المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[كتاب أسماء الله تعالى] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٤

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ]

- ‌[بَابُ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ تَحِلُّ لَهُ]

- ‌[بَابُ الْإِنْفَاقِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِمْسَاكِ]

- ‌[بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ]

- ‌[بَابُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ]

- ‌[بَابُ مَنْ لَا يَعُودُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ]

- ‌[باب في مسائل متفرقة من كتاب الصوم]

- ‌[بَابُ تَنْزِيهِ الصَّوْمِ]

- ‌[بَابُ صَوْمِ الْمُسَافِرِ]

- ‌[بَابُ الْقَضَاءِ]

- ‌[بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ]

- ‌[باب في توابع لصوم التطوع]

- ‌[بَابُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ]

- ‌[بَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ]

- ‌[كِتَابُ الدَّعَوَاتِ]

- ‌[بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ]

- ‌[كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[ثَوَابُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ]

- ‌[بَابُ رَحْمَةِ اللَّهِ]

- ‌[بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالْمَنَامِ]

- ‌[بَابُ الدَّعَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِعَاذَةِ]

الفصل: ‌[كتاب أسماء الله تعالى]

2283 -

وَفِي رِوَايَةٍ: " «مَثَلُ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي وَسَطِ الشَّجَرِ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مَثَلُ مِصْبَاحٍ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ يُرِيهِ اللَّهُ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ حَيٌّ، وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ يُغْفَرُ لَهُ بِعَدَدِ كُلِّ فَصِيحٍ وَأَعْجَمٍ» " وَالْفَصِيحُ: بَنُو آدَمَ، وَالْأَعْجَمُ: الْبَهَائِمُ. رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

2283 -

(وَفِي رِوَايَةٍ: " مَثَلُ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُثَلَّثَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: كَغُصْنٍ (فِي وَسَطِ الشَّجَرَةِ) : بِفَتْحِ الشِّينِ وَيَسْكُنُ أَيِ: الشَّجَرُ الْيَابِسُ، وَهُوَ مَعْنَى مَثَلِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ (وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مَثَلُ مِصْبَاحٍ) : بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ: شَبِيهُ سِرَاجٍ (فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ) : فَإِنَّ الذِّكْرَ نُورٌ وَحُضُورٌ وَسُرُورٌ، وَالْغَفْلَةَ ظُلْمَةٌ وَغَيْبَةٌ وَنُفُورٌ (وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ يُرِيهِ اللَّهُ مَقْعَدَهُ) : أَيْ وَمَا أَعَدَّهُ لَهُ (مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ حَيٌّ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَلَعَلَّ الْإِرَادَةَ بِالْمُكَاشَفَةِ أَوْ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ النَّزْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30](وَذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ يُغْفَرُ لَهُ) : أَيْ: ذُنُوبُهُ (بِعَدَدِ كُلِّ فَصِيحٍ وَأَعْجَمَ) : فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (وَالْفَصِيحُ: بَنُو آدَمَ وَالْأَعْجَمُ: الْبَهَائِمُ. رَوَاهُ رَزِينٌ) : وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «ذَاكِرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ» ".

ص: 1560

2284 -

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، قَالَ:«مَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

2284 -

(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: مَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا) : أَيْ: قَوِيًّا مَنْدُوبًا، أَوْ مُطْلَقًا (أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) مِنَ الْأُولَى صِلَةٌ، وَالثَّانِيَةُ تَفْضِيلِيَّةٌ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيٌّ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:" «مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ " قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ ! قَالَ: " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ " قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» .

ص: 1560

2285 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

2285 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي) : أَيْ: بِالْإِعَانَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالرَّحْمَةِ وَالرِّعَايَةِ، وَقِيلَ الْمَعِيَّةُ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّرَفِ وَالْقُرْبَةِ لِمَا وَرَدَ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جَلِيسُ السُّلْطَانِ أَيْ: مُقَرَّبٌ مُشَرَّفٌ عِنْدَهُ، وَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ هُوَ جَلِيسٌ. (إِذَا ذَكَرَنِي) : أَيْ: بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ (وَتَحَرَّكَتْ بِي) أَيْ: بِذِكْرِي (شَفَتَاهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا ذَكَرَنِي بِاللِّسَانِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلْعَطْفِ، فَيُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ النَّافِعَ هُوَ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبُ لَاهٍ فَهُوَ قَلِيلُ الْجَدْوَى. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 1560

2286 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:" «لِكُلِّ شَيْءٍ صِقَالَةٌ، وَصِقَالَةُ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ " قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: " وَلَا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ ".

ــ

2286 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لِكُلِّ شَيْءٍ) : أَيْ: يَصْدَأُ أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا (صِقَالَةٌ) : أَيْ: تَجْلِيَةٌ وَتَخْلِيَةٌ وَتَزْكِيَةٌ وَتَصْفِيَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: آلَةٌ يُصْقَلُ بِهَا صَدَؤُهُ وَيُزَالُ وَسَخُهُ، فَغَيْرُ ظَاهِرٍ لَفْظًا (وَصِقَالَةُ الْقُلُوبِ ذِكْرُ اللَّهِ) فَإِنَّهُ بِذِكْرِهِ يَنْجَلِي غُبَارُ الْأَغْيَارِ وَيَصِيرُ الْقَلْبُ مِرْآةً لِمُطَالَعَةِ الْآثَارِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَصَدَأُ الْقُلُوبِ الرَّيْنُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] بِمُتَابَعَةِ الْهَوَى الْمَعْنِيِّ بِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] فَكَلِمَةُ لَا إِلَهَ تُخَلِّيهَا، وَكَلِمَةُ إِلَّا اللَّهُ تُجَلِّيهَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: لَا إِلَهَ صَفَا قَلْبُهُ وَحَضَرَ سِرُّهُ، فَيَكُونُ وُرُودُ قَوْلِهِ: إِلَّا اللَّهُ عَلَى قَلْبٍ مُنَقًّى وَسِرٍّ مُصَفًّى. قَالُوا: (وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَى) : أَيْ: لَهُ (مِنْ عَذَابِ اللَّهِ) : أَيْ: عِقَابِهِ وَحِجَابِهِ (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ". قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ ! قَالَ: " وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قَالَ: " وَلَا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ) : أَيْ هُوَ أَوْ سَيْفُهُ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي: الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.

ص: 1560

[كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى]

ص: 1560

(2)

- كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2287 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

(2)

كِتَابُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى

اسْمُهُ تَعَالَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ كَاللَّهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ سَلْبِيَّةٍ كَالْقُدُّوسِ، وَالْأَوَّلِ أَوْ حَقِيقِيَّةٍ ثُبُوتِيَّةٍ كَالْعَلِيمِ وَالْقَادِرِ، أَوْ إِضَافِيَّةٍ كَالْحَمِيدِ وَالْمَلِيكِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ كَالرَّازِقِ وَالْخَالِقِ، وَالِاسْمُ هُوَ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ لُغَةً، وَالْمُسَمَّى هُوَ: الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ الِاسْمُ، وَالتَّسْمِيَةُ وَضْعُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ لِإِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى، فَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ هُوَ الْمُسَمَّى عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي، وَغَيْرُ الْمُسَمَّى عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، فَلِذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الِاسْمُ هُوَ التَّسْمِيَةُ دُونَ الْمُسَمَّى. وَقَالَ مَشَايِخُنَا: التَّسْمِيَةُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى، وَالِاسْمُ هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الِاسْمَ قَدْ يَكُونُ عَيْنَ الْمُسَمَّى كَاللَّهِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُ كَالْخَالِقِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ عَيْنَهُ وَلَا غَيْرَهُ كَالْعَالِمِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ لَيْسَ عَيْنَ ذَاتِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَلَا غَيْرَهُ عَلَى أَنَّ الْغَيْرَ مَا يُمْكِنُ انْفِكَاكُهُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ اهـ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَيْسَتْ عَيْنَ ذَاتِهِ، لِمَا أَنَّ الْمَعَانِيَ تُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ لُغَةً وَعَقْلًا، فَهِيَ إِنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ نَقْصًا؛ لِأَنَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً كَانَتْ زَائِدَةً بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ يَمْتَنِعُ قِيَامُهَا بِذَاتِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ وَلَيْسَتْ غَيْرَهَا أَيْضًا، لِأَنَّ الْغِيَرَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يُمْكِنُ انْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَذَهَبَ الْفَلَاسِفَةُ إِلَى كَوْنِهَا عَيْنَ الذَّاتِ، وَيَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِمْ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ لَا بِالْعِلْمِ، بَلْ بِالذَّاتِ، وَمَحَلُّ هَذَا الْمَبْحَثِ كُتُبُ الْعَقَائِدِ، وَلَمْ يَتَكَلَّفِ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، وَلَا فِي التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ تَوَرُّعًا وَطَلَبًا لِلسَّلَامَةِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلِ

2287 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِلَّهِ) : زِيدَ فِي نُسْخَةٍ " تَعَالَى "(تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا) : أَيْ: صِفَةً (مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا) وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَّا وَاحِدَةً. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: جَاءَ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ: إِلَّا وَاحِدَةً، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ إِلَّا وَاحِدَةً نَظَرًا إِلَى الْكَلِمَةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوِ التَّسْمِيَةِ (مَنْ أَحْصَاهَا) : أَيْ: مَنْ آمَنَ بِهَا، أَوْ عَدَّهَا وَقَرَأَهَا كَلِمَةً كَلِمَةً عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيلِ تَبَرُّكًا وَإِخْلَاصًا، أَوْ حَفِظَ مَبَانِيهَا وَعَلِمَ مَعَانِيهَا وَتَخَلَّقَ بِمَا فِيهَا (دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَيْ: دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوْ دُخُولًا مُعَظَّمًا، أَوْ أَعْلَى مَرَاتِبِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ:«مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» أَيِ: الْجَنَّةَ الْحِسِّيَّةَ فِي الْعُقْبَى وَالْمَعْنَوِيَّةَ فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: قَوْلُهُ: " مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً " بَدَلُ الْكُلِّ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ اسْمِ إِنَّ، أَوْ مَنْصُوبٍ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ عَنِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَلِئَلَّا يَلْتَبِسَ " تِسْعَةً وَتِسْعِينَ " بِسَبْعَةٍ وَتِسْعِينَ بِتَقَدُّمِ السِّينِ فِي الْأَوَّلِ، أَوْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ بِتَقْدِيمِ السِّينِ فِيهِمَا، أَوْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ بِتَقَدُّمِ السِّينِ فِي الثَّانِي مِنْ زَلَّةِ الْكَاتِبِ وَهَفْوَةِ الْقَلَمِ، فَيَنْشَأُ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَسْمُوعِ مِنَ الْمَسْطُورِ، فَأَكَّدَهُ بِهِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْخِلَافِ وَإِرْشَادًا لِلِاحْتِيَاطِ فِي هَذَا الْبَابِ، أَوْ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " نَظِيرُهُ قَوْلُهُ:{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . قَالَ فِي الْمَعَالِمِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] الْإِلْحَادُ فِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَا يَنْطِقُ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ رحمه الله: أَسْمَاءُ اللَّهِ تُوجَدُ تَوْقِيفًا وَيُرَاعَى فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَكُلُّ اسْمٍ وَرَدَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَجَبَ إِطْلَاقُهُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى، وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهَا لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ فِي وَصْفِهِ وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ. قَالَ الرَّاغِبُ: ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ اسْمٌ يَصِحُّ مَعْنَاهُ فِيهِ، وَالْأَفْهَامُ الصَّحِيحَةُ الْبَشَرِيَّةُ لَهَا سِعَةٌ وَمَجَالٌ فِي اخْتِيَارِ الصِّفَاتِ. قَالَ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا خِلَافًا لِلْغَزَالِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ كَالْمُعْتَزِلَةِ.

ص: 1561

قَالَ الطِّيبِيُّ: نَقَلَ النَّوَوِيُّ رحمه الله عَنِ الْقُشَيْرِيِّ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَهُ لَكَانَتِ الْأَسْمَاءُ لِغَيْرِهِ، وَلَخَّصَ هَذَا الْمَعْنَى الْقَاضِي وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الِاسْمُ عَيْنَ الْمُسَمَّى لَزِمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا الْحُكْمُ بِتَعَدُّدِ الْإِلَهِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِاسْمِ هَاهُنَا اللَّفْظُ، وَلَا خِلَافَ فِي وُرُودِ الِاسْمِ بِهَذَا الْمَعْنَى، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى عَيْنُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ تَعَدُّدُ الْمُسَمَّى. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ حَقِيقَةٍ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي التَّعَدُّدَ فِي الِاعْتِبَارَاتِ وَالصِّفَاتِ دُونَ الذَّاتِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: تِسْعَةً وَتِسْعِينَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ إِذْ ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ الرَّبُّ الْمَوْلَى النَّصِيرُ الْمُحِيطُ الْكَافِي الْعَلَّامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَفِي السُّنَّةِ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ الدَّائِمُ الْجَمِيلُ، وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهَا أَشْهَرَ لَفْظًا وَأَظْهَرَ مَعْنًى، وَلِأَنَّهَا غُرَرُ أَسْمَائِهِ وَأُمَّهَاتُهَا الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى مَعَانِي غَيْرِهَا. وَقِيلَ: مَنْ أَحْصَاهَا صِفَةٌ لَهَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ مِثْلَ: لِفُلَانٍ أَلْفُ شَاةٍ أَعَدَّهَا لِلْأَضْيَافِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا.

(وَفِي رِوَايَةٍ) : أَيْ: لِلْبُخَارِيِّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ فِي حَاشِيَةِ الْحِصْنِ (وَهُوَ) : أَيْ: ذَاتُهُ تَعَالَى: (وِتْرٌ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيْ: فَرْدٌ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ ( «يُحِبُّ الْوِتْرَ» ) : أَيْ: مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَذْكَارِ، يَعْنِي يُحِبُّ مِنْهَا مَا كَانَ عَلَى صِفَةِ الْإِخْلَاصِ وَالتَّفَرُّدِ لَهُ تَعَالَى، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الطِّيبِيِّ أَيْ: يُثِيبُ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَتَى بِهِ وِتْرًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى مَعَانِي الْفَرْدِيَّةِ قَلْبًا، وَلِسَانًا، وَإِيمَانًا، وَإِخْلَاصًا إِثَابَةً كَامِلَةً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ:" «لَا يَحْفَظُهُ أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ".

ص: 1562

2288 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، السَّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ، الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ، الْوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الْفَتَّاحُ، الْعَلِيمُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الْخَافِضُ، الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْحَكَمُ، الْعَدْلُ، اللَّطِيفُ، الْخَبِيرُ، الْحَلِيمُ، الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ، الشَّكُورُ، الْعَلِيُّ، الْكَبِيرُ، الْحَفِيظُ، الْمُمِيتُ، الْحَسِيبُ، الْجَلِيلُ، الْكَرِيمُ، الرَّقِيبُ، الْمُجِيبُ، الْوَاسِعُ، الْحَكِيمُ، الْوَدُودُ، الْمَجِيدُ، الْبَاعِثُ، الشَّهِيدُ، الْحَقُّ، الْوَكِيلُ، الْقَوِيُّ، الْمَتِينُ، الْوَلِيُّ، الْحَمِيدُ، الْمُحْصِي، الْمُبْدِئُ، الْمُعِيدُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْوَاجِدُ، الْمَاجِدُ، الْوَاحِدُ، الصَّمَدُ، الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ، الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْوَالِي، الْمُتَعَالِي، الْبَرُّ، التَّوَّابُ، الْمُنْتَقِمُ، الْعَفُوُّ، الرَّءُوفُ، مَالِكُ الْمُلْكِ، ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمُقْسِطُ، الْجَامِعُ، الْغَنِيُّ، الْمُغْنِي، الْمَانِعُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، النُّورُ، الْهَادِي، الْبَدِيعُ، الْبَاقِي، الْوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّعَوَاتِ الْكُبْرَى " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

2288 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَشْهَرَ أَسْمَائِهِ تَعَالَى هُوَ: (اللَّهُ) ، لِإِضَافَةِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَقَالَ الْمَالِكِيُّ النَّحْوِيُّ: اللَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لَيْسَ بِصِفَةٍ، وَقِيلَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى سِوَاهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ إِلَيْهِ يُنْسَبُ كُلُّ اسْمٍ لَهُ وَيُقَالُ الْكَرِيمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ مِنْ أَسْمَاءِ الْكَرِيمِ اللَّهُ. (مَنْ أَحْصَاهَا) : أَيْ حَفِظَهَا كَمَا فَسَّرَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. فَإِنَّ الْحِفْظَ يَحْصُلُ بِالْإِحْصَاءِ وَتَكْرَارِ مَجْمُوعِهَا فَالْإِحْصَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِفْظِ، أَوْ ضَبَطَهَا حَصْرًا وَتَعْدَادًا، وَعِلْمًا، وَإِيمَانًا، أَوْ أَطَاقَهَا بِالْقِيَامِ بِمَا هُوَ حَقُّهَا وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعْتَبِرَ مَعَانِيَهَا، فَيُطَالِبَ نَفْسَهُ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَأَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ فَيَتَخَلَّقُ بِهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: مِثْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، فَكَفَّ لِسَانَهُ وَسَمْعَهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي بَاقِي الْأَسْمَاءِ اهـ.

وَأَمَّا التَّخَلُّقُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، فَبَسَطَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَقْصِدِ الْأَسْنَى، وَقِيلَ: كُلُّ اسْمٍ لِلتَّخَلُّقِ إِلَّا اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِلتَّعَلُّقِ (دَخَلَ الْجَنَّةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَتَنَافَى أَنَّ مَنْ زَادَ فِيهَا زَادَ مَرْتَبَةً فِي الْجَنَّةِ، إِذْ قَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، كَالتَّامِّ، وَالْقَدِيمِ، وَالْوِتْرِ، وَالشَّدِيدِ، وَالْكَافِي وَالْأَبَدِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَيْضًا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ: الْمَجِيدُ، الرَّبُّ، الْأَكْرَمُ، الْأَعْلَى، أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ذُو الطَّوْلِ، ذُو الْقُوَّةِ، ذُو الْمَعَارِجِ، ذُو الْعَرْشِ، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ اهـ. وَمِنْهَا: رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَذَكَرَ الْجَزَاءَ بِلَفْظِ الْمَاضِي تَحْقِيقًا (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) : الِاسْمُ الْمَعْدُودُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ أَسْمَائِهِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ مَنْ هُوَ وَإِلَهٌ، وَالْجُمْلَةُ تُفِيدُ الْحَصْرَ وَالتَّحْقِيقَ لِإِلَهِيَّتِهِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ عَنْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ إِمَّا بَيَانٌ لِكَمِّيَّةِ تِلْكَ الْأَعْدَادِ أَنَّهَا مَا هِيَ فِي قَوْلَةِ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إِلَى الْخَبَرِ، وَإِمَّا بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِحْصَاءِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يُحْصَى فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُسَمَّى الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:" لِلَّهِ " كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى سُئِلَ: وَمَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ؟ فَأُجِيبَ: هُوَ اللَّهُ، أَمَّا

ص: 1562

لَمَّا قِيلَ: مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ سُئِلَ: كَيْفَ أَحْصَاهَا؟ فَأَجَابَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ مُبْتَدَأٌ، أَوِ اللَّهُ مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ، وَالْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ صِفَةُ اللَّهِ، وَلِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَرَاتِبُ الْأُولَى: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الْمُنَافِقُ مُجَرَّدًا عَنِ التَّصْدِيقِ، وَذَلِكَ يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا بِحَقْنِ دَمِهِ وَحِرْزِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهَا عَقْدُ قَلْبٍ بِمَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَفِي صِحَّتِهَا خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَحِيحٌ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا اعْتِقَادٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَمَارَاتِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى اعْتِبَارِهَا. الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا اعْتِقَادٌ حَازِمٌ مِنْ جِهَةٍ قَاطِعَةٍ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا. وَالْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ مُكَاشِفًا بِمَعْنَاهَا مُعَايِنًا بِبَصِيرَتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ إِيمَانِ الْعَوَّامِّ كَذِبٌ عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ غَيْرُ مُقَلِّدٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَرْتِيبِ الْبُرْهَانِ بِذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَوْلَى مِنْ هَذَا مَنْ لَهُ اعْتِقَادٌ نَشَأَ مِنْ ظَنِّيٍّ، ثُمَّ مَنْ نَشَأَ اعْتِقَادُهُ عَنْ قَطْعِيٍّ وَاعْتَرَفَ بِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي كَمَالِ إِيمَانِهِ وَنَفْعِهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ اللِّسَانِ بِنَحْوِ خَرَسٍ نَفَعَتْ فِيهِمَا اتِّفَاقًا أَيْضًا، أَوْ لَا لِعُذْرٍ لَمْ يَنْفَعْهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، لَكِنْ ذَهَبَ الْغَزَالِيُّ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ مُحَقِّقُونَ إِلَى نَفْعِهَا فِيهِمَا. قُلْتُ: لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ طَلَبِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ، إِنَّهُ إِنْ أَبَى بَعْدَ ذَلِكَ فَكَافِرٌ إِجْمَاعًا لِقَضِيَّةِ أَبِي طَالِبٍ.

قَالَ أَهْلُ الْإِشَارَةِ: إِذَا كَانَ مُخْلِصًا فِي مَقَالَتِهِ كَانَ دَاخِلًا فِي الْجَنَّةِ فِي حَالَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قِيلَ: جَنَّةٌ مُعَجَّلَةٌ وَهِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ وَلَذَّةُ الْمُنَاجَاةِ، وَجَنَّةٌ مُؤَجَّلَةٌ وَهِيَ قَبُولُ الْمَثُوبَةِ وَعُلُوُّ الدَّرَجَةِ اهـ. قَالَ الْقُشَيْرِيِّ: هُوَ لِلْإِشَارَةِ وَهُوَ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إِخْبَارٌ عَنْ نِهَايَةِ التَّحْقِيقِ، فَإِذَا قِيلَ هُوَ لَا يَسْبِقُ إِلَى قُلُوبِهِمْ غَيْرُ الْحَقِّ، فَيَكْتَفُونَ عَنْ كُلِّ بَيَانٍ يَتْلُوهُ لِاسْتِهْلَاكِهِمْ فِي حَقَائِقِ الْقُرْبِ، وَاسْتِيلَاءِ ذِكْرِ الْحَقِّ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، وَانْمِحَائِهِمْ عَنْ شُهُودِهِمْ، فَضْلًا عَنْ إِحْسَاسِهِمْ بِمَنْ سِوَاهُ. قِيلَ: اللَّهُ أَصْلُهُ لَاهَا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَعُرِّبَ، وَقِيلَ عَرَبِيٌّ وُضِعَ فِي أَصْلِهِ، لِأَنَّ ذَاتَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِلَا اعْتِبَارٍ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَلَا يُمْكِنُهُ وَضْعُ اللَّفْظِ وَلَا الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَصَارَ كَالْعَلَمِ أُجْرِيَ مَجْرَاهُ فِي إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعِ الْوَصْفِ بِهِ وَعَدَمِ تَطَرُّقِ احْتِمَالِ الشَّرِكَةِ إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، ثُمَّ قِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَهَ كَعَبَدَ وَزْنًا وَمَعْنًى وَتَصَرُّفًا، فَالْإِلَهُ بِمَعْنَى الْمَأْلُوهِ، وَقِيلَ: مِنْ لَاهَ يَلِيهِ لَيْهًا وَلَاهًا أَيْ: احْتَجَبَ وَارْتَفَعَ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْأَبْصَارِ مُرْتَفِعٌ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَقِيلَ: مِنْ أَلِهَ أَيْ: تَحَيَّرَ وَوَلِهَ وَزْنًا وَمَعْنًى لِتَحَيُّرِ الْعُقُولِ فِي مَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ، فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ، وَقِيلَ: مِنْ أَلِهَ أَيْ فَزِعَ إِذْ يَفْزَعُ النَّاسُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَقِيلَ: مِنْ أَلَهْتُ إِلَى كَذَا أَيْ: سَكَنْتُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، وَالْأَرْوَاحَ تَسْكُنُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَهَذَا الِاسْمُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَعْظَمُ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِصِفَاتِ الْإِلَهَيَّةِ كُلِّهَا، وَقَدْ قَالَ الْقُطْبُ الرَّبَّانِيُّ السَّيِّدُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيُّ: الِاسْمُ الْأَعْظَمُ هُوَ اللَّهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَقُولَ:(اللَّهُ) وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ سِوَى اللَّهِ. قِيلَ: هَذَا الِاسْمُ لِلْعَوَامِّ إِجْرَاؤُهُ عَلَى اللِّسَانِ وَالذِّكْرُ بِهِ عَلَى مَوْجُودٍ فَائِضِ الْجُودِ، جَامِعٍ لِلصِّفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَمَنْعُوتٍ بِنُعُوتِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِخَوَاصِّ الْخَوَاصِّ أَنْ يَسْتَغْرِقَ قَلْبُهُمْ بِاللَّهِ، فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ سِوَاهُ، وَلَا يَرْجُو وَيَخَافُ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ إِلَّا إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ

» .

