمَا وَالصَّوَابُ وَغَيْرِهِمَا وَإِلَّا فَمَذْهَبُ الطَّبِيعِيِّينَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيكِ) أَيْ: مِنَ الْهَوَامِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَلَذَاتِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتِهَا وَمَا يَعِيشُ مِنَ الثُّقُبِ وَأَجْوَافِهَا (وَشَرِّ مَا يَدِبُّ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ: يَمْشِي وَيَتَحَرَّكُ (عَلَيْكِ) أَيْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْحَشَرَاتِ مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ (وَأَعُوذُ بِاللَّهِ) وَفِي الْمَصَابِيحِ وَأَعُوذُ بِكَ، قَالَ شَارِحٌ لَهُ: الْخِطَابُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ انْتِقَالٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ لِلْمُبَالَغَةِ وَمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ وَفَرْطِ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَوْذِ مِمَّا يَعُدُّهُ بَعْدُ وَلِذَلِكَ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ، وَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ فِيمَا خُلِقَ فِي الْأَرْضِ (مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ) بِلَا انْصِرَافٍ قِيلَ: هُوَ الصَّوَابُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: حُكِيَ فِي أَسْوَدَ هُنَا وَجْهَانِ الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَسْوَدُ هُنَا مُنْصَرِفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الصِّفَاتِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهَا الِاسْمِيَّةُ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ وَلِذَا يُجْمَعُ عَلَى أَسَاوِدَ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ وَالْمَضْبُوطُ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ بِالْفَتْحِ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ الْوَجْهُ أَنْ لَا يَنْصَرِفُ لِأَنَّ وَصْفِيَّتَهُ أَصْلِيَّةٌ وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْمَيَّةُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَالْقِيَاسُ جَوَازُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَظِيرَ مَا قَالُوهُ فِي الرَّحْمَنِ لِتَعَارُضِ الْأَصْلِ وَهُوَ الصَّرْفُ وَالْغَالِبِ وَهُوَ عَدَمُهُ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الرَّحْمَنَ بَاقٍ عَلَى وَصْفِيَّتِهِ عِنْدَ الْكُلِّ، وَالْقَوْلُ بِعَلَمِيَّتِهِ ضَعِيفٌ جِدًّا، مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُودٍ فِعْلِيٍّ، أَوِ انْتِفَاءِ فَعْلَانَةٍ فِي وَصْفٍ زِيدَ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْعَلَمِيَّةِ لَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ كَسَلْمَانَ وَعُثْمَانَ، وَهُوَ الْحَيَّةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي فِيهَا سَوَادٌ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ وَجَعَلَهَا جِنْسًا آخَرَ بِرَأْسِهَا ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا الْحَيَّةَ لِأَنَّهَا أَخْبَثُ الْحَيَّاتِ، وَذَكَرَ أَنَّهَا تُعَارِضُ الرَّكْبَ وَتَتْبَعُ الصَّوْتَ إِلَى أَنْ تَظْفَرَ بِصَاحِبِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ اللِّصُّ لِمُلَابَسَتِهِ اللَّيْلَ، أَوْ لِمُلَابَسَتِهِ السَّوَادَ مِنَ اللِّبَاسِ، أَوْ لِأَنَّ غَالِبَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي بِلَادِ الْغَرْبِ هُمُ السُّودَانُ (وَمِنَ الْحَيَّةِ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَقَوْلُ الطِّيبِيِّ: مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنَ الْحَيَّةِ بَيَانِيَّةٌ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ دَاخِلَةً عَلَيْهَا وَلَكِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَدَّةِ (وَالْعَقْرَبِ) وَفِي مَعْنَاهَا سَائِرُ الْهَوَامِّ السُّمِّيَّاتِ (وَمِنْ شَرِّ سَاكِنِ الْبَلَدِ) قِيلَ: السَّاكِنُ هُوَ الْإِنْسُ سَمَّاهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَسْكُنُونَ الْبِلَادَ غَالِبًا، أَوْ لِأَنَّهُمْ بَنَوُا الْبُلْدَانَ وَاسْتَوْطَنُوهَا، وَقِيلَ: الْجِنُّ، وَالْمُرَادُ بِالْبَلَدِ الْأَرْضُ قَالَ تَعَالَى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] وَفِي نُسْخَةٍ سَاكِنِي الْبَلَدِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مُضَافًا (وَمِنْ وَالِدٍ) أَيْ: آدَمَ أَوْ إِبْلِيسَ (وَمَا وَلَدَ) أَيْ: ذُرِّيَّتِهِمَا، وَقِيلَ: هُمَا عَامَّانِ لِجَمِيعِ مَا يُوجَدُ فِي التَّوَالُدِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعِيَاذَ إِنَّمَا يُفِيدُ وَيَحْسُنُ إِذَا كَانَ بِمَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَفُّوًا أَحَدٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ.
2440 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَالَ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
2440 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي» ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَضَمِّ مُعْجَمَةٍ أَيْ: مُعْتَمَدِي فَلَا أَعْتَمِدُ عَلَى غَيْرِكَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْعَضُدُ كِنَايَةٌ عَمَّا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيَثِقُ الْمَرْءُ بِهِ فِي الْخَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْقُوَّةِ اهـ. وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَضُدِ الْعُضْوُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ لِمَا فِي الْقَامُوسِ: الْعَضُدُ بِالْفَتْحِ وَبِالضَّمِّ وَبِالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ وَنَدُسٍ وَعَنَقٍ مَا بَيْنَ الْمِرْفَقِ إِلَى الْكَتِفِ، وَالْعَضُدُ النَّاصِرُ وَالْمُعِينُ وَهُمْ عَضُدِي وَأَعْضَادِي (وَنَصِيرِي) أَيْ: مُعِينِي وَمُغِيثِي عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ (بِكَ أَحُولُ) أَيْ: أَصْرِفُ كَيْدَ الْعَدُوِّ وَأَحْتَالُ لِدَفْعِ مَكْرِهِمْ، مِنْ حَالَ يَحُولُ حِيلَةً بِالْكَسْرِ وَأَصْلُهُ حِوْلَةٌ، أَبْدَلَ الْوَاوَ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مِنْ حَالَ يَحُولُ حِيلَةً أَيْ: أَتَحَيَّلُ حِيلَةً نَافِعَةً فِي دَفْعِ كَيْدِ الْعَدُوِّ وَاسْتِئْصَالِهِمْ - فَمَعْنًى صَحِيحٌ وَلَكِنَّ الْمَأْخَذَ غَيْرُ صَرِيحٍ ; فَإِنَّ أَحُولُ وَاوِيٌّ وَالَّذِي ذَكَرَهُ يَائِيٌّ فَتَأَمَّلْ، وَقِيلَ: أَتَحَرَّكُ وَأَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، أَوْ أَحُولُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ أُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ حَالَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا مَنَعَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ (وَبِكَ أَصُولُ) أَيْ: أَحْمِلُ عَلَى الْعَدُوِّ حَتَّى أَغْلِبَهُ وَأَسْتَأْصِلَهُ، وَمِنْهُ الصَّوْلَةُ بِمَعْنَى الْحَمْلَةِ (وَبِكَ) أَيْ: بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَعَوْنِكَ وَنُصْرَتِكَ (أُقَاتِلُ) أَيْ: أَعْدَاءَكَ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عَوَانَةَ.
