الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: إطلاق (الشيء) على الله
إطلاق الشيء على الله تعالى يعني إثباتاً للوجود ونفياً للعدم، وقد اختلف المتكلمون هل يسمى الباري شيئاً أم لا.
قال الجهم: أن الله لا يسمى شيئاً، لأن الشيء هو المخلوق الذي له مثل.
والمعتزلة قالوا: إنه غير الأشياء على مقالات:
فهو غير الأشياء بنفسه، ولا يقال إنه غيرها لغيرية.
وقائل انه غير لأشياء والأشياء غيره لنفسه ولنفسها.
وقائل انه غير لأشياء أي ليس هو الأشياء. (1)
ويطلق أهل السنة على الله وعلى صفاته أنه شيء، وليس معناه عندهم أن الشيء اسم من أسماء الله، ولكن يخبر عنه بأنه شيء، ويخبر عن صفاته أنها شيء لأن كل موجود يصح أن يقال له شيء.
قال الحافظ: " الشيء يساوي الموجود لغة وعرفاً وأما قولهم فلان ليس بشيء فهو على طريق المبالغة في الذم فلذلك وصف بصفة العدم. (2)
والبخاري رحمه الله بوب بقوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله. .} الأنعام 19. قال: فسمى الله تعالى نفسه شيئاً، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً، وهو صفة من صفات الله وقال: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص 88.
(1) مقالات الإسلاميين للأشعري 1/ 238.
(2)
الفتح (13/ 402).
ثم استدل بحديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: أمعك من القرآن شيء، قال: نعم، سورة كذا وكذا لسورٍ سماها.
قال ابن بطال رحمه الله: إن الآيات والآثار المذكورة في هذا الباب ترد على من زعم أنه لا يجوز أن يطلق على الله تعالى أنه شيء. (1)
وقد قال الإمام عبد العزيز الكناني (2) في مناظرته لبشر المريسي في رفع الشبهة عن هذه الكلمة، فإن بشراً ادعى أن القرآن شيء وعلى هذا فهو مخلوق.
وأجابه الكناني: سألت عن القرآن أهو شيء أو غير شيء، فإن كنت تريد هو شيء إثباتاً للوجود ونفياً للعدم فهو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم له وأنه كالأشياء فلا، ولكن بشراً ادعى عدم الفهم وطلب زيادة إيضاح، فقال الكناني: إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه إذ كان كلامه من صفاته، فلم يقسم بالشيء، ولم يجعل الشيء اسماً من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء، وأكبر الأشياء ونفياً للعدم، وتكذيباً منه للزنادقة والدهرية ومن تقدمهم جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم، فقال عز وجل لنبيه:{قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} الأنعام 19، فدل على نفسه أنه شيء لا كالأشياء وأنزل في ذلك خبراً خاصاً مفرداً لعلمه السابق أن جهماً وبشراً ومن قال بقولهما سيلحدون في أسمائه ويشبهونه على خلقه ويدخلونه وكلامه في الأشياء المخلوقة، قال عز وجل:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى 11، فاخرج نفسه وكلامه وصفاته من
(1) المصدر السابق 13/ 402.
(2)
عبدالعزيز بن يحيى الكناني، فقيه مناظر من تلاميذ الشافعي، ناظر بشر المريسي في حضرة المأمون وسجل ذلك في رسالة (الحيده)(ت 240 هـ) الأعلام (4/ 29).
الأشياء المخلوقة، فهذا الخبر تكذيباً لمن ألح في كتابه وافترى عليه وشبهه بخلقه، قال تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} الأعراف.
ثم عدد أسماءه في كتابه ولم يتسم بالشيء، ولم يجعله اسماً من أسمائه.
واحتج رحمه الله بأن الله ذم اليهودي (1) الذي نفى أن تكون التوراة شيء فقال: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدىً للناس} الأنعام 91.
واستدل بقوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء} الأنعام 93.
وهكذا يمضي الإمام عبد العزيز الكناني رحمه الله في استنباط الأدلة رداً على بشر المريسي، الذي طلب دليلاً على أن القرآن شيء، ولكن لا كالأشياء.
فقال الكناني: قال الله عز وجل: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} النحل 4، وقال:{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} يس 82، وقال:{وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} البقرة 117.
فدل عز وجل بهذه الأخبار كلها وأشباه لها كثيرة على أن كلامه ليس كالأشياء وأنه غير الأشياء وأنه خارج عن الأشياء، وأنه إنما " تكون الأشياء بقوله وأمره ثم ذكر خلق الأشياء كلها فلم يدع منها شيء إلا ذكره وأخرج كلامه وقوله وأمره منها ليدل على أن كلامه غير الأشياء
(1) يشير الإمام الكناني للحبر اليهودي: مالك بن الصيف الذي خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (أُنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى: أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين) وكان حبراً سميناً، فقال: والله ما أنزل اللهُ على بشر من شيء. تفسير الطبري (11/ 521)، تفسير البغوي (366).
وخارج عن الأشياء المخلوقة فقال: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره الا له الخلق والأمر} الأعراف 54.
فجمع في هذه اللفظة الخلق كله ثم قال: والأمر يعني الأمر الذي كان به هذا الخلق ففرق عز وجل بين خلقه وأمره فجعل الخلق خلقاً والأمر أمراً، وجعل هذا غير هذا. (1)
وفي هذه اللفظة (شيء) صرح الإمام البخاري بها وأنها تطلق على الله ونوع الإستدلال بذلك فقال: فسمى الله نفسه شيئاً ثم استدل باطلاق شيء على القرآن الذي هو صفة لله فقال: وسمى النبي القرآن شيئاً وهو صفة من صفات الله ثم عاد إلى القرآن فأكد بقوله {كل شيء هالك إلاّ وجهه} القصص 88. فبان غرضه رحمه الله ووافق السلف في جواز اطلاق الشيء على الله إخباراً لا تسمية.
(1) الحيده الصفحات 33 - 36 بتصرف يسير.