ثُمَّ قِيلَ: إِنْ أُرِيدَ بِالْإِلَهِ الْأَعَمُّ كَانَ التَّقْدِيرُ، لَا إِلَهَ مَعْبُودٌ بِحَقٍّ إِلَّا هُوَ أَوِ الْأَخَصُّ وَهُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ، فَالتَّقْدِيرُ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ إِلَّا هُوَ، وَعَلَى كُلٍّ فَمَحْمِلٌ هُوَ الرَّفْعُ وَيَجُوزُ النَّصْبُ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مُفَادُ هَذَا النَّفْيِ وَمَا بَعْدَهُ غَايَةُ الْإِثْبَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ: لَا أَخَ لِي سِوَاكَ آكَدُ مِنْ: أَنْتَ أَخِي، فَمُفَادُهَا نَفْيُ مَا اسْتَحَالَ وُجُودُهُ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ الشَّرِيكُ، وَإِثْبَاتُ مَا اسْتَحَالَ عَدَمُهُ وَهُوَ الذَّاتُ الْعَلِيُّ، وَالْمُرَادُ

ص: 1563

إِظْهَارُ اعْتِقَادِ ذَلِكَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُشْتَرَطِ لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ الْمَطْلُوبِ لِظُهُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِتْقَانِ. ( «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا اسْمَانِ بُنِيَا لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهِيَ لُغَةً رِقَّةُ الْقَلْبِ، وَانْعِطَافٌ وَرَأْفَةٌ تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ وَالْإِحْسَانَ عَلَى مَنْ رَقَّ لَهُ، وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ إِنَّمَا تُوجَدُ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِئِ الَّتِي تَكُونُ انْفِعَالَاتٍ، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُمَا أَنْ يَتَوَجَّهَ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى جَنَابِ قُدُسِهِ، وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَيَلْتَجِئَ فِيمَا يَعِنُّ لَهُ إِلَيْهِ وَيَشْغَلَ سِرَّهُ بِذِكْرِهِ، وَالِاسْتِمْدَادِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ لِمَا فُهِمَ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمُولِي لِلنِّعَمِ كُلِّهَا عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا، وَيَرْحَمُ عِبَادَ اللَّهِ فَيُعَاوِنُ الْمَظْلُومَ وَيَصْرِفُ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ، وَيُنَبِّهُ الْغَافِلَ وَيَنْظُرُ إِلَى الْعَاصِي بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ دُونَ الِازْدِرَاءِ وَيَجْتَهِدُ فِي إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَإِزَاحَتِهِ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَسْتَطِيعُهُ، وَيَسْعَى فِي سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِينَ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ، فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ. إِمَّا إِرَادَةُ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَدَفْعُ الضُّرِّ عَنْهُمْ فَيَكُونُ الِاسْمَانِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، أَوْ نَفْسُ الْإِنْعَامِ وَالدَّفْعِ، فَيَعُودَانِ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ صِفَةَ الذَّاتِ عَدَمُهَا يُوجِبُ نَقْصًا، وَلَا كَذَلِكَ صِفَةُ الْأَفْعَالِ. وَالرَّحْمَنُ: أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ تَارَةً تُوجَدُ بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ، وَأُخْرَى بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ قِيلَ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ يَعُمُّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ، وَعَلَى الثَّانِي قِيلَ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ النِّعَمَ الْأُخْرَوِيَّةَ بِأَسْرِهَا تَامَّةٌ، وَالنِّعَمُ الدُّنْيَوِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ، وَقَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَتَامٍّ وَغَيْرِ تَامٍّ، وَكَانَ مَعْنَى الرَّحْمَنِ هُوَ الْمُنْعِمُ الْحَقِيقِيُّ تَامُّ الرَّحْمَةِ عَمِيمُ الْإِحْسَانِ، وَلِذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، وَيُقَالُ لَهُ خَاصُّ اللَّفْظِ عَامُّ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهُ عَامُّ اللَّفْظِ خَاصُّ الْمَعْنَى. (الْمَلِكُ) : أَيْ: ذُو الْمُلْكِ التَّامِّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِكَذَا إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ، فَيَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ كَالْقَادِرِ، وَقِيلَ: الْمُتَصَرِّفُ فِي الْأَشْيَاءِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِفْنَاءِ وَالْإِمَاتِهِ وَالْإِحْيَاءِ، فَيَكُونُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ كَالْخَالِقِ، وَقِيلَ: وَمَوْقِعُ الْمَلِكِ فِي الْحَدِيثِ كَمَوْقِعِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى أُسْلُوبِ التَّكْمِيلِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا دَلَّ عَلَى النِّعَمِ وَالْأَلْطَافِ أَرْدَفَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالْقُوَّةِ، وَأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقِيقِيُّ، وَأَنَّهُ لَا مَالِكَ سِوَاهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مُحْتَاجٌ فِي الْوُجُودِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَالِاحْتِيَاجُ مِمَّا يُنَافِي الْمُلْكَ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُلْكٌ مُطْلَقٌ، بَلْ يُضَافُ إِلَيْهِ مَجَازًا. ثُمَّ لَمَّا وَصَفَهُ بِمَا قَدْ يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ، وَكَانَ مَظِنَّةً لِلتَّشْبِيهِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:(الْقُدُّوسُ) : وَهَلُمَّ جَرًّا بِتَتَابُعِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الثَّنَاءِ، وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيِ: الطَّاهِرُ الْمُنَزَّهُ فِي نَفْسِهِ عَنْ سِمَاتِ النُّقْصَانِ، ثُمَّ وَظِيفَةُ الْعَارِفِ مِنَ اسْمِ الْمَلِكِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَغْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا عَدَاهُ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ وَجُودُهُ وَبَقَاؤُهُ وَمُسَخَّرٌ لِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، فَيَسْتَغْنِي عَنِ النَّاسِ رَأْسًا وَيَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَمْلَكَتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي هِيَ قَلْبُهُ وَقَالَبُهُ، وَالتَّسَلُّطِ عَلَى جُنُودِهِ وَرَعَايَاهُ مِنَ الْقُوَى وَالْجَوَارِحِ وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِيهِ خَيْرُ الدَّارَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُ قِيلَ: مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَالْعَبْدُ مَنْ يَمْلِكُهُ هَوَاهُ.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقُدُّوسُ تَسْمُو هِمَّتُهُ إِلَى أَنْ يُطَهِّرَهُ الْحَقُّ مِنْ عُيُوبِهِ وَآفَاتِهِ، وَيُقَدِّسَهُ عَنْ دَنَسِ آثَامِهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، فَيَحْتَالُ فِي تَصْفِيَةِ وَقْتِهِ عَنِ الْكُدُورَاتِ، وَيَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ بِحُسْنِ اسْتِعَانَتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ مَنْ طَهَّرَ اللَّهُ لِسَانَهُ عَنِ الْغِيبَةِ طَهَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَنِ الْغِيبَةِ، وَمَنْ طَهَّرَ اللَّهُ سِرَّهُ عَنِ الْحَجْبَةِ مِنَ الْقُرْبَةِ

ص: 1564

الْقَرِيبَةِ. حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ مَرَّ بِسَكْرَانٍ مَطْرُوحٍ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَقَيَّأَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ: بِأَيِّ لِسَانٍ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآفَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَغَسَلَ فَمَهُ؟ فَلَمَّا أَنْ أَفَاقَ السَّكْرَانُ أُخْبِرَ بِمَا فَعَلَهُ فَخَجِلَ وَتَابَ، فَرَأَى إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ:

غَسَلْتَ لِأَجْلِنَا فَمَهُ غَسَلْنَا لِأَجْلِكَ قَلْبَهُ.

(السَّلَامُ) : مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: ذُو السَّلَامَةِ عَنْ عُرُوضِ الْآفَاتِ مُطْلَقًا ذَاتًا وَصِفَةً وَفِعْلًا، فَهُوَ الَّذِي سَلِمَ ذَاتُهُ عَنِ الْعَيْبِ وَالْحُدُوثِ، وَصِفَاتُهُ عَنِ النَّقْصِ، وَأَفْعَالُهُ عَنِ الشَّرِّ الْمَحْضِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَالِكُ تَسْلِيمِ الْعَابِدِ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَهَالِكِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقُدْرَةِ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقِيلَ: ذُو السَّلَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجِنَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] فَيَكُونُ مَرْجِعُهُ إِلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُدُّوسِ أَنَّ الْقُدُّوسَ يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الشَّيْءِ مِنْ نَقْصٍ يَقْتَضِيهِ ذَاتُهُ وَيَقُومُ بِهِ، فَإِنَّ الْقُدُّوسَ طَهَارَةُ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْفِعْلُ مِنْهُ عَلَى فَعُلَ بِالضَّمِّ، وَالسَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى نَزَاهَتِهِ عَنْ نَقْصٍ يَعْتَرِيهِ لِعُرُوضِ آفَةٍ، أَوْ صُدُورِ فِعْلٍ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قِيلَ: الْقُدُّوسُ فِيمَا لَمْ يَزَلْ، وَالسَّلَامُ فِيمَا لَا يَزَالُ، وَوَظِيفَةُ الْعَارِفِ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِهِ بِحَيْثُ يَسْلَمُ قَلْبُهُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْخِيَانَةِ وَإِرَادَةِ الشَّرِّ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْخَيْرِ فِي ضِمْنِهِ وَجَوَارِحِهِ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْآثَامِ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَمُسَلِّمًا عَلَى كُلٍّ مَنْ يَرَاهُ عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: السَّلِيمُ مِنَ الْعِبَادِ مِنْ سَلِمَ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ سِرًّا وَعَلَنًا، وَبَرِئَ مِنَ الْعُيُوبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمِنْ آدَابِ مَنْ تَخَلَّقَ بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَوْلَاهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا كَانَ السَّلَامُ مِنَ السَّلَامَةِ كَانَ الْعَارِفُ بِهَذَا الِاسْمِ طَالِبًا لِلسَّلَامَةِ، وَمُتَلَبِّسًا بِالِاسْتِسْلَامِ، لِيَجْمَعَ لَهُ كَمَالَ التَّنْزِيهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، وَالتَّخَلُّقُ بِهِ أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، بَلْ يَكُونُ بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَأَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنَّا قَالَ: هُوَ خَيْرٌ مِنِّي؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنِّي طَاعَةً وَأَسْبَقُ مِنِّي إِيمَانًا وَمَعْرِفَةً، وَإِنْ رَأَى أَصْغَرَ مِنْهُ، قَالَ: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنِّي؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنِّي مَعْصِيَةً، وَإِذَا ظَهَرَ مِنْ أَخِيهِ مَعْصِيَةٌ طَلَبَ لَهُ سَبْعِينَ مَعْذِرَةً، فَإِنِ اتَّضَحَ لَهُ عُذْرُهُ وَإِلَّا عَادَ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّوْمِ، وَيَقُولُ: بِئْسَ الرَّجُلُ أَنْتَ حَيْثُ لَمْ تَقْبَلْ سَبْعِينَ عُذْرًا مِنْ أَخِيكَ.

(الْمُؤْمِنُ) : أَيْ: مَنْ أُمِنَ خُلُقُهُ بِإِفَادَةِ آلَاتِ دَفْعِ الْمَضَارِّ، أَوْ أَمِنَ الْأَبْرَارَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْعَرْضِ، أَوْ أَمِنَ عِبَادَهُ مِنَ الظُّلْمِ، بَلْ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ إِمَّا فَضْلٌ وَإِمَّا عَدْلٌ، فَهُوَ مِنَ الْأَمَانِ وَمَرْجِعُهُ إِلَى أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، أَوْ صَدَّقَ أَنْبِيَاءَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْكَلَامِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ فِي الْأَسْمَاءِ لَا تَقْتَضِي الْمُشَابَهَةَ فِي الذَّوَاتِ، فَيُصْبِحُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُؤْمِنًا، وَلَا تَقْضِي الْمُشَابَهَةُ مُشَابَهَةَ الْعَبْدِ الرَّبَّ اهـ. وَلَا تَقْتَضِي الْمُشَابَهَةَ فِي الصِّفَاتِ فَإِنَّ بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ بَوْنًا بَيِّنًا، قِيلَ: وَوَظِيفَةُ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُصَدِّقَ الْحَقَّ وَيَسْعَى فِي تَقْرِيرِهِ، وَيَكُفَّ عَنِ الْإِضْرَارِ وَالْحَيْفِ، وَيَكُونُ بِحَيْثُ يَأْمَنُ النَّاسُ بَوَائِقَهُ، وَيَعْتَضِدُونَ بِهِ فِي دَفْعِ الْمَخَاوِفِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ الصَّادِقُ فِي وَعْدِهِ الْمُصَدِّقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لَمْ يَسْكُنْ فِي تَصْدِيقِهِ لِغَيْرِهِ، وَعُطِفَ عَلَى السَّلَامِ لِمَزِيدِ مَعْنَى التَّأْمِينِ عَلَى السَّلَامِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَبُولِ وَالْإِقْبَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الْمُهَيْمِنُ) : أَيِ: الرَّقِيبُ الْمُبَالِغُ فِي الْمُرَاقَبَةِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ هَيْمَنَ الطَّائِرُ إِذَا نَشَرَ جَنَاحَهُ عَلَى فِرَاخِهِ صِيَانَةً لَهُ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: الشَّاهِدُ أَيِ: الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، وَقِيلَ: الَّذِي يَشْهَدُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] أَيْ: شَاهِدًا، وَقِيلَ: الْقَائِمُ بِأُمُورِ الْخَلْقِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَآجَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ أُبْدِلَتِ الْهَاءُ مِنَ الْهَمْزَةِ، فَهُوَ مُفَيْعِلٌ مِنَ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى الْأَمِينِ الصَّادِقِ الْوَعْدِ، فَهُوَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: الْمُهَيْمِنُ اسْمٌ لِمَنِ اسْتَجْمَعَ ثَلَاثَ صِفَاتٍ: الْعِلْمُ مَجَالُ الشَّيْءِ، وَالْقُدْرَةُ الْعَامَّةُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِ، وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ، وَيُقَوِّمَ أَحْوَالَهُ، وَيَحْفَظَ الْقُوَى

ص: 1565

وَالْجَوَارِحَ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِمَا يَشْغَلُ قَلْبَهُ عَنْ جَنَابِ الْقُدُسِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ الْمُهَيْمِنُ خَضَعَ تَحْتَ جَلَالِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ.

(الْعَزِيزُ) : وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] وَقِيلَ: عَدِيمُ الْمِثَالِ فَمَرْجِعُهُ إِلَى التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي تَتَعَذَّرُ الْإِحَاطَةُ بِوَصْفِهِ، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يُعِزَّ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَهِينَهَا بِالْمَطَالِبِ الدَّنِيَّةِ، وَلَا يُدَنِّسَهَا بِالسُّؤَالِ مِنَ النَّاسِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِمْ، وَيَجْعَلَهَا بِحَيْثُ يَشْتَدُّ إِلَيْهَا احْتِيَاجُ الْعِبَادِ فِي الْإِرْفَاقِ وَالْإِرْشَادِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ الْعِزَّ إِلَّا فِي رَفْعِ الْهِمَّةِ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَعْرِفُ اللَّهَ عَزِيزًا مَنْ أَعَزَّ أَمْرَهُ وَطَاعَتَهُ، فَأَمَّا مَنِ اسْتَهَانَ بِأَوَامِرِهِ، فَمِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَقِّقًا بِعِزَّتِهِ. قَالَ تَعَالَى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] .

(الْجَبَّارُ) : بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ إِصْلَاحُ الشَّيْءِ بِضَرْبٍ مِنَ الْقَهْرِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِصْلَاحِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ: يَا جَابِرَ كُلِّ كَسِيرٍ، وَعَلَى الْقَهْرِ الْمُجَرَّدِ نَحْوَ مَا وَرَدَ: لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ، ثُمَّ تَجَوَّزَ بِهِ لِلْعُلُوِّ الْمُسَبَّبِ عَنِ الْقَهْرِ فَقِيلَ لِمَكَّةَ جَبَّارَةٌ فَقِيلَ الْجَبَّارُ هُوَ الْمُصْلِحُ لِأُمُورِ الْعِبَادِ يُغْنِي الْمُؤْمِنَ مِنْ فَقْرِهِ، وَيُصْلِحُ عَظْمَهُ مِنْ كَسْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: الْمُتَعَالِي عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ كَيْدُ الْكَائِدِينَ، وَأَنْ يَنَالَهُ قَصْدُ الْقَاصِدِينَ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى التَّنْزِيهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ حَامِلُ الْعِبَادِ عَلَى مَا أَرَادَ قَهْرًا مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، أَوْ عَلَى مَا أَرَادَ صُدُورَهُ عَنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْبَارِ، فَصَارُوا حَيْثُ أَرَادَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ. قِيلَ: وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْ هَذَا الِاسْمِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى النَّفْسِ فَيَجْبُرَ نَقَائِصَهَا بِاسْتِكْمَالِ الْفَضَائِلِ، وَيَحْمِلَهَا عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى مِنَ الرَّذَائِلِ، وَيَكْسِرَ فِيهَا الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ، وَيَرْتَفِعَ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى الْخَلْقِ فَيَتَخَلَّقُ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ بِحَيْثُ لَا يُزَلْزِلُهُ تَعَاوُرُ الْحَوَادِثِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ تَعَاقُبُ النَّوَازِلِ، بَلْ يَقْوَى عَلَى التَّأْثِيرِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ بِالْإِرْشَادِ وَالْإِصْلَاحِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الِاسْمُ إِذَا احْتَمَلَ مَعَانِيَ مِمَّا يَصِحُّ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى، فَمَنْ دَعَاهُ بِهَذَا الِاسْمِ، فَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمَعَانِي فَهُوَ الْجَبَّارُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَزِيزٌ مُتَكَبِّرٌ مُحْسِنٌ إِلَى عِبَادِهِ، لَا يَجْرِي فِي سُلْطَانِهِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مُرَادِهِ، مِنْ آدَابِ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي لِعُلُوِّ قُدْرَتِهِ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَلَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْهُ إِلَّا لُطْفُهُ وَإِحْسَانُهُ الْيَوْمَ عِرْفَانُهُ وَغَدًا غُفْرَانُهُ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُجْبِرُ الْخَلْقَ عَلَى مُرَادِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي سُلْطَانِهِ مَا يَأْبَاهُ وَيَكْرَهُهُ تَرَكَ مَا يَهْوَاهُ وَانْقَادَ لِمَا يَحْكُمُ بِهِ مَوْلَاهُ، فَيَسْتَرِيحُ عَنْ كَدِّ الْفِكْرِ وَتَعَبِ التَّدْبِيرِ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: عَبْدِي تُرِيدُ وَأُرِيدُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ، فَإِنْ رَضِيتَ بِمَا أُرِيدُ كَفَيْتُكَ فِيمَا تُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ بِمَا أُرِيدُ أَتْعَبْتُكَ فِيمَا تُرِيدُ، ثُمَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيدُ اهـ.

وَلِذَا قِيلَ لِأَبِي يَزِيدَ: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَلَّا أُرِيدَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: هَذِهِ إِرَادَةٌ أَيْضًا، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ، مَا حَاصِلُهُ: الْجَبَّارُ مِنَ الْعِبَادِ مَنِ ارْتَفَعَ عَنِ الِاتِّبَاعِ، وَنَالَ دَرَجَةَ الِاسْتِتْبَاعِ، وَتَفَرَّدَ بِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ بِحَيْثُ يُجْبِرُ الْخَلْقَ هَيْئَتُهُ وَصُورَتُهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَمُتَابَعَتِهِ فِي سَمْتِهِ وَسِيرَتِهِ، فَيُفِيدُ الْخَلْقَ وَلَا يَسْتَفِيدُ، وَيُؤَثِّرُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَلَمْ يَكْمُلْ هَذَا الْمَقَامُ إِلَّا لِنَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام حَيْثُ قَالَ:" «لَوْ أَنَّ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي، وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» ".

(الْمُتَكَبِّرُ) : أَيْ ذُو الْكِبْرِيَاءِ وَهُوَ الرَّبُّ الْمَلِكُ، أَوْ هُوَ الْمُتَعَالِي عَنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ: هُوَ عِبَارَةُ عَنْ كَمَالِ الذَّاتِ فَلَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَرَى غَيْرَهُ حَقِيرًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَاتِهِ، فَيَنْظُرُ إِلَى غَيْرِهِ نَظَرَ الْمَالِكِ إِلَى عَبْدِهِ وَهُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا لَهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قِيلَ. هَذَا اللَّفْظُ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَوَضَعَهُ لِلتَّكَلُّفِ فِي إِظْهَارِ مَا لَا يَكُونُ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: لَمَّا تَضَمَّنَ التَّكَلُّفَ بِالْفِعْلِ مُبَالَغَةً فِيهِ أُطْلِقُ اللَّفْظُ، وَأُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ الْمُبَالَغَةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ شَائِعٌ فِي كَلَامِهِمْ، مَعَ أَنَّ التَّفَعُّلَ جَاءَ لِغَيْرِ التَّكَلُّفِ كَثِيرًا كَالتَّعَمُّمِ وَالتَّقَمُّصِ.

ص: 1566

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ عُلُوَّهُ تَعَالَى وَكِبْرِيَاءَهُ لَازَمَ طَرِيقَ التَّوَاضُعِ، وَسَلَكَ سَبِيلَ التَّذَلُّلِ، وَقَدْ قِيلَ: هَتَكَ سِتْرَهُ مَنْ جَاوَزَ قَدْرَهُ، وَقَدْ قِيلَ: الْفَقِيرُ فِي خَلْقِهِ أَحْسَنُ مِنْهُ فِي جَدِيدِ غَيْرِهِ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ عَلَى الْخَدَمِ مِنَ التَّوَاضُعِ بِحَضْرَةِ السَّادَةِ، وَقِيلَ: كُلٌّ مَنْ أَخْلَصَ فِي وُدِّهِ وَصَدَقَ فِي حُبِّهِ كَانَ اسْتِلْذَاذُهُ بِمَنْعِهِ أَكْثَرَ مِنَ اسْتِلْذَاذِهِ بِعَطَائِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَاهَدْتَ كِبْرِيَاءَهُ تَعَالَى تَكَبَّرْتَ عَلَى الرُّكُونِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَالسُّكُونِ إِلَى الْمَأْلُوفَاتِ، فَإِنَّ الْبَهَائِمَ تُسَاهِمُكَ فِيهَا، بَلْ عَنْ كُلِّ مَا يَشْغَلُ سِرَّكَ عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتَحْقَرْتَ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الْوُصُولِ إِلَى جَنَابِ الْقُدُسِ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَزَالَتْ عَنْكَ جَمِيعُ دَعَاوَى الْكِبْرِ وَمَهَاوِيهِ، لِصَفَاءِ نَفْسِكَ وَانْطِبَاعِهَا لِلْحَقِّ، حَتَّى سَكَنَ وَهَجُهَا، وَانْمَحَتْ رُسُومُهَا، فَلَمْ يَبْقَ لَهَا اخْتِيَارٌ، وَلَا مَعَ غَيْرِ اللَّهِ قَرَارٌ.

(الْخَالِقُ) : مِنَ الْخَلْقِ، وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ الْمُسْتَقِيمُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] أَيِ الْمُقَدِّرِينَ. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] أَيْ تُقَدِّرُونَ كَذِبًا، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِبْدَاعِ، وَإِيجَادِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 164] فَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُقَدِّرُهُ أَوْ مُوجِدُهُ مِنْ أَصْلٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ.

(الْبَارِئُ) : بِالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ، أَيِ: الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ بَرِيئًا مِنَ التَّفَاوُتِ.

(الْمُصَوِّرُ) : بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: مُبْدِعُ صُوَرِ الْمُخْتَرَعَاتِ وَمُزَيِّنُهَا وَمُرَتِّبُهَا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُ الشَّيْءَ عَلَى هَيْئَةٍ يَتِمُّ بِهَا خَوَاصُّهُ وَأَفْعَالُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. بِمَعْنَى أَنَّهُ مُقَدِّرُهُ، أَوْ مُوجِدُهُ مَنْ أَصْلٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَبَارِئُهُ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَسَبَقَتْ بِهِ كَلِمَتُهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَاخْتِلَالٍ، وَمُصَوِّرُهُ بِصُورَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ خَوَاصُّهُ، وَيَتِمُّ بِهِ كَمَالُهُ، وَثَلَاثَتُهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ اهـ. وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ مُتَرَادِفَةٌ وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهَا أَنْ لَا يَرَى شَيْئًا، وَلَا يَتَصَوَّرَ أَمْرًا إِلَّا وَيَتَأَمَّلُ فِيمَا فِيهِ مِنْ بَاهِرِ الْقُدْرَةِ وَعَجَائِبِ الصُّنْعِ، وَلِيَتَرَقَّى مِنَ الْمَخْلُوقِ إِلَى الْخَالِقِ، وَيَنْتَقِلَ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْمَصْنُوعِ إِلَى الصَّانِعِ، حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ كُلَّمَا نَظَرَ إِلَى شَيْءٍ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَلَا عَيْنًا، فَحَوَّلَهُ اللَّهُ شَيْئًا وَجَعَلَهُ عَيْنًا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يَعْجَبَ بِحَالِهِ، وَلَا يَدِلَّ بِأَفْعَالِهِ، وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ حُكْمُ مَآلِهِ، وَكَيْفَ لَا يَتَوَاضَعُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ نُطْفَةٌ، وَفِي الِانْتِهَاءِ جِيفَةٌ، وَفِي الْحَالِ صَرِيعُ جُوعِهِ وَأَسِيرُ شِبَعِهِ، فَفِيهِ مِنَ النَّقَائِصِ مَا إِنْ تَأَمَّلَهُ عَرَفَ بِهِ جَلَالَ رَبِّهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُتَقَدِّمَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، سِوَى الْجَلَالَةِ، وَكُلُّهَا دَائِرَةٌ عَلَى مَعَانِيهَا مَعَ إِفَادَةِ كُلٍّ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى مَعْنَى مَا قَبْلَهَا.

