الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: ما ورد في العلم والقدرة
المطلب الأول: ما ورد في العلم
أثبت أهل السنة والجماعة أن علم الله شامل لجميع الأشياء صغيرها وكبيرها جليلها وحقيرها، وعلمه محيط بجميع الأشياء في كل الأوقات أزلاً وأبداً، فقد علم تعالى في الأزل جميع ما هو خالق وعلم جميع أحوال خلقه وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم شقاوتهم وسعادتهم ومن هو من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار.
قال تعالى واصفاً نفسه: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} الجن 26، وقال:{إن الله عنده علم الساعة} لقمان 34، وقال:{أنزله بعلمه} النساء 166، وقال:{وما تحمل من أنثى ولا تضع إلاّ بعلمه} فاطر 11، وقال:{إليه يرد علم الساعة} فصلت 47 وغيرها من الآيات. فقد ورد اسمه العليم المتضمن لعلمه في القرآن الكريم في مائة وسبع وخمسين موضعاً تقدم منها ما أستدل به الإمام البخاري رحمه الله.
وقد أورد حديثين في ذلك وهما حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ الله)، وأثر عائشة رضي الله عنها وفيه قالت:(من حدثك أنه يعلم الغيب، فقد كذب. وهو يقول (لا يعلم الغيب إلا الله).
ثم نقل البخاري رحمه الله عن الإمام يحيى الفراء في أحد معاني الظاهر والباطن، قال: قال يحيى (1): الظاهر على كل شيء علماً والباطن على كل شيء علماً، وهي تفسير لقوله
(1) معاني القرآن للفراء 3/ 132.
تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} ولأن في آخرها دلالة صريحة على صفة العلم فقال: {وهو بكل شيء عليم} . (1)
وهذا الباب من الإمام البخاري ردٌ على غلاة القدرية وعلى الذين ينكرون علم الله السابق، وقد أنكر عليهم السلف إنكاراً شديداً وكفروهم، بل وأفتوا بقتلهم إن لم يرجعوا، قال الإمام أحمد رحمه الله: القدري الذي يقول إن الله لم يعلم الشيء حتى يكون هذا كافر.
وقال أبو بكر المروزي سمعت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) يقول: إذا جحد العلم قال: إن الله عز وجل لا يعلم الشيء حتى يكون استتيب فإن تاب وإلاّ قتل. (2)
ونتيجة لهذا الإنكار من السلف ولرداءة هذا المعتقد تراجع تراجعاً سريعاً حتى لم يعد له وجود، وأشار إلى ذلك شيخ الإسلام، فقال: " لما اشتهر الكلام في القدر ودخل فيه كثير من أهل النظر والعباد صار جمهور القدرين يقرون بتقدم العلم وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق. (3)
وقال الحافظ: وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون الباري عالماً بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم وإنما يعلمها بعد كونها، قال القرطبي: قد انقرض هذا المذهب ولا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين، قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد
(1) شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الحق الهاشمي صـ 30.
(2)
السنة للخلاّل 3/ 532.
(3)
الإيمان لابن تيمية صـ 369.
مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مع كونه مذهباً باطلاً أخف من المذهب الأول. (1)
وهذا الذي عناه الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروا كفروا. (2)
وقولهم هذا حدث في أواخر عصر الصحابة، فقد جاء عن يحيى بن يعمر (3) قال: كان أول من قال في القدر معبد الجهني (4) ثم ساق قصة لقاءه بعبد الله بن عمر وعرض عليه أمر هؤلاء وأنهم يقولون لا قدر وأن الأمر أنف فقال ابن عمر: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وانهم براء مني والذي يحلف به ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. (5)
ومعنى قولهم لا قدر وأن الأمر أنف، أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه، وأن الله أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يعصيه ممن يطيعه حتى فعلوا ذلك فعلمه بعدما فعلوه. (6)
(1) فتح الباري 1/ 119.
(2)
شرح الطحاوية صـ 354.
(3)
يحيى بن يعمر العدواني، أول من نقَّط المصاحف، كان من علماء التابعين وكان فصيحاً، (ت 129 هـ) الأعلام (8/ 177).
(4)
معبد بن عبدالله البصري، أول من قال بالقدر من التابعين، وعنه أخذ غيلان مقالته قُتِل على القول بالقدر (ت 80 هـ) الأعلام (7/ 264).
(5)
رواه مسلم 1/ 36.
(6)
انظر للتوسع الإيمان لابن تيمية صـ 364 - 369.
وقد فصل شيخ الإسلام موقف الناس من علم الله تبارك وتعالى فقال: الناس المنتسبون إلى الإسلام في علم الله باعتبار تعلقه بالمستقبل على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والعلوم وهو قول طائفة من الصفاتية من الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وهو قول طوائف من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات.
الثاني: أنه لا يعلم المحدثات إلاّ بعد حدوثها وهو أصل قول القدرية.
