المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: أول واجب على المكلفين - مسائل العقيدة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري

[يوسف الحوشان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية وأسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: حياة البخاري

- ‌المطلب الأول: اسمه ونسبه ومولده:

- ‌المطلب الثاني: نشأته وسيرته العلمية

- ‌المطلب الثالث: شيوخه وتلاميذه

- ‌المطلب الرابع: مؤلفاته

- ‌المطلب الخامس: شمائله

- ‌المطلب السادس: علمه وثناء الأئمة عليه:

- ‌المطلب السابع: محنة الإمام البخاري في [مسألة اللفظ]

- ‌المطلب الثامن: وفاته

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالجامع الصحيح

- ‌المطلب الأول: اسمه وموضوعه

- ‌المطلب الثاني: سبب ومدة ومكان تأليفه

- ‌المطلب الثالث: منهجه في تصنيف صحيحه ومكانته

- ‌المطلب الرابع: قيمة كتاب التوحيد بين أبواب الجامع وعناية العلماء به

- ‌الباب الأول: مسائل العقيدة في كتاب التوحيد

- ‌الفصل الأول: التوحيد والرد على الجهمية

- ‌المطلب الأول: المؤلفات في التوحيد

- ‌المطلب الثاني: تعريف التوحيد

- ‌المطلب الثالث: تعريف الجهمية

- ‌الفصل الثاني: أول واجب على المكلفين

- ‌الفصل الثالث: الأسماء الحسنى

- ‌المبحث الأول: إثبات الأسماء الحسنى

- ‌المطلب الأول: إثباتها وأقسامها

- ‌المطلب الثاني: دلالة الأسماء الحسنى على الذات

- ‌المبحث الثاني: الاسم والمسمى

- ‌المبحث الثالث: عدّ الأسماء الحسنى وإحصاؤها

- ‌المبحث الرابع: الأسماء التي ذكرها البخاري

- ‌المبحث الخامس: اطلاق بعض النعوت على الله

- ‌المطلب الأول: إطلاق الذات على الله

- ‌المطلب الثاني: إطلاق النفس على الله

- ‌المطلب الثالث: إطلاق (الشيء) على الله

- ‌المطلب الرابع: إطلاق (الشخص) على الله

- ‌الفصل الرابع: من أحكام الأسماء الحسنى

- ‌المبحث الأول: السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها

- ‌المبحث الثاني: الحلف بأسماء الله

- ‌الباب الثاني الصفات الإلهية

- ‌تمهيد: تعريف الصفة وأقسام الناس فيها:

- ‌الفصل الأول: الصفات الذاتية

- ‌المبحث الأول: ما ورد في السمع والبصر

- ‌المبحث الثاني: ما ورد في العلم والقدرة

- ‌المطلب الأول: ما ورد في العلم

- ‌المطلب الثاني: ما ورد في القدرة

- ‌المبحث الثالث: ما ورد في المشيئة والإرادة

- ‌المبحث الرابع: الصفات (الخبرية)

- ‌المطلب الأول: ما ورد في الوجه

- ‌المطلب الثاني: ما ورد في العين

- ‌المطلب الثالث: ما ورد في اليدين والأصابع

- ‌الفصل الثاني: الصفات الفعلية

- ‌المبحث الأول: الصفات الاختيارية و [شبهة قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى]

- ‌المبحث الثاني: ما ورد في الاستواء على العرش

- ‌المبحث الثالث: ما ورد في العلو

- ‌الفصل الثالث: ما ورد في الرؤية

- ‌الفصل الرابع: ما ورد في صفة الكلام

- ‌الفصل الخامس: ما ورد في أفعال العباد

- ‌ملحق في منهج البخاري رحمه الله في بيان مسائل العقيدة ورده على المخالفين

- ‌أولاً: تعظيمه للآثار

- ‌ثانياً: الاحتكام إلى اللغة العربية

- ‌ثالثاً: التمسك بالألفاظ الشرعية وبيان مراد المتكلم

- ‌رابعاً: الإيجاز في عرض الشبهة وجوابها

- ‌خامساً: الاحتجاج بموافقة العقل الصريح للنص الصحيح

- ‌الخاتمة

- ‌ويقترح الباحث في نهاية هذا البحث:

الفصل: ‌الفصل الثاني: أول واجب على المكلفين

‌الفصل الثاني: أول واجب على المكلفين

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: كتاب التوحيد

(- باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تعالى).