وَقَدْ جَاءَ كَذَلِكَ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ، مَعَ زِيَادَةِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ قَالُوا: آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(الْغَفَّارُ) : أَيِ الَّذِي يَسْتُرُ الْعُيُوبَ وَالذُّنُوبَ فِي الدُّنْيَا بِإِسْبَالِ السِّتْرِ عَلَيْهَا، وَفِي الْعُقْبَى بِتَرْكِ الْمُعَاتَبَةِ لَهَا، وَهُوَ لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ أَبْلَغُ مِنَ الْغَفُورِ، وَقِيلَ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْغَفَّارِ بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ، وَفِي الْغَفُورِ بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ، وَأَصْلُ الْغَفْرِ السَّتْرُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا هُوَ، وَأَنْ تَسْتُرَ عَلَى عِبَادِهِ، وَتَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَتُلَازِمَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ خُصُوصًا فِي الْأَسْحَارِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]" ثُمَّ " تَقْتَضِي التَّرَاخِيَ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ رَخَى عَمْرَهُ فِي الزَّلَّاتِ، وَأَفْنَى حَيَاتَهُ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَأَبْلَى شَبَابَهُ فِي الْبَطَّالَاتِ، ثُمَّ نَدِمَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَجَدَ مِنَ اللَّهِ الْعَفْوَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَ " مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا " إِخْبَارٌ عَنِ الْفِعْلِ، وَ " يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ " إِخْبَارٌ عَنِ الْقَوْلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِينَ زَلَّاتُهُمْ حَالَةٌ، وَتَوْبَتُهُمْ قَالَةٌ، وَلَقَدْ سَهَّلَ عَلَيْكَ الْأَمْرَ مَنْ رَضِيَ عَنْكَ بِقَالَةٍ، وَقَدْ عَمِلْتَ مَا عَمِلْتَ، فَالِاسْتِغْفَارُ يَسْتَدْعِي مُجَرَّدَ الْغُفْرَانِ، فَقُوبِلَ بِقَوْلِهِ:" يَجِدِ اللَّهَ " نَظَرًا إِلَى حَالِ الْمُذْنِبِ كَيْفَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ فَوَجَدَ اللَّهَ.

ص: 1567

(الْقَهَّارُ) : أَيِ: الَّذِي لَا مَوْجُودَ إِلَّا وَهُوَ مَقْهُورٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ مُسَخَّرٌ لِقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ قَالَ تَعَالَى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَذَلَّ الْجَبَابِرَةَ وَقَصَمَ ظُهُورَهُمْ بِالْإِهْلَاكِ نَحْوِهِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: هُوَ مَنِ اضْمَحَلَّتْ عِنْدَ صَوْلَتِهِ صَوْلَةُ كُلِّ مُتَمَرِّدٍ أَوْ جَبَّارٍ، وَبَادَتْ عِنْدَ سَطْوَتِهِ قُوَى الْمُلُوكِ وَأَرْبَابِ التَّفَاخُرِ وَالِاسْتِكْبَارِ، لَاسِيَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] فَأَيْنَ الْجَبَابِرَةُ الْأَكَاسِرَةُ عِنْدَ ظُهُورِ هَذَا الْخِطَابِ؟ وَأَيْنَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فِي هَذَا الْعِتَابِ؟ وَأَيْنَ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْإِلْحَادِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْإِرْشَادِ؟ وَأَيْنَ آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ وَإِبْلِيسُ وَشِيعَتُهُ، وَكَأَنَّهُمْ بَادُوا وَانْقَرَضُوا، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَغْنَوْا، زَهَقَتِ النُّفُوسُ، وَبَلَغَتِ الْأَرْوَاحُ، وَتَبَدَّدَتِ الْأَجْسَامُ وَالْأَشْبَاحُ، وَبَقِيَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَمَا عَدَاهُ بَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَتَفَرَّقَتْ مِنْهُمُ الْأَعْضَاءُ وَالْأَوْصَالُ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَ نُفُوسَ الْعَابِدِينَ بِحُقُوقِ عُبُودِيَّتِهِ، وَقُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِسَطْوَةِ قُرْبَتِهِ، وَأَرْوَاحَ الْوَاجِدِينَ بِكَشْفِ حَقِيقَتِهِ، فَالْعَابِدُ بِلَا نَفْسٍ لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ، وَالْعَارِفُ بِلَا قَلْبٍ، لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَالْوَاحِدُ بِلَا رُوحٍ لِاسْتِيلَاءِ كَشْفِ جَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، فَمَتَى أَرَادَ الْعَابِدُ خُرُوجَهُ عَنْ قَيْدِ مُجَاهَدَتِهِ، قَهَرَتْهُ سَطْوَةُ الْعِتَابِ فَرَدَّتْهُ إِلَى بَذْلِ الْمُهْجَةِ، وَمَتَى أَرَادَ الْعَارِفُ خُرُوجَهُ عَنْ مُطْلَبَاتِ الْقُرْبَةِ، قَهَرَتْهُ بِوَادِي الْهَيْبَةِ فَرَدَّتْهُ إِلَى تَوْدِيعِ الْمُهْجَةِ، فَشَتَّانَ بَيْنِ عَبْدِ مَقْهُورِ أَفْعَالِهِ، وَعَبْدٍ هُوَ مَقْهُورُ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ.

(الْوَهَّابُ) : أَيْ: كَثِيرُ النِّعْمَةِ دَائِمُ الْعَطِيَّةِ: قَالَ تَعَالَى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ - وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 53 - 34] وَالْهِبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، هِيَ الْخَالِيَةُ عَنْ غَرَضِ الْأَعْرَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، فَإِنَّ الْمُعْطِيَ لِغَرَضٍ مُسْتَعِيضٌ، وَلَيْسَ بِوَاهِبٍ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ.

تَنْبِيهٌ: الْفَتَّاحُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الرَّزَّاقِ.

(الْفَتَّاحُ) : أَيْ: الْحَاكِمُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ، مِنَ الْفَتْحِ، بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] لِأَنَّ الْحَكَمَ يَفْتَحُ الْأَمْرَ الْمُغْلَقَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ الْحَقَّ وَأَوْضَحَهُ، وَبَيَّنَ الْبَاطِلَ وَأَدْحَضَهُ بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَنَصْبِ الْحُجَجِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْعِلْمِ. وَقِيلَ: الَّذِي يَفْتَحُ خَزَائِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى أَصْنَافِ الْبَرِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عز وجل:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] وَقِيلَ الْمِفْتَاحُ مِنَ الْفَتْحِ وَهُوَ الْإِفْرَاجُ مِنَ الضِّيقِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، كَالَّذِي يُفَرِّجُ تَضَايُقَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْحَقِّ بِحُكْمِهِ، وَعَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ: الْفَتَّاحُ هُوَ الَّذِي لَا يُغْلِقُ وُجُوهَ النِّعْمَةِ بِالْعِصْيَانِ، وَلَا يَتْرُكُ إِيصَالَ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ بِالنِّسْيَانِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَعْرِفَتِهِ، وَفَتَحَ عَلَى الْعَاصِينَ أَبْوَابَ مَغْفِرَتِهِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي فَتَحَ عَلَى النُّفُوسِ بَابَ تَوْفِيقِهِ، وَعَلَى الْأَسْرَارِ بَابَ تَحْقِيقِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَسْعَى فِي الْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْ تَنْصُرَ الْمَظْلُومِينَ، وَأَنْ تَهْتَمَّ بِتَيْسِيرِ مَا تَعَسَّرَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، حَتَّى يَكُونَ لَكَ حَظٌّ مِنْ هَذَا الِاسْمِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ الْفَتَّاحُ لِلْأَبْوَابِ، الْمُيَسِّرُ لِلْأَسْبَابِ، الْكَافِي لِلْحُضُورِ، الْمُصْلِحُ لِلْأُمُورِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ قَلْبُهُ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِدُونِهِ فِكْرُهُ لَا يَزِيدُ بَلَاءٌ إِلَّا وَيَزِيدُ بِرَبِّهِ ثِقَةً وَرَجَاءً، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى يَفْتَحُ لِلنُّفُوسِ بَرَكَاتِ التَّوْفِيقِ، وَلِلْقُلُوبِ دَرَجَاتِ التَّحْقِيقِ، فَبِتَوْفِيقِهِ تُزَيَّنُ النُّفُوسُ بِالْمُجَاهَدَاتِ، وَبِتَحْقِيقِهِ تُزَيَّنُ الْقُلُوبُ بِالْمُشَاهَدَاتِ، وَمِنْ آدَابِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ الْفَتَّاحُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الِانْتِظَارِ لِنَيْلِ كَرَمِهِ، مُسْتَدِيمَ التَّطَلُّعِ لِوُجُودِ لُطْفِهِ، سَاكِنًا تَحْتَ جَرَيَانِ حُكْمِهِ، عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ، قَالَ رَجُلٌ وَهُوَ مُؤْذِنٌ عَلَى الْجَارِيَةِ لِعَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: إِنِّي أُحِبُّكِ، فَذَكَرَتْهُ لَعَلِيٍّ، فَقَالَ، قَوْلِي لَهُ: وَأَنَا أَيْضًا أُحِبُّكَ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَتْ ذَلِكَ. فَقَالَ: إذًا نَصْبِرُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ، فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنِ الْقِصَّةِ فَأَخْبَرَهُ بِالصِّدْقِ، فَقَالَ: خُذْهَا فَهِيَ لَكَ قَدْ حَكَمَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: مُبْدِعُ الْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]

ص: 1568

(الرَّزَّاقُ) : أَيْ: خَالِقُ الْأَرْزَاقِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا. وَالرِّزْقُ هُوَ الْمُنْتَفَعُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الرِّزْقُ هُوَ الْمِلْكُ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ رِزْقًا لَهُ وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنْ يَدِرَّ عَلَى الْبَهَائِمِ رِزْقَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَلَيْسَ مِلْكًا لَهَا، وَهُوَ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ لِلْأَبْدَانِ كَالْأَقْوَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَبَاطِنٌ لِلْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ كَالْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الرَّزَّاقُ مَنْ رَزَقَ الْأَشْبَاحَ فَوَائِدَ لُطْفِهِ، وَالْأَرْوَاحَ عَوَائِدَ كَشْفِهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: الرَّزَّاقُ مَنْ غَذَّى نُفُوسَ الْأَبْرَارِ بِتَوْفِيقِهِ، وَجَلَا قُلُوبَ الْأَخْيَارِ بِتَصْدِيقِهِ، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يَتَحَقَّقَ مَعْنَاهُ لِيَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا يَنْظُرُ الرِّزْقَ وَلَا يَتَوَقَّعُهُ إِلَّا مِنْهُ، فَيَكِلُ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ فِيهِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ يَدَهُ خِزَانَةَ رَبِّهِ، وَلِسَانَهُ وَصْلَةً بَيْنَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ فِي وُصُولِ الْأَرْزَاقِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجُسْمَانِيَّةِ إِلَيْهِمْ بِالْإِرْفَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَصَرْفِ الْمَالِ وَدُعَاءِ الْخَيْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِيَنَالَ حَظًّا وَافِرًا مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أَفْرَدَهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِدَوَامِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: مُنْذُ عَرَفْتُ خَالِقِي مَا شَكَكْتُ فِي رِزْقِي، وَقِيلَ لِعَارِفٍ: إِيشِ الْقُوتُ؟ فَقَالَ: ذِكْرُ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَقَدْ يَقَعُ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنْ يَسْأَلَ الْحَقِيرَ مِنَ الْحَقِيرِ لِيُعْطِيَهُ الْخَطِيرَ. قَالَ تَعَالَى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] كَمَا وَقَعَ لِلشِّبْلِيِّ أَنَّهُ أَرْسَلَ لِغَنِيٍّ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَلْ دُنْيَاكَ مِنْ مَوْلَاكَ؟ فَأَجَابَهُ: بِأَنَّ الدُّنْيَا حَقِيرَةٌ وَأَنْتَ حَقِيرٌ، وَإِنَّمَا أَسْأَلُ الْحَقِيرَ مِنَ الْحَقِيرِ، وَلَا أَطْلُبُ مِنْ مَوْلَايَ غَيْرَ مَوْلَايَ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ:«يَا مُوسَى سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينِكَ» ، لِأَنَّ سُؤَالَ الْخَلْقِ فِيمَا أَجْرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُنَافِي سُؤَالَهُ تَعَالَى فِي تَيْسِيرِ أَسْبَابِ وُصُولِ ذَلِكَ.

(الْعَلِيمُ) : أَيِ: الْعَالِمُ الْبَالِغُ فِي الْعِلْمِ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ، السَّابِقُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا، كُلِّيَّاتِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ، وَيَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْجَائِزَاتِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، وَيَعْلَمُ الْمُسْتَحِيلَ مِنْ حَيْثُ اسْتِحَالَتُهُ وَانْتِفَاءُ كَوْنِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ، مِنْ ثَمَّةَ قَالَ عَزَّ قَائِلًا:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلِذَا قِيلَ مَا مِنْ عَامٍّ إِلَّا وَخُصَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] وَأَمْثَالِهِ قِيلَ: هَذَا أَيْضًا عَامٌّ ثُمَّ خُصَّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِحَالَتِهِ صَبَرَ عَلَى بَلِيَّتِهِ وَشَكَرَ عَلَى عَطِيَّتِهِ وَاسْتَغْفَرَ مِنْ خَطِيئَتِهِ.

وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالْخَفِيَّاتِ خَبِيرٌ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ مِنَ الْخَطَرَاتِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ مَوَاضِعِ اطِّلَاعِهِ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِجَمِيلِ سَتْرِهِ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي أَرَاكُمْ، فَالْخَلَلُ فِي إِيمَانِكُمْ، وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَرَاكُمْ فَلِمَ جَعَلْتُمُونِي أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكُمْ؟ .

(الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ) : أَيْ: مُضَيِّقُ الرِّزْقِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ وَمُوَسِّعُهُ. وَقِيلَ: قَابِضُ الْأَرْوَاحِ عَنِ الْأَجْسَادِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَنَاشِرُهَا فِيهَا عِنْدَ الْحَيَاةِ، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَاهُمَا أَنَّهُ يَقْبِضُ الْقُلُوبَ، وَيَبْسُطُهَا تَارَةً بِالضَّلَالَةِ وَالْهُدَى، وَأُخْرَى بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَقِيلَ: الْقَابِضُ الَّذِي يُكَاشِفُكَ بِجَلَالِهِ فَيُفْنِيكَ، وَيُكَاشِفُكَ بِجَمَالِهِ فَيُغْنِيكَ. قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] أَيْ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْأَشْبَاحِ وَالْأَرْوَاحِ، إِذَا قَبَضَ فَلَا طَاقَةَ، وَإِذَا بَسَطَ فَلَا فَاقَةَ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُمَا مَعًا لِيَدُلَّا عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الْحِكْمَةِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ تُرَاقِبَ الْحَالَيْنِ، فَلَا تَعِيبُ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ فِيهِ إِقْبَالٌ وَلَا إِدْبَارٌ، وَلَا تَيْأَسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ، وَلَا تَأْمَنُ عَلَى عَطَاءٍ وَتَرَى الْقَبْضَ عَدْلًا مِنْهُ فَتَصْبِرُ، وَالْبَسْطَ فَضْلًا فَتَشْكُرُ، فَتَكُونُ رَاضِيًا بِقَضَائِهِ حَالًا وَمَآلًا.

ص: 1569

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: هُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ، فَإِذَا غَلَبَ الْخَوْفُ انْقَبَضَ، وَإِذَا غَلَبَ الرَّجَاءُ انْبَسَطَ. وَيُحْكَى عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ: الْخَوْفُ يَقْبِضُنِي، وَالرَّجَاءُ يَبْسُطُنِي، وَالْحَقُّ يَجْمَعُنِي، وَالْحَقِيقَةُ تُفَرِّقُنِي، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُوحِشُنِي غَيْرُ مُؤْنِسُنِي، ثُمَّ قَالَ: وَالْقَبْضُ يُوجِبُ إِيحَاشَهُ وَالْبَسْطُ يُوجِبُ إِينَاسَهُ اهـ. وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنَّ يَجْتَنِبَ الضَّجَرَ حَالَ قَبْضِهِ، وَيَتْرُكَ الِانْبِسَاطَ وَتَرْكَ الْأَدَبِ وَقْتَ بَسْطِهِ، وَمِنْ هَذَا خَشِيَ الْأَكَابِرُ.

" الْخَافِضُ، الرَّافِعُ ": أَيْ: يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، أَوْ يَخْفِضُ الْكُفَّارَ بِالْخِزْيِ وَالصَّغَارِ، وَيَرْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّصْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ، أَوْ يَخْفِضُ أَعْدَاءَهُ بِالْإِبْعَادِ، وَيَرْفَعُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْإِسْعَادِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ لَا تَثِقَ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِكَ، وَلَا تَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عُلُومِكَ وَأَعْمَالِكَ، وَالتَّخَلُّقُ بِهِمَا أَنْ تَخْفِضَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِخَفْضِهِ كَالنَّفْسِ وَالْهَوَى، وَتَرْفَعَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِرَفْعِهِ كَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ، رُؤِيَ رَجُلٌ فِي الْهَوَاءِ فَقِيلَ لَهُ: بِمَ هَذَا؟ فَقَالَ: جَعَلْتُ هَوَايَ تَحْتَ قَدَمِي فَسَخَّرَ اللَّهُ لِيَ الْهَوَاءَ.

(الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ) : الْإِعْزَازُ جَعْلُ الشَّيْءِ ذَا كَمَالٍ يَصِيرُ بِسَبَبِهِ مَرْغُوبًا إِلَيْهِ قَلِيلَ الْمِثَالِ، وَالْإِذْلَالُ ضِدُّهُ، وَالْإِعْزَازُ الْحَقِيقِيُّ تَخْلِيصُ الْمَرْءِ عَنْ ذُلِّ الْحَاجَةِ، وَاتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ، وَجَعْلُهُ غَالِبًا عَلَى مُرَادِهِ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْمُعِزُّ الَّذِي أَعَزَّ أَوْلِيَاءَهُ بِعِصْمَتِهِ، ثُمَّ غَفَرَ لَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، ثُمَّ أَكْرَمَهُمْ بِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، وَالْمُذِلُّ الَّذِي أَذَلَّ أَعْدَاءَهُ بِحِرْمَانِ مَعْرِفَتِهِ، وَارْتِكَابِ مُخَالَفَتِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى دَارِ عُقُوبَتِهِ، وَأَهَانَهُمْ بِطَرْدِهِ وَلَعْنَتِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنَّكَ لَمْ تَتَعَزَّزْ بِغَيْرِهِ، وَلَمْ تَتَذَلَّلْ لِسِوَاهُ، وَأَنْ تُعِزَّ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلَّ الْبَاطِلَ وَحِزْبَهُ، وَتَسْأَلَ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِمُوجِبَاتِ عِزِّهِ، وَتَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ قَطِيعَةِ ذُلِّهِ.

وَقَالَ الْمَشَايِخُ: مَا أَعَزَّ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَى ذُلِّ نَفْسِهِ، وَمَا أَذَلَّ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ مَا يَرِدُ إِلَى تَوَهُّمِ عِزٍّ. قِيلَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] تُعِزُّ كُلَّ قَوْمٍ مِنَ الزُّهَّادِ، وَالْعُبَّادِ، وَالْمُرِيدِينَ، وَالْعَارِفِينَ، وَالْمُحِبِّينَ، وَالْمُوَحِّدِينَ، بِمَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِمْ، فَاللَّهُ يُعِزُّ الزَّاهِدَ بِعُزُوفِ نَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيَا، وَيُعِزُّ الْعَابِدَ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى وَتَرْكِ الْهَوَى، وَيُعِزُّ الْمُرِيدِينَ بِزَهَادَتِهِمْ عَنْ صُحْبَةِ الْوَرَى، وَيُعِزُّ الْعَارِفَ بِتَأْهِيلِهِ لِمَقَامِ النَّجْوَى، وَيُعِزُّ الْمُحِبَّ بِالْكَشْفِ وَاللِّقَاءِ وَبِالْغِنَى عَنْ كُلِّ مَا سِوَى، وَيُعِزُّ الْمُوَحِّدَ بِشُهُودِ جَلَالَةِ مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ وَالْعَظَمَةُ وَالْبَهَاءُ.

(السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، إِدْرَاكُ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ انْكِشَافًا تَامًّا، فَهُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الثَّمَانِيَةِ، وَهُمَا غَيْرُ صِفَةِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَصَّتَانِ بِإِدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْعِلْمُ يَعُمُّهُمَا وَغَيْرَهَا كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ الِانْكِشَافَ بِهِمَا أَتَمُّ فَنُقْصَانٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ وَلَيْسَتَا زَائِدَتَيْنِ عَلَيْهِ، لِمَا قَرَّرُوا أَنَّ الرُّؤْيَةَ نَوْعُ عِلْمٍ، وَالسَّمْعُ كَذَلِكَ. غَايَتُهُ أَنَّهُمَا وَإِنْ رَجَعَا إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، فَإِثْبَاتُ صِفَةِ الْعِلْمِ إِجْمَالًا لَا يُغْنِي فِي الْعَقِيدَةِ عَنْ إِثْبَاتِهِمَا تَفْصِيلًا بِلَفْظِهِمَا الْوَارِدَيْنِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّا مُتَعَبّدُونَ بِمَا وَرَدَ فِيهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْحَمْلِ مَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ مِنْ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى الْعِلْمِ، فَيُقَالُ: لَمَّا وَرَدَ النَّقْلُ بِهِمَا آمَنَّا بِذَلِكَ، وَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ بِالْآلَتَيْنِ الْمَعْرُوفَتَيْنِ، وَاعْتَرَفْنَا بِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَمَنْ جَعَلَهُمَا مُرَادِفَيْنِ لِلْعِلْمِ، فَقَدْ وَهِمَ، فَمُسَلَّمٌ إِذِ الْعِلْمُ أَعَمُّ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَوَهَّمُ تَرَادُفَهُمَا لَهُ، لَا فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، نَعَمْ أَتَمِّيَّتُهَا مَقْصُورَةٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ الْخَالِقِ، بَلْ لَا يَتَحَقَّقُ الْعِلْمُ الْيَقِينُ فِي حَقِّنَا إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَى الْحِسِّ، فَمَنْ لَمْ يَذُقْ لَمْ يَعْرِفْ، وَأَمَّا عِلْمُهُ تَعَالَى فَمُحِيطٌ بِالْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْمُرِّيَّاتِ وَالْحُلْوِيَّاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ، مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِي الصِّفَاتِ، ثُمَّ حَظُّكَ مِنَ الِاسْمَيْنِ الْمُعَظَّمَيْنِ، وَالْوَصْفَيْنِ الْمُكَرَّمَيْنِ أَنْ تَتَحَقَّقَ أَنَّكَ بِمَسْمَعٍ وَمَرْأًى مِنْهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكَ، وَنَاظِرٌ إِلَيْكَ، رَقِيبٌ لِجَمِيعِ أَحْوَالِكَ مِنْ أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ، فَاحْذَرْ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ أَخْفَى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ مَا لَا يُخْفِيهِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدِ اسْتَهَانَ بِنَظَرِ اللَّهِ، فَمَنْ قَارَفَ مَعْصِيَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، فَمَا أَجْرَأَهُ وَمَا أَجْسَرَهُ، وَمَا ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَاهُ، فَمَا أَكْفَرَهُ وَمَا أَكْفَرَهُ، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا عَصَيْتَ مَوْلَاكَ فَاعْصِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَرَاكَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَقَالِ تَعْلِيقٌ بِالْمُحَالِ، وَمِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ سَمْعَهُمْ وَبَصَرَهُمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ.

ص: 1570

وَمِنَ الْآدَابِ أَيْضًا: أَنْ تَكْتَفِيَ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ تَعَالَى عَنِ انْتِقَامِكَ وَانْتِصَارِكَ لِنَفْسِكَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} [الحجر: 97] ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ سَلَّاهُ وَخَفَّفَ عَلَيْهِ بِحَمْلِ أَثْقَالِ بَلْوَاهُ حَيْثُ أَثْقَالُ بَلْوَاهُ حَيْثُ أَشْغَلَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98] . . إِلَخْ.