2441 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ (اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
2441 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَافَ قَوْمًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ) جَمْعُ النَّحْرِ وَهُوَ الصَّدْرُ يُقَالُ: جَعَلْتُ فُلَانًا فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ أَيْ: قُبَالَتَهُ وَحِذَاءَهُ، وَخُصَّ النَّحْرُ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَسْتَقْبِلُ بِنَحْرِهِ عِنْدَ الْقِتَالِ، أَوْ لِلتَّفَاؤُلِ بِنَحْرِهِمْ إِلَى قَتْلِهِمْ (وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) وَالْمَعْنَى: نَسْأَلُكَ أَنْ تَصُدَّ صُدُورَهُمْ وَتَدْفَعَ شُرُورَهُمْ وَتَكْفِيَ أُمُورَهُمْ وَتَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى نَسْأَلُكَ أَنْ تَتَوَلَّانِي فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُرِيدُونَ أَنْ يَأْتُوا مِنْهَا، وَقِيلَ نَجْعَلُكَ فِي إِزَاءِ أَعْدَائِنَا حَتَّى تَدْفَعَهُمْ عَنَّا فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَنَا، وَحَاصِلُهُ نَسْتَعِينُ بِكَ فِي دَفْعِهِمْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَفِي الْحِصْنِ:" وَإِنْ خَافَ مِنْ عَدُوٍّ وَغَيْرِهِ فَقِرَاءَةُ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] أَمَانٌ مِنْ كُلِّ سُوءٍ مُجَرَّبٍ " قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي الْأَذْكَارِ: هُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْقَزْوِينِيِّ الْإِمَامِ السَّيِّدِ الْجَلِيلِ وَالْفَقِيهِ الشَّافِعِيِّ صَاحِبِ الْكَرَامَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَحْوَالِ الْبَاهِرَةِ وَالْمَعَارِفِ الْمُتَظَاهِرَةِ، وَفِي الْحِصْنِ: وَإِنْ أَرَادَ عَوْنًا فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُونِي ثَلَاثًا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " «إِذَا ضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُونِي فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ» " قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُونَ، وَرُوِيَ عَنِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ مُجَرَّبٌ قُرِنَ بِهِ التَّبَجُّحُ.
2442 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ أَوْ نَضِلَّ أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا» ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، «قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: مَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» ".
ــ
2442 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ) : وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: مُعَلِّمًا لِأُمَّتِهِ مَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ مُعَاشَرَةِ النَّاسِ، (" بِسْمِ اللَّهِ ") : أَيْ: خَرَجْتُ أَوْ أَسْتَعِينُ بِهِ وَبِذِكْرِهِ فِي حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، (" تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ ") : أَيِ: اعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِي، وَالْعَجَبُ مِنَ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِعْلَاءُ هُنَا مَجَازٌ، وَالْمَقْصُودُ طَلَبُ الِاسْتِعْلَاءِ بِاللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْأَغْرَاضِ اهـ. لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا بِعَلَى لَا يُقَالُ فِيهَا إِنَّهَا لِلِاسْتِعْلَاءِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلِاسْتِعْلَاءِ فِي فِعْلٍ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً بِعَلَى وَتَارَةً بِغَيْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] وَقَوْلِهِ: " {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22] " وَنَظِيرُهُ كَوْنُ (عَلَى) لِلضَّرَرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ، كَمَا يُقَالُ: دَعَوْتُ لَهُ وَدَعَوْتُ عَلَيْهِ، وَشَهِدْتُ
لَهُ وَعَلَيْهِ، وَحَكَمْتُ لَهُ وَعَلَيْهِ، لَا فِي كُلِّ فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِعَلَى، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ، وَأَوْرَدَ فِيهِ السَّؤَالَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالِي:" صَلُّوا عَلَيْهِ " وَتَرَدُّدُهُ لَهُ وَجْهٌ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا مِثْلُهُ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْمُتَرَادِفَيْنِ فِي التَّعْدِيَةِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ دُعَاءٌ بِخَيْرٍ فِي اللُّغَةِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمُتَعَلِّقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّعَاءِ الْمُطْلَقِ فَتَأَمَّلْ وَتَحَقَّقْ (" اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ ") : أَيْ: عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الزَّلَّةِ، وَهِيَ ذَنْبٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ تَشْبِيهًا بِزَلَّةِ الرِّجْلِ. وَفِي الْحِصْنِ زِيَادَةٌ: أَوْ نُزَلَّ مِنَ الْإِزْلَالِ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَصِحُّ ضَمُّ النُّونِ مَعَ كَسْرِ الزَّايِ وَمَعَ فَتْحِهَا، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ ضَبْطِ الْكِتَابِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، (أَوْ نَضِلَّ) : مِنَ الضَّلَالَةِ أَيْ: عَنِ الْهُدَى. وَفِي الْمَصَابِيحِ زِيَادَةُ: أَوْ نُضَلَّ عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُضِلَّنَا أَحَدٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: نَضِلَّ مِنْ ضَلَّ الْمَاءُ فِي اللَّبَنِ إِذَا غَابَ، فَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْمَقَامِ سَابِقًا وَلَاحِقًا مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: ضَلَّ يَضِلُّ وَبِفَتْحِ الضَّادِ ضَاعَ وَمَاتَ وَصَارَ تُرَابًا وَعِظَامًا وَخَفِيَ وَغَابَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَصِحُّ هُنَا الضَّمُّ مَعَ الْكَسْرِ وَالْفَتْحِ عَلَى وَزْنِ مَا مَرَّ فِي (نَزِلَّ) ثُمَّ قَوْلُهُ: وَمِنْ ثَمَّةَ جَاءَ فِي رِوَايَةِ: (أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ) بِفَتْحِ هَمْزَتِهِ، وَالثَّانِي: بِضَمٍّ فَكَسْرٍ، أَوْ فَتْحٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَتَدَبَّرْ. (" أَوْ نَظْلِمَ ") : أَيْ: أَحَدًا (" أَوْ نُظْلَمَ ") : أَيْ: مِنْ أَحَدٍ (" أَوْ نَجْهَلَ ") : عَلَى بِنَاءِ الْمَعْرُوفِ أَيْ: أُمُورَ الدِّينِ، أَوْ حُقُوقَ اللَّهِ، أَوْ حُقُوقَ النَّاسِ، أَوْ مَعْرِفَةَ اللَّهِ، أَوْ فِي الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ مَعَ الْأَصْحَابِ، أَوْ نَفْعَلَ بِالنَّاسِ فِعْلَ الْجُهَّالِ مِنَ الْإِيذَاءِ وَإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْهِمْ (" أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَفْعَلُ النَّاسُ بِنَا أَفْعَالَ الْجُهَّالِ مِنْ إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَيْنَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الزَّلَّةُ السَّيِّئَةُ بِلَا قَصْدٍ، اسْتَعَاذَ مِنْ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ ذَنْبٌ بِغَيْرِ قَصْدٍ أَوْ قَصْدٍ، وَمِنْ أَنْ يَظْلِمَ النَّاسَ فِي الْمُعَامَلَاتِ، أَوْ يُؤْذِيَهُمْ فِي الْمُخَالَطَاتِ، أَوْ يَجْهَلَ أَيْ: يَفْعَلَ بِالنَّاسِ فِعْلَ الْجُهَّالِ مِنَ الْإِيذَاءِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ وَابْنُ السُّنِّيِّ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ) : أَيْ: فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ (قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: مَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي) وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ بَيْتِهِ (قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: نَظَرَهُ (إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ) : أَيْ: عَنِ الْحَقِّ، مِنَ الضَّلَالِ، وَهُوَ ضِدُّ الرَّشَادِ وَالْهِدَايَةِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: غَيْرِي وَهُوَ خَطَأٌ مَعْنًى صَوَابٌ لَفْظًا أَوْ (" أَوْ أُضَلَّ ") : مَجْهُولٌ مِنَ الْإِضْلَالِ، كَذَا فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النُّسَخِ أَيْ: يُضِلَّنِي أَحَدٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِضَمٍّ فَكَسْرٍ أَوْ بِفَتْحٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (" أَوْ أَظْلِمَ ") عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَيْ: أَحَدًا (" أَوْ أُظْلَمَ ") : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يَظْلِمَنِي أَحَدٌ (" أَوْ أَجْهَلَ ") : عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ وَمَعْنَاهُ سَبَقَ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: غَيْرِي غَيْرُ صَحِيحٍ (" أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ") عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَابُدَّ أَنْ يُعَاشِرَ النَّاسَ، وَيُزَاوِلَ الْأَمْرَ، فَيَخَافُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَلَا يَخْلُو مَنْ يَضِلُّ أَوْ يُضَلُّ، وَإِمَّا يَكُونُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا فَإِمَّا بِسَبَبِ جَرَيَانِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ بِأَنْ يَظْلِمَ أَوْ يُظْلَمَ، وَإِمَّا بِسَبَبِ الِاخْتِلَاطِ وَالْمُصَاحِبَةِ فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ، فاَسْتُعِيذَ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوُلِ كُلِّهَا بِلَفْظٍ سَلِسٍ مُوجَزٍ، وَرُوعِي الْمُطَابَقَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَالْمُشَاكَلَةُ اللَّفْظِيَّةُ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا
…
فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الْآتِي. فَقَوْلُهُ: هُدِيتَ مُطَابَقٌ بِقَوْلِهِ: (" أَوْ أُضَلَّ ") وَقَوْلُهُ: كُفِيتَ لِقَوْلِهِ: (" أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ") وَقَوْلُهُ: وُقِيتَ لِقَوْلِهِ: (" أَنْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا ") .