1) أسند فيه حديث معاذ وفيه " فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك".

2) وحديث معاذ وفيه: أتدري ما حق الله على العباد. . . أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً".

3) وحديث أبي سعيد الخدري في الرجل الذي يقرأ سورة الإخلاص وفيه " والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن"

4) وحديث عائشة عن الرجل الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم على سرية وكان يختم بـ " قل هو الله أحد " وقال عليه السلام حين قال " إنها صفة الرحمن وأنا أحبُ أن أقرأ بها". فقال: " أخبروه أن الله يحبه".

بعث الله أنبيائه جميعاً بالتوحيد ودعوة أقوامهم إلى أن يوحدوا الله.

والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تنص على وجوب عبادة الله وحده لا شريك له وتبين لزوم ذلك للإنسان لزوم أمرٍ أوجبه الله عليه وجاء الوعيد والتهديد لمن تركه وأعرض عنه، والترغيب والوعد بالجزاء الجميل لمن أمتثل ذلك واتبع الرسل ومع وضوح ذلك من النصوص الشرعية، فقد وُجد من خالف ذلك الجانب وأعرض عن العلم بأمر الله وشرعه والذي بفقده يستحكم الضلال والبعد عن كل خير.

فلابد للعبد أن يعلم أنَّ أهمّ ما أوجبه الله عليه معرفة ما أمر الله والعمل به. وأول ما أوجب الله تعالى على العبد وأعظمه هو الإيمان به تعالى وبرسوله ثم الاهتداء إلى ذلك وتفاصيله

ص: 64

بالوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي} سبأ 50.

وقال عبد الله بن رواحة والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ويردد معه. . "والله لولا الله ما اهتدينا" وذلك عند بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد تكلم الناس في أصل المعرفة بالخالق سبحانه. . هل هي فطرية أم نظرية؟ . وترتب على هذا اختلاف آخر وهو: هل النظر واجب أم لا؟ على أقوال:

الأول: أن النظر واجب وأن المعرفة بالصانع متوقفة عليه. وهو قول الجهمية وطوائف من المتكلمين كالجو يني وحكى الإيجي الإجماع على ذلك وهو المشهور عند المعتزلة. (1)

الثاني: يمكن حصول المعرفة بدون النظر لكنه طريق صحيح وهو قول أبي سليمان الخطابي (2) والقاضي أبي يعلى (3) وأبي جعفر السمناني. (4)

والثالث: أنه ليس بواجب مطلقاً وهو قول ابن حزم وقد شدد اللهجة في إنكاره وقال: "فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن ولله الحمد في غاية اليقين بدين الإسلام، وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم نجد أنفسنا في غاية السكون إليه، وفي غاية النفار عن كل ما يتعرض فيه بشك. (5)

(1) المواقف للايجي صـ 27.

(2)

حمد بن محمد الخطابي، فقيه محدِّث شرح البخاري وسنن أبي داود (ت 388 هـ) الأعلام (2/ 273).

(3)

محمد بن الحسين الفراء، عالم عصره في الأصول والفروع وشيخ الحنابلة في وقته ت (854 هـ) الأعلام (6/ 99).

(4)

محمد بن أحمد السمناني، قاضي حنفي كان مقدم الأشعرية في وقته توفي (444 هـ) الأعلام (5/ 314).

(5)

الفصل لابن حزم (4/ 71).

ص: 65

الرابع: هو واجب بالجملة وهو قولٌ للخطابي وأبي فرج المقدسي. (1)

والموجبون للنظر يقولون هو: أول الواجبات، ومنهم من يقول بل القصد إلى النظر هو أول الواجبات. وقال أبو هاشم بل الشك أول الواجبات. (2)

وهناك من فصَّل فقال: يجب النظر في حالٍ دون حال، وعلى شخص دون شخص فوجوبه من العوارض التي تجب على بعض الناس في بعض الأحوال لا من اللوازم العامة فيقال: كل علم وجب ولم يحصل إلاّ بالنظر وجب فيه النظر.