أَيْ: فَاتَّصِفْ أَنْتَ بِمَدْحِنَا وَثَنَائِنَا، وَسُجُودِنَا وَشُهُودِنَا، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا تَأَذَّيْتَ بِسَمَاعِ السُّوءِ مِنْهُمْ، فَاسْتَرْوِحْ بِرَوْحِ ثَنَائِكَ عَلَيْنَا.

(الْحَكَمُ) : أَيِ: الْحَاكِمُ الَّذِي لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَمَرْجِعُهُ إِمَّا إِلَى الْقَوْلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُبَيِّنُ لِكُلِّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِمَّا إِلَى الْمُمَيِّزِ بَيْنَ الشَّقِيِّ وَالسَّعِيدِ بِالْعِقَابِ وَالْإِثَابَةِ، وَإِمَّا إِلَى الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ بِنَصْبِ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ الْحَكَمُ اسْتَسْلَمْتَ لِحُكْمِهِ، وَانْقَدْتَ لِأَمْرِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْضَ بِقَضَائِهِ اخْتِيَارًا أَمْضَاهُ فِيكَ إِجْبَارًا، وَإِنْ رَضِيتَ بِهِ طَوْعًا قَلْبِيًّا لَطَفَ بِكَ لُطْفًا خَفِيًّا، وَتَعِيشُ رَاضِيًا مَرْضِيًّا، وَلَا تَحْتَاجُ أَنْ تُحَاكِمَ إِلَى غَيْرِهِ حَيْثُ حَصَلَ لَكَ الرِّضَا بِحُكْمِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:( «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ» ) فَالتَّقَرُّبُ بِهِ تَعَلُّقًا بِالشَّكْوَى فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَبِالِاعْتِمَادِ فِي كُلِّ أَمْرٍ عَلَيْهِ.

وَتَخَلُّقًا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بَيْنَ قَلْبِكَ وَنَفْسِكَ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْأَزَلِ لِعِبَادِهِ بِمَا شَاءَ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، وَقَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، فَمَنْ حَكَمَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ لَا يَشْقَى أَبَدًا، وَمَنْ حَكَمَ لَهُ بِالشَّقَاوَةِ لَا يَسْعَدُ أَبَدًا، وَلِذَا قَالُوا: مَنْ أَقْصَتْهُ السَّوَابِقُ لَمْ تُدِنْهِ الْوَسَائِلُ. وَقَالُوا: مَنْ قَعَدَ بِهِ جِدُّهُ لَمْ يَنْهَضْ بِهِ جَدُّهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَصْحَابُ سَوَابِقَ، فَتَكُونُ فِكْرَتُهُمْ أَبَدًا فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الرَّبِّ فِي الْأَزَلِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: أَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ أَمْرُهُمْ، فَإِنَّ الْأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْعَاقِبَةُ مَسْتُورَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكَ صَفَاءُ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ، فَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لَاحَتْ عَلَيْهِ أَنْوَارُ الْإِرَادَةِ، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ آثَارُ السَّعَادَةِ، وَانْتَشَرَ صِيتُهُ فِي الْآفَاقِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَوْلِيَائِهِ بِالْإِطْلَاقِ، بُدِّلَ بِالْوَحْشَةِ صَفَاؤُهُ وَبِالْغَيْبَةِ ضِيَاؤُهُ وَأَنْشَدُوا:

أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ

وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ

وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا

وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ

وَالثَّالِثُ: أَصْحَابُ الْوَقْتِ وَهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ بِالتَّفَكُّرِ فِي السَّوَابِقِ وَاللَّوَاحِقِ، بَلْ بِمُرَاعَاةِ وَقَتِهِ، وَأَدَاءِ مَا كُلِّفُوا لَهُ مِنْ حُكْمِهِ، وَقِيلَ: الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَصْحَابُ الشُّهُودِ، وَهُمُ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْحَقِّ، فَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِشُهُودِ الْحَقِّ عَنْ مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَفَرَّغُونَ إِلَى مُرَاعَاةِ وَقْتٍ وَزَمَانٍ، وَلَا يَتَطَلَّعُونَ لِشُهُودِ حِينٍ: وَأَوَانٍ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْمَنْعُ، وَسَمَّى الْعُلُومَ حِكَمًا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنْ شِيَمِ الْجُهَّالِ.

(الْعَدْلُ) : أَيِ: الْبَالِغُ فِي الْعَدَالَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا لَهُ فِعْلُهُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ خِلَافُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الصِّفَةِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُسَمَّى نَفْسَهُ عَدْلًا، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْبَرِئُ مِنَ الظُّلْمِ فِي أَحْكَامِهِ، الْمُنَزَّهُ عَنِ الْجَوْرِ فِي أَفْعَالِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي أُقْضِيَتِهِ، فَلَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ جَزَعًا مِنْ أَحْكَامِهِ، وَلَا حَرَجًا مِنْ نَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ، فَتَسْتَرِيحَ بِالِاسْتِسْلَامِ إِلَيْهِ، وَبِالتَّوَكُّلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَتَرَى الْكُلَّ مِنْهُ حَقًّا وَعَدْلًا، وَتَسْتَعْمِلُ كُلَّ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ مِنْهُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَتَخَافُ سَطْوَةَ عَدْلِهِ، وَتَرْجُو رَأْفَةَ فَضْلِهِ، وَلَا تَأْمَنُ مِنْ مَكْرِهِ، وَلَا تَيْأَسُ مِنْ فَضْلِهِ، وَتَجْتَنِبُ فِي مَجَامِعِ أُمُورِكَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، كَالْفُجُورِ وَالْخُمُودِ فِي الْأَفْعَالِ الشَّهَوِيَّةِ، وَالتَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ فِي الْأَفْعَالِ الْغَضَبِيَّةِ، وَتُلَازِمُ أَوْسَاطَهَا الَّتِي هِيَ الْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، وَالْحِكْمَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْ مَجْمُوعِهَا بِالْعَدَالَةِ لِتَنْدَرِجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .

ص: 1571

(اللَّطِيفُ) : أَيْ: الْبَرُّ بِعِبَادِهِ الَّذِي يُوصِلُ إِلَيْهِمْ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَيُهَيِّئُ لَهُمْ مَا يَسْعَوْنَ بِهِ إِلَى الْمَصَالِحِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَحْتَسِبُونَ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْجَمِيلِ بِمَعْنَى: الْمُجْمِلُ، وَقِيلَ: الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ وَمَا لَطُفَ مِنْهَا، وَقِيلَ: هُوَ الْخَفِيُّ عَنِ الْإِدْرَاكِ. قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي حِكَمِهِ: مَنْ ظَنَّ انْفِكَاكَ لُطْفِهِ عَنْ قَدْرِهِ فَذَلِكَ لِقُصُورِ نَظَرِهِ، وَمِنَ التَّخَلُّقِ بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يَتَلَطَّفَ بِالْخَلْقِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19] قِيلَ: مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ الْكِفَايَةِ وَكَلَّفَهُمْ دُونَ الطَّاقَةِ، وَمِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى تَوْفِيقُ الطَّاعَاتِ، وَتَيْسِيرُ الْعِبَادَاتِ، وَحِفْظُ التَّوْحِيدِ فِي الْقُلُوبِ وَصِيَانَتُهُ مِنَ الْعُيُوبِ.

(الْخَبِيرُ) : أَيْ: الْعَالِمِ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْخِبْرَةِ، وَهِيَ الْعِلْمُ بِالْخَفَايَا الْبَاطِنَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَمَّا عَلِمَهُ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَهِدْتَ أَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى سِرِّكَ الْعَلِيمُ بِبَوَاطِنِ أَمْرِكَ اكْتَفَيْتَ بِعِلْمِهِ، وَنَسِيتَ غَيْرَهُ فِي جَنْبِ ذِكْرِهِ، وَكُنْتَ بِزِمَامِ التَّقْوَى مَشْدُودًا، وَعَنْ طَرِيقِ الْغَيِّ مَصْدُودًا، وَتَعَيَّنَ عَلَيْكَ تَرْكُ الرِّيَاءِ وَلُزُومُ الْإِخْلَاصِ، لِتَصِلَ إِلَى مَقَامِ أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ، وَأَنْ لَا تَتَغَافَلَ عَنْ بَوَاطِنِ أَحْوَالِكَ، وَتَشْتَغِلَ بِإِصْلَاحِهَا، وَتُلَافِيَ مَا يَظْهَرُ لَكَ مِنْهَا مِنَ الْقَبَائِحِ بِصَرْفِهَا إِلَى فَلَاحِهَا، وَأَنْ تَكُونَ فِي أَمْرِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ خَبِيرًا، وَبِمَا يَجِبُ عَلَيْكَ أَوْ يُنْدَبُ لَكَ بَصِيرًا.

(الْحَلِيمُ) : أَيِ: الَّذِي لَا يُعَجِّلُ عُقُوبَةَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يُؤَخِّرُهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ غَضَبٌ، وَلَا يَحْمِلُهُ غَيْظٌ عَلَى تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ، فَالتَّقَرُّبُ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ تَشْكُرَ مِنَّتَهُ فِي حِلْمِهِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ اغْتِرَارٍ بِكَرَمِهِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَكْظِمَ الْغَيْظَ وَتُطْفِئَ نَارَ الْغَضَبِ بِالْحِلْمِ، وَكَمَالُهُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَإِذَا سَتَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَالِ بِفَضْلِهِ، فَالْمَأْمُولُ مِنْهُ أَنْ يَعْفُوَ فِي الْمَآلِ بِلُطْفِهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى التَّنْزِيهِ.

(الْعَظِيمُ) : أَصْلُهُ مِنْ عَظُمَ الشَّيْءُ إِذَا كَبُرَ عَظْمُهُ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ جِسْمٍ كَبِيرِ الْمِقْدَارِ كِبَرًا يَمْلَأُ الْعَيْنَ كَالْجَمَلِ وَالْفِيلِ، أَوْ كِبَرًا يَمْنَعُ إِحَاطَةَ الْبَصَرِ بِجَمِيعِ أَقْطَارِهِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ثُمَّ لِكُلِّ شَيْءٍ كَبِيرِ الْقَدْرِ عَلَى الْمَرْتَبَةِ، فَالْعَظِيمُ الْمُطْلَقُ الْبَالِغُ إِلَى أَقْصَى مَرَاتِبِ الْعَظَمَةِ، هُوَ الَّذِي لَا يَتَصَوَّرُهُ عَقْلٌ وَلَا يُحِيطُ بِكُنْهِهِ بَصِيرَةٌ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَرْجِعُهُ إِلَى التَّنْزِيهِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْعَظِيمُ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اسْتِحْقَاقِ عُلُوِّ الْوَصْفِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْقِدَمِ، وَوُجُودِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِيجَادِ، وَشُمُولِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَنُفُوذِ الْإِرَادَةِ فِي الْمُتَنَاوَلَاتِ، وَإِدْرَاكِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ بِجَمِيعِ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمَرْئِيَّاتِ، وَتَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنْ قَبُولِ الْمُحْدَثَاتِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَهِدْتَ عَظَمَتَهُ صَغُرَ فِي عَيْنِكَ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا مَا لَهُ نِسْبَةٌ مِنْ تَعْظِيمِهِ تَعَالَى، وَاسْتَحْقَرْتَ نَفْسَكَ وَذَلَّلْتَهَا لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِكُلِّيَّتِهَا بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ مَا يُحِبُّهُ وَيُرْضِيهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا؛ لِأَنَّ تَلَازُمَ التَّذْلِيلِ وَالِافْتِقَارِ عَلَى الدَّوَامِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَتَعَاظَمَ عَنِ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ وَارْتِكَابِ الْآثَامِ.

(الْغَفُورُ) : أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ وَهِيَ صِيَانَةُ الْعَبْدِ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعِقَابِ بِالتَّجَاوُزِ عَنْ ذُنُوبِهِ مِنَ الْغَفْرِ وَالسَّتْرِ وَإِلْبَاسِ الشَّيْءِ مَا يَصُونُهُ عَنِ الدَّنَسِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْغَفَّارَ أَبْلَغُ مِنْهُ لِزِيَادَةِ بِنَائِهِ، وَالْأَحْسَنُ مَا قِيلَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَفَّارِ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْكَيْفِيَّةِ، وَفِي الْغَفَّارِ بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ، وَلَعَلَّ إِيرَادَ كُلٍّ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ فِي الْأَسْمَاءِ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا، وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَظِيمُ الرَّحْمَةِ عَمِيمُهَا، كَبِيرُ الْمَغْفِرَةِ كَثِيرُهَا، وَالْإِشْعَارُ بِأَنَّ رَحْمَتَهُ أَغْلَبُ مِنْ غَضَبِهِ، وَغُفْرَانَهُ أَكْثَرُ مِنْ عِقَابِهِ. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَصْفُ الْكَامِلِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلَا يُوجَدُ فِيهِ صِفَةٌ عَلَى وَصْفِ النُّقْصَانِ. وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي جَوَابِ الْإِشْكَالِ: الْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ تَعَالَى، لِمَا أَنَّ الظُّلْمَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُحَالُ عَلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا أُورِدَ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهِ لَكَانَ مَوْصُوفًا عَلَى وَجْهِ الْأَبْلَغِيَّةِ، فَلَزِمَ مِنْ نَفْيِ الْمُبَالَغَةِ نَفْيُ أَصْلِ الْفِعْلِ لِعَدَمِ انْفِكَاكِ وَصْفِهِ تَعَالَى عَنِ الْمُبَالَغَةِ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ السَّامِعِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِمَعْنَى السَّمِيعِ لِفَوَاتِ الْمُبَالَغَةِ وَأَمَّا قَوْلُ الْجَزَرِيِّ:

ص: 1572

يَقُولُ رَاجِي عَفْوَ رَبٍّ سَامِعٍ، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مُجِيبٌ لِمَنْ دَعَاهُ، وَغَيْرُ مُخَيِّبٍ لِمَنْ رَجَاهُ، ثُمَّ التَّقَرُّبُ بِهِ تَعَالَى تَعَلُّقًا بِلُزُومِ الِاسْتِغْفَارِ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ، خُصُوصًا أَوْقَاتَ الْأَسْحَارِ وَتَخَلُّقًا بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ آذَاكَ.

(الشَّكُورُ) : أَيِ الَّذِي يُعْطِي الْأَجْرَ الْجَزِيلَ عَلَى الْأَمْرِ الْقَلِيلِ، فَيَرْجِعُ إِلَى صِفَاتِ الْفِعْلِ. حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: حَاسَبَنِي فَخَفَّتْ كِفَّةُ حَسَنَاتِي، فَوُضِعَ فِيهَا صُرَّةٌ فَثَقُلَتْ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَفُّ تُرَابٍ أَلْقَيْتَهُ فِي قَبْرِ مُسْلِمٍ. قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وَقِيلَ: هُوَ الْمُثْنِي عَلَى الْمُطِيعِينَ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ، الْمُجَازِي عِبَادَهُ عَلَى شُكْرِهِمْ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْزِيلِ مَنْزِلَةَ الْمُعَامَلَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَعْرِفَ نِعَمَ اللَّهِ، وَيَقُومَ بِمَوَاجِبِ شُكْرِهِ، وَيُوَاظِبَ عَلَى وَظَائِفِ أَمْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ شَاكِرًا لِلنَّاسِ مَعْرُوفَهُمْ، فَفِي الْحَدِيثِ ( «لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ» ) بِنَصْبِهِمَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ بِرَفْعِهِمَا وَنَصْبِهِمَا، وَرَفْعِ أَحَدِهِمَا وَنَصْبِ الْآخَرِ، وَكُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى تَعْظِيمِ الْوَاسِطَةِ، مَعَ أَنَّ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَالْمَشْهُورُ فِي حَدِّ الشُّكْرِ بِأَنَّهُ: صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ نِعَمِهِ إِلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] أَيْ: قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَشْهَدُ أَنَّ النِّعْمَةَ مِنِّي، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ الْغَيْبَةُ عَنْ شُهُودِ النِّعْمَةِ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ، وَلَا دَخْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِمَبْحَثِ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ عِنْدَ كَثِيرِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَوْلِيَاءُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.

(الْعَلِيُّ) : بِتَشْدِيدٍ، فَعِيلٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْبَالِغُ فِي عُلُوِّ الرُّتْبَةِ بِحَيْثُ لَا رُتْبَةَ إِلَّا وَهِيَ مُنْحَطَّةٌ عَنْ رُتْبَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الَّذِي عَلَا عَنِ الْإِدْرَاكِ ذَاتُهُ وَكَبُرَ عَنِ التَّصَوُّرِ صِفَاتُهُ. وَقَالَ آخَرُ: هُوَ الَّذِي تَاهَتِ الْقُلُوبُ فِي جَلَالِهِ، وَعَجَزَتِ الْعُقُولُ عَنْ وَصْفِ كَمَالِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا شَاهَدْتَ عُلُوَّهُ سَمَتْ هِمَّتُكَ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتَهَا فِي كُلِّ أَحْوَالِكَ وَاقِفَةً عَلَيْهِ، وَذَلَّلْتَ نَفْسَكَ فِي طَاعَتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَبَذَلْتَ رُوحَكَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، حَتَّى تَبْلُغَ الْغَايَةَ فِي الْكَمَالَاتِ الْأُنْسِيَّةِ، وَالْحَالَاتِ الْقُدُسِيَّةِ، وَالْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ، مِنَ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ:( «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا» ) . وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْهِمَّةِ وَالْخِدْمَةِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْخِدْمَةَ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنَ الْهِمَّةِ، فَلَا خِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ عُلُوِّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِتَكْبِيرِ الْعِبَادِ لَهُ كَبِيرًا وَلَا جَلِيلًا بِإِجْلَالِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ كَثِيرًا، بَلْ مَنْ وَفَّقَهُ لِإِجْلَالِهِ فَبِتَوْفِيقِهِ أَجَلَّهُ، وَمَنْ أَيَّدَهُ بِتَكْبِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ فَقَدْ رَفَعَ مَحَلَّهُ، وَمِنْ حَقِّ مَنْ عَرِفَ عَظَمَتَهُ أَنْ لَا يَذِلَّ لِخَلْقِهِ، بَلْ يَتَوَاضَعَ لَهُمْ لِأَجْلِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَذَلَّلَ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ رَفَعَ اللَّهُ قَدْرَهُ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُ لَيْسَ لَهُ الْكِبْرُ وَلَهُ الْعِزَّةُ وَلَهُ التَّوَاضُعُ لَا الْمَذَلَّةُ.

(الْكَبِيرُ) : وَضِدُّهُ الصَّغِيرُ، يُسْتَعْمَلَانِ بِاعْتِبَارِ مَقَادِيرِ الْأَجْسَامِ، وَلِاعْتِبَارِ الرُّتَبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ وَأَشْرَفُهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ غَنِيٌّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَا سِوَاهُ حَادِثٌ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَبِيرٌ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْحَوَاسِّ وَإِدْرَاكِ الْعُقُولِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ التَّنْزِيهِ، قِيلَ فِي مَعْنَى (اللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَكْبَرُ، أَوْ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُدْرِكَ غَيْرُهُ كُنْهَ كِبْرِيَائِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَشْهَدَ كِبْرِيَاءَهُ دَائِمًا حَتَّى تَنْسَى كِبْرِيَاءَ غَيْرِهِ، وَتَجْتَهِدَ فِي تَكْمِيلِ نَفْسِكَ عِلْمًا وَعَمَلًا بِحَيْثُ يَتَعَدَّى كَمَالُكَ إِلَى غَيْرِكَ، فَيَقْتَدِي بِآثَارِكَ، وَيَقْتَبِسُ مِنْ أَنْوَارِكَ، وَتَقَرُّبُكَ بِهَذَا الِاسْمِ تَعَلُّقًا أَنْ تُبَالِغَ فِي التَّوَاضُعِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَحْتَرِزَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ بِلُزُومِ الْخِدْمَةِ وَحِفْظِ الْحُرْمَةِ، فَفِي الصَّحِيحِ:( «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمًا قَصَمْتُهُ» ) . أَيْ: أَهْلَكْتُهُ وَكَسَرْتُ عُنُقَهُ، وَاخْتُصَّتِ الْعَظَمَةُ بِالْإِزَارِ، وَالْكِبْرِيَاءُ بِالرِّدَاءِ، لِأَنَّ فِي الْكَبِيرِ مِنَ الْفَخَامَةِ فَوْقَ الْعَظِيمِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا لَهُ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا، وَمِنْ ثَمَّ قَصَمَ الْمُنَازِعَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

ص: 1573

(الْحَفِيظُ) : أَيِ: الْبَالِغُ فِي الْحِفْظِ يَحْفَظُ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الزَّوَالِ وَالِاخْتِلَالِ مُدَّةَ مَا شَاءَ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أَيِ: السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ يَحْفَظُ عَلَى الْعِبَادِ أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107] وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَحْفَظَ جَوَارِحَكَ عَنِ الْأَوْزَارِ، وَبَاطِنَكَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَغْيَارِ، وَتَكْتَفِيَ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ بِتَدْبِيرِهِ، وَتَرْضَى بِحُسْنِ قَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ. قِيلَ: مَنْ حَفِظَ لِلَّهِ جَوَارِحَهُ حَفِظَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وَمَنْ حَفِظَ لِلَّهِ قَلْبَهُ حَفِظَ عَلَيْهِ حَظَّهُ. وَحُكِيَ أَنَّهُ وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ بَصَرُهُ يَوْمًا عَلَى مَحْظُورٍ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا أُرِيدُ بَصَرِي لِأَجْلِكَ، فَإِذَا صَارَ سَبَبًا لِمُخَالَفَةِ أَمْرِكَ، فَاسْلُبْنِيهِ. فَعَمِيَ، وَكَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَاحْتَاجَ الْمَاءَ لِلطَّهَارَةِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ فَقَالَ: إِلَهِي إِنَّمَا قُلْتُ خُذْ بَصَرِي لِأَجْلِكَ، فَفِي اللَّيْلِ أَحْتَاجُهُ لِأَجْلِكَ. فَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ.

(الْمُقِيتُ) : بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ. أَيْ: خَالِقُ الْأَقْوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْأَرْزَاقِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَمُوَصِّلُهَا إِلَى الْأَشْبَاحِ وَمُعْطِيهَا لِلْأَرْوَاحِ، مِنْ أَقَاتَهُ يُقِيتُهُ: إِذَا أَعْطَاهُ قُوتَهُ.

وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ( «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضِيِّعَ مَنْ يُقِيتُ» ) . فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُقْتَدِرُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، وَقِيلَ هُوَ الشَّاهِدُ الْمُطَّلِعُ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ أَقَاتَ الشَّيْءَ: إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَهُمَا أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُقِيتُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَعْنَى الِاقْتِدَارِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَازَنَةِ مِنْ حَيْثُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ وَإِقَامَةُ الْكَفَافِ بِالْقُوتِ الْمُقَدَّرِ لِلْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَزِيَادَةٍ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ الْحُسْنِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِيهِ مَا فِيهِ وَلَمْ يُظْهِرْ مَا فِيهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرِفْتَ أَنَّهُ الْمُقِيتُ نَسِيتَ ذِكْرَ الْقُوتِ بِذِكْرِهِ، كَمَا اتَّفَقَ لِسَهْلٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُوتِ، فَقَالَ: هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَلَعَلَّهُ انْتَقَلَ مِنَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبِّبِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ عَنِ الْقِوَامِ فَقَالَ: الْقِوَامُ الْعِلْمُ، فَكَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ قِوَامِ الْأَشْبَاحِ إِلَى قِوَامِ الْأَرْوَاحِ، فَإِنَّ كُلَّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا سَأَلْنَاكَ عَنْ طُعْمَةِ الْجَسَدِ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَالْجَسَدَ دَعْ مَنْ تَوَلَّاهُ أَوَّلًا يَتَوَلَّاهُ آخِرًا، أَمَا رَأَيْتَ الصَّنْعَةَ إِذَا عِيبَتْ رُدَّتْ لِصَانِعِهَا لِأَنَّهُ الْعَالِمُ بِإِصْلَاحِهَا، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّنَا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِإِصْلَاحِ الْبَاطِنِ مَكْفِيُّونَ عَنْ إِصْلَاحِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمُصْلِحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ:( «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ) . وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ لَا تَطْلُبَ الْقُوتَ وَالْقُوَّةَ إِلَّا مِنْ مَوْلَاكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] وَتَخَلُّقًا أَنْ تُعْطِيَ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِكَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْقُوتِ، فَفِي الْحَدِيثِ " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " فَيَكُونُ دَأْبُكَ النَّفْعَ وَالْهَدِايَةَ، وَإِطْعَامَ الْجَائِعِ، وَإِرْشَادَ الْغَاوِي.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: اخْتَلَفَتِ الْأَقْوَاتُ فَمِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَجْعَلُ قُوتَ نَفْسِهِ تَوْفِيقَ الْعِبَادَاتِ، وَقُوتَ قَلْبِهِ تَحْقِيقَ الْمُكَاشَفَاتِ، وَقُوتَ رُوحِهِ مُدَاوَمَةَ الْمُشَاهَدَاتِ، وَمُلَازَمَةَ الْمُؤْنِسَاتِ، خَصَّ كُلًّا بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْحَالَاتِ وَالْمَقَامَاتِ، وَإِذَا شَغَلَ اللَّهُ عَبْدًا بِطَاعَتِهِ أَقَامَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِشُغْلِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى مُتَابَعَةِ شَهْوَتِهِ، وَكَلَهُ إِلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَرَفَعَ عَنْهُ ظِلَّ عِنَايَتِهِ وَحِمَايَتِهِ.