2443 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ فَيَتَنَحَّى لَهُ الشَّيْطَانُ. وَيَقُولُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ، وَوُقِيَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: " لَهُ الشَّيْطَانُ ".
ــ
2443 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا خَرَجَ رَجُلٌ ") : فِي نُسْخَةٍ (الرَّجُلُ) وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ (" مِنْ بَيْتِهِ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ ") : أَيْ: يُنَادِيهِ مَلَكٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ (" هُدِيتَ ") : أَيْ طَرِيقَ الْحَقِّ (" وَكُفِيتَ ") : أَيْ: هَمَّكَ (" وَوُقِيتَ ") : أَيْ: حُفِظْتَ مِنَ الْأَعْدَاءِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ (حُمِيتَ) قَبْلَ الثَّلَاثَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَشَارَ الطِّيبِيُّ إِلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا حَيْثُ قَالَ: هُدِيَ بِوَاسِطَةِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَكُفِيَ مُهِمَّاتِهِ بِوَاسِطَةِ التَّوَكُّلِ، وَوُقِيَ بِوَاسِطَةِ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ أَيْ: إِذَا اسْتَعَانَ الْعَبْدُ بِاللَّهِ وَبِاسْمِهِ الْمُبَارَكِ هَدَاهُ اللَّهُ وَأَرْشَدَهُ وَأَعَانَهُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَإِذَا تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَكُونُ حَسْبَهُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، وَمَنْ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ، (فَتَنَحَّى لَهُ الشَّيْطَانُ) : أَيْ: يَبْتَعِدُ عَنْهُ إِبْلِيسُ أَوْ شَيْطَانُهُ الْمُوكَّلُ عَلَيْهِ، فَيَتَنَحَّى لَهُ عَنِ الطَّرِيقِ (وَيَقُولُ) : أَيْ: لِلْمُتَنَحِّي (شَيْطَانٌ آخَرُ) : تَسْلِيَةً لِلْأَوَّلِ أَوْ تَعَجُّبًا مِنْ تَعَرُّضِهِ (كَيْفَ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَكَيْفَ (لَكَ بِرَجُلٍ) : أَيْ: بِإِضْلَالِ رَجُلٍ (قَدْ هُدِيَ، وَكُفِيَ، وَوُقِيَ) : أَيْ: مِنَ الشَّيَاطِينِ أَجْمَعِينَ بِبَرَكَةِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَإِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذِهِ تَسْلِيَةٌ، أَيْ: كَيْفَ يَتَيَسَّرُ لَكَ الْإِغْوَاءُ مُلْتَبِسًا بِرَجُلٍ إِلَخْ. أَيْ: مَعْذُورٍ فِي تَرْكِ إِغْرَائِهِ وَالتَّنَحِّي عَنْهُ فَقَوْلُهُ: لَكَ مُتَعَلِّقٌ بِيَتَيَسَّرُ، وَبِرَجُلٍ حَالٌ اهـ.
فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ عَلِمَ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ؟ قُلْتُ: لَعَلَّهُ مِنْ هُبُوطِ الْأَنْوَارِ النَّازِلَةِ عَلَيْهِ، أَوْ مِنَ الْحُجُبِ الْكَائِنَةِ لَدَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَلِمَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا هَذَا الدُّعَاءَ الْمُرَغَّبَ مِنْ حَضَرْتِهِ صلى الله عليه وسلم اسْتُجِيبَ لَهُ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: بِتَمَامِهِ (وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: لَهُ الشَّيْطَانُ) : رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ السُّنِّيِّ.
2444 -
وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلِجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2444 -
(وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (إِذَا وَلَجَ الرَّجُلُ) : أَيْ: أَدْخَلَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ (بَيْتَهُ) : قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ لِلْغَلَبَةِ (فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (إِنِّي أَسْأَلُكَ)(خَيْرَ الْمَوْلِجِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ كَالْمَوْعِدِ وَيُفْتَحُ (وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ) : بِالْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى تَعْلِيمًا لَهُ:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] وَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ دُخُولٍ وَخُرُوجٍ حَتَّى الدُّخُولَ فِي الْقَبْرِ وَالْخُرُوجَ عَنْهُ، وَإِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، نَعَمْ تَقْدِيمُ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ مَا وَرَدَ فِيهَا، وَسَبَبُ تَقَدُّمِ الْخُرُوجِ فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ عَلَى مَا فِي الْخُلَاصَةِ: الْمَوْلِجُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَمِنَ الرُّوَاةِ مَنْ فَتَحَهَا وَالْمُرَادُ الْمَصْدَرُ، أَيِ الْوُلُوجُ وَالْخُرُوجُ، أَوِ الْمَوْضِعُ أَيْ: خَيْرَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُولَجُ فِيهِ، وَيُخْرَجُ مِنْهُ. قَالَ مِيرَكُ: الْمَوْلِجُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ، لِأَنَّ مَا كَانَ فَاؤُهُ يَاءً أَوْ وَاوًا سَاقِطَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَالْمَفْعِلُ مِنْهُ مَكْسُورُ الْعَيْنِ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ جَمِيعًا، وَمَنْ فَتَحَ هُنَا فَإِمَّا أَنَّهُ سَهَا أَوْ قَصَدَ مُزَاوَجَتَهُ لِلْمَخْرَجِ، وَإِرَادَةُ الْمَصْدَرِ بِهَمَا أَتَمُّ مِنْ إِرَادَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْخَيْرُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ اهـ.