وأما إذا حصل ضرورة أو حصل بدون النظر ولم يكن العلم واجباً لم يكن النظر فيه واجباً. وذكر ابن تيمية: أن هذا أعدل الأقوال وكلام الأئمة والسلف إنما يدل عليه. (3)

ومعرفة الخالق فطرية وإنما تكون نظرية عند من فسدت فطرته فاحتاج إلى النظر والبرهان ومن المعلوم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب هذا النظر على الأمة، ولا أمرهم به. بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة، ولو كان النظر واجباً لكان أول ما يجب على الرسل دعوة قومهم إليه وهذا مما علم فساده من دين الإسلام. (4)

والفطر تعرف الخالق بدون الآيات والأدلة الفعلية لأن معرفة الدليل تستلزم تصور المدلول عليه قبل ذلك، كما أن معرفة الاسم تقتضي تصور المسمى من قبل حتى تمكن المطابقة وتتم المعرفة. (5)

(1) عبد الواحد بن محمد الشيرازي شيخ الشام في وقته، حنبلي له مؤلفات جليلة (ت 486 هـ) الأعلام (4/ 177).

(2)

المواقف صـ 32.

(3)

الرسائل الكبرى لابن تيمية 2/ 347، 348.

(4)

انظر الفتاوي لابن تيمية 16/ 330.

(5)

مدرارج السالكين 1/ 59 - 60.

ص: 66

والقلوب مفطورة على الإقرار به سبحانه أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره كما قالت الرسل: {أفي الله شكٌ فاطر السموات والأرض} إبراهيم 10.

قال الشهرستاني: فما عددت هذه المسألة - توحيد الربوبية- من النظريات التي يقام عليها برهان، فإن الفطر السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها على صانع حكيم عالم قادر".

ثم قال: ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك. (1)

ويشير الإمام أبو المظفر السمعاني (2) إمام الشافعية في وقته إلى هذا الأمر بقوله: " وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام على ما أسسوا فإنهم قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين ولو أنك تدبرت جميع أقوالهم وكتبهم لم تجد هذا في شيء منها لا منقولاً من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من الصحابة رضي الله عنهم وكذلك من التابعين بعدهم. فكيف يجوز أن يخفى عليهم أول الفرائض وهم صدور هذه الأمة والسفراء بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ساق رحمه الله الأدلة على أن أول واجب هو الدعوة إلى توحيد الله واستدل لذلك بحديث الباب عن معاذ وحديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. (3)

(1) نهاية الأقدام صـ (124).

(2)

منصور بن محمد التميمي الشافعي، مفسرٌ محدِّث وهو صاحب الأنساب له (الإنتصار لأصحاب الحديث) وغيره (ت 489 هـ) الأعلام (7/ 303).-

(3)

رواه البخاري - الإيمان ب 17.

ص: 67

ثم قال: وما روى أنه دعاهم إلى النظر والاستدلال وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أنه يُدعى إلى الإسلام فإن أبى وسأل النظرة أو الإمهال لا يجاب إلى ذلك.

ثم قال: وربما لا يتفق النظر والاستدلال له في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكفار مدة طويلة تأتي على سنين ليتمكنوا من النظر التمام والكمال وهذا خلاف إجماع المسلمين. (1)

قال الإمام الطحاوي في أول عقيدته المشهورة: " نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله. أن الله واحد لا شريك له".، وعلق عليه الشارح بقوله:

ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة ألا إله إلا الله لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوالٌ لأرباب الكلام المذموم. بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب بلوغه ولم يوجب أحدٌ منهم على وليه أن يخاطبه حينئذٍ بتجديد الشهادتين وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبٌ باتفاق المسلمين ووجوبه يسبق وجوب الصلاة لكن هذا أدى إلى هذا الواجب. ثم قال فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنَّة) فهذا أول وآخر واجب. (2)

وهذه المسألة هي أول المسائل في كتب أهل الكلام عند الأشاعرة والماتريدية وهي من جملة ما بقى من أصول المعتزلة.

(1) نقل هذا الإمام قوام السنة إسماعيل التميمي في كتابه الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة 2/ 117.

(2)

بتصرف من كلام شارح الطحاوية ابن أبي العز صـ 23.