(الْحَسِيبُ) : أَيِ: الْكَافِي مِنَ الْحَسْبِ بِسُكُونِ السِّينِ، وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ أَوِ الْكِفَايَةُ، مِنْ أَحْسَبَنِي: إِذَا كَفَانِي. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَأَلِيمٍ بِمَعْنَى مُؤْلِمٍ وَبَدِيعٍ بِمَعْنَى مُبْدِعٍ، أَيِ: الْمُعْطِي لِعِبَادِهِ كِفَايَتَهُمْ، أَوِ الْكَافِي لَهُمْ فِي أُمُورِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: حَسْبِي: يَكْفِينِي، وَهَذَا أَتَمُّ مَبْنًى وَأَعَمُّ مَعْنًى، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَسَبِ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ، وَالْحَسِيبُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْصُلَ الْكِفَايَةُ فِي جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ، وَكَمَالِهِ الْجِسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ بِأَحَدٍ سِوَاهُ

ص: 1574

فَمَرْجِعُهُ إِلَى الْفِعْلِ وَلَا أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ إِلَى شَرَفٍ وَسُؤْدُدٍ بِغَيْرِ إِرَادَةِ مَوْلَاهُ، أَوْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ الشَّرِيفُ فَمَرْجِعُهُ إِلَى الصِّفَةِ، وَقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ أَيْ: هُوَ الْمُحَاسِبُ لِلْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى: مُفَاعِلٍ كَالْجَلِيسِ بِمَعْنَى: الْمُجَالِسِ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَيْضًا إِنْ جُعِلَتِ الْمُحَاسَبَةُ عِبَارَةً عَنِ الْمُكَافَأَةِ، وَإِلَى الْقَوْلِ إِنْ أُرِيدَ بِهَا السُّؤَالُ وَالْمُعَاتَبَةُ وَتَعْدَادُ مَا عَمِلُوا مِنَ الْحِسَابِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ أَنْفَاسَ الْخَلَائِقِ، وَبَعْضُهُمْ جَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَالَ: الْحَسِيبُ مَنْ يَعُدُّ عَلَيْكَ أَنْفَاسَكَ وَيَصْرِفُ عَنْكَ بِفَضْلِهِ بَأْسَكَ. وَقِيلَ: فِي مَعْنَى الْحَسِيبِ، إِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَكَ فَمَنْ تَخَافُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ فَمَنْ تَرْجُو، وَلِذَا قَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَقَالَ: {حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] .

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: كِفَايَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَكْفِيَهُ جَمِيعَ أَحْوَالِهِ وَأَشْغَالِهِ، وَأَجَلُّ الْكِفَايَاتِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِرَادَةَ الشَّيْءِ، فَإِنَّ سَلَامَتَهُ عَنْ إِرَادَةِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَا يُرِيدَ شَيْئًا أَتَمُّ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَتَحْقِيقِ الْمَأْمُولِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَافِيهِ لَا يَسْتَوْحِشُ مِنْ إِعْرَاضِ الْخَلْقِ عَنْهُ ثِقَةً بِأَنَّ الَّذِي قُسِمَ لَهُ لَا يَفُوتُهُ وَإِنْ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَالَّذِي لَمْ يُقْسَمْ لَهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَإِنْ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ، وَمَنِ اكْتَفَى بِحُسْنِ تَوْلِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَحْوَالِهِ، فَعَنْ قَرِيبٍ يُرْضِيهِ مَوْلَاهُ مِمَّا يَخْتَارُ لَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْثِرُ الْعَدَمَ عَلَى الْوُجُودِ، وَالْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى، وَيَسْتَرْوِحُ إِلَى عَدَمِ الْأَسْبَابِ. بِمُشَاهَدَةِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى.

قِيلَ: رَجَعَ فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ لَيْلَةً إِلَى بَيْتِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ عَشَاءً وَلَا سِرَاجًا فَبَالَغَ فِي الْحَمْدِ وَالتَّضَرُّعِ وَقَالَ: إِلَهِي بِأَيِّ سَبَبٍ وَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ وَاسْتِحْقَاقٍ عَامَلْتَنِي بِمَا تُعَامِلُ بِهِ أَوْلِيَاءَكَ؟ .

(الْجَلِيلُ) : أَيِ: الْمَنْعُوتُ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَالْحَاوِي لِجَمِيعِهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدَانِيَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُسَاوِيَهُ، قَالُوا وَمِنْهُمُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى كَمَالِ الصِّفَاتِ، كَمَا أَنَّ الْكَبِيرَ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الذَّاتِ، وَالْعَظِيمَ إِلَيْهِمَا، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْجَلِيلَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ خَاصَّةً، كَالْمُنْتَقِمِ وَالْقَهَّارِ وَشَدِيدِ الْعِقَابِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] حَيْثُ قُوبِلَ بَيْنَهُمَا، فَالْكَرِيمُ وَالْعَفُوُّ وَالْغَفُورُ، وَنَحْوُهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ. وَالْكَمَالُ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ. وَالْكَمَالُ وَالْكَوْنُ كُلُّهَا مَظَاهِرُ لِلصِّفَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ، وَمَجَالٌ لِمُشَاهَدَةِ النَّعْتَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ، وَبَسْطُ هَذَا الْمَبْحَثِ يَطُولُ، فَيَتَعَيَّنُ عَنْهُ الْعُدُولُ، وَلِذَا نَقُولُ: وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ جَلَالُهُ ظَهَرَ لَكَ فِي الْعَوَالِمِ كُلِّهَا إِجْلَالُهُ، فَعَظُمَتْ هَيْبَتُكَ مِنْهُ وَمَحَبَّتُكَ لَهُ وَأُنْسُكَ بِهِ وَاحْتِرَامُكَ لِكِتَابِهِ وَأَحِبَّائِهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ لَا تُحِبَّ سِوَاهُ، وَلَا تُرْضِيَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تُخَلِّيَ نَفْسَكَ عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَالْمُحَقَّرَاتِ، لِأَنَّكَ أَجَلُّ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: جَعَلَكَ فِي الْعَالَمِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ مُلْكِهِ وَمَلَكُوتِهِ لِيُعْلِمَكَ جَلَالَةَ قَدْرِكَ بَيْنَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّكَ جَوْهَرَةٌ تَنْطَوِي عَلَيْكَ أَصْدَافُ مَكْنُونَاتِهِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ تَقَلُّبَ قُلُوبِ الْعَابِدِينَ بَيْنَ شُهُودِ ثَوَابِهِ وَإِفْضَالِهِ، وَشُهُودِ عَذَابِهِ وَإِنْكَالِهِ، فَإِذَا فَكَّرُوا فِي إِفْضَالِهِ ازْدَادُوا رَغْبَتَهُمْ، وَإِذَا فَكَّرُوا فِي عَذَابِهِ وَنَكَالِهِ ازْدَادُوا رَهْبَتَهُمْ، وَجَعَلَ تَنَزُّهَ أَسْرَارِ الْعَارِفِينَ فِي شُهُودِ جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ إِذَا كُوشِفُوا بِنَعْتِ الْجَلَالِ، فَأَحْوَالُهُمْ طَمْسٌ فِي طَمْسٍ، وَإِذَا كُوشِفُوا بِوَصْفِ الْجَمَالِ فَأَحْوَالُهُمْ أُنْسٌ فِي أُنْسٍ، فَكَشْفُ الْجَلَالِ يُوجِبُ صَحْوًا، وَكَشْفُ الْجَمَالِ يُوجِبُ قُرْبَةً، فَالْعَارِفُونَ كَاشَفَهُمْ بِجَلَالِهِ فَغَابُوا، وَالْمَحْبُوبُونَ كَاشَفَهُمْ بِجِمَالِهِ فَتَابُوا، وَالْحَقَائِقُ إِذَا اصْطَلَمَتِ الْقُلُوبَ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، وَالْمَعَانِي إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَى الْأَسْرَارِ فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ.

(الْكَرِيمُ) : أَيِ: كَثِيرُ الْجُودِ وَالْعَطَاءِ الَّذِي لَا يَنْفَدُ عَطَاؤُهُ وَلَا تَفْنَى خَزَائِنُهُ، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ.

وَقِيلَ: الْمُتَفَضِّلُ بِلَا مَسْأَلَةٍ وَلَا وَسِيلَةٍ. وَقِيلَ: الْمُتَجَاوِزُ الَّذِي لَا يَسْتَقْصِي فِي الْعِقَابِ، وَلَا يَسْتَقْصِي فِي الْعِتَابِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي إِذَا قَدَرَ عَفَا وَإِذَا وَعَدَ وَفَى، وَإِذَا أَعْطَى زَادَ عَلَى الْمُتَمَنَّى، وَلَا يُبَالِي كَمْ أَعْطَى وَلِمَنْ أَعْطَى، وَإِذَا رُفِعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى غَيْرِهِ لَا يَرْضَى، وَيَقُولُ:{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل: 13] . وَقِيلَ: الْمُقَدَّسُ عَنِ النَّقَائِصِ، الْمَوْصُوفُ

ص: 1575

بِالنَّفَائِسِ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَرَائِمُ الْأَمْوَالِ لِنَفَائِسِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: ( «إِيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِكُمْ» ) وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ سُمِّيَ شَجَرُ الْعِنَبِ كَرْمًا، لِأَنَّهُ أَطْيَبُ الثَّمَرَةِ، قَرِيبُ التَّنَاوُلِ سَهْلُ الْمَأْخَذِ بِخِلَافِ النَّخْلِ. وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِهِ، فَيُعْطِي مِنْ غَيْرِ مُوعِدَةٍ، وَيَعْفُو عَنْ مَقْدِرَةٍ، وَيَتَجَنَّبُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمُرْدِيَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُؤْذِيَةِ.

(الرَّقِيبُ) : أَيِ: الْحَفِيظُ الَّذِي يُرَاقِبُ الْأَشْيَاءَ فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ أَحْوَالَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ، وَيُحْصِي عَدَدَ أَنْفَاسِهِمْ، وَيَعْلَمُ آجَالَهُمْ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى صِفَةِ الذَّاتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تُرَاقِبَهُ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَا تَلْتَفِتَ إِلَى غَيْرِهِ فِي سُؤَالٍ، وَتَكُونَ رَقِيبًا خُصُوصًا عَلَى مَنْ جَعَلَكَ رَاعِيًا عَلَيْهِ، فَتَكُونُ مُرَاعِيًا وَمُتَوَجِّهًا فِي أَحْوَالِهِ إِلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ ( «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعَيِّتِهِ» ) .

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْمُرَاقَبَةُ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَنْ يَصِيرَ الْغَالِبَ عَلَى الْعَبْدِ ذِكْرُهُ لِرَبِّهِ بِقَلْبِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ، وَيَخَافُ سَطَوَاتِ عُقُوبَتِهِ فِي كُلِّ نَفَسٍ، وَيَهَابُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَصَاحِبُ الْمُرَاقَبَةِ يَدَعُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ وَهَيْبَةً لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَتْرُكُ مِنْ بِدَعِ الْمَعَاصِي لِخَوْفِ عُقُوبَتِهِ، وَإِنَّ مَنْ رَاعَى قَلْبَهُ عَدَّ مَعَ اللَّهِ أَنْفَاسَهُ فَلَا يُضَيِّعُ مَعَ اللَّهِ نَفَسًا، وَلَا يَخْلُو عَنْ طَاعَتِهِ لَحْظَةً، كَيْفَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُ عَلَى كُلِّ مَا قَلَّ وَجَلَّ.

وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَأَحْسَنَ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّهُ حَاسَبَنِي حَتَّى طَالَبَنِي بِيَوْمٍ كُنْتُ صَائِمًا، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْإِفْطَارِ أَخَذْتُ حِنْطَةً مِنْ حَانُوتِ صَدِيقٍ لِي، فَكَسَرْتُهَا فَذَكَرْتُهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ لِي، فَأَلْقَيْتُهَا عَلَى حِنْطَتِهِ، فَأُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِي مِقْدَارُ أَرْشِ كَسْرِهَا. وَمَنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ لَمْ يُزْجِ فِي الْبَطَالَاتِ عُمْرَهُ وَلَمْ يَمْحَقْ فِي الْغَفَلَاتِ وَقْتَهُ. اهـ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] وَفِي الْخَبَرِ: ( «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» ) .

(الْمُجِيبُ) : هُوَ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ، وَيُسْعِفُ الْمُضْطَرَّ إِلَى مَا اسْتَدْعَاهُ وَتَمَنَّاهُ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنَّهُ يُجِيبُ مَوْلَاهُ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلِيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186] ثُمَّ يَتَلَقَّى عِبَادَهُ بِإِسْعَافِ سُؤَالِهِمْ وَإِلْطَافِ جَوَابِهِمْ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فِي الْخَبَرِ: ( «إِنَّ اللَّهَ يَسْتَحِي أَنْ يَرُدَّ يَدَيْ عَبْدِهِ صِفْرًا» ) وَأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا عَلِمَ مَنْ أَحْضَرَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ حَاجَتَهُمْ بِبَالِهِمْ يُحَقِّقُ لَهُمْ مُرَادَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرُوهُ بِلِسَانِهِمْ، وَرُبَّمَا يُضَيِّقَ عَلَيْهِمُ الْحَالَ، حَتَّى إِذَا يَئِسُوا وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُمْ يَتَدَارَكُهُمْ بِحُسْنِ إِيجَادِهِ وَجَمِيلِ إِمْدَادِهِ. اهـ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] وَفِي هَذَا الِاسْمِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ) أَيْ: أَجَابَهُ، وَأَحْسَنَ خِطَابَهُ، لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: ضَمِنَ سُبْحَانَهُ لَكَ الْإِجَابَةَ فِيمَا يَخْتَارُهُ لَكَ لَا فِيمَا تَخْتَارُهُ لِنَفَسِكَ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُهُ لَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُرِيدُهُ، فَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ لَا تَسْأَلَ سِوَاهُ، وَأَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ حَتَّى مِلْحَ عَجِينِكَ، وَمِنْ دُعَاءِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجْهِي عَنْ سُجُودِ غَيْرِكَ فَصُنْ وَجْهِي عَنْ مَسْأَلَةِ غَيْرِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ( «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» ) لِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ إِمَّا فِي الْمُعَجَّلِ وَإِمَّا فِي الْمَآلِ، وَمِنْ بَابِ التَّخَلُّقِ بِهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:( «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ» ) وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ نَحْوُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَوْ كُرَاعِ الْغَنَمِ لَأَجَبْتُ.

وَقَوْلُهُ: ( «مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» ) .

(الْوَاسِعُ) : هُوَ الَّذِي وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ وَسِيعُ الْمُلْكِ وَالْمِلْكِ، وَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ فَهُوَ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْعَطَاءِ، لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ عَطَائِهِ لَا فِي مَبْدَئِهِ وَلَا فِي مُنْتَهَاهُ، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، فَهُوَ الْعَالِمُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْلُومَاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، لَا نِهَايَةَ لِبُرْهَانِهِ، وَلَا غَايَةَ لِسُلْطَانِهِ، وَلَا حَدَّ لِإِحْسَانِهِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَسْعَى فِي سَعَةِ مَعَارِفِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَيَكُونَ جَوَادًا بِالطَّبْعِ غَنِيَّ النَّفْسِ لَا يَضِيقُ قَلْبُهُ بِفَقْدِ الْفَائِتِ، وَلَا يَهْتَمُّ بِتَحْصِيلِ الْمَآرِبِ.

ص: 1576

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إِنْعَامِهِ انْتِظَامَ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَالتَّمَكُّنَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُنَى، وَالْوُصُولَ إِلَى الْهَوَى، بَلْ أَلْطَافُ اللَّهِ فِيمَنْ يَزْوِي عَنْهُمُ الدُّنْيَا أَكْبَرُ، وَإِحْسَانُهُ إِلَيْهِمْ أَوْفَرُ وَإِنَّ قُرْبَ الْعَبْدِ مِنَ الرَّبِّ عَلَى حَسَبِ تَبَاعُدِهِ مِنَ الدُّنْيَا.

وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: إِنَّ أَهْوَنَ مَا أَصْنَعُ بِالْعَالِمِ إِذَا مَالَ فِي الدُّنْيَا أَنْ أَسْلُبَهُ حَلَاوَةَ مُنَاجَاتِي وَلَذَّةَ طَاعَاتِي.

(الْحَكِيمُ) : أَيْ: ذُو الْحِكْمَةِ، وَهِيَ كَمَالُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ، أَوْ فَعَيْلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ فَهُوَ مُبَالَغَةُ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْمُفْعِلِ أَيِ الَّذِي يُحْكِمُ الْأَشْيَاءَ وَيُتْقِنُهَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ فِي التَّخَلُّقِ بِهِ وَالتَّعَلُّقِ بِكِتَابِهِ بِأَنْ تَسْعَى فِي تَكْمِيلِ قُوَاكَ النَّظَرِيَّةِ بِتَحْصِيلِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَاسْتِكْمَالِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ بِتَخْلِيَةِ النَّفْسِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَتَحْلِيَتِهَا بِالْفَضَائِلِ، وَتَجْلِيَتِهَا بِتَحْسِينِ الشَّمَائِلِ بِمَا يُوجِبُ الزُّلْفَى إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالْقُرْبَ إِلَى الْمَوْلَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَالْحِكْمَةُ هِيَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا عُلُومُ الْفَلَاسِفَةِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مِنْ حِكَمِهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ تَخْصِيصُهُ قَوْمًا بِحُكْمِ السَّعَادَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ وَسَبَبٍ، وَلَا جُهْدٍ وَلَا طَلَبٍ، بَلْ تَعَلَّقَ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ بِإِسْعَادِهِ، وَسَبَقَ الْحُكْمُ الْأَزَلِيُّ بِإِيجَادِهِ، وَخَصَّ قَوْمًا بِطَرْدِهِ وَإِبْعَادِهِ، وَوَضَعَ قَدْرَهُ مِنْ بَيْنِ عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ سَلَفَ، وَلَا ذَنْبٍ اقْتَرَفَ، بَلْ حَقَّتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ بِشَقَاوَتِهِ وَنَفَذَتِ الْمَشِيئَةُ بِجَحْدِ قَلْبِهِ وَقَسَاوَتِهِ، فَالَّذِي كَانَ شَقِيًّا فِي حُكْمِهِ أَبْرَزَهُ فِي نِطَاقِ أَوْلِيَائِهِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي ذَمِّهِ حَيْثُ قَالَ:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176] وَالَّذِي كَانَ سَعِيدًا فِي حُكْمِهِ خَلَقَهُ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْكَلْبِ، ثُمَّ حَشَرَهُ فِي زُمْرَةِ أَوْلِيَائِهِ، وَذَكَرَهُ فِي جُمْلَةِ أَصْفِيَائِهِ فَقَالَ:{رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] . اهـ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يَسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وَوَرَدَ أَنَّهُ تَعَالَى يُدْخِلُ النَّارَ بَلْعَمَ بْنَ بَاعُورَا عَلَى صُورَةِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ كَلْبَهُمْ عَلَى صُورَةِ بَلْعَمَ، فَلَا تَغْتَرَّ بِالظَّوَاهِرِ، فَإِنَّ الْعِبْرَةَ بِالسَّرَائِرِ.

(الْوَدُودُ) : مُبَالَغَةُ الْوَادِّ مِنَ الْوُدِّ، وَهُوَ الْحُبُّ أَيِ الَّذِي يُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْخَلَائِقِ، وَقِيلَ الْمُحِبُّ لِأَوْلِيَائِهِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى إِرَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقِيلَ: فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَاللَّهُ مَحْبُوبٌ فِي قُلُوبِ مَخْلُوقَاتِهِ، مَطْلُوبٌ لِجَمِيعِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ كَمَا فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الشُّهُودِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَوْنِ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ، فَهُوَ الْوَادُّ وَهُوَ الْوَدُودُ، كَمَا أَنَّهُ الْحَامِدُ وَالْمَحْمُودُ، وَالشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ، لَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُهُ دَيَّارٌ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يُرِيدَ لِلْخَلْقِ مَا يُرِيدُ فِي حَقِّهِ وَيُحْسِنَ إِلَيْهِمْ حَسَبَ قُدْرَتِهِ وَوُسْعِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:( «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ) .

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَعْنَى الْوَدُودِ فِي وَصْفِهِ أَنَّهُ يَوَدُّ الْمُؤْمِنِينَ وَيَوَدُّونَهُ قَالَ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَمَعْنَى الْمَحَبَّةِ فِي صِفَةِ الْحَقِّ لِعِبَادِهِ: رَحْمَتُهُ عَلَيْهِمْ وَإِرَادَتُهُ لِلْجَمِيلِ لَهُمْ وَمَدْحُهُ لَهُمْ، وَمَحَبَّةُ الْعِبَادِ لِلَّهِ تَعَالَى تَكُونُ بِمَعْنَى طَاعَتِهِمْ لَهُ وَمُوَافَقَتِهِمْ لِأَمْرِهِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى تَعْظِيمِهِمْ لَهُ وَهَيْبَتِهِمْ مِنْهُ. اهـ. وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنَ وُدًّا} [مريم: 96] أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، أَوْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَفِي الْأَثَرِ الْقُدُسِيِّ أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:«إِنَّ أَوَدَّ الْأَوَدِّ إِلَيَّ مَنْ يَعْبُدُنِي لِغَيْرِ نَوَالٍ، لَكِنْ لِيُعْطِيَ الرُّبُوبِيَّةَ حَقَّهَا» .

(الْمَجِيدُ) : هُوَ مُبَالَغَةُ الْمَاجِدِ مِنَ الْمَجْدِ، وَهُوَ سَعَةُ الْكَرَمِ، فَهُوَ الَّذِي لَا تُدْرَكُ سَعَةُ كَرَمِهِ، وَلَا يَتَنَاهَى تَوَالِي إِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ حِفْظُهُ عَلَيْهِمْ تَوْحِيدَهُمْ وَدِينَهُمْ، حَتَّى لَا

ص: 1577

يَزِيغُوا وَلَا يَزُولُوا، إِذْ لَوْلَا لُطْفُهُ وَإِحْسَانُهُ لَغَوَوْا وَضَلُّوا، وَمِنْ وُجُوهِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ الْخَلْقِ حِفْظُهُ عَلَيْهِمْ قُلُوبَهُمْ، وَتَصْفِيَتُهُ لَهُمْ أَوْقَاتَهُمْ، فَإِنَّ النِّعْمَةَ الْعُظْمَى نِعَمُ الْقُلُوبِ، كَمَا أَنَّ الْمِحْنَةَ الْكُبْرَى مِحَنُ الْقُلُوبِ، أَوْ مِنَ الْمَجْدِ وَهُوَ نِهَايَةُ الشَّرَفِ، فَهُوَ الَّذِي لَهُ شَرَفُ الذَّاتِ وَحُسْنُ الصِّفَاتِ. وَقِيلَ: هُوَ الْعَظِيمُ الرَّفِيعُ الْقَدِيرُ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يُعَامِلَ النَّاسَ بِالْكَرَمِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، فَيَكُونُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَاجِدًا وَلِخَيْرِ مَا عِنْدَهُ تَعَالَى وَاجِدًا.

(الْبَاعِثُ) : أَيْ: بَاعِثُ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ بِالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ، أَوِ الَّذِي يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لِلْحَشْرِ وَالنُّشُورِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ الْأَرْزَاقَ إِلَى عَبْدِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكْتَسِبْ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَقِيلَ: هُوَ بَاعِثُ الْهِمَمِ إِلَى التَّرَقِّي فِي سَاحَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنَقِّي مِنْ ظُلْمِ صِفَاتِ الْعَبِيدِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يُؤْمِنَ أَوَّلًا بِمَعَانِيهِ، وَيَكُونَ مُقْبِلًا بِشَرَاشِرِهِ لِاسْتِصْلَاحِ الْمَعَادِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ التَّنَادِ، وَالتَّخَلُّقُ بِهِ إِحْيَاءُ النُّفُوسِ الْجَاهِلَةِ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّزْهِيدِ فِي الْأُمُورِ الْعَاجِلَةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي النِّعَمِ الْآجِلَةِ، فَيَبْدَأُ بِنَفَسِهِ، ثُمَّ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ مَنْزِلَةً وَرُتْبَةً.

(الشَّهِيدُ) : مُبَالَغَةُ الشَّاهِدِ مِنَ الشُّهُودِ، وَهُوَ الْحُضُورُ، وَمَعْنَاهُ الْعَلِيمُ بِظَاهِرِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُهَا، كَمَا أَنَّ الْخَبِيرَ هُوَ الْعَالِمُ بِبَوَاطِنِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَاسُ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] أَوْ مُبَالَغَةُ الشَّاهِدِ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَالْمَعْنَى يَشْهَدُ عَلَى الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. مِمَّا عَلِمَ وَشَاهَدَ مِنْهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] .