وَتَوْضِيحُهُ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ: أَنَّ مَنْ فَتَحَهَا مِنَ الرُّوَاةِ لَمْ يُصِبْ لِأَنَّ مَا كَانَ فَاءُ الْفِعْلِ مِنْهُ وَاوًا، ثُمَّ سَقَطَتْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَحْوَ: يَعِدُ وَيَزِنُ وَيَهَبُ، فَإِنَّ الْمَفْعِلَ مِنْهُ مَكْسُورٌ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ جَمِيعًا وَلَا يُفْتَحُ - مَفْتُوحًا كَانَ يَفْعَلُ مِنْهُ أَوْ مَكْسُورًا - بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مِنْهُ ذَاهِبَةً إِلَّا أَحْرُفًا جَاءَتْ نَوَادِرَ، فَالْمَوْلِجُ مَكْسُورُ اللَّامِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قُدِّرَ، وَلَعَلَّ الْمَصْدَرَ مِنْهُ جَاءَ عَلَى الْمَفْعِلِ، وَأُخِذَ بِهِ مَأْخَذَ الْقِيَاسِ، أَوْ رُوعِيَ فِيهِ طَرِيقُ الِازْدِوَاجِ فِي الْمَخْرَجِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ خَيْرَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَلِجُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يُرَادُ أَيْضًا بِالْمَخْرَجِ مَوْضِعُ الْخُرُوجِ يُقَالُ: خَرَجَ مَخْرَجًا حَسَنًا وَهَذَا مَخْرَجُهُ اهـ.
وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ هُنَا: وَيَرُدُّهُ أَنَّ الرِّوَايَةَ تُفِيدُ إِثْبَاتَ هَذَا مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ أَيْضًا، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ، بَلْ هِيَ نُسْخَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا وَلَوْ رِوَايَةً يَكُونُ تَوْجِيهُهَا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ لِيُطَابِقَ الْقَوَاعِدَ الْعَرَبِيَّةَ، فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ مَرْدُودًا وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَغَايَةِ الْقَبُولِ عِنْدَ أَهْلِ التَّدْقِيقِ؟ . (بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا) : أَيْ: دَخَلْنَا: وَفِي الْحِصْنِ زِيَادَةُ: وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا. (وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا) : بِالْجَرِّ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (تَوَكَّلْنَا) : أَيِ: اعْتَمَدْنَا (ثُمَّ لْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ) : أَيْ: أَهْلِ بَيْتِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
2445 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَّأَ الْإِنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ، قَالَ (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكُمَا، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2445 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَّأَ الْإِنْسَانَ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزٌ أَيْ: أَرَادَ دُعَاءً لِلْمُتَزَوِّجِ مِنَ التَّرْفِئَةِ مَهْمُوزِ اللَّامِ بِمَعْنَى التَّهْنِئَةِ، وَإِذَا شَرْطِيَّةٌ وَقَوْلُهُ:(إِذَا تَزَوَّجَ: ظَرْفِيَّةٌ مَحْضَةٌ أَيْ: إِذَا هَنَّأَ لَهُ دَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ حِينَ تَزَوُّجِهِ، وَالتَّرْفِئَةُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُتَزَوِّجِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، وَالرِّفَاءِ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ الِالْتِئَامُ وَالِاتِّفَاقُ، مِنْ رَفَأْتُ الثَّوْبَ أَيْ أَصْلَحْتُهُ، وَقِيلَ: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ قَوْلِهِمْ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ الْبَنَاتِ وَالتَّقْرِيرِ لِبُغْضِهِنَّ فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ، لِكَوْنِهِ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم بَدَلَهُ وَنِعْمَ الْبَدَلُ فَإِنَّهُ أَتَمُّ فَائِدَةً، وَأَعَمُّ عَائِدَةً مَا رَوَاهُ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: قَالَ: (بَارَكَ اللَّهُ لَكَ) : أَيْ: بِالْخُصُوصِ، أَيْ أَكْثَرَ لَكَ الْخَيْرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْإِمْدَادِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُغْنِيَهُمْ) ذَكَرَ مِنْهُمُ الْمُتَزَوِّجَ يُرِيدُ الْعَفَافَ، (" وَبَارَكَ عَلَيْكُمَا ") بِنُزُولِ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّزْقِ وَالْبَرَكَةِ فِي الذُّرِّيَّةِ، (وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ) : أَيْ: فِي طَاعَةٍ وَصِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ وَسَلَامَةٍ وَمُلَاءَمَةٍ وَحُسْنِ مُعَاشَرَةٍ وَتَكْثِيرِ ذَرِّيَّةٍ صَالِحَةٍ. قِيلَ: قَالَ أَوَّلًا بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، لِأَنَّهُ الْمَدْعُوُّ لَهُ أَصَالَةً أَيْ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، ثُمَّ تَرَقَّى مِنْهُ وَدَعَا لَهُمَا، وَعَدَّاهُ بِعَلَى بِمَعْنَى بَارَكَ عَلَيْهِ بِالذَّرَارِيِّ وَالنَّسْلِ، لِأَنَّهُ الْمَطْلُوبُ مِنَ التَّزَوُّجِ، وَأَخَّرَ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُرَافَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْأَوَّلَ هُوَ النَّسْلُ، وَهَذَا تَابِعٌ لَهُ. ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ: رَفَّأَ وَقَيَّدَهُ بِالظَّرْفِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ التَّرْفِيَةَ مُحْتَرَزٌ عَنْهَا وَأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ شَارِحٍ أَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا ثُمَّ نُسِخَ بِمَا قَالَهُ عليه الصلاة والسلام وَيَحْتَاجُ إِلَى سَنَدٍ صَحِيحٍ يُصَرِّحُ بِذَلِكَ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : الْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ، وَأَنَّ الْمَجْمُوعَ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
2446 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، أَوِ اشْتَرَى خَادِمًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا، فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ، وَيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ» ) . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ: (ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2446 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، أَوِ اشْتَرَى خَادِمًا) : أَيْ: جَارِيَةً أَوْ رَقِيقًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، فَيَكُونُ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ فِيمَا سَيَأْتِي بِاعْتِبَارِ النَّفْسِ أَوِ النَّسَمَةِ (" فَلْيَقُلْ ") : وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَهِيَ الشَّعْرُ الْكَائِنُ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَا مُطْلَقُ الرَّأْسِ، ثُمَّ لْيَقُلْ:(" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا ") : أَيْ: خَيْرَ ذَاتِهَا وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ خَيْرِهَا (" وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا ") : أَيْ: خَلَقْتَهَا وَطَبَعْتَهَا (" عَلَيْهِ ") : أَيْ: مِنَ الْأَخْلَاقِ الْبَهِيَّةِ، وَفِعْلُ الْأَوَّلِ عَامٌّ،
وَالثَّانِي خَاصٌّ (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا، فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ ") : بِكَسْرِ الذَّالِ وَيُضَمُّ وَيُفْتَحُ أَيْ بِأَعْلَاهُ (" وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ ") .
(وَفِي رِوَايَةِ الْمَرْأَةِ وَالْخَادِمِ) : قَالَ الْجَزَرِيُّ رحمه الله: وَكَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُؤَلِّفِ كَيْفَ تَرَكَهَا (" ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ ") : الْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّهُ يَدْعُو بِالدُّعَاءِ السَّابِقِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ تَرْكِهَا مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : الْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّ الشَّرْطِيَّةَ الْأُولَى رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَالْحَاكِمُ. وَالشَّرْطِيَّةُ الثَّانِيَةُ رَوَاهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه إِذَا اشْتَرَى مَمْلُوكًا قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَاجْعَلْهُ طَوِيلَ الْعُمْرِ، كَثِيرَ الرِّزْقِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا.