الثالث: أنه يعلمها قبل حدوثها ويعلمها بعلم آخر حين وجودها (1)، وهذا هو قول السلف، فقد قال إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله: باب ذكر إثبات العلم لله جل
وعلا تباركت أسماؤه وجل ثناؤه بالوحي المنزل على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا بنقل الأخبار التي هي من نقل علم الخاص - ثم قال- فأعلمنا الله انه أنزل القرآن بعلمه وأخبرنا أن أي أنثى لا تضع إلا بعلمه. . فكفرت الجهمية وأنكرت أن يكون لخالقنا علم مضاف إليه من صفات الذات. (2)
وقد أفاض الإمام عثمان (3) الدارمي في رده على بشر المريسي ومن تابعه من المعتزلة كابي الهذيل وغيره على اختلاف درجاتهم في إنكار العلم جملة أو من أثبت العلم وقال إنه غير الله وأنه محدث مخلوق أو من قال إن علم الله هو الله. (4)
(1) جامع الرسائل 1/ 177 باختصار. تحقيق رشاد سالم.
(2)
التوحيد لابن خزيمة 1/ 22.
(3)
الرد على المريسي صـ 440. الرد على الجهمية صـ 221.
(4)
الفرق بين الفرق صـ 211 ومقالات الإسلاميين 1/ 293.
ومثله الإمام الأشعري قال: قد علم الله عز وجل نبيه الشرائع والأحكام والحلال والحرام ولا يجوز أن يعلم ما لا يعلمه، فكذلك لا يجوز أن يعلم الله نبيه ما لا علم له به، تعالى الله عن قول الجهمية علواً كبيراً. (1)
وهكذا الإمام البخاري رحمه الله بوب بالآيات الدالة على علم الله الأزلي، قال ابن بطال: في هذه الآيات إثبات علم الله تعالى وهو من صفات ذاته خلافاً لمن قال عالم بلا علم. (2)
وأورد الإمام البيهقي آيات وأحاديث الباب وغيرها، وقال: كان الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني (3) يقول من أسامي صفات الذات ما هو للعلم، منها العليم ومعناه يعلم جميع المعلومات، ومنها الخبير يعلم ما يكون قبل أن يكون، ومنها الحكيم يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى ما علم، ومنها المحصي ويختص أنه لا تشغله الكثرة عن العلم. (4)
وبهذه المعاني اللائقة بالله فسر الإمام الطبري رحمه الله وغيره من أئمة السلف الآيات التي استشهد بها البخاري وبوب بها فقال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} الجن 26، أي عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه، فلا يظهر على غيبه أحدا فيعلمه أو يريه أياه، إلا من ارتضى من رسول فإنه يظهره على ما شاء من ذلك. (5)
(1) الإبانة للأشعري صـ 111. وقد أفاض رحمه الله في مناقشتهم هناك.
(2)
الفتح 13/ 374.
(3)
إبراهيم بن محمد بن مهران، عالم بالفقه والأصول، كان ثقة في رواية الحديث وله مناظرات مع المعتزلة، (ت 418 هـ) الأعلام (1/ 61).
(4)
الأسماء والصفات صـ 144.
(5)
الطبري 29/ 121.
وقال البغوي: عالم الغيب رفع على نعت قوله (ربي) وقيل هو عالم الغيب فلا يظهر على غيبه إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما شاء من الغيب؛ لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب. (1)
وقوله {إن الله عنده علم الساعة} الآية، هي موافقة لحديث الباب، أعني حديث ابن عمر قال: قال عليه الصلاة والسلام: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ الله.
قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، فلا يعلمها أحد إلاّ بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب {لا يجليها لوقتها إلاّ هو} وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلاّ الله، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى أو شقياً أو سعيداً علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء من خلقه - ثم قال- وهذه شبيهة بقوله تعالى {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو} وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب. (2)
وقوله: {أنزله بعلمه} النساء 166، قال ابن الجوزي فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنزله وفيه علمه.
الثاني: أنزله من علمه.
الثالث: أنزله إليك بعلم منه إنك خيرته من خلقه، قاله ابن جرير. (3)
(1) تفسير البغوي 8/ 244.
(2)
تفسير ابن كثير 3/ 721 - 722.
(3)
زاد المسير 2/ 257. والطبري 6/ 31.
وقوله: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلاّ بعلمه} فاطر 11، وقوله:{إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلاّ بعلمه} فصلت 47.
قال البغوي رحمه الله أي علمها إذا سئل عنها مردود إليه لا يعلمه غيره، وقوله إلاّ بعلمه: إلاّ بإذنه. (1) وقال ابن جرير رحمه الله: إلى الله يرد العالمون به علم الساعة، فإنه لا يعلم قيامها غيره. (2)
وعلى هذا جرى الإمام اللالكائي رحمه الله في عرضه لشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، فقال: سياق ما دل من كتاب الله وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق ثم ساق الأدلة الكثيرة على هذا. (3)
(1) تفسير البغوي 7/ 178.
(2)
تفسير الطبري 25/ 2.
(3)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للألكاني 2/ 447.