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَطْلُبُوا مَعَ اللَّهِ مُؤْنِسًا سِوَاهُ، بَلْ رَضُوا بِهِ شَهِيدًا لِأَحْوَالِهِمْ عَلِيمًا بِأُمُورِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَكَيْفَ لَا، وَهُوَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَيَسْمَعُ النَّجْوَى، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ وَالْبَلْوَى وَيُجْزِلُ الْحُسْنَى، وَيَصْرِفُ الرَّدَى (وَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى) . قُلْتُ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تُرَاقِبَهُ حَتَّى لَا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَلَا يَفْقِدَكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، وَأَنْ تَكْتَفِيَ بِعِلْمِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ عَنْ أَنْ تَرْفَعَ حَوَائِجَكَ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ أَنْ تَمِيلَ إِلَى طَلَبِ الْغَيْرِ مِنْ بِرِّهِ وَخَيْرِهِ، وَتَخَلُّقُكَ أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا بِالْحَقِّ مُرَاعِيًا لِلصِّدْقِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .

(الْحَقُّ) : هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي تَحَقَّقَ بِتَيَقُّنِ وَجُودِهِ، وَلَا تَحَقُّقَ لِغَيْرِهِ إِلَّا مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَضِدُّهُ الْبَاطِلُ الَّذِي هُوَ الْمَعْدُومُ أَوِ الْمَوْجُودُ الَّذِي فِي مُقَابِلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْهُومِ، إِذِ الثَّابِتُ مُطْلَقًا هُوَ اللَّهُ، وَسَائِرُ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مُمْكِنَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَلَا ثُبُوتَ لَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهَا، بَلِ الْكُلُّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا فِي ذَاتِهِ فَضْلًا عَنْ ثَبَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] بِتَغْلِيبِ ذَوِي الْعُقُولِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ أَوْلَى بِالْأُفُولِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ فِيمَا شَهِدَ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ.

أَيْ: قَابِلٌ لِلْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ، بَلْ فِي نَظَرِ أَرْبَابِ الشُّهُودِ دَائِمًا فِي مَرْتَبَةِ الِاضْمِحْلَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ، كَمَا حَرَّرْتُهُ وَبَسَطْتُهُ فِي شَرْحِ حِزْبِ الْفَتْحِ، وَيَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ لَبِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ لَمْ يَقُلْ شِعْرًا وَقَالَ: يَكْفِينِي الْقُرْآنُ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمُحِقُّ أَيِ: الْمُظْهِرُ لِلْحَقِّ، أَوِ الْمُوجِدُ لِلشَّيْءِ حَسْبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ الْحَقُّ نَسِيتَ فِي حُبِّهِ ذِكْرَ الْخَلْقِ وَتَخَلُّقُكَ بِهِ أَنْ تَلْزَمَ الْحَقَّ فِي سَائِرِ أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ وَأَحْوَالِكَ.

ص: 1578

(الْوَكِيلُ) : الْقَائِمُ بِأُمُورِ عِبَادِهِ الْمُتَكَفِّلُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَقِيلَ: الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ تَدْبِيرُهُمْ إِقَامَةً وَكِفَايَةً، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْوَكِيلُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِحُكْمِ إِقَامَتِهِ لَهُ، وَهُوَ يُنْبِئُ عَنْ أَمْرَيْنِ، أَحَدِهِمَا: عَجْزُ الْخَلْقِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَجَامِعِ أُمُورِهِمْ كَمَا يَنْبَغِي إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى غَيْرِهِ إِذَا تَعَسَّرَ أَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَالِهِمْ قَادِرٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ رَحِيمٌ بِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَجْمِعْ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا يَحْسُنُ تَوْكِيلُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ - وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 58 - 217] وَالتَّخَلُّقُ بِهِ أَنْ تَقُومَ بِأُمُورِ عِبَادِهِ وَمَطَالِبِهِمْ وَتَسْعَى فِي إِسْعَافِ مَآرِبِهِمْ.

(الْقَوِيُّ) : الْقُوَّةُ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مُرَتَّبَةٍ أَقْصَاهَا الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْبَالِغَةُ السَّابِغَةُ الْوَاصِلَةُ إِلَى الْكَمَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَوِيٌّ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَا قُوَّةَ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِهِ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلُ مَا يُوجَدُ فِي بَاطِنِهِ مِنْ إِحْسَاسِ الْعَمَلِ يُسَمَّى حَوْلًا، ثُمَّ مَا يُحِسُّ بِهِ فِي الْأَعْضَاءِ مِنْ إِطَاقَتِهَا لَهُ يُسَمَّى قُوَّةً، ثُمَّ مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِصُورَةِ الْبَطْشِ وَالتَّنَاوُلِ يُسَمَّى قُدْرَةً، وَلِهَذَا كَانَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيْهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: لِأَنَّكَ إِذَا نَفَيْتَ عَنْ غَيْرِهِ الْمَرْتَبَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَأَوْلَى أَنْ تَنْفِيَ عَنْهُ الثَّالِثَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الثَّالِثَةَ وَهِيَ الْقُدْرَةُ لَمَّا كَانَتْ ظَاهِرَةَ النَّفْيِ عَنْ غَيْرِهِ مَا احْتَاجَ فِي النَّفْيِ إِلَى ذِكْرِهِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ السُّفَهَاءِ، فَضْلًا عَنِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَتَوَهَّمْ أَنَّ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً بِخِلَافِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ حَيْثُ قَدْ يَنْشَأُ عَنِ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ نِسْبَتُهُمَا إِلَى أَنْفُسِهِمْ، كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فَدَفَعَ وَهْمَهُمْ وَأَبْطَلَ فَهْمَهُمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمُرْجِئَةُ وَقَعُوا فِي التَّعْطِيلِ، وَبِمُطْلَقِ التَّنْزِيهِ ضِدَّ وُقُوعِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي التَّشْبِيهِ أَثْبَتَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ (إِلَّا بِاللَّهِ) لِتَكُونَ الْحُجَّةُ لِلَّهِ، وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْجَمْعِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] كَمَا يُومِئُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فَتَقَرُّبُكَ مِنْهُ تَعَلُّقًا أَنْ تُسْقِطَ التَّدْبِيرَ وَتَتْرُكَ مُنَازَعَةَ التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وَلَا تَحُومُ حَوْلَ الدَّعْوَى، وَلَا تُبَالِي مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَكُونَ قَوِيًّا فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا تَخَافَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.

(الْمَتِينُ) : مِنَ الْمَتَانَةِ وَالشِّدَّةِ، وَمَرْجِعُ هَذَيْنِ إِلَى الْوَصْفِ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَالِغُ الْقُدْرَةِ وَدَائِمُهَا قَوِيٌّ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَدِيدُ الْقُوَّةِ مَتِينٌ، وَقِيلَ: الْمَتِينُ مِنَ الْمَتَانَةِ، وَهِيَ اسْتِحْكَامُ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَتَأَثَّرُ أَيْ: هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَالْغَالِبُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُغْلَبُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي قُوَّتِهِ إِلَى مَادَّةٍ وَسَبَبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وَهُوَ تَعَالَى إِنْ أَرَادَ إِهْلَاكَ عَبْدٍ أَهْلَكَهُ بِيَدِهِ إِمَّا ذَبْحًا وَخَنْقًا، وَإِمَّا حَرْقًا وَغَرَقًا، وَلِهَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: خَفْ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عَوْنٍ عَلَيْكَ، بَلْ لَوْ شَاءَ إِتْلَافَكَ أَخْرَجَكَ عَنْ نَفْسِكَ حَتَّى يَكُونَ هَلَاكُكَ عَلَى يَدَيْكَ وَأَنْشَدَ:

إِلَى حَتْفِي أَرَى قَدَمِي أَرَاقَ دَمِي.

وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَمُسْتَنِدًا إِلَيْهِ.

(الْوَلِيُّ) : أَيِ: الْمُحِبُّ لِأَوْلِيَائِهِ النَّاصِرُ لَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْوِيَتِهِمْ وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَى غَيْرِ لِقَائِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]، {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28] . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ جَمِيعِ خَلِيقَتِهِ يَفْعَلُ فِيهِمْ مَا يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ بِعِزَّتِهِ، أَوْ لِأُمُورِ عِبَادِهِ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْتَصِّينَ بِاجْتِبَائِهِ وَإِسْعَادِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] . وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَتَوَلَّ غَيْرَهُ وَغَيْرَ مَنْ يُحِبُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]

ص: 1579

فَتَحَقَّقْ بِدَرَجَةِ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ عز وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63] وَمِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ: مِنْ أَمَارَاتِ وَلَايَتِهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ أَنْ يُدِيمَ تَوْفِيقَهُ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ سُوءًا أَوْ قَصَدَ مَحْظُورًا عَصَمَهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَلَوْ جَنَحَ إِلَى تَقْصِيرٍ فِي طَاعَتِهِ أَبَى إِلَّا تَوْفِيقًا لَهُ وَتَأْيِيدًا. وَهَذَا مِنْ أَمَارَاتِ السَّعَادَةِ، وَعَكْسُ هَذَا مِنْ أَمَارَاتِ الشَّقَاوَةِ، وَمِنْ أَمَارَاتِ وَلَايَتِهِ أَنْ يَرْزُقَهُ مَوَدَّةً فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَإِذَا رَأَى فِي قُلُوبِهِمْ لِعَبْدٍ مَحَلًّا يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِاللُّطْفِ، وَإِذَا رَأَى هِمَّةَ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ لِشَأْنِ عَبْدٍ، أَوْ سَمِعَ دُعَاءَ وَلِيٍّ فِي شَأْنِ شَخْصٍ يَأْبَى إِلَّا الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَجْرَى بِذَلِكَ سُنَّتَهُ الْكَرِيمَةَ.

وَسَمِعَتُ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ رحمه الله يَقُولُ: لَوْ أَنَّ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَرَّ بِبَلْدَةٍ لَنَالَ بَرَكَةَ مُرُورِهِ أَهْلُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَمِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْوِلَايَةِ أَنَّ أَهْلَهَا مُنَزَّهُونَ عَنِ الذُّلِّ. قَالَ تَعَالَى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111] فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى دَائِمًا مُسْتَغْرِقُونَ فِي عِزِّ مَوْلَاهُمْ فِي دُنْيَاهِمْ وَأُخْرَاهِمْ، رضي الله عنهم وَجَعَلَنَا مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.

(الْحَمِيدُ) : أَيِ: الْمَحْمُودُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّنَاءِ، فَإِنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ وَالْمُولِي لِكُلِّ نَوَالٍ، الْمَشْكُورُ بِكُلِّ فِعَالٍ فَهُوَ الْمَحْمُودُ الْمُطْلَقُ. قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] بِبَيَانِ الْمَقَالِ أَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَقِيلَ: حَمَدَ اللَّهُ عز وجل نَفْسَهُ بِالثَّنَاءِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ أَزَلًا، وَيَحْمَدُهُ عِبَادُهُ بِمَا أَلْهَمَهُمْ بِهِ أَبَدًا، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ سَرْمَدًا، بَلْ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْحَامِدُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفَعِيلِ الْمُحْتَمِلِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَلِذَا قَالَ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ:( «سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» ) . وَحَظُّكَ مِنْهُ مَا قَالَ صَاحِبُ الْحِكَمِ: الْمُؤْمِنُ يَشْغَلُهُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ شَاكِرًا، وَتَشْغَلُهُ حُقُوقُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِحُقُوقِهِ ذَاكِرًا، فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا كَثْرَةُ حَمْدِكَ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَتَخَلُّقًا بِأَنْ تَجْتَهِدَ فِي التَّحَلِّي بِمَحَامِدِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: حَمْدُ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ شُكْرُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى شُهُودِ الْمُنْعِمِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ هِيَ الْغَيْبَةُ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ عَنْ شُهُودِ النِّعْمَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ: إِلَهِي كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ مِنْكَ عَلَيَّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّكَ الْآنَ قَدْ شَكَرْتَنِي، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: الْعَجْزُ عَنِ الشُّكْرِ شُكْرٌ، كَمَا قِيلَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ، ثُمَّ كَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ فِي نِعْمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ شُكْرُهَا، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي مِحْنَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنْهَا، فَإِنَّ حَقِيقَةَ النِّعْمَةِ مَا يُوصِلُكَ إِلَى الْمُنْعِمِ لَا مَا يَشْغَلُكَ عَنْهُ، فَالنِّعَمُ لَا تَكُونُ إِلَّا دِينِيَّةً، نَعَمْ إِذَا كَانَ مَعَهَا رَاحَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ فَهُوَ نُورٌ عَلَى نُورٍ وَسُرُورٌ عَلَى سُرُورٍ، وَمِنْهُ دُعَاءُ السَّيِّدِ الشَّاذِلِيِّ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ أُمُورَنَا مَعَ الرَّاحَةِ لِقُلُوبِنَا وَأَبْدَانِنَا، ثُمَّ إِنْ وَجَدَ التَّوْفِيقَ لِلشُّكْرِ بِصَرْفِ النِّعْمَةِ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ فِيهَا وَنُعِمَتْ، وَإِلَّا انْقَلَبَتِ الْمِنْحَةُ مِحْنَةً، وَلِذَا فُسِّرَ الْبَلَاءُ بِالنِّعْمَةِ وَالنِّقْمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] وَقَالَ عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] فَهُوَ كَالنِّيلِ مَاءٌ لِلْمَحْبُوبِينَ وَدِمَاءٌ لِلْمَحْجُوبِينَ.

(الْمُحْصِي) : أَيِ: الْعَالِمُ الَّذِي يُحْصِي الْمَعْلُومَاتِ وَيُحِيطُ بِالْمَوْجُودَاتِ إِحَاطَةَ الْعَادِّ بِمَا يَعُدُّهُ، وَالضَّابِطُ بِمَا يَضْبِطُهُ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ إِحْصَاءُ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْوُصُولُ إِلَى بَعْضِ الْمَعْدُودَاتِ، لَكِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ إِحْصَاءِ أَكْثَرِهَا وَضَبْطِ غَالِبِهَا، فَجَهْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَلَمِهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْصِيَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْصَى، وَيَتَلَافَى مَقَابِحَ أَعْمَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَقْصَى، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَقْدُورَاتِ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ أَوِ الْقُدْرَةِ وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْكَ غَفْلَةٌ فِي سُكُونٍ وَحَرَكَةٍ وَلَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ. وَتَقَرُّبُكَ مِنْهُ تَعَلُّقًا أَنْ تَحَاسِبَ نَفْسَكَ فِي جَمِيعِ أَنْفَاسِكَ بِأَنْ لَا يُوجَدَ فِيهَا

ص: 1580

نَفَسٌ إِلَّا فِي طَاعَةٍ، لِمَا وَرَدَ: إِنَّهُ لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا، وَلِمَا قِيلَ: الدُّنْيَا سَاعَةٌ فَاجْعَلْهَا طَاعَةً. وَتَخَلُّقًا أَنْ تَتَكَلَّفَ عَدَّ النِّعَمِ الَّتِي أَوْصَلَهَا إِلَيْكَ لِتَعْرِفَ عَجْزَكَ عَنْ شُكْرِ مَا عَلَيْكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا فَضْلًا عَنْ شُكْرِهَا. رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَعُدُّ تَسْبِيحًا لَهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَعُدُّ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَعُدُّ لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَ أَيَّامَهُ، وَيَعُدَّ آثَامَهُ، فَيَشْكُرَ جَمِيلَ مَا يُوَلِّيهِ، وَيَتَعَذَّرَ عَنْ قُبْحِ مَا يَأْتِيهِ، وَيَذْكُرَ الْأَيَّامَ الْخَالِيَةَ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَيَتَأَسَّفَ عَلَى الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الْغَفَلَاتِ. وَقَدْ قِيلَ: لَا أَنْفَسَ مِنَ الْوَقْتِ إِذْ مَا مِنْ نَفِيسِ غَيْرِهِ إِلَّا وَيُمْكِنُ تَعْوِيضُهُ بِخِلَافِهِ، وَمِنَ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُمُ: الْوَقْتُ سَيْفٌ قَاطِعٌ، وَالْوَقْتُ كَالسَّيْفِ إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ قَطَعَكَ، إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ بِالْعِبَادَةِ قَطَعَكَ بِالْبَطَالَةِ، وَقَوْلُهُمُ: الصُّوفِيُّ ابْنُ الْوَقْتِ وَأَبُو الْوَقْتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ، وَبِغَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ حَقِيقٌ.

(الْمُبْدِئُ) : بِالْهَمْزِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَقْفًا، وَهُوَ الْمُظْهِرُ لِلْكَائِنَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ بَابِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَالِقِ، أَوْ هُوَ الْمُنْشِئُ لِلْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعُهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ:(الْمُعِيدُ) : أَيِ الَّذِي يُعِيدُ الْخَلْقَ بَعْدَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَمَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى الْحَيَاةِ فِي الْأُخْرَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ الْمُعِيدُ لِلْمُحْدَثَاتِ بَعْدَ انْعِدَامِ جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: الْإِعَادَةُ خَلْقُ مِثْلِهِ لَا إِعَادَةُ عَيْنِهِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَقْدُورًا قَبْلَ أَنْ خَلَقَهُ، فَإِذَا عَدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ أَعَادَهُ إِلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِعَادَةُ جَمْعَ الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِذَا بَعَثَ الْخَلْقَ وَحَشَرَهُمْ فَقَدْ أَعَادَهُمْ. اهـ.

وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَنْعَدِمُ بَلْ تَتَفَرَّقُ، ثُمَّ يَجْمَعُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَيُؤَلِّفُهَا عَلَى الْمِنْهَاجِ الْأَوَّلِ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا تَنْعَدِمُ إِلَّا بَعْضًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، ثُمَّ تُعَادُ بِعَيْنِهَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَفْنَى إِلَّا عَجَبَ الذَّنَبِ» ". وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالْحَقُّ إِعَادَةُ مَا انْعَدَمَ بِعَيْنِهِ وَتَأْلِيفُ مَا تَفَرَّقَ. اهـ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَا الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فَالْإِعَادَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ إِعَادَةُ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى أَشْبَاحِهِمْ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُمَا اسْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ يَتِمُّ بِالثَّانِي وَمَرْجِعُهُمَا إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. اهـ. وَالْمَعْنَى أَنَّ بَيْنَهُمَا تَعْلِيقًا لَا يَقْبَلُ الِانْفِكَاكَ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَسْمَاءِ، كَالْخَافِضِ وَالرَّافِعِ، وَكَذَا الْمُعِزُّ وَالْمُذِلُّ، وَالْقَابِضُ وَالْبَاسِطُ، وَشَبِيهُ مَا سَيَأْتِي مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَابِلَةِ كَالْمُحْيِي وَالْمُمِيتِ، وَالْمُقَدِّمِ وَالْمُؤَخِّرِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ قَوْلَهُ: هُمَا اسْمٌ وَاحِدٌ يُنَافِي النَّصَّ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنَّكَ إِذَا شَهِدْتَ أَنَّهُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ رَجَعْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ أَوَّلًا وَثَانِيًا، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ظُهُورِ كُلِّ مَوْجُودٍ:

فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَاهِدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ.

وَتَقَرُّبُكَ بِهِمَا تَعَلُّقًا بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ مَرْمًى، وَالتَّعَوُّذُ بِهِ مِنْ كُلِّ مَهْوًى، وَتَخَلُّقًا أَنْ تَعُودَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْبِدَايَةِ، وَتَرُدَّ النَّفْسَ مِنْهَا إِلَى الْهِدَايَةِ وَلِذَا قِيلَ: النِّهَايَةُ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى الْبِدَايَةِ.

(الْمُحْيِي الْمُمِيتُ) : هُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى صِفَةِ الْأَفْعَالِ. قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19]، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس: 31] وَقَرَأَ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذِهِ الْآيَةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ عِنْدَ تَشَرُّفِهِ بِالْإِسْلَامِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحْيِي الْقُلُوبَ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، كَمَا أَنَّهُ يُمِيتُهَا بِالْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَاللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: " «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» " وَمِنْ كَلَامِهِمْ: هُوَ مَنْ أَحْيَا قُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَأَرْوَاحَهُمْ بِأَلْطَافِ مُشَاهَدَتِهِ، وَأَمَاتَ الْقُلُوبَ بِالْغَفْلَةِ، وَالنُّفُوسَ بِالشَّهْوَةِ فَهُوَ تَعَالَى خَالِقُ الْحَيَاةِ وَمُدِيمُهَا، وَمُقَدِّرُ الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ عَدِيمُهَا، وَمِنَ الْمَجَازِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ» ".

ص: 1581

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْإِحْيَاءُ خَلْقُ الْحَيَاةِ فِي الْجِسْمِ، وَالْإِمَاتَةُ إِزَالَتُهَا عَنْهُ. فَإِنْ قُلْتَ: الْمَوْتُ عَدَمُ الْحَيَاةِ، وَالْعَدَمُ لَا يَكُونُ بِالْفَاعِلِ. قُلْتُ: الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ كَذَلِكَ فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمُتَجَدِّدُ فَهُوَ بِالْفَاعِلِ، وَلَكِنَّ الْفَاعِلَ لَا يَفْعَلُ الْهَدْمَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَسْتَلْزِمُهُ. قَالَ تَعَالَى:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة: 28] أُسْنِدَ الْمَوْتُ الثَّانِي إِلَى فِعْلِهِ دُونَ الْمَوْتِ الْأَوَّلِ الْمُرَادِ بِهِ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ لَا تَهْتَمَّ بِحَيَاةٍ وَلَا مَوْتٍ، بَلْ تَكُونَ مُفَوِّضًا مُسْتَسْلِمًا لِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ قَائِلًا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتُوفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» " قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رحمه الله: مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَحْيَاهُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أَمَاتَهُ وَأَفْنَاهُ، وَمَنْ قَرَّبَهُ أَحْيَاهُ وَمَنْ غَيَّبَهُ أَمَاتَهُ وَأَفْنَاهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:

أَمُوتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا

فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ.

(" الْحَيُّ) : أَيْ ذُو الْحَيَاةِ الْأَزَلِيَّةِ وَالْأَبَدِيَّةِ، وَهُوَ الْفَعَّالُ الدَّرَّاكُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهَا صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهَا لِأَجْلِهَا صَحَّ لِذَاتِهِ أَنْ يُعْلَمَ وَيُقَدَّرَ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ أَنْ يُعْلَمَ وَيُقَدَّرَ هَذَا فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي حَقِّنَا فَعِبَارَةٌ عَنِ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ الْمَخْصُوصِ بِجِنْسِ الْحَيَوَانِ. وَقِيلَ: هِيَ الْقُوَّةُ التَّابِعَةُ لَهُ الْمُعَدَّةُ لِقَبُولِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ حَيًّا بِاللَّهِ حَتَّى لَا يَمُوتَ لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا يَمُوتُونَ، وَلَكِنْ يَنْتَقِلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] الْآيَةَ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ تَعَالَى حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَعَالِمٌ وَقَدِيرٌ صَحَّحَ تَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] لِأَنَّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَخْلُوقٍ وَاتَّكَلَ عَلَيْهِ لِيَوْمِ حَاجَتِهِ احْتَمَلَ وَفَاتَهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَيَضِيعُ رَجَاؤُهُ وَأَمَلُهُ لَدَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَتَقَرُّبُكَ بِهِ تَعَلُّقًا أَنْ تَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِيِ الْغَاسِلِ، وَتَخَلُّقًا أَنْ تُحْيِيَ الْقُلُوبَ بِأَنْوَارِ مَعْرِفَتِكَ، وَالْأَرْوَاحَ بِأَسْرَارِ مُشَاهَدَتِكَ.

(الْقَيُّومُ) : أَيِ: الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ لَا يَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قِوَامَهُ بِذَاتِهِ لَا يَتَوَقَّفُ بِوَجْهٍ مَا عَلَى غَيْرِهِ، وَقِوَامُ كُلِّ شَيْءٍ بِهِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ لِلْأَشْيَاءِ وُجُودٌ وَدَوَامٌ إِلَّا بِوُجُودِهِ تَعَالَى، وَلِلْعَبْدِ فِيهِ مَدْخَلٌ بِقَدْرِ اسْتِغْنَائِهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَإِمْدَادِهِ لِلنَّاسِ، وَكَانَ مَفْهُومُهُ مُرَكَّبًا مِنْ نُعُوتِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الِأَفْعَالِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرِفَ أَنَّهُ الْقَيُّومُ اسْتَرَاحَ عَنْ كَدِّ التَّدْبِيِرِ وَتَعَبِ الْأَشْغَالِ، وَعَاشَ بِرَاحَةِ التَّفْوِيضِ، فَلَمْ يَضِنَّ بِشَيْءٍ بِتَكْرِيمِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ فِي قَلْبِهِ لِلدُّنْيَا كَثْرَةَ قِيمَةٍ، وَهُوَ (فَيْعُولٌ) لِلْمُبَالَغَةِ كَالدَّيُّومِ. قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ: قَيُّومٌ لَا يَعْتَرِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالتَّغَيُّرُ فَالزِّيَادَةُ لِقُصُورٍ عَنِ الْغَايَةِ، وَالنُّقْصَانُ لِتَخَلُّفٍ عَنِ النِّهَايَةِ، وَهُوَ خَالِقُ الْغَايَاتِ وَالنِّهَايَاتِ.