2447 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2447 -
(وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : بِالتَّاءِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ ") : أَيِ: الْمَفْهُومِ الْمَغْمُومِ، وَسَمَّاهُ دَعَوَاتٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ جَمَّةٍ (" اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو ") : أَيْ: لَا أَرْجُو إِلَّا رَحْمَتَكَ (" فَلَا تَكِلْنِي ") : أَيْ: لَا تَتْرُكْنِي (" إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ ") : أَيْ: لَحْظَةً وَلَمْحَةً، فَإِنَّهَا أَعْدَى لِي مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِي وَإِنَّهَا عَاجِزَةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِي (فَلَا تَكِلْنِي) مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: رَحْمَتَكَ أَرْجُو. فَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ لِيُفِيدَ الِاخْتِصَاصَ، وَالرَّحْمَةُ عَامَّةٌ، فَيَلْزَمُ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى اللَّهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِذَا فَوَّضْتَ أَمْرِي إِلَيْكَ فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، لِأَنِّي لَا أَدْرِي مَا صَلَاحُ أَمْرِي وَمَا فَسَادُهُ، وَرُبَّمَا زَاوَلْتُ أَمْرًا وَاعْتَقَدْتُ أَنَّ صَلَاحَ أَمْرِي، فَانْقَلَبَ فَسَادًا، وَبِالْعَكْسِ. وَلَمَّا فَرَغَ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ تَفْوِيضَ أَمْرِهِ إِلَى الْغَيْرِ وَيُثْبِتَهُ لِلَّهِ قَالَ:(" وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي ") : أَيْ: أَمْرِي (" كُلَّهُ ") : تَأْكِيدٌ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ (" لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ") : وَهَذِهِ فَذْلَكَةُ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهَا تُفِيدُ وَحْدَةَ الْمَعْبُودِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ حِبَّانَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ السُّنِّيِّ، وَالطَّبَرَانِيُّ إِلَّا أَنَّهُ إِلَى قَوْلِهِ:(كُلَّهُ) .
2448 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: (أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟) قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ) . قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2448 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: هُمُومٌ) : جَمْعُ الْهَمِّ وَحَذْفُ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: (لَزِمَتْنِي) : عَلَيْهِ (وَدُيُونٌ) : عَطْفٌ عَلَى هُمُومٍ، أَيْ: وَدُيُونٌ لَزِمَتْنِي، فَلَزِمَتْنِي صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ مُخَصِّصَةٌ لَهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ أَيْ: هُمُومٌ عَظِيمَةٌ لَا يُقَادَرُ قَدْرُهَا، وَدُيُونٌ جَمَّةٌ نَهَّضَتْنِي وَأَثْقَلَتْنِي اهـ. وَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِبَيَانِ أَنَّ تِلْكَ الْهُمُومَ هَمُّ تِلْكَ الدُّيُونِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ:(الدَّيْنُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ مَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ) . قُلْنَا: لَا مُنَاقَشَةَ فِي أَنَّ الدَّيْنَ هَمٌّ، بَلْ وَرَدَ: لَا هَمَّ إِلَّا هَمُّ الدَّيْنِ، وَلَكِنَّ بَقَاءَ الْهُمُومِ عَلَى الْعُمُومِ، ثُمَّ الْعَطْفَ بِالْخُصُوصِ أَوْلَى مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ وَأَبْلَغُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:(أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ) . (يَا رَسُولَ اللَّهِ!) : كَأَنَّ فِيهِ اسْتِغَاثَةً بِهِ إِيمَاءً إِلَى عَظَمَةِ مِحْنَتِهِ الَّتِي لَا يَدْفَعُهَا إِلَّا مَنْزِلَتُهُ صلى الله عليه وسلم الْجَامِعَةُ لِمَرْتَبَتَيِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ اللَّتَيْنِ هُمَا التَّوَسُّطُ وَالتَّعَلُّقُ وَالتَّوَسُّلُ إِلَى الْحَقِّ تَعَالَى (قَالَ: (أَفَلَا أُعَلِّمُكَ)، عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ: أَلَا أُرْشِدُكَ فَلَا أُعَلِّمُكَ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ فَأَلَا أُعَلِّمُكَ، ثُمَّ قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِبُعْدِهِ عَنِ التَّكَلُّفِ بَلِ التَّعَسُّفِ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لِلْفَاءِ فَائِدَةٌ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ
وَقَالَ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ دَلَّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ، وَلَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ نَظِيرُ:" مَا مَنَعَكَ أَلَا تَسْجُدَ " وَالتَّقْدِيرُ: أَتَمْتَثِلُ مَا آمُرُكَ بِهِ فَأُعَلِّمُكَ؟ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ جَوَابُهُ بِقُلْتُ: بَلَى، وَفِي قَوْلِ الطِّيبِيِّ إِيهَامٌ أَنَّ (لَا) أَصِيلَةٌ وَلَيْسَ مُرَادًا اهـ.
وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَ الطِّيبِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ (لَا) أَصْلِيَّةٌ وَلِذَا أَعَادَهَا حَيْثُ قَالَ: أَلَا أُرْشِدُكَ فَلَا أُعَلِّمُكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامِيَّةَ تَدْخُلُ عَلَى الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لَكَانَ مُرَادًا لِلْمُشَارَكَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ، فَغَايَتُهُ أَنَّ (لَا) الثَّانِيَةَ مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَأَمَّا فِي تَقْدِيرِهِ: أَتَمْتَثِلُ مَا آمُرُكَ بِهِ فَأُعَلِّمُكَ لَمْ يُوجَدْ نَفْيٌ حَتَّى تَكُونَ (لَا) مُؤَكِّدَةً وَكَذَا فِيمَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ النَّظِيرُ، وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الْآيَةِ أَيْ: أَنْ يَسْجُدَ كَمَا فِي (صاد) وَلَا صِلَةَ مِثْلَهَا فِي لِئَلَّا يَعْلَمَ مُؤَكِّدَةٌ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِيهِ أَنَّ (لَا) هِيَ النَّافِيَةُ فَإِذَا كَانَتْ زَائِدَةً كَيْفَ يُؤَكَّدُ مَعْنَى النَّفْيِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ (كَلَامًا) : أَيْ: دُعَاءً (" إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟ ") : أَيْ: جِنْسَهُمَا (قَالَ: قُلْتُ: بَلَى) .