ص: 68

كما نقل ذلك الحافظ بن حجر عن أحد كبار الأشاعرة فقال: " وقد أعترف أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة وكبارهم بأن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب"(1) وهنا يبين تأثير المعتزلة على الأشاعرة.

والذي بوب له البخاري رحمه الله تعالى من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى التوحيد هو الذي نُقل عن السلف الصالح والأئمة الأعلام فقد أخرج الإمام الهروي (2) في كتابه (ذم الكلام) بسنده عن الإمام الشافعي رحمه الله، قال: سئل الإمام مالك عن الكلام والتوحيد فقال مالك: "محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" فما عصم به المال والدم حقيقة التوحيد. (3)

وقال الشافعي رحمه الله تعالى: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما الإقرار بشهادة إلا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (4)، وهذا هو الذي يفهم من تبويب الإمام البخاري.

فأحاديث الباب دالة على ذلك فحديث معاذ وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما تدعوهم إليه) وحديث (حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، والشرك ضد التوحيد. وحديث (فضل سورة الإخلاص) وهي التي تحتوي على أصول التوحيد وإفراد الله بأنه الواحد الأحد الصمد. والنصوص تؤيد ذلك فمنها ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما

(1) فتح الباري 1/ 70، 13/ 348.

(2)

عبد بن أحمد بن محمد ابوذر الهروي، عالم من الحفاظ من فقهاء المالكية، (ت 434 هـ) الأعلام (3/ 269).

(3)

اعتقاد الأئمة الأربعة د. عبد الله الخميس صـ 25.

(4)

اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم صـ 165، ومختصر العلو للذهبي صـ 176.

ص: 69

أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أنشدك الله. آلله أرسلك أن نشهد ألا إله إلا الله وأن ندع اللات والعزى، قال نعم، فأسلم. (1)

وحديث عمرو بن عبسة عند مسلم قال: ما أنت؟ قال: نبي الله قلت: آلله أرسلك قال: نعم، قلت بأي شيء قال: أن يوحد الله ولا يشرك به. (2)

وحديث أسامة في قصة قتله للرجل الذي قال: لا إله إلا الله فأنكر عليه. (3) وما كتبه عليه السلام إلى هرقل وكسرى وغيرهما من الملوك يدعوهم إلى التوحيد إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التواتر المعنوي الدال على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد في دعائه المشركين على أن يؤمنوا بالله وحده ويصدقوه فيما جاء به عنه فمن فعل ذلك قَبِلَ منه، قال تعالى:{فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} محمد 19.

وقد حذر الإمام القرطبي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم (المفهم) من الانسياق وراء من قعَّدوا قواعد وألزموا الناس بها بعيداً عن النصوص الشرعية فقال في شرح حديث " أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"(4) هذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبة الموهمة وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين كما يقع لأكثر المتكلمين ثم ساق أقوالاً لعلماء الكلام ورجوعهم عنه، ثم قال: ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقاً بالذم.

(1) مسند الإمام أحمد ح (2260).

(2)

صحيح مسلم ح (1374).

(3)

البخاري ح (3935).

(4)

مسلم ح (4821).

ص: 70

الأولى: قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عند وجوب النظر والقصد إلى النظر وإليه أشار الإمام الجو يني بقوله " ركبت البحر الأعظم وغصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق فرار من التقليد والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف.

ثانيهما: قول جماعة منهم أن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه حتى لقد أُورِدَ على بعضهم: أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك فقال: لا تشنِّع علي بكثرة أهل النار. (1)

فلماذا ليس النظر ولا القصد إلى النظر؟ الصحيح أن القرآن يعرض النظر ولكن لمن يحتاج إليه، أمّا النظر المنهي عنه هو النظر المؤسس على الآراء الفلسفية كالجوهر والعرض وغيرها، قال شيخ الإسلام: ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذاً في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات هل هو النظر أو القصد أو الشك أو المعرفة؛ صار كثير من المنتسبين للسنة يوافقونهم على ذلك. (2) فتبين أن هذه المقالة من موروثات بدع الجهم التي تقاسمتها الفرق بعده وصدق فيهم قول ابن القيم رحمه الله في نونيته:

ولذا تقاسمت الطوائف قوله

وتوارثوه إرث ذي السهمان

لم ينج من أقواله طرفاً سوى

أهل الحديث وشيعة القرآن. (3)

وممن صرح بأنها من قول الجهم الإمام السُجزي (4) في رسالته في الحرف والصوت فقال "وهو من أفظع الأقاويل وهو قول الجهم". (5)

(1) فتح الباري 13/ 62، 363

(2)

درء تعارض العقل والنقل 8/ 3، 4.