(الْوَاجِدُ) : بِالْجِيمِ أَيِ: الَّذِي يَجِدُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ وَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْغَنِيُّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوُجْدِ. قَالَ تَعَالِيَ: {أَسْكَنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] كَمَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الثَّانِيَ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَهَذَا مُرَادِفٌ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا مُغَايِرَ لَهُ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الشَّارِحِ - فَوَهْمٌ مِنْهُ وَسَهْوٌ عَنْهُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْوَجْدُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَا يُصَادِفُونَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَطَلُّبٍ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: الْوَجْدُ لَهِيبٌ يَنْشَأُ فِي الْأَسْرَارِ وَيَنْسَلِخُ عَنِ الشَّوْقِ فَتَضْطَرِبُ الْجَوَارِحُ طَرَبًا أَوْ حُزْنًا عِنْدَ ذَلِكَ الْوَارِدِ، وَقِيلَ: الْوَجْدُ وُجُودُ نَسِيمِ الْحَبِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] قُلْتُ: وَكَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى أَلْسِنَةِ الصُّوفِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ أَرَهُ فِي الْكُتُبِ الْحَدِيثِيَّةِ، وَإِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 1582

(الْمَاجِدُ) : مِنَ الْمَجْدِ وَهُوَ سِعَةُ الْكَرَمِ وَنِهَايَةُ الشَّرَفِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَجِيدِ إِلَّا أَنَّ فِي الْمَجِيدِ مُبَالَغَةً لَيْسَتْ فِي هَذَا مِنَ الْمَجْدِ. اهـ. وَفِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ مَا لِا يَخْفَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ صِفَاتِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْكَمَالِ، سَوَاءٌ تَكُونُ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَمَجِيدٍ وَعَلِيمٍ أَوْ لَا، كَمَاجِدٍ وَعَالِمٍ. نَعَمْ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَبْنَى لَا مِنْ حَيْثِيَّةِ أَصْلِ الْمَعْنَى، بَقِيَ أَنَّ ظَاهِرَهُ التَّكْرَارُ، وَالْمُحَقِّقُونَ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ، وَالَّذِي خَطَرَ بِبَالِي أَنَّ نُكْتَةَ إِعَادَتِهِ أَنَّهُ مُقَابِلٌ لِلِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِذَا وَرَدَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ مُتَشَبِّثًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ قَائِلًا:" يَا وَاجِدُ يَا مَاجِدُ لَا تُزِلْ عَنِّي نِعْمَةً أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ» ".

(الْوَاحِدُ) : وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ الْأَحَدِ بَعْدَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: لَفَظُ الْأَحَدِ بَعْدَ الْوَاحِدِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَالدَّعَوَاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ، وَلَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَمَعْنَى الْوَاحِدِ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي ذَاتِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي فِعَالِهِ. اهـ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: الْوَاحِدُ الْمُتَفَرِّدُ بِالذَّاتِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْأَحَدُ الْمُتَفَرِّدُ بِالصِّفَاتِ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي صِفَاتِهِ، وَقِيلَ: الْوَحْدَةُ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا عَدَمُ التَّجْزِئَةِ وَالِانْقِسَامِ، وَيَكْثُرُ إِطْلَاقُ الْوَاحِدِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ التَّعَدُّدِ وَالْكَثْرَةِ، وَيَكْثُرُ إِطْلَاقُ الْأَحَدِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فَيَتَطَرَّقُ إِلَى ذَاتِهِ التَّعَدُّدُ وَالِاشْتِرَاكُ أَحَدٌ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّرْكِيبِ وَالْمَقَادِيرِ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ وَالِانْقِسَامَ وَاحِدٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاحِدُ الْأَحَدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَحْدَةِ، فَإِنَّ أَصْلَ أَحَدٍ وَاحِدٌ بِفَتْحَتَيْنِ فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحَدًا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، فَيُقَالُ: اللَّهُ أَحَدٌ، وَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ أَحَدٌ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ وَاحِدٌ، وَكَأَنَّهُ بُنِيَ لِنَفْيِ مَا يُذْكَرُ مَعَهُ مِنَ الْعَدَدِ، وَالثَّانِي: أَنَّ نَفْيَهُ يَعُمُّ، وَنَفْيَ الْوَاحِدِ قَدْ لَا يَعُمُّ، وَلِذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الدَّارِ وَاحِدٌ بَلْ فِيهَا اثْنَانِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي أَحَدٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاحِدَ يُفْتَحُ بِهِ الْعَدَدُ فَيُقَالُ: وَاحِدٌ اثْنَانِ الْخَ. وَلَا كَذَلِكَ أَحَدٌ، فَلَا يُقَالُ أَحَدٌ اثْنَيْنِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْوَاحِدَ يَلْحَقُهُ التَّاءُ بِخِلَافِ الْأَحَدِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحَدًا مِنْ حَيْثُ الْبِنَاءُ أَبْلَغُ مِنْ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُشَبَّهَةِ الَّتِي بُنِيَتْ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَحْدَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا عَدَمُ التَّجْزِئَةِ تَارَةً وَيُرَادُ بِهَا عَدَمُ التَّثَنِّي وَالنَّظِيرِ أُخْرَى، كَوَحْدَةِ الشَّمْسِ، وَالْوَاحِدُ يَكْثُرُ إِطْلَاقُهُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَالْأَحَدُ يَغْلُبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي، وَلِذَا يُجْمَعُ أَحَدٌ.

قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى عَنِ الْآحَادِ أَنَّهُ جَمْعُ أَحَدِ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ لَيْسَ لِلْأَحَدِ جَمْعٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ جَمْعُ وَاحِدٍ كَالْأَشْهَادِ فِي جَمْعِ شَاهِدٍ، وَلَا يُفْتَحُ بِهِ الْعَدَدُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مَنْ قَالَ: الْوَاحِدُ لِلْوَصْلِ، وَالْأَحَدُ لِلْفَصْلِ، فَمِنَ الْوَاحِدِ وَصَلَ إِلَى عِبَادِهِ مَا وَصَلَ مِنَ النِّعَمِ، وَمِنَ الْأَحَدِ فَصَلَ عَنْهُمْ مَا فَصَلَ مِنَ النِّقَمِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ الِاكْتِفَاءِ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، لِأَنَّ فَصْلَ النِّقَمِ يَنْدَرِجُ فِي وَصْلِ النِّعَمِ. وَالثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ، وَالْأَحَدُ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ، يَعْنِي بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا شَبِيهَ فِي صِفَاتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا سَبَبَ عَدَمِ ذِكْرِهِ، لِأَنَّهُ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي تَعَدُّدَ الْأَسْمَاءِ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى لِلِاكْتِفَاءِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ أَنْ يَغُوصَ لُجَّةَ التَّوْحِيدِ، وَيَسْتَغْرِقَ فِي بَحْرِ التَّفْرِيدِ، حَتَّى لَا يَرَى مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ غَيْرَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: التَّوْحِيدُ ثَلَاثَةٌ: تَوْحِيدُ الْحَقِّ تَعَالَى نَفْسَهُ، وَهُوَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَكَذَا إِخْبَارُهُ. قُلْتُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] وَتَوْحِيدُ الْحَقِّ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ إِعْطَاؤُهُ التَّوْحِيدَ لَهُ وَالتَّوْفِيقَ بِهِ، قُلْتُ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] وَتَوْحِيدُ الْعَبْدِ لِلْحَقِّ، وَهُوَ أَنْ لَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا. قُلْتُ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الحشر: 22] .

ص: 1583

وَقَالَ الْجُنَيْدِيُّ: التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ الْقِدَمِ مِنَ الْحَدَثِ، وَقِيلَ: التَّوْحِيدُ إِسْقَاطُ الْإِضَافَاتِ بِنُورِ الْخَلْقِ لِظُهُورِ الْحَقِّ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تُفْرِدَ قَلْبَكَ لَهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» ". قِيلَ: الْوِتْرُ هُنَا الْقَلْبُ الْمُنْفَرِدُ لَهُ تَعَالَى، قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ فِي الْحُسْنِ وَاحِدًا

فَكُنْ وَاحِدًا فِي الْحُبِّ إِنْ كُنْتَ تَهْوَاهُ.

(الصَّمَدُ) : أَيِ: السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ السُّؤْدُدُ، وَقِيلَ: الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، فَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ حَاجَةٌ أَوْ يَعْتَرِيَهُ آفَةٌ، وَقِيلَ: الْبَاقِي الَّذِي لَا يَزُولُ، وَقِيلَ: الدَّائِمُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقِيلَ الَّذِي يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الرَّغَائِبِ وَيُقْصَدُ إِلَيْهِ فِي النَّوَائِبِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَمَنْ كَانَ يَقْصِدُهُ النَّاسُ فِيمَا يَعِنُّ لَهُمْ مِنْ مَهَامِّ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَلَهُ حَظٌّ مِنَ الْوَصْفِ، وَمَنْ رَسَخَ فِي التَّوْحِيدِ وَصَارَ مُتَصَلِّبًا فِي الدِّينِ لَا يَتَزَلْزَلُ بِتَقَادُمِ الشُّبُهَاتِ وَتَعَاقُبِ الْبَلِيَّاتِ، فَقَدْ حَظِيَ مِنْهُ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ رحمه الله: مِنْ حَقِّ مَنْ عَرَفَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ بِالْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ وَشَدِّ الِارْتِحَالِ وَيُلَاحِظَ الْكَوْنَ بِعَيْنِ الْفَنَاءِ وَالِانْتِقَالِ فَيَزْهَدَ فِي حُطَامِهَا، وَلَا يَرْغَبَ فِي حَلَالِهَا، فَضْلًا عَنْ حَرَامِهَا. وَمِنْ حَقِّ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ أَنْ يُوَجِّهَ رَغَبَاتَهُ عِنْدَ مَآرِبِهِ إِلَيْهِ، وَيَصْدُقُ تَوَكُّلُهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ. فَلَا يَهْتَمُّ فِي رِزْقِهِ، وَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعِنْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ كَذَلِكَ لَا يُشَارِكُهُ فِي رِزْقِهِ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّهُ يُصْمَدُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ شَكَا إِلَيْهِ حَاجَتَهُ وَفَاقَتَهُ وَرَفَعَ إِلَيْهِ، وَتَعَلَّقَ بِجَمِيلِ تَصَرُّفِهِ وَتَقَرَّبَ بِصُنُوفِ تَوَسُّلِهِ.

(الْقَادِرُ، الْمُقْتَدِرُ) : مَعْنَاهُمَا ذُو الْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّ الْمُقْتَدِرَ أَبْلَغُ لِمَا فِي الْبِنَاءِ مِنْ مَعْنَى التَّكَلُّفِ وَالِاكْتِسَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنِ امْتَنَعَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، لَكِنَّهُ يُفِيدُ الْمَعْنَى مُبَالَغَةً، فَمَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الِاسْمَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ حَقَّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَالِغُ فِي الْقُدْرَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: زَعْمُ اسْتِوَاءِ الِاسْمَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بَعِيدٌ، فَبَعِيدٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَعْنَى، وَالِاخْتِلَافَ فِي الْمَبْنَى، مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ بِنَفْسِهِ أَنَّ مَعْنَى التَّكْلِفَةِ وَالِاكْتِسَابِ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ مُنَاقَضَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِهِ تَعَالَى بِهِمَا: نَفْيُ الْعَجْزِ عَنْهُ فِيمَا يَشَاءُ وَيُرِيدُ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوصَفَ بِالْقُدْرَةِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمِنْ حَقِّهِمَا أَنْ لَا يُوصَفَ بِهِمَا مُطْلَقًا غَيْرُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ بِالذَّاتِ، وَالْمُقْتَدِرُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمَا عَدَاهُ فَإِنَّمَا يَقْدِرُ بِإِقْدَارِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَحَقِيقٌ بِهِ أَنْ لَا يُقَالَ لَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ إِلَّا مُقَيَّدًا، أَوْ عَلَى قَصْدِ التَّقْيِيدِ.

(الْمُقَدِّمُ، الْمُؤَخِّرُ) : مَعْنَاهُمَا هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ وَيُبْعِدُ، وَمَنْ قَرَّبَهُ فَقَدْ قَدَّمَهُ، وَمَنْ أَبْعَدَهُ فَقَدْ أَخَّرَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ الْأَشْيَاءَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، إِمَّا بِالذَّاتِ كَتَقَدُّمِ الْبَسَائِطِ عَلَى الْمُرَكَّبَاتِ، وَإِمَّا بِالْوُجُودِ كَتَقْدِيمِ الْأَسْبَابِ عَلَى الْمُسَبَّبَاتِ، أَوْ بِالشَّرَفِ وَالْقُرْبَةِ كَتَقَدُّمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ، أَوْ بِالْمَكَانِ كَتَقَدُّمِ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ عَلَى السُّفْلِيَّةِ، أَوْ بِالزَّمَانِ كَتَقَدُّمِ الْأَطْوَارِ وَالْقُرُونِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الْمُقَدِّمُ مَنْ قَدَّمَ الْأَبْرَارَ بِفُنُونِ الْمَبَارِّ، وَالْمُؤَخِّرُ مَنْ أَخَّرَ الْفَجَرَةَ وَشَغَلَهُمْ بِالْأَغْيَارِ، وَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَهُمَّ بِأَمْرِهِ فَيُقَدِّمُ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.

(الْأَوَّلُ) : أَيِ: الَّذِي لَا بِدَايَةَ لِأَوَّلِيَّتِهِ. (الْآخِرُ) : أَيِ: الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلِيقَتِهِ، وَلَا نِهَايَةَ لِآخِرِيَّتِهِ، فَمِنْهُ الْأَمْرُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي مَرَاتِبِ الْوُجُودِ.

(الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ) : أَيِ: الَّذِي ظَهَرَ ظَاهِرُ وُجُودِهِ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَاحْتَجَبَ كُنْهُ ذَاتِهِ عَنِ الْعُقُولِ الْمَاهِرَةِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ الَّذِي ظَهَرَتْ شَوَاهِدُ وَجُودِهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي ظَهَرَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَا عَلَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي عُرِفَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ بِمَا ظَهَرَ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِهِ وَأَوْصَافِهِ. وَالْبَاطِنُ: هُوَ الْمُحْتَجِبُ عَنْ بَصَرِ الْخَلْقِ وَنَظَرِ الْعَقْلِ بِحُجُبِ كِبْرِيَائِهِ، فَلَا يُدْرِكُهُ بَصَرٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ وَهْمٌ، وَقِيلَ: هُوَ الْعَالِمُ بِمَا بَطَنَ يُقَالُ: بَطِنْتُ الْأَمْرَ: إِذَا عَرَفْتَ بَاطِنَهُ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ بِنِعْمَتِهِ الْبَاطِنُ بِرَحْمَتِهِ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ لِقَوْمٍ فَلِذَلِكَ وَحَّدُوهُ، وَالْبَاطِنُ عَنْ قَوْمٍ فَلِذَلِكَ جَحَدُوهُ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، وَالظَّاهِرُ بِالْقُدْرَةِ وَالْبَاطِنُ عَنِ الْفِكْرَةِ وَقِيلَ الْأَوَّلُ بِلَا مَطْلَعٍ وَالْآخِرُ بِلَا مَقْطَعٍ وَالظَّاهِرُ بِلَا اقْتِرَابٍ وَالْبَاطِنُ بِلَا احْتِجَابٍ، وَلَعَلَّ الْإِتْيَانَ بِهَا فِي الْآيَةِ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْتَبَةِ الْجَمْعِيَّةِ، وَإِشْعَارٌ بِرَفْعِ وَهْمِ التَّنَاقُضِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا خَفِيَ تَعَالَى مَعَ ظُهُورِهِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، فَظُهُورُهُ سَبَبٌ لِبُطُونِهِ، وَنُورُهُ حِجَابُ نُورِهِ، وَكُلُّ مَا جَاوَزَ عَنْ حَدِّهِ انْعَكَسَ عَلَى ضِدِّهِ، وَفِي الْحُكْمِ أَظْهَرَ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ الْبَاطِنُ، وَطَوَى وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّهُ الظَّاهِرُ.

ص: 1584

(الْوَالِي) : أَيِ الَّذِي تَوَلَّى الْأُمُورَ وَحَكَمَهَا بِالْأَحْزَانِ وَالسُّرُورِ.

(الْمُتَعَالِي) : بِمَعْنَى الْعَلِيِّ بِنَوْعٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: الْبَالِغُ فِي الْعُلُوِّ، وَالْمُرْتَفِعُ عَنِ النَّقَائِصِ.

(الْبَرُّ) : أَيِ الْمُحْسِنُ الْبَالِغُ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ، رحمه الله: مَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى بَارًّا بِهِ عَصَمَ عَنِ الْمُخَالَفَةِ نَفْسَهُ، وَأَدَامَ بِفُنُونِ اللَّطَائِفِ أُنْسَهُ، وَطَيَّبَ فُؤَادَهُ، وَحَصَّلَ مُرَادَهُ وَجَعَلَ التَّقْوَى زَادَهُ، وَأَغْنَاهُ عَنْ إِشْكَالِهِ بِإِفْضَالِهِ، وَحَمَاهُ عَنْ مُخَالَفَتِهِ بِيُمْنِ إِقْبَالِهِ، فَهُوَ مَلِكٌ لَا يَسْتَظْهِرُ بِجَيْشٍ وَعَدَدٍ، وَغِنَيٌّ لَا يَتَمَوَّلُ بِمَالٍ وَعَدَدٍ، وَفِي الْحِكَمِ: مَتَى أَعْطَاكَ أَشْهَدَكَ بِرَّهُ، وَمَتَى مَنَعَكَ أَشْهَدَكَ قَهْرَهُ، فَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَتَعَرَّفُ إِلَيْكَ، وَيُقْبِلُ بِوُجُودِ لُطْفِهِ عَلَيْكَ.

(التَّوَّابُ) : أَيِ: الَّذِي يَرْجِعُ بِالْإِنْعَامِ عَلَى كُلِّ مُذْنِبٍ رَجَعَ إِلَى الْتِزَامِ الطَّاعَةِ، بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ مِنَ التَّوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُيَسِّرُ لِلْمُذْنِبِينَ أَسَاسَ التَّوْبَةِ، وَيُوَفِّقُهُمْ لَهَا، فَسُمِّيَ الْمُسَبِّبُ لِلشَّيْءِ بِاسْمِ الْمُبَاشِرِ لَهُ. وَقِيلَ: الَّذِي يَقْبَلُ تَوْبَةَ عِبَادِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِنْ حَظِّ الْعَبْدِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ وَاثِقًا بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، غَيْرَ آيِسٍ مِنْ زَوَالِ الرَّحْمَةِ، وَيَصْفَحُ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، وَيَقْبَلُ عُذْرَ الْمُتَعَذِّرِينَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ، فَإِذَنِ ابْتِدَاءُ التَّوْبَةِ وَأَصْلُهَا مِنَ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِتْمَامُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَنِظَامُهَا بِاللَّهِ نِظَامُهَا فِي الْحَالِ، وَتَمَامُهَا فِي الْمَآلِ. وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَى الْعَبْدِ مَتَى كَانَ لِلْعَبْدِ تَوْبَةٌ. قَالَ تَعَالَى:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] .

(الْمُنْتَقِمُ) : أَيِ: الْمُعَاقِبُ لِلْعُصَاةِ عَلَى مَكْرُوهَاتِ أَفْعَالِهِمُ، افْتِعَالٌ مِنْ نَقِمَ الشَّيْءَ: إِذَا كَرِهَهُ غَايَةَ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ لَا يُحْمَدُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا إِذَا كَانَ انْتِقَامُهُ لِلَّهِ، وَمِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَأَحَقُّ أَعْدَاءٍ بِالِانْتِقَامِ نَفْسُهُ، فَيَنْتَقِمُ مِنْهَا مَهْمَا قَارَفَتْ مَعْصِيَةً أَوْ تَرَكَتْ طَاعَةً، بِأَنْ يُكَلِّفَهَا خِلَافَ مَا حَمَلَهَا عَلَيْهِ.

(الْعَفُوُّ) : فَعَوْلٌ مِنَ الْعَفْوِ، وَهُوَ الَّذِي يَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَيَتَجَاوَزُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْغَفُورِ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ يُنْبِئُ عَنِ السِّتْرِ، وَالْعَفُوُّ يُنْبِئُ، عَنِ الْمَحْوِ، وَأَصْلُ الْعَفْوِ الْقَصْدُ لِتَنَاوُلِ الشَّيْءِ، سُمِّيَ بِهِ الْمَحْوُ لِأَنَّهُ قَصْدٌ لِإِزَالَةِ الْمَمْحُوِّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى عَفُوٌ طَلَبَ عَفْوَهُ، وَمَنْ طَلَبَ عَفْوَهُ تَجَاوَزَ عَنْ خَلْقِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِذَلِكَ أَدَّبَهُمْ وَإِلَيْهِ نَدَبَهُمْ بِقَوْلِهِ:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] .

(الرَّءُوفُ) : أَيْ: ذُو الرَّأْفَةِ، وَهِيَ شِدَّةُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ بِمَرْتَبَةٍ، وَمِنَ الرَّاحِمِ بِمَرْتَبَتَيْنِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَصَحَّفَ ابْنُ حَجَرٍ الرَّاحِمَ بِالرَّحْمَنِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ عَجِيبٌ مِنَ الشَّارِحِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْتِي عَلَى أَنَّ الرَّحِيمَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ قَوْلٌ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ. حُكِيَ أَنَّ إِنْسَانًا تَجَنَّبَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى جَارٍ لَهُ مَاتَ لِكَوْنِهِ كَانَ شِرِّيرًا، فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي وَقَالَ: قُلْ لِفُلَانٍ: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذَا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الإسراء: 100] .

(مَالِكُ الْمُلْكِ) : هُوَ الَّذِي يُنْفِذُ مَشِيئَتَهُ فِي مُلْكِهِ، وَيُجْرِي الْأُمُورَ فِيهِ عَلَى مَا يَشَاءُ إِيجَادًا وَإِعْدَامًا وَإِبْقَاءً وَفَنَاءً، لَا مَرَدَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. قَالَ الشَّاذِلِيُّ: قِفْ بِبَابٍ وَاحِدٍ لِيُفْتَحَ لَكَ الْأَبْوَابُ، وَاخْضَعْ لِمَلِكٍ وَاحِدٍ لِيُخْضِعَ لَكَ الرِّقَابَ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] .

(ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) : قِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا شَرَفَ وَلَا كَمَالَ إِلَّا وَهُوَ لَهُ، وَلَا كَرَامَةَ وَلَا مَكْرُمَةَ إِلَّا وَهِيَ مِنْهُ، فَالْجَلَالُ فِي ذَاتِهِ، وَالْإِكْرَامُ مِنْهُ فَائِضٌ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ:" «أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» ". قِيلَ: لِأَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ.

(الْمُقْسِطُ) : يُقَالُ: قَسَطَ: إِذَا جَارَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وَأَقْسَطَ: إِذَا عَدَلَ وَأَزَالَ الْجَوْرَ، فَهُوَ الَّذِي يَنْتَصِفُ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَيَدْفَعُ بَأْسَ الظَّلَمَةِ عَنِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] أَيْ: بِالْعَدْلِ، فَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِأَقْسَطَ لَا مَصْدَرٌ لِقَسَطَ لِتَضَادِّ مَعْنَيْهِمَا.

ص: 1585

(الْجَامِعُ) : أَيِ: الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ أَشْتَاتِ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْمُتَضَادَّةِ مُتَجَاوِرَةً وَمُتَمَازِجَةً فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ. وَقِيلَ: الْجَامِعُ لِأَوْصَافِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَأَقُولُ: هُوَ كَمَا قَالَ: {جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9] فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَوَافَقَ الْكَمَالَاتِ النَّفْسَانِيَّةَ بِالْآدَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ فَلَهُ حَظٌّ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ يَجْمَعُ الْيَوْمَ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ إِلَى شُهُودِ تَقْدِيرِهِ، حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْبَابِ التَّفْرِقَةِ فَيَطِيبُ عَيْشُهُ، إِذْ لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُونَ لِقَاءِ اللَّهِ، فَلَا يَرَى الْوَسَائِطَ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى الْحَادِثَاتِ بِعَيْنِ التَّقْدِيرِ فَإِنْ كَانَ نِعَمٌ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُعْطِي لَهَا وَمَنِيحُهَا، وَإِنْ كَانَ شِدَّةٌ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْكَاشِفَ لَهَا وَمُزِيحَهَا.

(الْغَنِيُّ) : أَيِ: الْمُسْتَغْنِي بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] .