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ قَالَ: قَالَ: بَلَى: لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمْ يَرْوِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، بَلْ شَاهَدَ الْحَالَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ، وَيُقَالَ: تَقْدِيرُهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ. قَالَ لِي رَجُلٌ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي. (قَالَ: " قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْوَقْتَانِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِمَا الدَّوَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62](اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِفَتْحٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْهَمُّ فِي الْمُتَوَقَّعِ وَالْحُزْنُ فِيمَا فَاتَ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: لَيْسَ الْعَطْفُ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى، كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، بَلِ الْهَمُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ الْمُتَوَقَّعِ، وَالْحُزْنُ فِيمَا قَدْ وَقَعَ، أَوِ الْهَمُّ هُوَ الْحُزْنُ الَّذِي يُذِيبُ الْإِنْسَانَ، فَهُوَ أَشَدُّ مِنَ الْحُزْنِ، وَهُوَ خُشُونَةٌ فِي النَّفْسِ لِمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْغَمِّ فَافْتَرَقَا مَعْنًى، وَقِيلَ: الْهَمُّ الْكَرْبُ يَنْشَأُ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ، وَالْغَمُّ مِمَّا يَحْدَثُ لِلْقَلْبِ بِسَبَبِ مَا حَصَلَ، وَالْحُزْنُ مَا يَحْصُلُ لِفَقْدِ مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْءِ فَقْدُهُ، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ ") : هُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ، وَأَصْلُهُ التَّأَخُّرُ عَنِ الشَّيْءِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَجُزِ وَهُوَ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ، وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْقُصُورِ عَنْ فِعْلِ الشَّيْءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مُقَابَلَةِ الْقُدْرَةِ وَاشْتُهِرَ فِيهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَعَنْ تَحَمُّلِ الْمُصِيبَةِ وَالْمِحْنَةِ، (" وَالْكَسَلِ ") : أَيِ: التَّثَاقُلِ عَنِ الْأَمْرِ الْمَحْمُودِ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِعَادَةُ أَعُوذُ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ مَا يَلِيقُ بِالِاسْتِعَاذَةِ اسْتِقْلَالًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَرِينَتَيْنِ لِتَلَازُمِهِمَا غَالِبًا، (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ ") : بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَبِفَتْحِهِمَا، وَهُوَ تَرْكُ أَدَاةِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَبَاقِي الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ وَرَدِّ السَّائِلِ وَتَرْكِ الضِّيَافَةِ، وَمَنْعِ الْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَتَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (" وَالْجُبْنِ ") : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ وَهُوَ الْخَوْفُ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَمِنْهُ عَدَمُ الْجَرَاءَةِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمِنْهُ عَدَمُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ سُكُونُ الْبَاءِ هِيَ الثَّابِتَةُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّهُ جَاءَ بِضَمَّتَيْنِ أَيْضًا (" وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ ") : أَيْ: كَثْرَتِهِ وَهِيَ أَنْ يَفْدَحَهُ الدَّيْنُ وَيُثْقِلَهُ، وَفِي مَعْنَاهُ ضَلَعُ الدَّيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ أَيْ: ثِقْلُهُ الَّذِي يَمِيلُ صَاحِبُهُ عَنِ الِاسْتِوَاءِ، وَالضَّلَعُ بِالتَّحْرِيكِ الِاعْوِجَاجُ، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ أَنَسٍ (الدَّيْنُ ضَلَعُ الدِّينِ) وَفِي رِوَايَةٍ، (الدَّيْنُ شَيْنُ الدِّينِ) . (" وَقَهْرُ الرِّجَالِ ") : أَيْ: غَلَبَتُهُمْ. كَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ هَيَجَانَ النَّفْسِ مِنْ شِدَّةِ الشَّبَقِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ: مِنْ غَلَبَةِ النَّفْسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَهْرِ الْغَلَبَةُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. وَقِيلَ: قَهْرُ الرِّجَالِ هُوَ جَوْرُ السُّلْطَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجَالِ الدَّائِنُونَ. اسْتَعَاذَ مِنَ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الدَّائِنِينَ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْأَدَاءِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ مُشْتَمَلِ الدُّعَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْجُبْنِ يَتَعَلَّقُ بِإِزَالَةِ الْهَمِّ، وَالْآخَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: غَلَبَةِ الرِّجَالِ إِمَّا إِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ: قَهْرِ الدَّائِنِينَ إِيَّاهُ وَغَلَبَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالتَّقَاضِي، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَقْضِي، أَوْ إِلَى الْمَفْعُولِ بِأَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ يُعَاوِنُهُ عَلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ مِنْ رِجَالٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُزَكِّي عَلَيْهِ اهـ.
وَفِي تَفْسِيرِهِ الثَّانِي نَظَرٌ لِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْإِضَافَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ، بَلْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى آخَرَ لِإِضَافَةِ الْفَاعِلِ. (قَالَ) : أَيِ: الرَّجُلُ أَوْ أَبُو سَعِيدٍ (فَفَعَلْتُ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ (فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي) : أَيْ: وَحُزْنِي (وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
) .
2449 -
«وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَهُ مُكَاتَبٌ فَقَالَ: إِنِّي عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي. قَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلٍ كَبِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ. قُلْ: (اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي:(الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) . وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ: " إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ " فِي بَابِ: " تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
2449 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ جَاءَهُ مُكَاتَبٌ) : أَيْ: لِغَيْرِهِ وَهُوَ عَبْدٌ عَلَّقَ سَيِّدُهُ عِتْقَهُ عَلَى إِعْطَائِهِ كَذَا بِشُرُوطٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْفِقْهِ، (فَقَالَ: إِنِّي عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي) : أَيْ: عَنْ بَدَلِهَا، وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي كَاتَبَ بِهِ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ، يَعْنِي بَلَغَ وَقْتَ أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ وَلَيْسَ لِي مَالٌ (فَأَعِنِّي) : أَيْ: بِالْمَالِ أَوْ بِالدُّعَاءِ بِسِعَةِ الْمَالِ (فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَلَا لِلتَّنْبِيهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَلَا لِلنَّفْيِ، وَسَقَطَ الْجَوَابُ بِبِلَى اخْتِصَارًا أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ، وَالْمَعْنَى أَلَا أُخْبِرُكَ بِكَلِمَاتٍ أَوْ بِفَضِيلَةِ دَعَوَاتٍ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّهُ (لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلٍ كَبِيرٍ دَيْنًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: دَيْنًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا عَنِ اسْمِ كَانَ الَّذِي هُوَ مِثْلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَعَلَيْكَ خَبَرُهُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ (دَيْنًا) خَبَرَ كَانَ وَعَلَيْكَ حَالًا مِنَ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ، وَالْعَامِلُ هُوَ الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ فِي الْخَبَرِ، وَمَنْ جَوَّزَ إِعْمَالَ كَانَ فِي الْحَالِ فَظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ، (أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: اكْتَفَى بِالتَّعْلِيمِ إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ يُعْطِيهِ، فَرَدَّهُ أَحْسَنَ رَدٍّ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ} [البقرة: 263] الْآيَةَ. وَإِمَّا لِأَنَّ الْأَوْلَى بِحَالِهِ ذَلِكَ. (قُلْ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: (اللَّهُمَّ اغْنِنِي) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ فِي الِابْتِدَاءِ مَكْسُورَةً وَتَسْقُطُ فِي الدَّرَجِ، وَضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ إِذْ هُوَ أَمْرٌ مِنْ كَفَى يَكْفِي (بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ) : أَيْ: مُتَجَاوِزًا أَوْ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ (وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا.
(وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ: (إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ) : بِضَمِّ النُّونِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ أَيْ: صِيَاحَهَا وَتَمَامُهُ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ: (وَنَهِيقَ الْحِمَارِ بِاللَّيْلِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فَإِنَّهُنَّ أَيِ: الْكِلَابُ وَالْحَمِيرُ يَرَيْنَ مَا لَا تَرَوْنَ أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ لِتُحْفَظُوا مِنْ شُرُورِهَا. (فِي بَابِ: تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ نَقْلِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِلَى ذَلِكَ الْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2450 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ، «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أَوْ صَلَّى بِكَلِمَاتٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ: (إِنْ تُكُلِّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابَعًا عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تُكُلِّمَ بِشَرٍّ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» ) . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2450 -
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسَهُ أَوْ صَلَّى) : أَيْ: صَلَاةً (تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ) : أَيْ: عِنْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهَا، أَوْ قِيَامِهِ عَنْهُ (فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلِمَاتِ) : أَيْ: عَنْ
فَائِدَتِهَا (فَقَالَ: إِنْ تُكُلِّمَ بِخَيْرٍ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فَنَائِبُهُ الْجَارُّ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ أَيْ: إِنْ تَكَلَّمَ مُتَكَلِّمٌ بِخَيْرٍ أَيْ طَاعَةٍ قَبْلَ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا، (كَانَ) : أَيِ: الذِّكْرُ الْآتِي وَهُوَ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ، وَقِيلَ: أَيْ: تِلْكَ الْكَلِمَاتُ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْكَلَامِ (طَابَعًا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتُكْسَرُ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ طَابَعًا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ الْخَتْمُ - سَهْوُ قَلَمٍ إِذِ الطَّابَعُ مَا يُخْتَمُ بِهِ، الْخَتْمُ مَصْدَرٌ، فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِهِ لَا الطَّابَعُ، أَيْ: خَتْمًا (عَلَيْهِنَّ) : أَيْ: عَلَى كَلِمَاتِ الْخَيْرِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تُكُلِّمَ) بِالْوَجْهَيْنِ (بِشَرٍّ) : أَيْ: بِإِثْمٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِيهِ حُكْمَ الْمُبَاحِ، وَلَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُكْتَبُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] إِلَّا أَنَّهُ يُمْحَى عِنْدَ الْحِسَابِ أَوْ قَبْلَهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ عَاقِبَةٌ يُخَافُ مِنْهَا. (كَانَ كَفَّارَةً لَهُ) : أَيْ: لِمَا تُكُلِّمَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَجَمَعَهُ أَوَّلًا وَأَفْرَدَهُ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ نَظَرًا لِلَفْظِهِ تَفَنُّنًا - خَطَأٌ، إِذْ لَيْسَ لَهُمَا مَرْجِعٌ مَذْكُورٌ بِلَفْظٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا وَجَمْعًا، بَلْ جَمَعَ بِاعْتِبَارِ كَلِمَاتِ الْخَيْرِ، وَأَفْرَدَ بِاعْتِبَارِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ، نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا جُمِعَ تَعْظِيمًا لِلْكَلِمَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَسَنَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ": تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ بِكَلِمَاتٍ أَيْ تَكَلَّمَ: سُبْحَانَكَ إِلَخْ. فَسَأَلْتُهُ عَنْ فَائِدَتِهَا. وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَضَمِيرُ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: سُبْحَانَكَ فِي الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَفِي تَقَدُّمِ الْفَائِدَةِ عَلَيْهِ إِيمَاءٌ إِلَى مَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ وَلِعِظَمِ فَائِدَةِ الْجَزَاءِ. (وَبِحَمْدِكَ) : عَطْفٌ أَيْ: أُسَبِّحُ وَأَحْمَدُ، أَوْ بِنِعْمَتِكَ أُسَبِّحُ، أَوْ حَالٌ أَيْ: أُسَبِّحُ حَامِدًا لَكَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: مِنَ الْكَلِمَاتِ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ قَوْلُهُ كَلِمَاتٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يُضْمَرَ شَيْءٌ فَيَكُونَ الْكَلِمَاتُ الْجُمْلَتَيْنِ الشَّرْطِيَّتَيْنِ، وَاسْمُ كَانَ فِيهِمَا مُبْهَمٌ تَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ فَمَا فَائِدَةُ الْكَلِمَاتِ؟ فَعَلَى هَذَا الْكَلِمَاتُ هِيَ قَوْلُهُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَالْمُضْمَرُ فِي كَانَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُسَاعِدُ الْأَوَّلَ، وَقَوْلُهُ:(اللَّهُمَّ) مُعْتَرِضٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:(وَبِحَمْدِكَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: (سُبْحَانَكَ) إِمَّا بِالْعَطْفِ أَيْ: أُسَبِّحُ وَأَحْمَدُ، أَوْ بِالْحَالِ أَيْ: أُسَبِّحُ حَامِدًا لَكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ، أَوْ بِمَعْنَى " مَعَ " وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) : أَيْ: أَنْتَ الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نُقْصَانٍ، وَأَنْتَ الْمَحْمُودُ بِكُلِّ إِحْسَانٍ (أَسْتَغْفِرُكَ) : أَيْ: مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ (وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) : أَيْ: مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَالْمَعْنَى أَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي وَأَنْ تَتُوبَ عَلَيَّ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .
2451 -
وَعَنْ قَتَادَةَ رضي الله عنه بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: (هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا، وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2451 -
(وَعَنْ قَتَادَةَ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (بَلَغَهُ) : أَيْ: مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ) : أَيْ: بَعْدَ قَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، كَمَا فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ.
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. (هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ) : أَيْ: هِلَالُ بَرَكَةٍ فِي الرِّزْقِ وَهِدَايَةٍ إِلَى الْقِيَامِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مِيقَاتُ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا. قَالَ تَعَالَى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أَنْتَ هِلَالٌ لِلشَّهْرِ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْنَا. أَقُولُ: أَوْ هُوَ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ الْتِفَاتًا وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ، فَلَعَلَّ التَّقْدِيرَ أَهَلَّهُ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ. (هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ) : كَرَّرَهُ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَيَصِحُّ بَقَاؤُهُ عَلَى خَبَرِيَّتِهِ تَفَاؤُلًا بِأَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، (آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ عَبَدَ الْقَمَرَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ يَقُولُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا ") : أَيْ: صَفَرٍ مَثَلًا (" وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا ") أَيْ: رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مَثَلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرَادُ بِهِ الثَّنَاءُ عَلَى قُدْرَتِهِ، فَإِنَّهُ مِثْلُ هَذَا الْإِذْهَابِ الْعَجِيبِ، وَهَذَا الْمَجِيءُ الْغَرِيبُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى،
يُرَادُ بِهِ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَوْلَى الْعِبَادَ بِسَبَبِ الِانْتِقَالِ مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَلَفْظُهُ:(هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذَا الشَّهْرِ وَخَيْرِ الْقَدَرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَيْرَهُ وَنَصْرَهُ وَبَرَكَتَهُ وَفَتْحَهُ وَنُورَهُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ.
2452 -
ــ