(3)

النونية 1/ 48 شرح هرّاس.

(4)

عبدالله بن سعيد بن حاتم السجزي، من حفاظ الحديث له (الإبانة عن أصول الدِّيانة) وغيرها. (ت 444 هـ) الأعلام (4/ 194).

(5)

رسالة في الحرف والصوت للسجزي صـ 198.

ص: 71

وقال شيخ الإسلام: هذا القول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم، ولهذا قال أبو جعفر السمناني: القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة وهؤلاء الموجبون للنظر يبينون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر لا سيما القدرية منهم فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم بل هم متنازعون في ذلك. (1)

قال الغزالي رحمه الله" أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين. (2)

وفي حديث الباب وحسن إيراد البخاري له - رحمة الله - الدليل على أن أول الواجبات التوحيد. فقوله صلى الله عليه وسلم[أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله] بينتها الرواية الثانية (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله) وقوله (فإذا عرفوا ذلك) ليس فيه دليل لمن يوجب المعرفة أولاً بل الفعل متعلق بالدعوة، أي إذا عرفوا ما تدعوهم إليه فأخبرهم. . . الحديث.

وهذا يعرف من حال الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هداه الله تبارك وتعالى بنص الوحي فقال: {وكذلك أوحينا إليك روحنا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} الشورى 52 - 53.

(1) درء تعارض العقل والنقل 7/ 407.

(2)

فتح الباري لابن حجر (13/ 362).

ص: 72

ونظيره قوله تعالى: {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وأن اهتديت فبما يوحي إلى ربي} سبأ 50.

" ففي هاتين الآيتين يبين الله سبحانه أن الإيمان والهدى حصل بالوحي النازل لا بمجرد العقل الذي كان حاصلاً قبل الوحي". (1)

وانظر إلى فعله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب قبل موته قال له: "يا عم قل كلمة أحاج لك بها عند الله"(2) فكان يكتفي منه بذلك، وهذا فعل الصحابة أسلموا كباراً وصغاراً بادية وحضراً أحراراً وعبيداً مع اختلاف عقولهم فهماً وإدراكاً لم ينقل عن واحد منهم أنه طُلب منه النظر والاستدلال على طريقة المتكلمين فلو كان الأمر على ما زعموا وألزموا الناس به فكيف كانت دعوة معاذ لأهل اليمن؟ بإثبات وجود الرب وحدوث العالم؟ أم هل كان بدليل التمانع أو الأعراض أو حدوث الأجسام؟ أم بأي دليل غير: قل لا إله إلاّ الله وأسلم تسلم.

وننبه هنا مرة أخرى على أننا لا نعترض على النظر الذي وردت النصوص بالأمر به ولكن الاعتراض على النظر المؤسس على الآراء الفلسفية والطرق الكلامية الذي يحصل بعدم تطبيقها تكفير لعامة المسلمين ولمن لم يطبق هذه الأساليب وقد نكون أنا وأنت منهم أيها القارئ.

وأمّا الأدلة التي يحتج بها الموجبون للنظر فليست لكل أحد.

قال شيخ الإسلام: تعليقاً على أدلة الموجبين للنظر [سورة ليس فيها أن النظر أول الواجبات ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس وهذا موافق

(1) درء تعارض العقل والنقل 7/ 457 ..

(2)

البخاري ح (3595).

ص: 73

لقول من يقول أنه واجب على من لم يحصل الإيمان إلا به بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به وهذا أصح الأقوال. (1)

إذن من حصل له ما يفسد فطرته فيحتاج إلى نظر يحصل له به معرفة الرب وهذا أمرٌ ليس على القاعدة المطردة، أن معرفة الرب أمرٌ فطري، وأما الأصل فأول واجب هو شهادة ألا إله إلا الله.

(1) درء تعارض العقل والنقل 8/ 8.

ص: 74