(الْمُغْنِي) : أَيِ الَّذِي يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي أَغْنَى خَوَاصَّ عِبَادِهِ عَمَّا سِوَاهُ، بِأَنْ لَمْ يُبْقِ لَهُمْ حَاجَةً إِلَّا إِلَيْهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يُغْنِي عِبَادَهُ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ الْحَوَائِجَ لَا تَكُونُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَشَارَ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ رَجَعَ عِنْدَ حَوَائِجِهِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ الْحَاجَةَ إِلَى الْخَلْقِ، ثُمَّ يَنْزِعُ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَمَنْ شَهِدَ مَحَلَّ افْتِقَارِهِ إِلَى اللَّهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ بِحُسْنِ الْعِرْفَانِ، أَغْنَاهُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَأَعْطَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرْتَقِبُ، وَإِغْنَاءُ اللَّهِ الْعِبَادَ عَلَى قِسْمَيْنِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُغْنِيهِ بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْنِيهِ بِتَصْفِيَةِ أَحْوَالِهِ، وَهَذَا هُوَ الْغِنَى الْحَقِيقِيُّ.

(الْمَانِعُ) : أَيِ الدَّافِعُ لِأَسْبَابِ الْهَلَاكِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْمَنَعَةِ أَيْ يُحَوِّطُ أَوْلِيَاءَهُ وَيَنْصُرُ أَصْفِيَاءَهُ، وَقِيلَ: مِنَ الْمَنْعِ أَيْ: يَمْنَعُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمَنْعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" «لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ» ". وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: رُبَّمَا أَعْطَاكَ فَمَنَعَكَ، وَرُبَّمَا مَنَعَكَ فَأَعْطَاكَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي رِوَايَةٍ: الْمُعْطِي الْمَانِعُ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: الْمَانِعُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى يَكُونُ بِمَعْنَى مَنْعِ الْبَلَاءِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى مَنْعِ الْعَطَاءِ عَمَّنْ شَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَقَدْ يَمْنَعُ الْمَنِيَّ وَالشَّهَوَاتِ عَنْ نُفُوسِ الْعَوَامِّ، وَيَمْنَعُ الْإِرَادَاتِ وَالِاخْتِيَارَاتِ عَنْ قُلُوبِ الْخَوَاصِّ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي يَخُصُّ بِهَا عِبَادَهُ الْمُقَرَّبِينَ، وَيُكْرِمُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ الْعَارِفِينَ.

(الضَّارُّ، النَّافِعُ) : هُمَا بِمَنْزِلَةِ وَصْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ الشَّامِلَةُ لِلضُّرِّ وَالنَّفْعِ، أَوْ خَالِقُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، أَوِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ النَّفْعُ وَالضُّرُّ إِمَّا بِوَاسِطٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَفِي مَعْنَى الْوَصْفَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْدُثُ شَيْءٌ فِي مُلْكِهِ إِلَّا بِإِيجَادِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقَضَائِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِهِ فَهُوَ عَائِشٌ فِي الرَّاحَةِ، وَمَنْ آثَرَ اخْتِيَارَ نَفْسِهِ وَقَعَ فِي كُلِّ آفَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْحَقِّ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:( «أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مَنِ اسْتَسْلَمَ لِقَضَائِي وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِي وَشَكَرَ عَلَى نَعْمَائِي كَانَ عَبْدِي حَقًّا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِقَضَائِي وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلَمْ يَشْكُرْ عَلَى نَعْمَائِي فَلْيَطْلُبْ رَبًّا سِوَايَ» ) .

(النُّورُ) : أَيِ: الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ الْمُظْهِرُ لِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِنُورِهِ ذُو الْعَمَايَةِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] يُنَوِّرُ الْآفَاقَ بِالنُّجُومِ، وَالْقُلُوبَ بِفُنُونِ الْمَعَارِفِ وَصُنُوفِ الْعُلُومِ، وَالْأَبْدَانَ بِآثَارِ الطَّاعَاتِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ زِينَةُ النُّفُوسِ، وَالْأَشْبَاحَ وَالْمَعَارِفَ زِينَةُ الْقُلُوبِ، وَالْأَرْوَاحَ وَالتَّأْيِيدَ بِالْمُوَافِقَاتِ نُورُ الظَّوَاهِرِ، وَالتَّوْحِيدَ بِالْمُوَاصَلَاتِ نُورُ السَّرَائِرِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَزِيدُ قَلْبَ الْعَبْدِ نُورًا عَلَى نُورٍ. قَوْلُهُ:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] أَيْ: يَهْدِي اللَّهُ الْقُلُوبَ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بِنُورِ الْحَقِّ وَيَصْطَفِيهِ، وَيَتْرُكُ الْبَاطِلَ وَيَدَعُ مَا يَسْتَدْعِيهِ.

(الْهَادِي) : هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى خَاصَّةَ خَلْقِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ فَاطَّلَعُوا بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ مَصْنُوعَاتِهِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللَّهِ، ثُمَّ يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ بِهِ، وَهَدَى عَامَّةَ خَلْقِهِ إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ، فَاسْتَشْهَدُوا بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَفْعَالِ ثُمَّ يَرْتَفِعُونَ بِهَا إِلَى الْفَاعِلِ، فَالثَّانِي مُرِيدٌ، وَالْأَوَّلُ مُرَادٌ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، وَإِلَى الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] خِطَابًا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْأَقْوِيَاءِ مِنْ خَوَاصِّ عِبَادِهِ الْأَصْفِيَاءِ، وَإِلَيْهَا الْإِيمَاءُ بِقَوْلِهِ: عَرَفْتُ رَبِّي بِرَبِّي، وَلَوْلَا رَبِّي مَا عَرَفْتُ رَبِّي، وَلَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا. وَإِلَى الثَّانِيَةِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَنُرِيهِمْ آيَتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وَبِقَوْلِهِ عز وجل: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] قَالَ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} [يونس: 9] يُكْرِمُ أَقْوَامًا. مِمَّا يُلْهِمُهُمْ مِنْ جَمِيلِ

ص: 1586

الْأَخْلَاقِ، وَيَصْرِفُ قُلُوبَهُمْ إِلَى ابْتِغَاءِ مَا فِيهِ رِضَا الْخَلَّاقِ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى اسْتِصْغَارِ قَدْرِ الدُّنْيَا حَتَّى لَا يَسْتَرِقَّهُمْ ذُلُّ الطَّمَعِ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى غَيْرِ بَابِ الْمَوْلَى، وَالْهِدَايَةُ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ ثَانِي الْهِدَايَةِ إِلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ، لِأَنَّ الدِّينَ صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ.

(الْبَدِيعُ) : أَيِ: الْمُبْدِعُ الَّذِي أَتَى بِمَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ، أَوِ الَّذِي أَبْدَعَ الْأَشْيَاءَ أَيْ أَوْجَدَهَا مِنَ الْعَدَمِ، أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْبَدِيعُ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ. قِيلَ: مَنْ أَمَرَّ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ، وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: أَصْلُ مَذْهَبِنَا ثَلَاثَةٌ. الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَصِدْقِ الْمَقَالِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ دَاهَنَ مُبْتَدِعًا سَلَبَ اللَّهُ حَلَاوَةَ السُّنَنِ مِنْ عَمَلِهِ، وَمَنْ ضَحِكَ إِلَى مُبْتَدِعٍ نَزَعَ اللَّهُ نُورَ الْإِيمَانِ مِنْ قَلْبِهِ.

(الْبَاقِي) : أَيِ: الدَّائِمُ الْوُجُودِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْفَنَاءَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: حَقِيقَةُ الْبَاقِي مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَاقِيًا بِبَقَاءِ غَيْرِهِ، وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ تَشْتَدَّ بِهِ الْعِنَايَةُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْعَبْدُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ ذَاتِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِعِلْمِ الْحَقِّ، وَلَا قَادِرًا بِقُدْرَتِهِ، وَلَا سَمِيعًا بِسَمْعِهِ، وَلَا بَصِيرًا بِبَصَرِهِ، وَلَا بَاقِيًا بِبَقَائِهِ، لِأَنَّ الصِّفَةَ الْقَدِيمَةَ لَا يَجُوزُ قِيَامُهَا بِالذَّاتِ الْحَادِثَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ قِيَامُ الصِّفَةِ الْحَادِثَةِ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ، وَحِفْظُ هَذَا الْبَابِ أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا تَحْصِيلَ لَهُ وَلَا تَحْقِيقَ زَعَمُوا أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ بَاقِيًا بِبَقَاءِ الْحَقِّ، سَمِيعًا بِسَمْعِهِ، وَبَصِيرًا بِبَصَرِهِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الدِّينِ، وَانْسِلَاخٌ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَرُبَّمَا تَعَلَّقُوا فِي نُصْرَةِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ بِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ:«فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا، بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ» ، وَلَا احْتِجَاجَ لَهُمْ فِي ظَاهِرِهِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِسَمْعِي وَيُبْصِرُ بِبَصَرِي، بَلْ قَالَ: بِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ. قَالَ النَّصْرُ آبَاذِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى بَاقٍ بِبَقَائِهِ وَالْعَبْدُ بَاقٍ بِإِبْقَائِهِ، وَلَقَدْ حَقَّقَ رحمه الله وَحَصَّلَ وَأَخَذَ عَنْ كَمِّيَّةِ الْمَسْأَلَةِ وَفَصَّلَ.

(الْوَارِثُ) : الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْعِبَادِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ حِينَ يَقُولُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: 40] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ الْأَمْلَاكُ بَعْدَ فَنَاءِ الْمُلَّاكِ، وَهَذَا بِالنَّظَرِ الْعَامِّيِّ، وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَهُوَ الْمَلِكُ الْمَالِكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا قِيلَ: الْوَارِثُ الَّذِي يَرِثُ بِلَا تَوْرِيثِ أَحَدٍ وَالْبَاقِي الَّذِي لَيْسَ لِمُلْكِهِ أَمَدٌ.

(الرَّشِيدُ) : أَيِ الَّذِي تَنْسَاقُ تَدَابِيرُهُ إِلَى غَايَتِهَا عَلَى سُنَنِ السَّدَادِ بِلَا اسْتِشَارَةٍ وَإِرْشَادٍ، فَهُوَ الَّذِي أَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَى مَصَالِحِهِمْ أَيْ: هَدَاهُمْ إِلَيْهَا، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِلٍ بِمَعْنَى الْهَادِي، فَيَكُونُ إِرْشَادُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ هِدَايَةَ نَفْسِهِ إِلَى طَاعَتِهِ وَقَلْبِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَرُوحِهِ إِلَى مَحَبَّتِهِ وَسِرِّهِ إِلَى قُرْبَتِهِ، وَأَمَارَةُ مَنْ أَرْشَدَهُ الْحَقُّ لِإِصْلَاحِ نَفْسِهِ أَنْ يُلْهِمَهُ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيضَ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ إِلَيْهِ.

جَاعَ ابْنُ أَدْهَمَ يَوْمًا فَأَمَرَ رَجُلًا بِرَهْنِ شَيْءٍ مَعَهُ عَلَى مَا يَأْكُلُهُ، فَخَرَجَ فَإِذَا بِإِنْسَانٍ مَعَهُ بَغْلَةٌ عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ: هَذَا مِيرَاثُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَأَنَا غُلَامُهُ فَأْتِيَ بِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ وَمَا مَعَكَ وَهَبْتُهُ لَكَ، فَانْصَرِفْ عَنِّي، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: يَا رَبِّ كَلَّمْتُكَ فِي رَغِيفٍ فَصَبَبْتَ عَلَيَّ الدُّنْيَا، فَوَحَقِّكَ لَئِنْ أَمَتَّنِي جُوعًا لَمْ أَتَعَرَّضْ لِطَلَبِ شَيْءٍ.

(الصَّبُورُ) : أَيِ: الَّذِي لَا يَعْجَلُ فِي مُؤَاخَذَةِ الْعُصَاةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَلِيمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَأْمَنُ الْعُقُوبَةَ فِي صِفَةِ الصَّبُورِ كَمَا يَأْمَنُهَا فِي صِفَةِ الْحَلِيمِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَا تَحْمِلُهُ الْعَجَلَةُ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْفِعْلِ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَلِيمِ أَنَّ الصَّبُورَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يُعَاقِبُ فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْحَلِيمِ. وَأَصْلُ الصَّبْرِ حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْمُرَادِ، فَاسْتُعِيرَ لِمُطْلَقِ التَّأَنِّي فِي الْفِعْلِ لِأَنَّهُ غَايَتُهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) : وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرَوَى عَدَدَ تِلْكَ التِّسْعَةِ وَالتِسْعِينَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا، لَكِنْ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ، وَاخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي أَنَّ سَرْدَهَا هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الرَّاوِي، أَوْ مَرْفُوعٌ وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ تَعْدَادَهَا إِنَّمَا هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي، لَكِنَّ الْمَوْقُوفَ الَّذِي لَيْسَ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) : قِيلَ: مَا مِنِ اسْمٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ إِلَّا وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ غَيْرَ لَفْظِ الصَّبُورِ، فَإِنَّهُ مَا وُجِدَ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ» ".

ص: 1587

2289 -

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فَقَالَ: " دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

2289 -

(وَعَنْ بُرَيْدَةَ) : أَيِ: ابْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ، أَسْلَمَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا، وَبَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَ مِنْ سَاكِنِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ تُحَوَّلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إِلَى خُرَاسَانَ غَازِيًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) : تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (الْأَحَدُ) : أَيْ: بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ (الصَّمَدُ) : أَيِ: الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ وَالْمَطْلُوبُ الْحَقِيقِيُّ (الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) : الْمُنَزَّهُ عَنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ وَالْحُدُوثِ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا) : أَيْ: مِثْلًا فِي ذَاتِهِ وَشَبِيهًا فِي صِفَاتِهِ وَنَظِيرًا فِي أَفْعَالِهِ (أَحَدٌ) : وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَسْئُولَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ (فَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم (دَعَا) : أَيِ الرَّجُلُ (اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ) قِيلَ الْأَعْظَمُ هُنَا يَعْنِي الْعَظِيمَ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ عَظِيمٌ، وَقِيلَ: كُلُّ اسْمٍ هُوَ أَكْثَرُ تَعْظِيمًا لَهُ تَعَالَى، فَهُوَ أَعْظَمُ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ تَعْظِيمًا، فَالرَّحْمَنُ أَعْظَمُ مِنَ الرَّحِيمِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مُبَالَغَةً، وَلَفْظَةُ (اللَّهَ) أَعَمُّ مِنَ الرَّبِّ، لِأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي تَسْمِيَتِهِ لَا بِالْإِضَافَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا بِخِلَافِ الرَّبِّ (الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ) : إِجَابَةُ الدُّعَاءِ تَدُلُّ عَلَى وَجَاهَةِ الدَّاعِي عِنْدَ الْمُجِيبِ، فَيَتَضَمَّنُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ بِخِلَافِ الْإِعْطَاءِ، فَالْأَخِيرُ أَبْلَغُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَقَالَ: فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى اسْمًا أَعْظَمَ إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ. وَأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ هَاهُنَا، وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ بِإِخْلَاصٍ تَامٍّ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، إِذْ لَا شَرَفَ لِلْحُرُوفِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَفِيهَا أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ اللَّهِ مَذْكُورٌ فِي الْكُلِّ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ. اهـ. وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَتَقَدَّمَ شَرْطُهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

ص: 1588

2290 -

«وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَرَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أَسْأَلُكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

2290 -

(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَرَجُلٌ يُصَلِّي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ) : لَعَلَّهُ حَذَفَ الْمَفْعُولَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمَسْئُولِ (بِأَنَّ لَكَ) : تَقْدِيمُ الْجَارِّ لِلِاخْتِصَاصِ (الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ) : أَيْ كَثِيرُ الْعَطَاءِ مِنَ الْمِنَّةِ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، أَوِ النِّعْمَةِ الثَّقِيلَةِ. وَالْمِنَّةُ مَذْمُومَةٌ مِنَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا. قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: مَنَّ عَلَيْهِ مَنًّا أَيْ أَنْعَمَ، وَالْمَنَّانُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى. اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمِنَّةِ أَيِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَثِيرُ الِامْتِنَانِ عَلَى عِبَادِهِ بِإِيجَادِهِمْ وَإِمْدَادِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: الْحَنَّانُ قَبْلَ الْمَنَّانِ، هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْمَفَاتِيحِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْحَنَّانُ أَيِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: الْحَنَّانُ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالْمَنَّانُ: مَنْ يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، مِنْ كِتَابِ ابْنِ الصَّلَاحِ، كَذَا وَجَدْتُهُ بِخَطِّ مَوْلَانَا إِسْمَاعِيلَ الشُّرْوَانِيِّ. (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) : يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الْمَنَّانِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ أَوْ أَنْتَ، وَهُوَ أَظْهَرُ. وَالنَّصْبُ عَلَى النِّدَاءِ، وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ الْوَاحِدِيِّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ لَهُ: يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ، كَذَا فِي شَرْحِ الْجَزَرِيِّ عَلَى الْمَصَابِيحِ، أَيْ: مُبْدِعُهُمَا، وَقِيلَ: بَدِيعُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: أَبْدَعْتُ الشَّيْءَ: اخْتَرَعْتَهُ لَا عَلَى مِثَالٍ سَبَقَ (يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) : أَيْ: صَاحِبَ الْعَظَمَةِ وَالْمِنَّةِ (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ أَسْأَلُكَ) : أَيْ: وَلَا أَسْأَلُ غَيْرَكَ، وَلَا أَطْلُبُ سِوَاكَ، أَوْ أَسْأَلُكَ كُلَّ مَا أَسْأَلُ. أَوْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحِصْنِ.

ص: 1588

(فَقَالَ النَّبِيُّ " «دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ: وَالدَّارِمِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمَصَابِيحِ: رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَلَفْظَةُ أَحْمَدَ:«بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ» ، وَلَفْظُ الْبَاقِينَ:«بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ» ، وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ بَعْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ:«وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ» ، وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ:(الْحَنَّانُ) قَبْلَ الْمَنَّانِ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ:«يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» .

ص: 1589

2291 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] وَفَاتِحَةِ (آلِ عِمْرَانَ) : {الم} [آل عمران: 1] ، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] » رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

2291 -

(وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) : أَيِ ابْنِ السَّكَنِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ فِي الْأَسْمَاءِ. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] (وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ) » : بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا وَمَا قَبْلَهَا بَدَلَانِ، وَجُوِّزَ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَوَجْهُهُمَا ظَاهِرٌ (الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) :(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) : وَرَوَى الْحَاكِمُ: اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَعْظَمُ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطه. قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّامِيُّ التَّابِعِيُّ، رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ مِائَةَ صَحَابِيٍّ، فَالْتَمَسْتُهَا أَيِ السُّوَرَ الثَّلَاثَ، فَوَجَدْتُ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَرَّرَهُ الْإِمَامُ فَخَرُّ الدِّينِ الرَّازِيُّ رحمه الله وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، مَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا كَدَلَالَتِهِمَا. وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ أَرْبَابِ الْكَشْفِ أَنَّهُ:(هُوَ) وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كَلَامِ مُعَظَّمٍ بِحَضْرَتِهِ لَمْ يَقُلْ أَنْتَ بَلْ يَقُولُ: (هُوَ) . اهـ.

وَهُنَا أَقْوَالٌ أُخَرُ فِي تَعْيِينِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ. مِنْهَا: أَنَّهُ رَبٌّ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُمَا قَالَا: اسْمُ اللَّهِ الْأَكْبَرُ رَبِّ رَبِّ. وَمِنْهَا: اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، نُقِلَ هَذَا عَنِ الْإِمَامِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، أَنَّهُ رَأَى فِي النَّوْمِ. وَمِنْهَا: كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٍ، عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَمِنْ ثَمَّ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْلِمَهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَلَمْ يَفْعَلْ فَصَلَّتْ وَدَعَتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْعُوكَ اللَّهَ، وَأَدْعُوكَ الرَّحْمَنَ، وَأَدْعُوكَ الرَّحِيمَ، وَأَدْعُوكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ» إِلَخْ. وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَهَا " «إِنَّهَا هِيَ الْأَسْمَاءُ الَّتِي دَعَوْتِ بِهَا» ". قُلْتُ: سَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا لَا يَخْفَى، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ السُّيُوطِيُّ الْأَقْوَالَ فِي رِسَالَتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَخْفِيُّ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ. وَأَنْكَرَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَرْجِيحَ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِاعْتِقَادِ نُقْصَانِ الْمَفْضُولِ عَنِ الْأَفْضَلِ، وَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْظَمِ الْعَظِيمُ، إِذْ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا عَظِيمَةٌ.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرَانِيُّ: اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي تَعْيِينِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا صَحِيحَةٌ، إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي خَبَرٍ مِنْهَا أَنَّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى يَجُوزُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ

ص: 1589

أَعْظَمَ، فَيَرْجِعُ لِمَعْنَى عَظِيمٍ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: الْأَعْظَمِيَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَخْبَارِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا مَزِيدُ الدَّاعِي فِي ثَوَابِهِ إِذَا دَعَا بِهَا، كَمَا أُطْلِقَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ لَهُ مَزِيدُ الثَّوَابِ لِلْقَارِئِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ كُلُّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى دَعَا بِهِ الْعَبْدُ مُسْتَغْرِقًا، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِي خَاطِرِهِ وَفِكْرِهِ حَالَتَئِذٍ غَيْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ. عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ رضي الله عنه وَقَالَ آخَرُونَ: اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَثْبَتَهُ آخَرُونَ، وَاضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا بَعْضَهَا. وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ.

ص: 1590

2292 -

وَعَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا رَبَّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

2292 -

(وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " دَعْوَةُ ذِي النُّونِ ": أَيْ: صَاحِبِ الْحُوتِ، وَهُوَ سَيِّدُنَا يُونُسَ عليه الصلاة والسلام (إِذْ دَعَا) : أَيْ " رَبَّهُ " كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي التِّرْمِذِيِّ، لَكِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْأَذْكَارِ، كَذَا فِي الْمَفَاتِيحِ وَهُوَ ظَرْفُ دَعْوَةٍ (وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] . بَدَلٌ مِنَ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ الْمَرَّةُ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيُرَادُ هُنَا الْمَدْعُوُّ بِهِ مَعَ التَّوَسُّلِ فِيهِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِجَابَتِهِ (لَمْ يَدْعُ بِهَا) : أَيْ: بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ، أَوْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ (رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ) : أَيْ: مِنَ الْحَاجَاتِ (إِلَّا اسْتَجَابَ) أَيِ: " اللَّهُ "(لَهُ) : وَلَعَلَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88](رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) .

وَمُخْتَصَرُ قِصَّتِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَخَرَجَ يُونُسُ عليه الصلاة والسلام مِنْ بَيْنِهِمْ، فَظَهَرَ سَحَابٌ أَسْوَدُ وَدَنَا حَتَّى وَقَفَ فَوْقَ بَلَدِهِمْ، فَظَهَرَ مِنْهُ دُخَانٌ، فَلَمَّا أَيْقَنُوا أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ خَرَجُوا مَعَ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْأُمَّهَاتِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ، وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّضَرُّعِ وَالْبُكَاءِ، وَآمَنُوا وَتَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ وَقَالُوا: يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَدَنَا يُونُسُ عليه الصلاة والسلام مِنْ بَلَدِهِمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَعْلَمَ كَيْفَ حَالُهُمْ، فَرَأَى مِنَ الْبَعِيدِ أَنَّ الْبَلَدَ مَعْمُورٌ كَمَا كَانَ وَأَهْلَهُ أَحْيَاءٌ فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ قُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ الْعَذَابَ يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَنْزِلْ، فَذَهَبَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ وَرُفِعَ عَنْهُمْ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى سَفِينَةً وَرَكِبَهَا، فَلَمَّا رَكِبَهَا وَقَفَتِ السَّفِينَةُ فَبَالَغُوا فِي إِجْرَائِهَا فَلَمْ تَجْرِ، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هُنَا عَبْدٌ آبِقٌ فَقَرَعُوا بَيْنَ أَهْلِ السَّفِينَةِ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ: أَنَا الْآبِقُ فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَهُ حُوتٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَحْفَظَهُ، فَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ وَسَارَ بِهِ إِلَى النِّيلِ ثُمَّ إِلَى بَحْرِ فَارِسٍ، ثُمَّ إِلَى دِجْلَةَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، أَيْ: أَنَا مِنَ الظَّالِمِينَ بِخُرُوجِي مِنْ بَيْنِ قَوْمِي قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي بِهِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَأَمَرَ الْحُوتَ بِإِلْقَائِهِ إِلَى أَرْضِ نَصِيبِينِ بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ.

ص: 1590

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2293 -

«عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ عِشَاءً، فَإِذَا رَجُلٌ يَقْرَأُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَقُولُ: هَذَا مُرَاءٍ؟ قَالَ: " بَلْ مُؤْمِنٌ مُنِيبٌ " قَالَ: وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يَقْرَأُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ جَلَسَ أَبُو مُوسَى يَدْعُو، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَحَدًا، صَمَدًا، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخْبِرُهُ بِمَا سَمِعْتُ مِنْكَ؟ قَالَ " نَعَمْ " فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي: أَنْتَ الْيَوْمَ لِي أَخٌ صَدِيقٌ، حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» - رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2293 -

(عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ عِشَاءً) : أَيْ: وَقْتَ عِشَاءٍ، أَوْ لِصَلَاةِ عِشَاءٍ (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (رَجُلٌ يَقْرَأُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَقُولُ) : قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:

ص: 1590