2452 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ كَثُرَ هَمُّهُ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ ") : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ. أَيْ: ابْنُ جَارِيَتِكَ، وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِالْعُبُودِيَّةِ (وَفِي قَبْضَتِكَ) : أَيْ: فِي تَصَرُّفِكَ وَتَحْتَ قَضَائِكَ وَقَدَرِكَ، وَلَا حَرَكَةَ لِي وَلَا سُكُونَ إِلَّا بِأَقْدَارِكَ وَهُوَ إِقْرَارٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ، (نَاصِيَتِي بِيَدِكَ) : أَيْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56](مَاضٍ) : أَيْ: ثَابِتٌ وَنَافِذٌ (فِيَّ) : أَيْ: فِي حَقِّي (حُكْمُكَ) : أَيِ: الْأَمْرِيُّ أَوِ الْكَوْنِيُّ كَإِهْلَاكٍ وَإِحْيَاءٍ وَمَنْعٍ وَعَطَاءٍ، (عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ) : أَيْ: مَا قَدَّرْتَهُ عَلَيَّ لِأَنَّكَ تَصَرَّفْتَ فِي مُلْكِكَ عَلَى وَفْقِ حِكْمَتِكَ. (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ) : أَيْ: ذَاتَكَ وَهُوَ مُجْمَلٌ، وَمَا بَعْدَهُ تَفْصِيلٌ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيعِ الْخَاصِّ أَعْنِي قَوْلَهُ:(أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ) : أَيْ: فِي جِنْسِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، (أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ) : أَيْ: خُلَاصَتِهِمْ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، أَوْ أَلْهَمْتَهُ عِبَادَكَ،: بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَهِيَ أَسْمَاؤُهُ فِي اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهَذَا سَاقِطٌ مِنْ بَعْضِ النُّسَخِ، وَالصَّحِيحُ وُجُودُهُ كَمَا فِي أَصْلِ السَّيِّدِ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْحِصْنُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْحُ الطِّيبِيِّ، وَكَانَ ابْنُ حَجَرٍ بَنَى عَلَى النُّسْخَةِ السَّاقِطَةِ حَيْثُ قَالَ: سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَلْهَمْتَهُ لِخَوَاصِّ أَوْلِيَائِكَ. (أَوِ اسْتَأْثَرْتَ) : أَيْ: اخْتَرْتَ (بِهِ) : وَتَفَرَّدْتَ بِهِ وَاحْتَفَظْتَهُ فِي مَكْنُونِ الْغَيْبِ) : أَيْ: مَسْتُورِهِ، وَرِوَايَةُ الْحِصْنِ: فِي عِلْمِ الْغَيْبِ (عِنْدَكَ) : أَيْ: لَمْ تُلْهِمْهُ أَحَدًا وَلَمْ تُنْزِلْهُ فِي كِتَابٍ، فَ (عِنْدَ) عَلَى بَابِهِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله إِنَّ الْعِنْدِيَّةَ هُنَا عِنْدِيَّةُ شَرَفٍ وَمَكَانَةٍ، فَإِنَّهُ بِمَا يُقَالُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55](أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) : مَفْعُولُ أَسْأَلُكَ (رَبِيعَ قَلْبِي) : أَيْ: رَاحَتَهُ، وَزِيدَ فِي الْحِصْنِ: وَنُورَ بَصَرِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ وَالسَّابِقُ وَسَائِلٌ إِلَيْهِ، فَأَظْهَرَ أَوَّلًا غَايَةَ ذِلَّتِهِ وَصَغَارِهِ وَنِهَايَةَ عَجْزِهِ وَافْتِقَارِهِ، وَثَانِيًا: بَيَّنَ عَظَمَةَ شَأْنِهِ وَجَلَالَةَ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ بَقِيَّةٌ، وَأَلْطَفَ فِي الْمَطْلُوبِ حَيْثُ جَعَلَ الْمَطْلُوبَ وَسِيلَةً إِلَى إِزَالَةِ الْهَمِّ الْمَطْلُوبِ وَجَعْلِ الْقُرْآنِ رَبِيعَ الْقَلْبِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَرَحِ، لِأَنَّهُ الْإِنْسَانُ يَرْتَاعُ قَلْبُهُ فِي الرَّبِيعِ مِنَ الْأَزْمَانِ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَأَقُولُ: كَمَا أَنَّ الرَّبِيعَ سَبَبُ ظُهُورِ أَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، كَذَلِكَ الْقُرْآنُ سَبَبُ ظُهُورِ تَأْثِيرِ لُطْفِ اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْمَعَارِفِ، وَزَوَالِ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْهَرَمِ، (وَجِلَاءَ هَمِّي وَغَمِّي) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ: إِزَالَتَهُمَا، وَسَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَفَسَّرَ الْقَامُوسُ الْغَمَّ بِالْكَرْبِ وَالْحُزْنِ، وَالْهَمَّ بِالْحُزْنِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْغَمَّ أَعَمُّ، وَفِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ: وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي. (مَا قَالَهَا) : أَيِ: الْكَلِمَاتِ الْمَذْكُورَةَ (عَبْدٌ قَطُّ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ غَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ بِهِ فَرَجًا) : بِالْجِيمِ وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِالْجِيمِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي الْحِصْنِ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا بِالْحَاءِ (رَوَاهُ رَزِينٌ: وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
2453 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2453 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا) : أَيْ: فِي سَفَرِنَا (إِذَا صَعِدْنَا) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ: طَلَعْنَا مَكَانًا عَالِيًا (كَبَّرْنَا) : أَيْ: قُلْنَا: اللَّهُ أَكْبَرُ، (وَإِذَا نَزَلْنَا) : أَيْ: هَبَطْنَا مَنْزِلًا وَاطِئًا (سَبَّحْنَا) : أَيْ: قُلْنَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَعَلَّهُ انْتِقَالٌ مِنَ الْعُلُوِّ الْمَكَانِيِّ إِلَى عُلُوِّ الْمَكَانَةِ فِي التَّكْبِيرِ، وَمِنَ النُّزُولِ الْمُشِيرِ إِلَى الْحُدُوثِ وَالنُّقْصَانِ إِلَى تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنْ سِمَاتِ الْحَدَثَانِ فِي التَّسْبِيحِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
2454 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ يَقُولُ: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ) » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ.
ــ
2454 -
(وَعَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ) : أَيْ: أَصَابَهُ كَرْبٌ وَشِدَّةٌ (يَقُولُ: يَا حَيُّ) : أَيْ: أَزَلًا وَأَبَدًا وَحَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ مُؤَبَّدًا (يَا قَيُّومُ) : أَيْ: قَائِمٌ بِذَاتِهِ يَقُومُ غَيْرُهُ بِقُدْرَتِهِ (بِرَحْمَتِكَ) : أَيِ: الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (أَسْتَغِيثُ) : أَيْ: أَطْلُبُ الْإِغَاثَةَ، وَأَسْأَلُ الْإِعَانَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَيْسَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَيْسَ (بِمَحْفُوظٍ) : وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُمَا: وَيُكَرِّرُ وَهُوَ سَاجِدٌ: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ) وَقِيلَ: هُمَا اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ: لِعِزَّتِهِمَا فِي الْقُرْآنِ، لَمْ يُذْكَرَا فِيهِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَتُعُقِّبَ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ بَعْضَ الْأَسْمَاءِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إِلَّا مَرَّةً، وَلَمْ يُقَلْ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ.
2455 -
(وَعَنْ) أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ) : يَا رَسُولَ اللَّهِ) هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟ فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. قَالَ: (نَعَمْ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا) . قَالَ: فَضَرَبَ اللَّهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ وَهَزَمَ اللَّهُ بِالرِّيحِ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ.) .
ــ
2455 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ) أَيْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي الْمَدِينَةِ، وَسَبَبُ حَفْرِ الْخَنْدَقِ، أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ تَحَزَّبُوا لِحَرْبِهِ، وَجَمَعُوا مِنْ مُشْرِكِيِ الْعَرَبِ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِمْ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ، فَأَشَارَ سَلْمَانُ رضي الله عنه بِحَفْرِهِ، كَمَا هُوَ عُرْفُ بِلَادِهِمْ إِذَا قَصَدَهُمُ الْعَدُوُّ الَّذِي لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، لِيَمْنَعَهُمْ دُخُولَهَا بَغْتَةً، وَيَسْتَأْمِنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَحَفَرَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَرَأَوْا فِيهَا مِنَ الشِّدَّةِ وَالْجُوعِ وَالْمُعْجِزَاتِ مَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي مَحَلِّهِ. (يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ؟) : أَيْ: فِي حَالَةِ الشِّدَّةِ الشَّدِيدَةِ (فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) : كِنَايَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْأَمْرِ فِي الشِّدَّةِ غَايَتَهَا، وَفِي الْمِحْنَةِ نِهَايَتَهَا، فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ، أَيْ: فَزَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا حَتَّى بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ مِنَ الْفَزَعِ، وَالْحَنْجَرَةُ فَوْقَ الْحُلْقُومِ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. (قَالَ:" نَعَمْ ") أَيْ قُولُوا (اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا) : أَيْ: فَزَعَاتِ قُلُوبِنَا، (وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. قَالَ) : أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (فَضَرَبَ اللَّهُ) : أَيْ: بَعْدَمَا قَالَ لَهُمْ وَقَالُوا دَفَعَ اللَّهُ وَصَرَفَ عَنْ مُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُقَابَلَتِهِمْ (وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ) : بِأَنْ جَعَلَهَا مُسَلَّطَةً عَلَيْهِمْ حَتَّى كَفَأَتْ قُدُورَهُمْ وَأَلْقَتْ خِيَامَهُمْ، وَوَقَعُوا فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَظُلْمَةٍ عَظِيمَةٍ. (وَهَزَمَ اللَّهُ) : بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِتَرْكِهَا، وَالْمَعْنَى هَزَمَهُمْ، فَيَكُونُ اسْتِئْنَافًا لِضَرَبَ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ، (بِالرِّيحِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَانْهَزَمُوا بِهَا، فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ سَبَبًا لِإِنْزَالِ الرِّجْزِ، وَأَقْحَمَ لَفْظَ اللَّهِ يَدُلُّ بِهِ عَلَى قُوَّةِ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .